ملامح النموذج المقاوم الذي ننشده
باحث في الحركات الاسلامية
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
منذ ما يزيد عن قرنين من الزمان وتحديدا مع بدء الحملة الفرنسية علي مصر والشام ( 1798 ميلاديا ) والأمة الإسلامية تعيش حالة مقاومة علي مستويات مختلفة ( سياسية عسكرية وثقافية اجتماعية ). وقد انتهت حقبة الاستعمار العسكري في منتصف القرن العشرين تقريبا ولكن لم تنته المواجهة ومن ثم المقاومة، بل عادت حروب الإمبراطورية الأمريكية لتعيد الأمة من جديد إلي أولوية قضية المقاومة على غيرها.
ومع انفتاح جبهة المواجهة باتساع امتداد الأمة ( أفغانستان في أقصى الشرق والصومال في أقصى الجنوب وفي القلب العراق وفلسطين ..) تعددت مشروعات المقاومة واختلف الناس فيها وعليها وتعددت مواقفهم قبولا ورفضا وكان طبيعيا أن يطرح السؤال: أي مقاومة يمكن أن تقود الأمة؛ ما ملامحها وما شروط قبول الأمة لها كمقاومة؟
السطور القادمة تحاول – باختصار يتطلبه المقام- تجريد نموذج مقاوم يمكن أن تتمثله القوى المقاومة، وهو بالطبع نموذج تجريدي لا يتوفر كاملا في حركة مقاومة بعينها، ولكنه يصلح كمثال يمكن أن يقاس عليه وقدوة يمكن أن تقتفى.
أول سمات النموذج المقاوم هو الوعي بطبيعة اللحظة التاريخية التي تعيشها الأمة والتي تجعل مشروعها الأساسي مواجهة تحدي الخارج بمستوياتها المختلفة؛ العسكرية والسياسية والاقتصادية والحضارية.
إن الوعي بأن التحدي الأكبر للأمة هو تحدي الخارج الذي يسعي لكسر الأمة وتطويعها ومن ثم الهيمنة عليها لا يكون علي حساب الوعي بالتحديات الداخلية وبأهميتها وتأثيرها وضرورة النقد الذاتي؛ ولكنه يعني أن الدائرة المغلقة التي تدور فيها الأمة والطوق المفروض عليها لن يكسره إلا كسر التحدي الخارجي والتخلص من هيمنته. إن النموذج المقاوم يستحضر أن تحدي الخارج حاضر حتى في سؤال الذات، وأن مواجهة كل تحديات الداخل رهن بإنجاز مواجهة الخارج والتخلص من هيمنته دون أن يغيب عنه أن في الذات ما يستحق المساءلة وأن ( ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير )، ومن ثم فهو يقود حركة الإصلاح في بلاده لكنه دائما ما يضع نصب عينيه وفي مقدمة أولوياته صد العدوان ورد المعتدين.
والوعي بأولوية تحدي الخارج يفرض علي الحركة المقاومة الوعي بأن التحدي يواجه الأمة كافة وليس أجزاء منها ( وإن اختلفت جبهات المواجهة ومستوياتها ) ومن ثم فهي- الأمة- لابد أن تحتشد كاملة غير متفرقة لمواجهته، فالنموذج المقاوم وإن كان يتعاطى واقعيا مع واقع الفرقة والتجزئة ويتحرك ضمن معادلات دولة التجزئة والقطرية إلا أن هذه الواقعية لا تعني لديه القبول بها أو التسليم بها، بل هو يؤمن بوحدة الأمة وإيمان شعوبها بها، ويستحضر وحدتها وقدرتها الكامنة علي تجاوز الحدود التي فرضتها عليها قوى الاستعمار والهيمنة.
إن النموذج المقاوم لا يقع في فخ التجزئة والقطرية التي تفكك الأمة، ولا يتحكم به منطقها، ومن ثم فهو لا يؤسس مقاومته علي محض التجزئة والقطرية على الرغم من قدرته علي التعامل مع هذا الواقع ولكن من أجل تجاوزه وليس إقرارا به.
إن الناظر لحركة المقاومة في الأمة لن يجدها قطرية خالصة منغلقة على حدود قطرها بل دائما ما كانت حركات المقاومة في وطننا العربي والإسلامي متجاوزة للحدود متصلة بالجوار إن لم يكن بعموم بلاد الأمة.
والنموذج المفترض للمقاومة يجب أن ينتمي ( وهو كذلك فعلا ) إلي الأمة وليس الدولة، ينتمي إلي الأمة بالمعني غير الرسمي، ينتمي إلي الشعوب والناس والمجتمعات الإسلامية ولا يمثل دولة أو سلطة أو نظام دون أن يعني ذلك بالضرورة خروجا علي الدولة والنظام .
فالواقع الذي يتأكد يوما فيوم أن دولة ما بعد الاستقلال أو الدولة القطرية وليدة واقع التجزئة في عالمنا العربي والإسلامي فشلت في أن تقدم مشروعا للمقاومة بل إن كل دول التجزئة تم استيعابها تقريبا ضد المشروع الأمريكي والتي مازالت تمانع هي أضعف من أن تتبني مشروع مقاومة صريحا فضلا عن أن تقدم نموذجا له.
إن قوي الهيمنة تفضل أن يكون تعاملها مع دولة التجزئة القطرية وليس الأمة التي يصعب السيطرة عليها من خارجها. فالدولة العربية في حالة التجزئة والضعف هي الأداة المفضلة لقوي الهيمنة لبسط هيمنتها علي الأمة.
تتأكد هذه الحقيقة من واقع أن الدولة في عالمنا لم تعد فحسب أداة للقمع والاستبداد بل وأداة لتفكيك قوي المقاومة في مجتمعاتها. إن نظرة علي مناطق المقاومة في أمتنا تقول أن قوي الهيمنة تتوسل بالدولة لفرض مشروعاتها، فالولايات المتحدة هي من يدفع وراء قيام الدولة في العراق ولبنان ومن قبل في فلسطين ( مثل مطلب جمع السلاح تحت سلطة واحدة ) بل إنها ذهبت لتقيم الدولة من أنقاضها في الصومال التي عاشت من دون دولة أكثر من عقدين فقط لأن المجتمع أنتج مؤسساته ( كما في حالة المحاكم الإسلامية ) التي ملئت فراغ الدولة دون أن تقع في الهيمنة الأمريكية علي المنطقة.
وانتماء المشروع المقاوم للأمة يضمن له بين الناس وجودا فاعلا وحيا وحقيقيا بحيث يصير الشارع حاضنته التي تحميه من الاستئصال وتفسح له مساحة للحضور والتحقق حتى لو ضيقت عليه السلطات والأنظمة.
إن الامتداد الطبيعي للمشروع المقاوم هو الناس يمد لنفسه بينهم جذورا في الأرض تستعصي علي الاقتلاع، فهو ليس حركة نخبوية وإن كانت له نخبته، وأفكاره مهما علت قابلة للنزول إلي الأرض والتحول إلي برامج يجتمع عليها البسطاء وعموم الناس وليس رطانات نخبوية منعزلة عن الجماهير.
إن أي مشروع مقاوم يبدأ في التراجع بل والتآكل حين يضل طريقه إلي الناس ويستعيض عنهم بالنخب أو تغريه أضواء الإعلام وبريقه، فالوقود الحي للمقاومة هم الناس ومن ثم فالاستعلاء عنهم يفصل المشروع المقاوم عن أصله ومادته؛ غير أن الاقتراب من الناس لا يعني الانسياق وراء الجماهيرية والشعبوية وما تجره من غياب للتعقل والتبصر وتقدير مواضع الأقدام.
إن كون الامتداد الطبيعي والمفترض للمشروع المقاوم هو الشارع والناس ومؤسسات الأمة (المساجد والجمعيات والتجمعات المهنية والنقابية...) وليس الأنظمة وأدواتها ( أجهزة الجيش والشرطة والاستخبارات ..إلخ )، قد يجعله ضعيفا وفق معايير وموازين القوي المتعارف عليها، ولكن الواقع أن قوة هذا المشروع في ضعفه، فمؤسسات الأمة علي بساطتها وضآلتها هي الأقرب للناس والأكثر اتصالا بهم وتأثيرا فيهم، وهي الأكثر قدرة علي التجدد والإبداع الذي يخرج بها عن الجمود ويعطيها إمكانية للمراوغة والهرب من الملاحقة والمطاردة وإعادة بناء نفسها في حال ما تعرضت للهدم والتخريب.
إن مؤسسات الدولة ليست بالضرورة تعبيرا عن الأمة أو تلبية للناس، وهي قيد التغير والتبدل في الرؤية والمشروع والأهداف وفي زمن قياسي، وهي يمكن أن تنتهي بقرار منها مثلما صنعتها الدولة من قبل بقرار، ومن ثم فهي أضعف قوة وأقصر عمرا وإن بدا غير ذلك؛ فيما تبقي مؤسسات الأمة شاهدة علي استعصائها علي الموت.
من يتأمل سيجد أن معظم الكيانات المقاومة التي نشأت عن نظام أو سلطة ظلت رهنا لها قوة وضعفا وحضورا وغيابا فما إن تغير النظام وضاعت سلطته حتى ضاعت معه أو انتقلت أداة في يد من يخلفه؛ إن تأمل تجربة المقاومة العراقية يقول أن استمراريتها كانت بسبب أن امتدادها هو الناس والشارع فيما انسحق تنظيم مثل فدائيو صدام الذي كان قد أنشأه الرئيس صدام حسين قبل سقوط نظامه، ورغم كثافته عددا وقوته عتادا إلا أنه لم يعمر طويلا في ميدان المواجهة..علي الرغم من أنه كان قد تأسس بغرض المقاومة مثل تنظيمات أخرى لاحقة أقل منه عدة وعتادا لكنها مازالت صامدة باقية تستمد وجودها من وجود الأمة ذاتها.
والنموذج المقاوم يؤسس ذاته ويصوغ عقيدته المقاومة من الإسلام عقيدة الأمة ولا ينتمي إلي فضاءات أيديولوجية غريبة علي ثقافة الأمة ومعتقدها ومصادمة لها؛ فهو وإن قبل أن يستفيد من خبرات حضارية أخرى يظل وفيا لمعتقد الأمة غير متنكر لها ويظل الولاء لهذه الثقافة وهذا المعتقد هو النهر الرئيسي فيما تمثل الخبرات الحضارية روافد إضافية؛ إن النموذج المقاوم الذي يلوح في الأفق لا يمكن أن يتنكر لمعتقد الأمة وحضارتها فلم يعد هناك قبول بالفكر الماركسي المادي أو الليبرالي المخاصم في عمقه للإسلام كقائد للأمة في معركة المقاومة، وذلك علي الرغم من قابلية النموذج المقاوم للانفتاح علي مكتسبات هذه الأيديولوجيات وإعادة تسكينها في بيئة عربية إسلامية تماما مثلما انفتحت بعض التيارات الإسلامية علي خبرة اليسار الثوري في مقاومة الاحتلال كما في بعض الجوانب المشرقة لتجربة حزب الله.
ويتصل بالسمة السابقة سمة أخرى لازمة ومكملة لها تتمثل بقدرة هذا النموذج على الانفتاح علي العالم فلا يتعامل معه ككتلة مصمتة. فهو قادر علي إدراك التنوع والتعددية داخل العالم وأبعد ما يكون عن الوقوع في فخ الأحادية أو تقسيم العالم إلي معسكرين للخير والشر لا يلتقيان؛ بل هو يؤمن بسنة التدافع وأن الله ينصر هذا الدين بالمسلم والكافر، ولديه الثقة في الإنسانية المشتركة التي يمكن أن تلتقي علي الخير الذي هو أصل مشترك.
ولعل غياب هذه السمة هو مما يحرم تنظيم القاعدة من أن يكون النموذج المنشود لقيادة مقاومة الأمة، فالتنظيم الذي يقسم زعيمه العالم إلي قسمين: فسطاط للإيمان وآخر للكفر، لا يمكن أن يفهم طبيعة العالم أو يدرك إمكانية بناء تحالفات مع قوى وتيارات تقف مع الأمة في نفس خندق المقاومة ضد الهيمنة والتوسع واستباحة الشعوب؛ إن التنظيم الذي أخذ علي عاتقه مسئولية المواجهة مع المشروع الإمبراطوري الأمريكي في المنطقة والعالم ينسي أن أقوي نقد لهذا المشروع جاء من مفكرين غربيين بل وأمريكان أحيانا ( كما في حالة نعوم تشومسكي )، وأن أكبر مظاهرات احتجاج ضده خرجت في الغرب الذي قادت بعض تياراته أكبر مظاهرات في تاريخ الإنسانية ضد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003.
إن خطاب القاعدة وأخواتها يفقد قضية المقاومة في بلد كالعراق الكثير من رصيد يمكن أن تضخه الحركة العالمية للمقاومة وصد العدوان الأمريكي، وهي تمثل تيارا آخذا في القوة والاتساع، ويحتاج فقط لخطاب إسلامي يستطيع تأسيس أرضية مشتركة للقاء معه.
والمشروع المقاوم الذي يؤسس عقيدته المقاومة علي أساس من الإسلام دينا وحضارة لا يكتفي بذلك علي مستوي البناء النظري وإنما يستدعي الدين في بناء العقيدة القتالية لأنصاره ومحازبيه، فالمشروع المقاوم لا يقوم علي "مرتزقة" يشتريهم ليخوضوا المعارك دون فكرة أو عقيدة سوي الارتزاق، بل هو يبني قاعدته علي عقيدة قتالية صلبة لا تؤثر فيها الإغراءات المادية ولا التفاوت الظاهر في موازين القوى بل إن رسوخ هذه العقيدة هو مما يعدّل من موازين القوى لمصلحة الأمة ( إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين )
ولأن معركة الأمة المقاومة تدور وفق موازين مختلة تقريبا تبدو فيها الغلبة المؤكدة لخصومها فإن النموذج المقاوم من سماته الوعي بأن معركته هي بالأساس معركة إرادة، وأن الهدف منها –بالأساس- إلي كسر إرادته وإرادة الأمة، ومن ثم فإن معايير الغلبة فيها تتصل عنده – النموذج المقاوم- بالإرادة وقدرته وقدرة الأمة علي أن تبقي صاحبة إرادة ولا تنكسر تحت وطأة المعايير المادية، تماما كما جرى في حرب يوليو تموز 2007، فمعني الانتصار يتجاوز التقييم الرقمي لمعدلات الخسائر المادية ويتعلق بإرادة الصمود وعدم الانكسار التي انتصرت فيها المقاومة اللبنانية، وشيء من هذا يمكن أن يقال في شأن مقاومة الأمة للغزو الأمريكي للعراق فإرادة المقاومة وديمومتها هو معيار النصر علي الرغم من فداحة ما قدمته قوى المقاومة من تضحيات.
ولأن المعركة هي معركة إرادة فإن عناية النموذج المقاومة هي بالإنسان أكثر منها بالآلة، لذلك فهو يبذل جهده لبناء الإنسان وفق منظومة عقدية مقاومة – كما أسلفنا، ويهتم بتسليحه عقديا ومعرفيا قبل تسليحه عسكريا.
لن نجد حركة مقاومة حقيقية تكتفي بتعبئة الناس كيفما اتفق، أو تقف عند حشدهم كما لو كانوا قطيعا، فهي تربي أبناءها على المقاومة وتؤهلهم لتحمل تبعاتها، وهي ليست بالضرورة مقاومة مسلحة بل تتعدد المقاومة وتتنوع أساليبها وطرقها بحيث تستوعب كل الأمة أفرادا ومجموعين أو هكذا ينبغي أن تكون.
والانتماء للأمة والولاء لمعتقدها يفترض بهذا النموذج أن يكون غير غارق في المذهبية علي مستوي الخطاب حتى ولو تصادف أن كان ينتمي أبناؤه إلي مذهب بعينه، فالنموذج المقاوم يأخذ مفردات خطابه من التيار العام للإسلام أو الإسلام الجامع للأمة المستوعب لتنوعها وتعدديتها ولا يمكن أن ينغلق هذا النموذج طائفيا علي نفسه. فهو لن يمثل نموذجا للمقاومة لو بات نموذجا طائفيا حتى ولو انتصر في معركته العسكرية، فلكي تتوجه الأمة نموذجا تحتذي به للمقاومة لابد أن ينتصر في معركة الخروج من شرنقة الطائفية.
انطبق هذا علي حزب الله فترة قيادته لتحرير الجنوب فرغم كونه تنظيميا شيعيا مغلقا علي نفسه إلا أن خطابه البعيد عن الطائفية والمستعلي عليها جعله تيارا مقاوما ونموذجا للأمة في قضية المقاومة، وإن تأثر ذلك فيما بعد بتورطه في خطاب طائفي جرته إليها تفصيلات السياسة الداخلية في لبنان.
إن غياب هذا الشرط ( الاستعلاء علي الطائفية والمذهبية ) هو أيضا ما حرم تنظيم القاعدة من أن يحل نموذجا للمقاومة في الوعي العربي الإسلامي، فخطاب القاعدة وممارستها الغارقة في الطائفية والمذهبية ومنها التحريض ضد الشيعة واستهدافهم في العراق، أحدث انفصالا بينها وبين عموم الأمة رغم قيادة التنظيم لأكبر مواجهة مع المشروع الأمريكي.
ومن سمات النموذج المقاوم الوعي بالتعددية داخل الأمة وما تعنيه وتقتضيه من خروج علي الطائفية والمذهبية والتنظيمية تغليبا لمبدأ الانحياز للأمة في عمومها وتقديم مصلحتها- الأمة- علي مصلحة الطائفة ولو كانت متحققة.
إن تأمل المشهدين العراقي واللبناني يكشف لنا الأسباب الكامنة وراء الغضب العفوي والتلقائي للجماهير العربية والمسلمة من القوي الشيعية في العراق حد اتهامها بالخيانة والعمالة علي الرغم من أنها كانت هي نفسها من رفع قادة الشيعة فوق الأعناق في لبنان بعد أن قادوا المقاومة اللبنانية ضد المشروع الصهيوني.
لقد توفرت للأمة قدرة فطرية علي الوعي بأن التعددية والإقرار بها لا يجب أن يكون مدخلا لتفكيكها أو للوقوع في براثن الطائفية المذهبية، فالأمة ذات الأغلبية السنية كانت علي وعي بالتعددية في لبنان والعراق وأقرت بها ولكنها في انحيازاتها اختارت الاصطفاف إلي الخندق الذي يمثلها ويمثل مشروعها المقاوم أيا كان طائفته.
والأمة التي ارتقت بشيعة لبنان إلي أعلى المراتب لما قاوموا هي التي نزلت بشيعة العراق إلي أسفل الدركات لما فرطوا في حوزتها وغلبوا مصلحة الطائفة علي مصلحة الأمة والوطن بعكس ما فعلته المقاومة السنية التي استعلت علي مصالحها الطائفية فصارت ممثلة الأمة رغم أنها أقلية بالحساب العددي..نعم ربما ظفر الشيعة بالوطن ولكن ظفر السنة بالوطنية التي هي أبقي في ميزان الأمة.
ولأنه علي وعي بالتعددية داخل الأمة فإن نموذج المقاومة المنشود لا تقوم مقاومته إلا عبر الوحدة الوطنية التي تدرك التنوع وتحفظه وتراه من عوامل قوتها فلا تعرضه للانقسام أو التصدع.
ولعل هذا ما يؤخذ علي تنظيمات مثل تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين الذي كانت بعض ممارساته تتحمل قدرا من المسئولية عن تمزيق النسيج الوطني العراقي، فهو لم يكن علي وعي بأولوية الحفاظ علي هذا النسيج بل وتدعيمه، بل وربما كان يفتقد الحساسية لهذا الأمر من الأساس ربما بحكم كونه غير ذي جذور في العراق، وهو ما سيجعل المستقبل للمقاومة العراقية التي تلتزم مبدأ الوحدة الوطنية مثل كتائب العشرين ( والتركيز علي نقد القاعدة ليس تبرئة للميليشيات الشيعية بل لأن الأخيرة لم تكن يوما في تيار المقاومة)
والإيمان بالوحدة الوطنية يفرض علي النموذج المقاوم الاعتقاد الجازم بحرمة الدم الوطني ويمنعه من أن يقترف إثم سفكها أيا ما كانت مبرراته، ولعل هذا ما كان مسئولا إلي حد كبير عن تراجع شعبية حركة المقاومة الإسلامية حماس بعد أن دخلت في حسم عسكري مع خصومها في حركة فتح، لقد خفت نجم حماس علي عكس ما كانت عليه سابقا في خيال الجماهير العربية والمسلمة علي الرغم من أنها لم تعدم المبررات وكان لديها ما يدين خصومها.
إن مشهد حمل السلاح بين أبناء الوطن وسفك الدم الفلسطيني أحدث من التصدع ما لم تعد تفلح معه مبررات أو اعتذارات، وسيبقي إثم سفك الدم يلاحق حماس وينال منها علي تاريخها الناصع وما قدمته كحركة مقاومة. إن الأمة قد تتفهم الظروف التي دفعت بحماس إلي كسر هذا المحظور لكنها لن تقبل بهذا الفعل أو تقبل به وسيظل غصة في حلقها.
وما جرى في حق حماس يصدق اليوم في حق حزب الله؛ فالحزب الذي علا نجمه بصموده في حرب يوليو/تموز 2006 وبإصراره على أن تظل بندقيته موجهة إلى صدر عدو الأمة، أضر بصورته الذهنية في الوعي العربي والمسلم حين احتلت ميليشياته بيروت الغربية تقتل وتحرق وتحاصر الآمنين من أهل العاصمة الذين احتضنوا قبل عامين أهل الضاحية والجنوب من أبناء الطائفة الشيعية حين أجبرتهم الغارات الإسرائيلية على هجر منازلهم، حتى إن وصف الحزب ما قام به يوم الجمعة الماضي بـ"التحرك المحدود".