اختطاف مصر.. الحل في استعادة الدولة لا القفز عليها
باحث وصحفي مصري
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
ليست مبالغة إذا قلنا إن مصر في أسوأ حالاتها، وأنها تشهد تراجعا في مجالات شتى.. هذا في حد ذاته خطير ومؤسف، لكن الأكثر خطورة منه هو أن تغيب عن النخب والقوى الوطنية المصرية باختلاف مشاربها طبيعة الدولة التي تنتمي إليها، ويتحول الخلاف بل الصراع مع النظام المصري إلى صراع يغيب فيه الوعي بأهمية الدولة المصرية ومن ثم أهمية الحفاظ عليها، صراع تغيب فيه حقيقة أن الدولة المصرية يتم تفكيكها واختراق ممانعتها بمنهجية ثابتة، وأن أقصى ما تطمح له قوى الهيمنة الكبرى وفي مقدمتها الولايات المتحدة هو تفكيك أهم دولة عرفتها المنطقة، وأنه يمكن أن توظَف هذه القوى "الوطنية" في هذا المسعى مرة حين تضع عينها نصب أمريكا ومرة حين تقفز بالدولة في الفراغ بحجة مقاومة أمريكا!.
لا أحتاج توضيح موقفي السياسي الأبعد ما يكون عن السلطة، لكن ثمة ضرورة لإيضاح أن أي خلاف مع النظام المصري يجب ألا تهدر فيه مقومات وروح وكيان دولة ليس كمثلها دولة، وأنه يجب إدارة أي خلاف أو حتى صراع في إطار رؤية ثابتة هي أن الحفاظ على مصر هو أساس بناء أي مشروع للتحرر أو الاستقلال في المنطقة؛ فمصر مثل طائر الفينيق بإمكانها القيام من عثرتها والنهوض مجددا واستعادة الذات في زمن قياسي، ومن ثم لا يمكن إلا أن يكون رهان كل القوى السياسية في مصر، بل وخارجها، إلا على استعادة هذه الدولة، والكف عن التعامل معها كما لو كانت أثرا يؤذن بالاندثار أو تركة على وشك التقسيم.
مصر.. دولة التحرر الوطني
ولمن اختلط عليهم الأمر وصاروا لا يعرفون مصر إلا عبر سياسة النظام الحاكم بها، يبدو أننا بحاجة إلى تأكيد ما كنا نظنه بديهيا، وإذ به يصبح موضوعا للجدل والشك.. لقد نشأت الدولة المصرية كمشروع استقلال، وكانت دوما دولة استقلال وتحرر وطني وسيادة، كان لديها في تكوينها حساسية ضد الأجنبي وضد تدخلاته وضد الارتهان به وبأحلافه، فضلا عن أن تعمل تحت إمرته وعلى أجندته، ولم يكن في المنطقة العربية كمثل مصر دولة استقلال وتحرر وطني سواء في مشروعها أو بنيتها، بل لم تعرف المنطقة دولة أخرى ينطبق عليها مفهوم الدولة كما هي مصر.
مصر الحديثة هي وارثة دولة محمد علي التي كان يطمح بها إلى وراثة دولة السلطنة العثمانية، وقد كانت مشروعا مستقلا عن كل القوى الغربية الكبرى والمهيمنة في ذلك الوقت.. نعم استعان محمد علي بالأجانب، والفرنسيين بشكل خاص، في بناء هذه الدولة، لكنهم ظلوا أجانب فيها -مجرد خبراء ومستشارين- لم يسيطروا على مركز القرار قبل أن تتحالف قوى الهيمنة الغربية (فرنسا وبريطانيا وقتها) لضرب مشروعه عسكريا وحصاره، لتبدأ من وقتها إستراتيجية مازالت مستمرة لحصار مصر وضرب أي مشروع نهضوي فيها باعتباره سيؤدي بالضرورة إلى تغيير الوضع في المنطقة، ومن ثم يهدد أطماعها أو مصالحها الإستراتيجية بالتعبير المهذب!
ثم مصر الحديثة هي ابنة الثورة ودولة الضباط الأحرار بزعامة جمال عبد الناصر.. نعم يمكن أن نتحدث عن أخطاء بل وخطايا للثورة، ويمكن أن نتكلم عن هزيمة وانكسار، لكن لا يمكن إنكار حقيقة أنها تأسست كدولة استقلال وأنها قادت زمنا حركة التحرر الوطني في المنطقة بل والعالم الثالث كله.
رسم ناصر الوجه العروبي لمصر مرة واحدة وللأبد، وحسم مبكرا صراعا كان يمكن أن يتفجر حول هوية مصر وانتمائها، وهو ما يحاوله البعض الآن دون جدوى. ولابد أن يعترف الجميع، والإسلاميون على وجه خاص، بآثار ناصر الطيبة في هوية مصر العربية، ولابد من الإقرار أيضا أنه وإن انكسر، فإنه والثورة من أشعل في مصر والمصريين شعلة القيادة والإحساس بالدور والمسئولية.
الذين ينتقدون تراجع دور مصر وغيابها وتخليها عن واجبها في قضايا الأمة مدينون في جزء غير قليل من هذا الشعور لناصر والثورة التي عمقت هذا الوعي بأن مصر قائدة أو يجب أن تكون كذلك، وأن لمصر دورا ويجب أن تضطلع به. كان حس القيادة موجود تاريخيا لدى المصريين، لكن جاء ناصر فجعله صريحا لا يحتمل اللبس.. يختلف الجميع ولكن يتفقون على قياس الحالة المزرية لمصر الحالية بما كانت عليه زمان ناصر.
وعي جمعي مسكون بالاستقلال
وقد انعكست طبيعة الدولة المصرية بدورها على أجهزتها؛ فكانت بالضرورة أجهزة وطنية تأسس معظمها في مرحلة الاستقلال وبروح الاستقلال، كما في أجهزة مثل المخابرات والأمن القومي، وما كان منه من زمن الاحتلال الإنجليزي تم تمصيره كاملا كما الحال في جهاز القلم السياسي الذي حل بدلا منه أمن الدولة.
كلها أجهزة وطنية تأسست وأديرت بأيدي مؤسسي دولة الاستقلال والتحرر الوطني، وهي كانت وطنية حتى في أخطائها و"جرائمها"؛ كانت وطنية بمعنى أنها محكومة بحسابات داخلية ولا تعمل وفق أجندة خارجية. ومثلا كان ضرب ناصر للإخوان قضية داخلية وضمن صراع على إدارة الدولة وتوجهاتها، وكان التعذيب والتنكيل "جريمة" داخلية أيضا. بالطبع كان الخارج حاضرا ولكن كانت الدولة مستقلة في قراراتها الخاطئة قبل الصائبة، بل إن قرار السلام مع إسرائيل رغم كارثيته وسوء تقديره كان قرارا داخليا للسادات بناه على معطيات وتقديرات كان يظن أنها لمصلحة مصر.
مهم أن نذكر هذا الأمر لأن غالبية الدول الأخرى بالمنطقة لم يتوافر لها هذا القدر من الاستقلالية الذي عرفته مصر؛ فثمة إمارات وممالك عربية أسس فيها المستعمر كل الأجهزة الأمنية والاستخباراتية ومازال يديرها بشكل مباشر ليس عبر وكلاء أو مستشارين بل وأيضا عبر موظفين مباشرين يحملون جنسيته!
والحق أن روح الاستقلال ومشروعات التحرر الوطني كانت حاضرة في مصر قبل أن تعرف في غيرها، وحتى قبل عقود من الاستقلال الفعلي. فمنذ نهايات القرن التاسع عشر والقرن العشرين كان الوعي الجمعي للمصريين مسكونا بالتحرر والاستقلال؛ فكانت مشروعات المقاومة والتحرر بدءا من أحمد عرابي وثورته ومصطفي كامل ومحمد فريد والحزب الوطني القديم ونضاله ضد المستعمر، وسعد زغلول وثورته التي كانت أول ثورة وطنية للاستقلال عرفها الوطن العربي (ثورة 1919).
كانت مصر مهد حركات التحرر ومشروعات الاستقلال حتى قبل أن تحصل على استقلالها، وقد شهدت مبكرا حركة واسعة للتمصير وتأسيس الكيانات الوطنية المستقلة عن إرادة الاستعمار وإدارته، تأسست الكيانات السياسية والاقتصادية والعلمية قبل أي بلد آخر؛ فكانت مشروعات مثل البنك الأهلى والجامعة الأهلية، بل وكان النادي الأهلي تعبيرا عن مزاج الاستقلال الوطني حتى في الرياضة.
المدرسة العسكرية.. إسرائيل العدو
وقد لا تتوافر دولة في المنطقة عرفت تقليدا عسكريا وجيشا نظاميا مثل الجيش المصري الذي هو وارث الوطنية المصرية والمجسد لها. ينتمي الجيش المصري إلى مدرسة عسكرية هي من عمر الدولة المصرية الحديثة، تضرب روح الاستقلال والانتماء الوطني في قلب المؤسسة العسكرية المصرية كما قد لا نجده في كثير من جيوش المنطقة التي لم تتحول من نمط البدائية أو الارتزاق إلى الجيوش النظامية إلا قبل سنوات. وتأسست لدى الجيش عقيدة قتالية تتأسس على الولاء الوطني وتستهلم روحها ومبادئها من آباء الوطنية العسكرية المصرية وعلى رأسهم عزيز باشا المصري. ورغم اتفاقات السلام، مازالت إسرائيل هي "العدو" في العقيدة القتالية للجيش المصري. ويمكن القول إن الإرادة السياسية صارت دون المستوى، لكنها لم تنل بعد من وطنية مؤسسة راسخة كالمؤسسة العسكرية.
كان عزيز المصري وصالح حرب وغيرهم من آباء الوطنية العسكرية المصرية مزيجا نادرا يجمع بين الوطنية والعروبة والإسلامية من دون تعارض، خاضوا تقريبا نضالا وجهادا في كل الساحات المفتوحة وقتها، بدءا من الدولة العثمانية التي كانت تلفظ أنفاسها، مرورا بالشام وثوراته وليبيا وثورة عمر المختار، وانتهاء بثورات المغرب الأقصى. وتجسدت هذه المدرسة في اتجاهين: الأول إسلامي مثلَه محمود لبيب وتلامذته عبد المنعم عبد الرءوف وأبو المكارم عبد الحي ومعروف الحضري وآخرون، والثاني وطني مثله جمال عبد الناصر وبقية الضباط الأحرار.
اختلفت المدرستان لكن بقيت روح التحرر والاستقلال عميقة وقوية في العسكرية المصرية؛ فظلت المؤسسة العسكرية شديدة الحساسية تجاه أي مساس بوطنيتها ولو رمزيا، تلتزم الولاء للقيادة السياسية وتؤثر فيها السياسة سلبا، فتقع ضحيتها كما في هزيمة حرب فلسطين 1948 أو نكسة يونيو 1967 أو تخذل السياسة تضحياتها كما في أكتوبر 1973 لكنها لا تنال من وطنيتها أو استقلاليتها.
تكون كبار القادة العسكريون المصريون إذن في مدرسة الوطنية المصرية وخاضوا حروبا مع إسرائيل، وإلى وقت قريب كان الجيش العربي الوحيد الذي يتوفر على قيادات خاضت كل الحروب مع إسرائيل بدءا من تأسيسها وحتى انتصارات أكتوبر 1973.
على هذا المنوال يمكن أن نتحدث عن مؤسسات لم يعرفها الوطن العربي إلا في مصر أو من خلال مصر، هناك القضاء الذي تكون له تراث وترسخت له تقاليد لا ينافس مصر فيها إلا دول مثل فرنسا التي كانت جامعاتها العريقة (مثل السوربون) تدّرس أحكامه قبل نصف قرن، وإن كانت هناك محاولات لاختراق القضاء وإخضاعه، إلا أن التيار الغالب هو تيار استقلال القضاء، ولن نعرف معنى ذلك إلا إذا وضعناه في سياق أوسع عربيا يكاد يخلو من قضاء مستقل، فضلا عن مؤسسات تدافع عن هذا الاستقلال!
ثم هناك الخارجية المصرية أهم مؤسسات الدبلوماسية في منطقة لا تزال أمور الخارج تدار فيها عبر النافذين في العائلات والأسر الحاكمة أو التنظيمات الحزبية المغلقة ولم تترسخ فيها تقاليد أو يتكون بها تراث للدبلوماسية. نعم تعاني هذه المؤسسة من تغول أجهزة الأمن عليها وسحب اختصاصاتها وملفاتها الكبرى، لكن تبقى الوحيدة تقريبا في المنطقة التي كان بإمكانها التصدي لرأس الدولة حين اصطدم بتراثها وتوجهاتها، وكلنا يذكر كيف استقال اثنان من وزراء الخارجية المصرية تمردا على السادات في صلحه مع إسرائيل وكيف أن نظامه واجه مشكلة العثور على سفيره الأول في تل أبيب!
سيحتج الكثيرون بأن هذه مصر التاريخية؛ مصر عبد الناصر على الأكثر، وأن مياها كثيرة جرت في نيلها منذ كامب ديفيد ومسلسل التنازل، وأن الدولة المصرية آخذة في التفكك إن لم تكن تفككت فعلا ويجرى بيعها! ولكن من يفهم طبيعة أقدم دولة مركزية في التاريخ يدرك صعوبة التسليم بفكرة تفكك الدولة، الدولة في مصر لها تراث عميق وممتد حتى داخل ضمائر المصريين ومشاعرهم.. المصريون لا يتصورون الحياة بلا دولة ومن ثم بلا مصر، والدولة ظلت رغم العسف والقهر والظلم ملاذهم الأخير، وهي دائما عصية على التآكل والتفكيك، وهي وإن انكسرت وقتا تظل قادرة على النهوض في أقرب لحظة مواتية وفي أقل فترة ممكنة إذا توافرت الشروط والقيادة.
ولدى الدولة المصرية والشعب المصري قدرة هائلة على قطع حاجز الزمن وردم فجوته، سنوات قليلة احتاجتها مصر محمد على ومصر جمال عبد الناصر لتنهض للقيادة، ولدى الدولة قدرة على استعادة تراث الدولة الكامن فيها وفي شعبها، وعلى الإصلاح من داخل الدولة نفسها.
العودة لفكرة الدولة
نعم تورط النظام السياسي المصري في اتفاقية السلام مع إسرائيل، لكن دولاب الدولة هو من كان العقبة الأساس في تنفيذها بل وتمرد عليها. النظام المصري هو أول من وقع اتفاقية سلام مع إسرائيل لكن الدولة المصرية هي آخر من يطبع معها وأول من يعرقلها. وأتصور أن مصر مازالت إلى الآن من أقل دول الوطن العربي تطبيعاً مع إسرائيل التي يشتكي سفيرها أنه منبوذ تماما ولا يكاد يتواصل مع المجتمع أو نخبته السياسية، فيما ترفع دول أخرى عقيرتها ضد إسرائيل وهي تفتح لها أبوابها سرا!
ومن يقرأ مذكرات سعد مرتضى أول سفير للقاهرة في تل أبيب والصادرة نهاية العام الماضي، يعرف كيف تمرد دولاب الدولة المصرية على السادات وأوقف سعيه نحو سلام شامل مع إسرائيل! تمردت الدولة على رئيسها، فيما يكفي في بلاد أخرى أن يحلم الرئيس لكي تتحول أحلامه إلى خطط مستقبلية!
الذي أفشل التطبيع هو تيار في دولاب الدولة المصرية وليست المعارضة القومية، والذي يعرقل الخصخصة تيار في دولاب الدولة وليست قوى اليسار مثلا، والذي يحتفظ بالإسلام مصدرا رئيسيا للتشريع في الدستور هو تيار في الدولة المصرية وليس الإخوان المسلمين، والذي يقف عقبة أمام التوريث مؤسسات الدولة المصرية وليست حركة كفاية! ومن ثم فلابد أن نفهم الدولة قبل أن نعارض نظامها السياسي، ولابد أن نفهم النظام قبل أن نبدأ في معارضته، ولو فهمنا الأمر لكان لمعارضتنا معنى وتأثيرا.
وهنا لا أتحدث عن حصانة للنظام السياسي، كما لا أطالب المعارضة بالتوقف عن مواجهته، لكنها دعوة للتفكير والبحث عن صيغة أو منطق للمعارضة يلتزم بالنضال دون أن يوظف في تفكيك بنية الدولة المصرية؛ فليس من المتصور أن من مصلحة البلاد أن ننتهي إلى أمريكا حكما بين المعارضة والنظام، ويأتي اليوم الذي يشتكي فيه قادة قوى وطنية كبرى من أن النظام يشوه صورتهم لدى أمريكا! كما ليس من المتصور القفز بالدولة في الفراغ حتى لو كان الأمر يتعلق بدعم المقاومة ضد إسرائيل التي مازالت في عقيدة الدولة المصرية العدو الأول!
نعم كان تموضع النظام في مربع "الاعتدال" على حساب الدولة المصرية وقيادتها في المنطقة وكان خطئا تاريخيا، لكن لا ينبغي أن يكون الخروج من هذا المربع بالقفز على فكرة الدولة نفسها وشرعنة مبدأ تجاوزها وتكسيرها في وعي الناس ولو كان المبرر دعم المقاومة. ومن ثم يجب أن يكون رهان القوى السياسية والمعارضة على استعادة الدولة في مصر وإعادة بنائها لا على تجاوزها وبث روح اليأس منها.
إن المفترض والواجب هو أن نساءل النظام المصري على أساس الدولة ونحاكمه على ما فعله بها لا أن نجاريه في القفز على الدولة أو السطو عليها. وإن التأكيد على الدولة والمؤسسات في مصر يجب أن يكون المعيار الذي تحتكم إليه قوى المعارضة السياسية وخاصة التي تحمل فكرة المشروع المقاوم، وما يكون لها أن تتورط لا في التسليم للنظام في أن يكون ممثلا حصريا وحاميا وحيدا للدولة، ولا في أن تبدو أقل فهما لطبيعة الدولة في مصر ومن ثم أقل جدارة في أن يراهن عليها الشعب المصري يوما كبديل عن النظام السياسي.