أولييفيه روا..تاريخ من الكتب يختصر مسارات الحركة الإسلامية ويرصد تحولاتها
باحث في الحركات الاسلامية
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
ينحدر أوليفييه روا Olivier Roy من مدينة "لاروشيل"، غرب فرنسا، من أصول دينية بروتستانتية.بدأ حياته أستاذا للفلسفة (1972) ثم حصل على دكتوراه العلوم السياسية(1996)، شغل مناصب عدة منها مدير الأبحاث في المركز الوطني للبحث العلمي(CNRS) في باريس ومستشار في وزارة الخارجية الفرنسية حتى عام 2008. ويعمل حاليا أستاذا في معهد الجامعة الأوربية EUI في فلورنسا بايطاليا.
ولد روا سنة 1949 وهو بهذا يكمل ستين عاما قضى أكثر من شطرها في عطاء أكاديمي متميز بإنتاج فكري وفلسفي وعلمي غزير تعكسه مجموعة الكتب المهمة التي أصدرتها كبرى دور النشر في باريس. واختط "روا" لنفسه مسارا متميزا في مجال دراسة الظاهرة الإسلامية منذ اكتشف الإسلام السياسي نهاية السبعينيات؛ فكريا مع الثورة الإيرانية وعمليا من خلال رحلته الميدانية إلى أفغانستان التي كتب عنها أولى كتابه في الاسلامولوجيا. ليتبعه بكتابين لا يقلان شهرة هما "فشل الإسلام السياسي" في بداية التسعينيات حين تصاعد الاهتمام الأكاديمي بالظاهرة الإسلامية، و"عولمة الإسلام" عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر. و يبدو مساره إذ ذاك مرتبطا بالمراحل المفصلية في تاريخ الحركة الإسلامية نفسها فيما يشبه تأريخا لتحولاتها على صفحات كتبه التي تكاد تتحول إلى مصادر للدارسين الجدد في ميدان الحركة الإسلامية.
بدأ روا حياته الحركية مناضلا ( تروتسكيا ) تأثر بالحركات اليسارية في السبعينيات، لكنه كان أيضا ناشطا في الشبيبة البروتستانتية فمارس الدين كثقافة معاشة، وعمل أستاذا للفلسفة، وهي ثلاثة مؤثرات مهمة ساهمت في تشكيل وعيه ثم بناء مقاربته في دراسة الحالة الإسلامية، وكانت لمدينته دورو تأثير كبير، حيث كان باب بيته يفتح مباشرة على ميدان عمله، ففيها وقعت أول اضطرابات ضواحي في فرنسا، وفيها كان الصعود المبكر لليمين المتطرف، وعبرها وقع على نقده الجذري لقضية الضواحي كمفتاح خطأ لفهم الحالة الإسلامية في فرنسا.
سنلاحظ أن بداية أوليفييه روا هي نفس بداية جيل جديد من الباحثين الغربيين في الإسلام؛ جيل قطع مع الرؤية الاستشراقية النصية، واتجه لتطبيق مناهج العلوم الاجتماعية على العالم الإسلامي الذي لم يكن بحاجة في رأيهم إلى علوم "خاصة" لدراسته والبحث في قضاياه. فقد انتقلت الدراسات الإسلامية في فرنسا من فترة المستشرقين الكلاسيكيين الذين كان اهتمامهم منصبّاً أساساً في التخصص في مجالات دراسة القرآن والتاريخ الإسلامي واللغات والآداب الشرقية، أمثال ماكسيم رودنسون وجاك بيرك وكلود كاهين، إلى جيل جديد من الباحثين المتخصصين أساساً في السوسيولوجيا والعلوم السياسية.
شكل روا إلى جانب عدد من الفرنسيين المختصين جيلا من الباحثين الذين عاصروا انطلاق الموجة الجديدة من البحث في الإسلاميات لكن عبر بوابة العلوم الاجتماعية لا سيما علم السياسة وعلم الاجتماع الديني. بحيث تم التركيز على الحركة الإسلامية بوصفها حركة اجتماعية مع ما يتضمنه ذلك من تحديات الخروج بها من دائرة الظلامية واللاتاريخية والاستثنائية التي ميزت البحث في التراث الاستشراقي؛ إن ذلك كان يعني بالنسبة لهؤلاء تقديم أولوية البيانات الميدانية والتجارب اليومية والملاحظة المباشرة على تحليل النصوص الأصولية كما جرت عليه العادة. لذلك اتجهوا إلى التواجد في المناطق الإسلامية المختلفة والاختلاط بالمسلمين بل وتعلم اللغة العربية والاهم من ذلك ملاحظة الإسلام المعاش عن كثب.
سنلاحظ كذلك أن رواد هذا الجيل وهذه المدرسة؛ خاصة من الفرنسيين، هم من ذوي الخبرة في الحركة اليسارية وإن تباينت مواقعهم من مناضلين (روا وجيل كيبيل وفرانسو بورجا) أو منتمين فكريا ( آلان روسيون )، وربما كانت خبرتهم الحركية اليسارية سببا في تركيزهم الاهتمام على الإسلام الحركي أيضا، أكثر من التاريخي أو العقيدي، وكان من حظهم السعيد أن الإسلام الحركي كان في صعود سريع يملأ الدنيا ويشغل الناس، فاندلعت الثورة الخومينية في إيران، وبدأ الجهاد في أفغانستان، وقتل الجهاديون المصريون رئيس البلاد، وتصاعدت الأطروحة الإسلامية السياسية لتحتل المشهد في مصر وشمال أفريقيا، فانفرد كل منهم بمسار أو منطقة صارت موضوع اهتمامه الأبرز؛ فكتب روا عن "الإسلام والحداثة السياسية" في معركة الجهاد الأفغاني، واشتغل كيبيل على معركة "النبي والفرعون" في مصر، وصك بورجا عنوانه "الإسلام السياسي صوت الجنوب".
وسنلاحظ أخيرا أن أهم ما يجمع هؤلاء هو تهميشهم للبعد الديني في التحليل وأن فرضيتهم الأساسية هي غلبة السياسة على الدين في تفسير وقراءة مسار الحركات الإسلامية التي صاروا ينعتونها بالإسلام السياسي، إنها حركات سياسية بامتياز؛ الدين لديها مادة قابلة للتوظيف، إيديولوجيا ينظرون من خلالها إلى مسالة التغيير الاجتماعي والسياسي، و بتعبير بورجا، لغة يتحدث بها الإسلاميون لكن محركهم – في رأيه- هو الرغبة في التمرد على سيطرة الشمال.
لا تنبئ محاولته الفكرية الأولى بمسار اهتمامه، فقد بدأها بكتابه "ليبنتز والصين" (Leibniz et la Chine ,Paris, Vrin, 1972) الذي نشرته في السبعينيات واحدة من أهم دور النشر الفلسفية (فري)، وربما لم يكن هناك أسباب حقيقية لاهتمامه بالصين سوى كونه أستاذ للفلسفة أعجبته التجربة الماوية! إذا كانت من فائدة من كتابته عن الصين فهي كونها أكدت اهتمامه مبكرا بآسيا وخاصة أفغانستان التي اكتشف فيها الإسلام. فعلى عكس كتابه الأول عن الصين الذي كان عزفا منفردا، جاءت كل كتبه اللاحقة كلبنات في مشروعه الفكري المتكامل الذي يسلم فيه كل كتاب للذي يليه.
فكتابات الرجل اللاحقة ستنم عن رؤية متكاملة ومستمرة في الزمن تقوده إلى التخصص في تحليل ودراسة الإسلام السياسي بشكل خاص وحركة الأسلمة بشكل عام بمنهج ورؤية سوسيولوجية دقيقة الملامح يكاد ينفرد بها مشروعه الخاص، إذ يكاد يختصر روا في مساره الفكري مسار الإسلام الحديث في أفكاره وتحولاته الكبرى طوال ثلاثة عقود، وهو يكشف عن قدرة مذهلة في فهم هذا المسار والتقاط مفاصل التحولات والتنظير لها بأكبر مما يمكن أن يفعله مجرد متابع.
كانت أفغانستان بالفعل موضوعا لأول كتبه في الإسلاميات، وكان كتابه "أفغانستان: الإسلام والحداثة السياسية" (Afghanistan, Islam et Modernité politique, Paris, Le Seuil, 1985) باكورة مشروعه في دراسة الإسلام المعاصر.
في هذا الكتاب يرصد روا غلبة السياسة على الدين بحيث يبدو المجاهدون حداثيين برغم الخطاب والمفردات الدينية المستخدمة، ويرصد بذكاء كيف أن هؤلاء المجاهدين حداثيون لا ينتمون إلى التقليد الإسلامي الأفغاني، وكيف أنهم هم من رسخ مفهوم الدولة في أفغانستان؛ بلد الصراع المحلي والدولي في آن واحد وربما هذه هي ميزة الحرب الأفغانية التي التقط منها روا اغلب ملاحظاته اللاحقة..
بالنسبة للتجربة الأفغانية فان التحديات كانت كبيرة: لقد كان الإسلاميون قادرين على توسيع دائرة الحراك السياسي داخل المجتمع الأفغاني وربطه بالتحولات الدولية التي كانت سارية مباشرة عقب الاحتلال السوفياتي لأفغانستان عام 1979 ؛ قضايا من مثل إقامة الدولة الإسلامية، والصراع الإيديولوجي بين الشيوعية والاسلام، وفكرة العالمثالثية، وذلك على الرغم من أن خطابهم لم يكن قادرا في بداياته على تخطي أسوار الجامعات قبل تلك الفترة.
لكن خيارات الدولة الإسلامية التي كانت تستند في بداياتها على تراث الإخوان المسلمين اصطدمت بالواقع الأفغاني المتعدد الاثنيات وبدا أن التحديات الفكرية والإيديولوجية كانت واسعة جدا، فمنطق الحرب في أفغانستان كان محليا وعالميا في آن واحد من خلال تواجد المجاهدين العرب من الشرق الأوسط و تقاطع الفكرة الإخوانية عن الدولة الإسلامية مع ما كان يعتبره المجاهدون العرب جهادا في سبيل الأمة. لقد بدا أن تأثيرات الحرب الأفغانية كظاهرة سياسية وحداثية بامتياز، قد حملت معها تناقضات جوهرية بحيث امتلأت البنى الحديثة التي حملها الإسلاميون العرب إلى أفغانستان( الأحزاب السياسية مثل الجماعة الإسلامي والحزب الإسلامي، موضعة الصراع الأفغاني في سياق جيوستراتيجي، إدخال وسائل حربية وتكنولوجية جديدة لم يعرفها المجتمع الأفغاني قبل الحرب...) بالمحتوى القبلي والإثني المحلي؛ وهو نفس محور التواجه اللاحق الذي ميز مسارات الحركة الإسلامية هناك باتجاه أكثر تشددا في مواجهة التقاليد المحلية الأفغانية في فهم وممارسة الإسلام؛ عزز منها تدخل العوامل الخارجية والفاعلين الدوليين والتي انتهت كما هو معروف بظهور تنظيم القاعدة. هذه هي في الواقع التحولات التي امتزج فيها المنطق الدولتي والمنطق العالمي ومنطق التقاليد المجتمعية، سيتيع روا خطا متصاعدا في تحليل هذه التحولات عبر كتاباته اللاحقة.
في سنة 1992 كتب روا عن "فشل الإسلام السياسي" (L’échec de l’Islam Politique, Paris, Seuil, 1992)، كتابه الشهير والمثير للجدل حتى يومنا هذا والذي تبني فيه الأطروحة التي لا تزال تحتفظ بكل قوتها؛ فكل من ردوا عليه احتجوا خطئا بأن أطروحته غير دقيقة بالنظر إلى قدرة الإسلاميين المستمرة بل والمتصاعدة في التعبئة والفوز في أي انتخابات، فيما كان روا يتكلم عن مأزق أطروحة الإسلام السياسي فلسفيا ذلك أن الكتاب هو أقرب للفلسفة السياسية منه للاجتماع والعلوم السياسية.
استندت رؤية روا إلى أن الحركات الإسلامية السياسية فشلت في الجمع بين الدين والسياسة في إطار الدولة الحديثة، كما فشلت في استعادة الصيغ التقليدية في بناء نظام سياسي مختلف، فإما أنها صارت حركات سياسية حديثة لا تختلف عن مثيلتها إلا في الخطاب، أو خرجت من المجال السياسي تماما.
إذ لم تعد الدولة ما بعد الاستعمارية مستوردة بل تجذرت بفضل الديناميات الاجتماعية المختلفة لا سيما في البيئات التي عرفت تراثا تاريخيا للدولة كما في مصر وتركيا وهو ما يعني أن الإسلاميين اضطروا إلى التعامل مع منطق الدولة بل والتحول إلى فاعلين سياسيين ضمن آخرين بحيث يصبح البحث عن التحالفات ضروريا لتحقيق البرنامج السياسي والاجتماعي، وفي هذه الحالة فانه لم يعد هناك فاعلون إسلاميون كما يرى روا وإنما فاعلون بأجندات اسلاميووطنية تتبنى قضايا مجتمعية ذات طابع أخلاقي أشبه بما هو موجود في تجربة الأحزاب المسيحية الديمقراطية. الحركات الإسلامية من هذا المنظور هي حركات تحديثية بامتياز بعكس الرؤية الثقافية التي تقيم تعارضا بين الإسلام والحداثة.
بهذا المعنى يبدو نشاط الإسلاميين كمؤشر في مسار العلمنة؛ وهذه هي إحدى أهم الإشارات التي يلتقطها روا في التحولات التي عرفتها الحركة الإسلامية مع نهاية القرن الماضي؛ فالحركات الإسلامية تخلت منذ بداية التسعينيات، بحسبه، عن طابعها الشمولي لصالح ممارسة سياسية ذات طابع قطري لا يتجاوز حدود دولها، وهو ذات التحول الذي انتهى إلى تضخم الاهتمام بالأبعاد السياسية لديها وابتعادها التدريجي عن الرؤية العالمية.
من هذا الكتاب خرج روا إلى أطروحة كتابه التالي عن "آسيا الوسطي الجديدة وصناعة الأمم" (La Nouvelle Asie Centrale ; Ou La Fabrication Des Nations, Paris, Seuil, 1997) ، ورغم أنه لا يدخل مباشرة في الموضوع الإسلامي إلا أنه غير بعيد عنه فالجمهوريات الإسلامية في أسيا الوسطى كانت أولى المرحبين بالانقلاب الذي أطاح بالرئيس السوفياتي السابق ميخائيل غورباتشوف سنة 1991 ومن ثم تعالت مطالباتها بالاستقلال، في هذا الكتاب الذي صدر بعد نهاية الاتحاد السوفيتي وتفككه يتحدث روا عن تكوين الأمم و تأسيس الدولة الوطنية وترسيخ مؤسساتها في هذه المنطقة التي خرجت من الاتحاد السوفيتي المنهار، ويتبني أطروحة نجاح الجمهوريات المسلمة الناشئة في إثبات نفسها وترسخها كدول وحدود ثابتة رغم أنها نشأت من نتاج تصورات مزقت النسيح الاجتماعي والقومي السابق عليها ، بالرغم أنها لم تكن قد وجدت كدولة عند نهاية القرن التاسع عشر، كما أنها لم تشهد حركات تحرر وطنية قادت عمليات بناء الأمة بها، ليستنتج أن الاتحاد السوفياتي لا سيما خلال الحقبة الستالينية شكل مصنعا هائلا لصناعة الأمم ( تركمنستان، اوزباكستان، طاجكستان، كزاخستان، واذربيجان)، الكتاب يتكلم ببراعة عن آسيا الوسطي حيث ثبات الأمة كخطاب موروث عن الحقبة السوفياتية والدولة الوطنية كحدود أصبحت مقبولة عقب انهيار التجربة الشيوعية.
من الكتابين "فشل الإسلام السياسي، وآسيا الوسطي الجديدة وصناعة الأمم" يخرج روا بأطروحة كتابه الثالث "عولمة الإسلام"
(L’islam Mondialisé, Paris Seuil, 2002)
في هذا الكتاب يواصل روا تتبعه للتحولات التي تشهدها الحركة الإسلامية داخل البلدان الإسلامية ولكن بالخصوص تلك المنتشرة في الغرب، بحيث يرى أنها تعزز الفرضيات التي دافع عنها في دراسته السابقة حول فشل الإسلام السياسي، فالحركات الإسلامية السياسية التقليدية مثل الإخوان تنتمي إلى الدولة الوطنية، والأخيرة تعرف بالحدود، وروا حين كتب عولمة الإسلام كان يتحدث عن انتقال الإسلام إلى الغرب و حيث ظهور أنماط وحركات دينية جديدة أهم ما فيها أنها عابرة للدولة الوطنية.
نشر الكتاب عام 2002 أي بعد تفجيرات سبتمبر الشهيرة، وكان الكتاب نتيجة متابعة دقيقة لعدة عوامل وتغيرات منها صعود جيل ثان من القاعدة مختلف جذريا عن سابقه. لقد كان الجيل الأول متأثرا إلى حد كبير بأطروحة إقامة الدولة الإسلامية التي شهد جدلها وجدالاتها مذ التحق بالتجربة الجهادية الأفغانية في بواكيرها، لم يكن بعيدا عن أطروحة الإخوان المسلمين، كما أنه وهو يمارس العنف كان يحدوه حلم بناء الدولة الإسلامية ولكن عبر بوابة العمل المسلح وليس السلمي كالإخوان، لقد انتمي هذا الجيل إلى أطروحة لها أرض وحدود، أما الجيل الثاني فكان جهاديا متنقلا بين كل مناطق الصراع في العالم قبل أن يستقر معظمه في أوربا.
حتى مسارات التشدد الديني بدأت في الغرب نفسه بعيدا عن المؤسسات الدينية، بل ولم ترتبط بالمسجد كمؤسسة ومكان، ومن التحق بهم بالمسجد فقد فعل بعد أن تكون فكريا في فضاء ديني متخيل ليس له أرض وليست تحده حدود. إنه جيل يحمل أطروحة أبعد من الدولة الوطنية وإنما لديه أطروحة معولمة ومن ثم فصراعه ليس مع الدولة الوطنية ومؤسساتها ( العدو القريب ) وإنما مع أهداف معولمة ( العدو البعيد ) حيث الرموز والمؤسسات العالمية من مبني التجارة العالمية إلى المشروع الامبراطوري الأمريكي...إنها أهداف اليسار ولكن بلغة الإسلام..إن مشروع هذا الجيل الجديد وأهدافه وتعريفه لها والأسلوب الذي يعبر به عنها يساري مضاد للامبريالية لولا اللغة الإسلامية، وابن لادن هو تلميذ لليسار المتشدد بقدر تلمذته على الإخوان المسلمين قديما. بالنهاية فان عنف القاعدة هو عنف سياسي وليس ديني، فالقاعدة لم تستهدف مقر الفاتيكان في روما لكنها استهدفت مركز التجارة العالمي والبنتاغون أي أنها استهدفت الإمبريالية الحديثة كما فعل اليساريون في أواخر الستينات والسبعينات بنجاح اقل.
المنتمون إلى هذا الإسلام المعولم في نظر روا هم، إلى جانب القاعدة، كل المسلمين الذين يسعون إلى إقامة امة مسلمة منفصلة، بل ومختلفة عن الشرق الأوسط، أي إنهم لا يأبهون للصراعات الحقيقية التي يعانيها الأخير؛ فلا وجود للقاعدة في فلسطين. لذلك تلعب الأصولية الجديدة دورا أساسيا في هذا الإسلام الكوني الذي يتجاوز الحدود الوطنية للدول ويتكيف مع كافة المجتمعات وفي الدول الغربية بشكل خاص، بفضل طابعه الفردي المنفصل عن المؤسسية وسعيه لخلق فضاءات اجتماعية مؤسلمة توفر للمسلمين المهاجرين الذين اختاروا الإقامة الدائمة في الغرب كما للمسلمين الجدد حيزا هوياتيا للتعريف الذاتي. انه إسلام يتأقلم مع العولمة وينمو في بيئات ليبيرالية تشكل تربته الخصبة بحيث يكون الانتماء إلى الإسلام خيارا فرديا لا تحكمه قواعد الانتماء إلى الأرض والثقافة وبحيث يعبر عن نهج أخلاقي وسلوكي صارم للمنتمين( حتمية التطبيق الحرفي لتعاليم القران والسنة لدى السلفية) تماما كما هو الحال لدى الحركات الأصولية اليهودية والانجليكانية. وبالتالي فان هذا الإسلام الذي يفتقد إلى المرجعية المكانية لا يملك إستراتيجية دولتية، لان الهدف هو الفرد وليس المجتمع، هو تأسيس إسلام عالمي يتوافق مع كل السياقات الاجتماعية ولذلك فان سر نجاحه وانتشاره يكمن في تجاوزه لمنطق القوميات والثقافات.
وهكذا لا يعرف أعضاء الحركات الدينية الجديدة الدولة الوطنية ولا ينتمون إليها، وهم بالطبيعة لا يعرفون التقليد ولا الثقافة، هم سلفيون طهرانيون يبحثون عن العقيدة الخالصة النقية من الشوائب، إسلام النقاء والعصر الذهبي والسلف الصالح. لذلك تجدهم في محلات البيتزا والفاست فود "الحلال" ولن تجدهم في محلات الكسكس والأكلات الشعبية التقليدية ..الأهمية عندهم في الحلال وليس في الثقافة..هم بطبيعتهم لا يحبون التمازجات بين الدين والثقافة..وهؤلاء هم الذين تحدث عنهم في كتابه "الجهل المقدس"
(La Sainte Ignorance, le Temps de la Religion sans Culture, Paris, Le Seuil, 2008)
الكتاب هو محاولة عبقرية للتنظير للعلاقة الجديدة بين الديني والثقافي، وأطروحة "الجهل المقدس" هي توسعة عميقة لأطروحة الدين المعولم حين يتجاوز حدود المعرفة الدينية التقليدية والمؤسسات الدينية الرسمية والعلاقات الكلاسيكية بين الدين والسياسة لا سيما لدى الإسلام بحيث يتم الابتعاد التدريجي عن الطرح السياسي بل والاجتماعي العام باتجاه البحث عن الديني النقي المفصول عن تأثيرات التقاليد المحلية في فهم النصوص المقدسة والتي يتم اعتبارها مدنسة ومصدر تهديد لنقاوة الإيمان للأتباع كما لدى السلفية مثلا في نفس الوقت الذي تصبح التعاليم الدينية اقرب وأسهل للبلوغ بعيدا عن أي دور للعلماء أو لرجال الدين.
فغياب المشروع السياسي في الغرب بسبب اختلاف علاقات القوة والهيمنة يمنح للأطروحة الإسلامية مسارا مختلفا فتبدو إنها تقع خارج الدولة وخارج الإقليم وأكثر تركيزا على الاحترام الفردي للمعيار الديني والانتماء للأمة الإسلامية لجالية مسلمة تقع في وضع الأقلية. في هذه الحالة فان الفواصل بين الدين والثقافة تتراجع لصالح الفصل بين الانتماء الثقافي والانتماء الديني؛ فالجيل الثالث كما المسلمون الجدد في الغرب، كلاهما يخوض تجربة التعرف على الإسلام أو التحول إليه دون ميراث ثقافي مسبق بحيث تصبح التجربة الدينية بحثا عن إسلام نقي غير مختلط بثقافة لم تعد تمثل له شيئا ولا يعيشها.
ويؤدي الفصل بالضرورة إلى انفصال الدين عن المناطق الجغرافية التي كان ينتمي إليها تقليديا؛ إن هذا يفسر إلى حد كبير في نظر روا سهولة انتشار السلفية في الغرب كما في العالم الإسلامي وازدياد عدد مسيحيي الشرق وتوسع أعداد المنتمين إلى الإنجيلية عير العالم بما في ذلك انتشار الكاثوليكية في مناطق لا تنتمي إلى الثقافة الغربية. ذلك أن أهم ما في الكتاب أنه لم يتوقف عند السلفية في الحالة الإسلامية وإنما انفتح علي الأصولية البروتستانتية الإنجيلية. فهذه التحولات ليست حكرا في الواقع على الإسلام وتسيد السلفية فقط ، بل أيضا في الكاثوليكية التي تواجه أزمة في المجتمعات الغربية حيث يبدو أن الإنجيلية تسجل انتشارا واضحا بسبب ميلها إلى التعالي على الطائفية وتوجهها إلى الفرد بالدرجة الأولى بحيث تبتعد عن منطق الدولة والإقليم الذي يحيط بالانتماء الديني.لقد طرح الكتاب سؤالا جوهريا عن سر صعود هذه الحركات وأجاب بأن قوتها في رفضها التقليد ومن ثم رفض الثقافة، رفض الصوفية ورفض المؤسسة الدينية ورفض الحدود بل وعدم الاعتراف بكل ذلك. وتتعاضد المجموعات المتكونة في هذا السياق اقتصاديا واجتماعيا واتصاليا بفضل الشبكات التي يتيحها الانفتاح العولمي لتشكل ما يسميه روا جماعات المؤمنين التي تصبح أكثر تحديدا وصرامة بشكل يؤدي إلى انفصال القيمة الدينية عن المعايير الاجتماعية؛ لب العلمنة وجوهرها في النهاية. وهنا نكاد نلمس بقوة الأطروحة المركزية والكبيرة للخبير الفرنسي الذي يصر منذ كتابه الأول عن التقليد والحداثة في الحرب الأفغانية على أن الحركات الإسلامية انتهت إلى التسريع من وتيرة التحديث والعلمنة داخل المجتمعات المسلمة أكثر مما قامت به أدوات التحديث الأخرى.
لروا أيضا كتاب"العلمانية في مواجهة الإسلام"
(La laïcité face à l'islam, Paris, Hachette, 2006)
وهو أول وربما آخر كتاب يكتب فيه روا من منطلق نضالي نسبيا، يحاول فيه الرد على تيار يتشكل في الخطاب العام الفرنسي مضاد للإسلام، وفيه يعالج روا فلسفيا العلمانية مميزا فيها بين كونها إطار قانوني وسياسي، وبينها علمانية نضالية (فرنسية بالتخصص) تتحول إلى خطاب شمولي يدّعي إصلاح المجتمع أو شكلا من أشكال الدين المدني الذي يتطلب امتثالا صارما للمنتمين إلى منظومة من القيم المشتركة، وهي هنا رؤية ومنظومة تدعي الإطلاقية وأنها صالحة لكل زمان ومكان. لماذا فرنسا بالذات تريد إسلام علماني مستنير؟ ولم الخوف من تأثير الإسلام على المجتمع الفرنسي بنفس درجة الخوف من الكثلكة في بداية القرن العشرين ؟ يحاول اوليفييه روا من خلال هذا الكتاب تقديم إجابة بالاستناد الى معرفته المعمقة بالحركات الإسلامية وحركة الاسلمة؛ فالإسلام اليوم معلمن تماما لذا فهو لا يشكل تهديدا للعلمانية الفرنسية.
لأوليفييه روا مساهمات أخرى لا تقل أهمية، منها تأريخ للحركة الإسلامية السياسية (Généalogie de l'islamisme, Paris, Hachette, 1995) ، وآخر عن تركيا من تحريره
(La Turquie aujourd’hui, un pays européen ? Paris, Universalis, 2004)
, ، وثالث عن إيران مع "فرهارد خسرو خافار" Farhad Khosrokhavar عن: "كيف تخرج إيران من الثورة الدينية؟
" (Iran : comment sortir d'une révolution religieuse ?, Paris, Le Seuil, 1999)
, ، ورابع عن "نحو إسلام أوربي
(Vers un islam Européen, Paris, Esprit, 1999)
وخامس عن "أوهام 11 سبتمبر"
(Les illusions du 11 septembre , Paris, Le Seuil, 2002)
الذي ينتقد فيه الخطاب الاستراتيجي الأمريكي، لكنه يبدو في سنواته الأخيرة أقرب لتجاوز الاهتمام بالإسلام والتحول للشأن الديني العام، وهو في كل ما يفعل فيلسوف يتحرك وراء أفكاره أيا كان موضوعها أكثر منه متخصص في شأن الإسلام.
مجلة الكتب وجهات نظر
ديسمبر 2009