ترييف" الإخوان!
باحث مصري في الحركات الإسلامية
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
" علشان كده أنا عرفت ليه لم أنسجم مع إخوان المدينة؛ لأن فيهم أمثالك ممن يحبون الظهور والمراكز، أما إخوان القرى والريف فبالفعل ناس يحبوا ويتحبوا لأنهم مخلصون لله.. على العموم قول يا سيدي قول بس أنا عاوز أسألك سؤال أنت هاتعرف تنام بعد كل ده؟!!".
من تعليق القارئ "محمد بركات" في الموقع الإلكتروني لجريدة المصري اليوم على الحوار الذي أجرته مع السيد عبد الستار المليجي القيادي الإخواني الذي فجر أزمة انتخابات مكتب الإرشاد.
إذا كان من دلالة تستحق التوقف عندها لانتخابات مكتب إرشاد جماعة الإخوان المسلمين الأخيرة (نهاية مايو 2008) فهو أن الجماعة الإسلامية الأقدم والأكبر في مصر والعالم أيضا شهدت أكبر عملية "ترييف" في تاريخها نقلتها من جماعة مدنية في طبيعة عضويتها ونمط تجنيدها والقواعد واللوائح المنظمة لها إلى جماعة ريفية بكل ما تعنيه الكلمة.
و"الترييف" الذي نتحدث عنه يعني إشاعة ثقافة ونمط علاقات جديدة تنتمي لما قبل المؤسسية وتستحضر الولاءات الأولية، وهو ما يختلف عما كان سائدا منذ نشأة الإخوان كجماعة حضرية، وأهم ملامح هذا "الترييف" كونه يفتقد الثقافة والتقاليد القانونية الواضحة والمرعية.
لقد شهدت الجماعة في السنوات الأخيرة سيادة ثقافة ريفية تخالف ما نشأت عليه، ثقافة تتوسل بالقيم الأبوية، حيث الطاعة المطلقة والإذعان للمسئول التنظيمي، وانتشار ثقافة الثواب والعقاب والتخويف حتى في العلاقات التنظيمية، وسيطرة الخوف من المختلف أو المتميز مع الميل للركون إلى التماثل والتشابه بين أعضاء الجماعة التي صارت تميل يوما فيوم إلى التنميط!
سنجد انتشار تعبيرات جديدة وغريبة عن الجماعة مثل: عم الحج، والحاج الكبير، وبركتنا، وبركة الجماعة، وشيخنا وتاج راسنا.. وهي تعبيرات يجاورها سلوكيات جديدة أيضا مثل تقبيل الأيادي والرءوس (كما جرى في الواقعة الشهيرة التي قبل فيها نائب إخواني في البرلمان يد مرشد الجماعة).. لم تكن هذه السلوكيات والتعبيرات سائدة من قبل في تنظيم الإخوان ذي النشأة والغلبة المدنية، وإنما أتته من ثقافة ريفية غزت الجماعة مثلما غزت المدينة المصرية في العقود الأخيرة.
تبدو مظاهر هذا "الترييف" في ضعف احترام فكرة اللوائح والقوانين المنظمة والمؤسسة للعلاقة داخل الجماعة، كما برز على نحو واضح في الانتخابات الأخيرة التي كانت الأسوأ من حيث التعتيم الإعلامي والتنظيمي، ومن حيث تضارب المعلومات الحقيقية والضرورية بشأنها، وكذلك من حيث التهميش وتغييب اللوائح الحاكمة.
بتأثير هذا "الترييف" لم يعد مهما أن تكون هناك انتخابات شورى أو تنظيمية داخلية أو أن تدار هذه الانتخابات وفق الشروط واللوائح المنظمة، بل أصبح المهم ومحور الحديث ضرورة احترام القيادة ووجوب الثقة المطلقة فيها.
كما تفشت ظاهرة مجتمعات "النميمة" الإخوانية التي تقتات من الأمور الشخصية والعائلية وتخلط بينها وبين أمور تنظيمية، كما جرى في أزمة السيد عبد الستار المليجي عضو مجلس الشورى التي تحول فيها النقاش من اللوائح والقوانين إلى السلوك الشخصي، وحين يحدث هذا دائما ما تستباح كل الخصوصيات بحجة مصلحة الجماعة والذود عنها.. لقد حوّل "الترييف" جماعة الإخوان إلى قرية كبيرة مثل بقية القرى المصرية التي لا يخفى فيها سر.
سنلاحظ أنه وفي ظل هذا "الترييف" وبسببه انتشرت التكتلات أو"جيوب" الولاء الفرعية بناء على العلاقات غير المؤسسية، فصارت مناطق ومحافظات بكاملها ينظر إليها باعتبارها منطقة نفوذ أو تبعية لقيادة تنظيمية نافذة بعينها، فيقال محافظة أو مدينة معينة بأنها "تبع" الأستاذ فلان أو عم الحج فلان أو هي مقفولة عليه وعلى أنصاره. في مثل هذه الأجواء يصعب إنفاذ أمر تنظيمي على غير رغبة هذه القيادة أو رضاها حتى وإن لم يعرض عليها الأمر، كما يتم تصعيد القيادات تنظيميا على أساس من قربه من هذه القيادة أو تلك وقوة علاقته بها، كما تتضاءل تدريجيا فرص التعددية والتنوع الذي دائما ما كان مصدر قوة للجماعة.
سنجد أيضا انتشار هذه الازدواجية الريفية في العلاقة بالسلطة من حيث الخوف والكراهية والسرية وإعلان الرضوخ الشكلي، وتبني خطابين: خطاب للمجتمع وخطاب للسلطة، سواء سلطة النظام الحاكم أو السلطة الشرعية في الجماعة، دائما هناك تسليم للسلطة نظريا ولكن تبقى الأمور كلها على حالها المعمول به أو على قديمه!! هناك قبول أو عدم معارضة للوائح الجماعة وقوانينها المنظمة كما ليس هناك اعتراض مباشر على ما تقوله قيادة الجماعة (خاصة السياسية) لكن الأمور تدار على الأرض وميدانيا بعيدا عن هذا كله كما هي وكما اعتاد الناس، لذلك لا تلقى كثير من الأفكار والأطروحات الجديدة (كما في مجمل المواقف والاجتهادات السياسية الأخيرة) أي اهتمام لدى قواعد الحركة، بل يتم التحكم فيها تضعيفا وتوثيقا من قيادات وسطى كثيرا ما تقوم بـ"فلترة" هذه التوجهات والتشويش عليها باعتبارها اجتهادات خاصة لقيادات بعينها أو الإيحاء - وهذا الأشد خطورة - بأنها كلام للناس والمثقفين والصحافة فقط.
ثم سنجد هذا التمسك بالجماعة كإطار اجتماعي أو كحاضنة وليس كمؤسسة لها تقاليد ومنظمة لوائح وقوانين، فليس مهما الحديث عن التزام الجماعة بلوائحها وأنظمتها أو بسبب وجودها الحقيقي، بل المهم هو البقاء بها والإبقاء عليها ولو على حساب أصل وجودها.
ثم سنجد الظاهرة التي اكتسحت الجماعة في السنوات الأخيرة وتتمثل في عدم الميل إلي الثقافة النقدية، والبعد عن التكوين الفكري الجدلي لمصلحة التقريري الوعظي غير التأملي، وهو ما تكثر منه الشكوى حتى في مدارس الإخوان التي صارت تخرج جيلا أكثر نمطية وتقليدية.
نعم.. توسعت الجماعة في ضم المتعلمين والمهنيين في عضويتها، بل صارت تضم داخلها أكبر عدد من أعضاء هيئة التدريس في مصر، غير أن الحاصل أن هذا العدد ظل رغم ذلك أقرب إلى التكوين الريفي في ثقافته ورؤيته للعمل العام، فالتكوين العلمي والعمل الجامعي ظل أقرب إلى وظيفة أو منصب، وليس منهجية تفكير وحركة، وكثيرون منهم متميز في الحصة العلمية غير أنه منفصل تماما عن العالم في تكوينه الثقافي، فلا علاقة له بواقع الحياة.. لدى الجماعة نحو ثلاثة آلاف عضو هيئة تدريس لكن معظمهم من دون وعي نقدي، يمارسون العمل الجامعي بطريقة وظيفية، وهم في ذلك جزء من المناخ العام في مصر.
لقد شهدت الانتخابات الداخلية الأخيرة للإخوان فوز خمسة من أعضاء مجلس شورى الجماعة بعضوية مكتب الإرشاد، سنلاحظ أنهم في معظمهم ينتمون للريف كمنطقة جغرافية أو كثقافة فرضت منطقها على المدينة المصرية في السنوات الأخيرة وفيها العاصمة القاهرة أو مدينة الإسكندرية التي كانت إحدى أهم المدن الكوزموبوليتانية في العالم قبل ثورة يوليو.
الفائزون هم سعد الدين الحسيني من محافظة الشرقية، ومحمد حامد من المحلة الكبرى، ومحمد عبد الرحمن من الدقهلية، وسعد الدين الكتاتني من محافظة المنيا، وكلها محافظات تنتمي للريف، أما أسامة نصر الوحيد الذي ينتمي إلى محافظة غير ريفية وهي الإسكندرية فهو أحد صقور تيار التنظيم.. فاز هؤلاء الذين يشكلون مزيجا من أبناء الريف وتيار التنظيم ليلتحقوا بمكتب الإرشاد الذي شهد في العقد الأخير نفوذا متناميا للقادمين من الريف الذين اكتسحوا المكتب في التصعيدات الأخيرة: محمود حسين من أسيوط، وصبري عرفة الكومي من الدقهلية، ومحمد مرسي من الشرقية.
لقد شهد تنظيم الإخوان تمددا لنفوذ محافظات ذات طابع ريفي كان لها دور تقليدي كبير في ترييف المدن المصرية، ولقد تزايد نفوذ محافظات مثل أسيوط والمنيا والدقهلية والشرقية فسيطرت على معظم المواقع في الجماعة، وخاصة في القيادات الوسطي، كما تم التوسع بشكل مبالغ فيه في التجنيد منها، بحيث صارت تحتل الصدارة بين أعضاء الصف الثاني من الجماعة.
في الانتخابات الأخيرة قامت قيادة التنظيم بإعادة تقدير الأوزان النسبية للمحافظات بحيث أعطت محافظات ريفية (الدقهلية بشكل خاص) وزنا أكبر بكثير في تشكيلة مجلس الشورى على حساب محافظات مدنية مثل الإسكندرية والقاهرة، فعلت قيادة التنظيم ذلك استجابة لنتائج ما جرى من "ترييف" الإخوان أو تسريعا لهذا التحول إذا ما اعتبرناها في مصلحة تيار التنظيم الممسك بالجماعة والذي يغلب ثقافة السمع والطاعة ويرسخها.
لقد كانت الفكرة الإخوانية مبهرة لمجتمع المدينة المصري فصارت الجماعة محل جذب في المدن حتى أواخر الثمانينيات تقريبا، ثم أخذت في الضعف والتراجع كما جرى للمنظومة الإخوانية بشكل عام، وصارت أقل قدرة على استيعاب شباب المدن، سواء بسبب دخولها في مواجهة محتدمة (وإن كانت سلمية) مع النظام بما أثار الخوف منها ومن الارتباط بها، أو بسبب عدم قدرتها على تطوير خطابها.
لم يعد شباب المدن منجذبا كالسابق للإخوان بعدما فقدت فكرة التنظيم جاذبيتها في الحالة الإسلامية، خاصة أن الجماعة كانت قد شهدت في العقدين الأخيرين زيادة مفرطة في مساحة التنظيمية والعسكرة على حساب الدعوة المفتوحة القادرة على استيعاب كل المقتنعين بالفكرة.
لم يعد شباب المدينة مضطرا للمعاناة التنظيمية والعسكرة في الإخوان، خاصة بعدما انفتحت الساحة الإسلامية على بدائل أقل تنظيمية وعسكرة وأخف وطأة في معاناتها مع النظام الذي لم يتوقف عن كيل الضربات للجماعة في الخمسة عشر العام الأخيرة حتى أنهكها وأشاع حولها مناخا من الشك أو الخوف.
كما لم تعد "الطهرانية" الإخوانية التي كانت تجذب شباب المدن للإخوان قادرة على الاحتفاظ بهم، إذ صار بإمكان الشباب العثور عليها لدى التيار السلفي أو حتى الدعاة الجدد، كما أن الإخوان أنفسهم صاروا أقل حرصا على هذه "الطهرانية" بعدما زادت مساحة السياسة فعلا وقولا وعملت عملها فيهم، فصاروا أقرب لأهل السياسة منهم لأهل الدعوة.
إن قراءة سريعة لتطور جماعة الإخوان في العقدين الأخيرين تقول إن أهم ما بقي دافعا للالتحاق بها هو جاذبية كونها تصلح كإطار اجتماعي حاضن للفرد وحماية له في عالم يشعر فيه بالغربة، وهو ما يتناسب أكثر وأهل الريف الذين استقر بهم المقام في المدينة وانقطعت أو ضعفت علاقاتهم بمجتمعهم القديم.
لقد كان زحف أبناء الريف الذين استقروا بالمدينة على جماعة الإخوان موازيا لما جرى في العقدين الأخيرين من تفكك العائلات الممتدة وضعف أواصر القرابة التي كانت تقدم حماية لابن الريف في المدينة تتيح له الاعتماد على قراباته في المدينة، إضافة إلى ضعف مؤسسات الدولة في استضافة هؤلاء في مؤسسات الجامعة والتشدد في شروط السكن بها؛ إضافة إلى ما شهدته المدينة من تفشي أنماط من الترفيه والتغريب خلقت حالة الخوف من المدينة تدفع بصاحبها إلى البحث عن حاضنة اجتماعية وأخلاقية أيضا.
المراقب لعلاقة الإخوان بالريف جغرافيا وثقافة سيلاحظ أن التجنيد داخل الجماعة والتصعيد في تراتبيتها التنظيمية صار يتم لمصلحة الوافدين من الريف على حساب أهل المدن، وفي الجامعة لمصلحة الوافدين على حساب أبناء المدينة، كما أصبح التجنيد بين طلاب الجامعة الأزهرية أعلى منه في الجامعات الأخرى وفي جامعات الأقاليم أعلى منه في جامعات القاهرة والإسكندرية وفي المدن الجامعية أعلى منه في التجمعات المدنية.
نعم كانت هناك هجرة للمدينة تاريخيا، كما أن مصر شهدت أكبر موجة ترييف بعد ثورة يوليو، لكن كانت للجماعة قدرة على استيعاب الريفيين، فقد كان التجنيد يتم أغلبه بين أبناء الموظفين والمدرسين أو "الأفندية" بالتعبير السائد، حتى في الريف كان تجنيد الإخوان يتم بين من تحصلوا على نسبة تمدين وتنور وسلوكيات معينة.
لقد اختلف الأمر الآن وزادت طاقة الريف على إمكانات التمدين داخل الجماعة، وزاد من ذلك أن البنى الاجتماعية التقليدية للريف المصري التي لم تكن ترحب بالجماعة أو تقبل على التجنيد بها قد انفتحت فصار بإمكان الإخوان التنافس بل الفوز في الانتخابات البرلمانية في مناطق الريف المصري سواء بالصعيد (سوهاج وأسيوط والمنيا) أو الدلتا (الغربية والشرقية والدقهلية) بعدما كان تواجدهم فيه ضعيفا إلا في الحواضر والمراكز المدنية داخله.
لقد كان تفكك المجتمع التقليدي في الريف مقدمة لدخول الإخوان فيه، ولكنه لما انفتح على الإخوان انفتح بثقافته ونمط علاقاته، وكان تأثيره فيهم أكبر بقدرتهم على التأثير فيه أو حتى احتواء آثاره.
لقد تراجع "أفندية" حسن البنا الذين تولوا إدارة الجماعة تاريخيا مثل حسن الهضيبي وعمر التلمساني وحسن عشماوي ومنير دلة وعبد القادر حلمي وفريد عبد الخالق.. أو حتى أفندية الريف المتمدينين مثل محمد حامد أبو النصر وعباس السيسي، وتواروا لمصلحة الريفيين الذين تقدموا لاحتلال الصفوف الأولى حتى داخل القاهرة: محمد مرسي وسعد الكتاتني وسعد الحسيني وصبري عرفة الكومي.
بل إن مرشد الجماعة نفسه مهدي عاكف على تاريخه الطويل في الجماعة يبدو في تصريحاته وخطابه، بل طريقة إدارته للجماعة، أقرب لثقافة الريف ونمط إدارته، وتعبيرا لها إذا ما قورن بسلفه الأخير مأمون الهضيبي القاضي الذي تربى على تقاليد وثقافة قانونية وسياسية راسخة ضاعت ضمن ما ضاع من مصر في ربع قرن مضى.