يحيى عبده.. عاشق المآذن
باحث وصحفي مصري
hعنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
ظلت الفنون على اختلافها من أكثر المساحات التباسًا عند الإسلاميين، وكانت وما زالت الحلقة الأضعف في اجتهاداتهم والأكثر حساسية، لكن متابعة مدققة ربما تكشف عن أن تطورا كبيرا طال هذه المساحة الملتبسة، وأحسب أن دراسة أغلفة الكتب "الإسلامية" التي كانت تصدرها الحركة أو المحسوبون عليها يمكن أن تمثل مادة بحثية في دراسة كيف تطورت نظرة الإسلاميين للجمال والفن، فقد كانت تصدر -في البداية- خلوا من عناصر الجمال والجذب، ثم بدأت تزحف عليها اللمسات الجمالية شيئا فشيئا حتى صارت جزءا أساسيا فيها، وربما جاء بعضها في جماله أكثر جاذبية، وأحيانا أهمية، من المضمون!.
ولا يمكن الحديث عن مساحة الجمال والفن الإسلامي -وخاصة في تصميم أغلفة الكتب والبوسترات التي لاقت رواجا وانتشارا وكان لها أهمية بالغة منذ بداية الصحوة الإسلامية- إلا ويستدعى معه الفنان التشكيلي المصري يحيى عبده.
ومن الممكن القول إن الفنان التشكيلي يحيى عبده مارس تأثيرا بالغ الأهمية في جهة تطوير وتنمية الحس الجمالي في الحالة الإسلامية، وإنه -وإن لم يتصل بها مباشرة- كان عنوانا لمدرسة جديدة في الفنون التشكيلية ظهرت في مصر في العشرين عاما الماضية، واشتهرت في الأوساط الفنية والإسلامية باعتمادها الإسلام أساسا للتصور والتصرف في الأعمال الفنية، والنظر إلى الفنون (وتحديدا الفنون التشكيلية) كميدان للقاء بين قيم الحق وقيم الجمال.
وأنه عبر إبداعاته الفنية (من خلال مئات اللوحات والتصميمات الفنية) أو بعطائه النظري (من خلال عمله وبحوثه الأكاديمية) أو بتأثيره في جيل من شباب الفنانين التشكيليين المؤمنين بفكرة إسلامية الفن التشكيلي، ساهم في الجهود التي سعت لعقد مصالحة وإنهاء خصومة مفتعلة بين الإسلام وبين الفن.
رحلة الفن والحياة
ولد يحيى عبده في (أول أغسطس من عام 1950م) في مدينة رشيد التي تختلف عن المدن التي غيرتها موجة التحديث فما زالت تحتفظ بأجواء الخصوصية؛ حيث هدوء الريف وامتداد البحر واتساع الأفق، وحيث الآثار والفنون الإسلامية التي اشتهرت بها المدينة؛ وهو ما جعل أجواء التراث والفن الإسلامي حاضرة في مخيلته منذ طفولته، وقد ولد في أسرة بسيطة متدينة تدين الريف البسيط، وكان والده يعمل بمهنة الصيد حيث الرزق مرهون بالسعي والإبحار بعيدا، وحيث التوكل على الله الذي تضعف منه الوظائف ذات الرواتب الثابتة والمحددة!.
عرف يحيى بموهبة الرسم منذ طفولته وبلغ الأمر أن نظم معرضًا خاصا له ولم يزل طالبًا بالمرحلة الثانوية افتتحه وزير التعليم!، فكان توجهه لدراسة الفنون الجميلة متسقًا مع موهبته؛ فحصل على شهادة بكالوريوس الفنون الجميلة - وتخصص في الرسوم المتحركة وفنون الكتاب، وكان الأول على دفعته عام 1976 بمرتبة الشرف الأولى.
ثم نال يحيى الماجستير في الرسوم المتحركة عن موضوعه "الرسوم المتحركة عند والت ديزني"، وكانت أول رسالة ماجستير بشعبة فن الكتاب والرسوم المتحركة بكلية الفنون الجميلة جامعة حلوان عام 1984، ثم دكتوراة الفلسفة عام 1988 في فن الكتاب وعنوان الرسالة "رؤية فنية معاصرة لكتاب كليلة ودمنة"، وكانت -أيضا- أول رسالة دكتوراة في شعبة فن الكتاب والرسوم المتحركة. ثم عمل أستاذًا بكلية الفنون الجميلة بجامعة حلوان المصرية، ثم أصبح عميدا للكلية.
قبل سنوات أربع زرت الفنان يحيى عبده في كلية الفنون الجميلة وحكا لي عن تجربته ورؤيته، فقد بدأت معالم الرؤية الإسلامية تتشكل عند يحيى عبده مع رحلته الأولى للحج والعمرة عام 1983 فكان لأجوائها الإيمانية ومشهد الطواف حول الكعبة أثر بالغ، كما كان للشيخ الراحل محمد متولي الشعراوي الذي ارتبط به شخصيا دور كبير في التزامه وتعميق توجهه الإسلامي، فكان يحضر معارضه الفنية ولا يكف عن دعمه معنويا، وقد سجل -يرحمه الله- بقلمه دعاء له على إحدى لوحاته يقول فيه ليحيى عبده: "أسأل الله أن يوجه قولك وفعلك إلى الجمال الذي لا يورث قبحًا، وأن يجزيك عما وضعت من تحول في هذا المجال خير الجزاء، بقدر ما لفت بفنك النظر لقدرة ربك"، وبعد الشعراوي كان الشيخ محمد الغزالي يرحمه الله من أكثر الذين أثروا في توجهه الإسلامي على المستوى الشخصي ومن خلال كتاباته التي سعت لفض الاشتباك بين العقيدة والفن.
لوحات من الأرواح
ومنذ بداية تحوله إلى الرؤية الإسلامية للحياة في عام 1983 سعى الفنان يحيى عبده إلى تقديم ما يشبه التصور أو الرؤية الإسلامية للفنون التشكيلية تنظيرا وإبداعا، وكانت أولى محاولاته في محاضرة له بعنوان "الإسلام والفنون التشكيلية" نظمها المعهد العالمي للفكر الإسلامي بالقاهرة وكانت بحضور الشيخ الغزالي رحمه الله الذي عقب عليها فكان مما قال عنه: "رجل استطاع بإيمانه أن يلتقط صورًا من الحياة، ويسكب عليها من إيمانه ما جعلها تنتعش في نفوسنا، ونشعر معها بأن الدين جميل فعلا".
ثم سعى يحيى عبده لتعميق رؤيته في بحث قدمه لمؤتمر بكلية الفنون الجميلة جامعة المنيا عن "العلاقة بين الفن التشكيلي والعقيدة الإسلامية، وأثر ذلك على التعبير الفني"، وفيه يرصد نشأة الفن الإسلامي والمؤثرات الحضارية فيه، ويحدد جوانب التميز والتفرد فيه، ويسعى للكشف عن معالم التصور الفلسفي والفكري للفن التشكيلي في الإسلام بعد تحليل قيم هذا الفن ومفرداته، وتقديم تصور لإعادة توظيفها في صورة معاصرة.
وهو ينطلق في رؤيته من قناعة مخالفة لما استقر عند جمهور الفنانين حول علاقة الإسلام بالفن ومفاد رؤيته أن الضوابط والحدود والقيود الشرعية لا تقف عقبة أمام الإبداع الفني وإنما تطلق الطاقات الإبداعية بشكل أفضل وفي فاعلية أقوى، ومن نتاج هذه الرؤية عدم قصر الفن الإسلامي على الوحدات الهندسية والزخرفية والخط العربي ليتسع بحيث يشمل كل الفنون التشكيلية الأخرى، ولا يقتصر على الأشكال النباتية والهندسية بل يتجاوزها إلى الأشكال الحيوانية والآدمية بعد تحريفها وهدم النسب الطبيعية لها تمامًا وإعادة صياغتها بنسب جديدة، مع إعطاء الأشكال الهندسية التقليدية مدلولات فلسفية وفكرية لدى الفنان الإسلامي تبث فيها روحًا جديدة.
نشر الفن التشكيلي الإسلامي
سعى يحيى عبده لتعميم رؤيته للفن التشكيلي الإسلامي ونشرها على أوسع نطاق متجاوزًا العقدة التاريخية للفن التشكيلي التي تجعله نخبويًّا من ناحية، ومقصورًا على نتاج المدارس التشكيلية الغربية من ناحية أخرى، وذلك من خلال عمله في التصميم (تصميم الملصقات "البوستر" وأغلفة الكتب، والبطاقات الخاصة بالمناسبات "الكارت بوستال"، وكتب الأطفال، والشعارات، والكارت الشخصي والخطابات، والكتالوج والمطويات "البانفليت"، وفي العمل الصحفي)؛ فضمن رؤيته الإسلامية للفن التشكيلي هذه التصميمات التي أنجز منها أعمالا كبيرة على امتداد زمني كبير نسبيا بحيث جمعت بين الذوق الفني والتوجيه الديني الراقي، وضمن لها انتشارها الواسع في شرائح وتخصصات ومجالات مختلفة شيوعًا واسعًا لفكرة الفن التشكيلي الإسلامي. فأصبح هناك الكارت والبوستر الإسلامي بعد أن كانت الفكرة مقصورة على الرؤية الغربية التي كان يُنظر إليها باعتبارها التعبير الرائع والوحيد عن الذوق الراقي... وقد شهدت حقبة التسعينيات ما يشبه الثورة في البوستر الإسلامي الذي كان يزين كل مناسبة دينية وخاصة في شهر رمضان وموسم الحج وصلوات العيدين، وكان يدخل بالفكرة الإسلامية إلى كل بيت تقريبا.. وكان يحيى عبده صاحب تصميم (البطاقة النبوية) التي كانت توزع كهدية في المناسبات المختلفة.
الأطفال والفن التشكيلي
كان يحيى عبده من أوائل من تنبهوا إلى أن الفن التشكيلي يمكن أن يتجاوز كونه وسيلة للإمتاع والتذوق فقط ليصبح وسيلة للتربية والتنشئة، ويتحول إلى منهج تربوي إيماني يعتمد على الذوق والجمال، فوظف ذلك في مجالين:
الأول: مجال الرسوم المتحركة والشخصيات الكرتونية: حيث كان من أوائل من اهتموا بهذا المجال في العالم العربي منذ رسالته للماجستير سنة 1984 عن "الرسوم المتحركة عند والت ديزني" التي حاول فيها نقل التجربة والاستفادة منها عربيًا فاستطاع ابتكار شخصيات كارتونية عربية وإسلامية؛ شخصيات من الأسماك والكائنات البحرية في عالم جديد وبراق للأطفال تحت الماء، وقد سافر في عام 1988 إلى الولايات المتحدة الأمريكية وزار إستوديوهات والت ديزني وعالم الرسوم المتحركة، وكان من أوائل من حاولوا إنتاج أفلام كارتون عربية تحمل رؤية ورسالة مخالفة عن الرؤية الغربية، وله بحث بعنوان "قصص الأنبياء بين المحاذير والرمزية في التعبير الفني لكتب الأطفال".
أما المجال الثاني: فكان كتب الأطفال المصورة، حيث قام بابتكار شخصيات من الأسماك والكائنات الحية البحرية لتوظيفها في سلاسل كتب الأطفال العربية، كما قام بتصميم رسومات العشرات من هذه السلاسل التي تشرح القيم الخلقية في إطار مناسب للطفل العربي، وقد استفاد من دراسته للدكتوراة (رؤية معاصرة لكتاب كليلة ودمنة)، واستمد من هذه القصص التراثية التي دارت على ألسنة الحيوانات رؤية معاصرة وظفها في ابتكار شخصيات للطفل في كتب الأطفال.
ومن أشهر هذه الكتب: شجرة السعادة، وحق الطريق، والأذن الكبيرة، والغزال أبو العيال، والقرد والعدس، والكلب يكتشف السر، وزقزوق يحب الحق، والتقليد الأعمى، وحفل الحيوانات، والقلب المطمئن، والصفوف المنتظمة، وأبي نجار السواقي، وأحلى نشيد للطفل السعيد، وسلسلة كتب أخلاقي وسلوكي، وسلسلة كتب أنبياء الله.
كما وظف اللوحات الفنية في تعليم وتربية الأطفال إيمانيًّا؛ ففي المجموعة الخاصة بتعليم الأبجدية للطفل –على سبيل المثال- يوظف اللوحة الفنية ذات المغزى الإيماني في عملية التربية حرف "الحاء" يختار له لوحة عن "الحجاب"، وحرف "القاف" عن "القدس" وهكذا... وكلها تحمل مضامين إيمانية في قالب فني داخل العملية التربوية.
أغلفة الكتب والمجلات
برع يحيى عبده في تصميم غلاف الكتب واشتهر بتصميمه لأغلفة كتب عدد من كبار الكتاب والمفكرين والدعاة، مثل: الشيخ يوسف القرضاوي، والمفكر الألماني المسلم مراد هوفمان، والرئيس الإيراني محمد خاتمي، وشيخ الأزهر محمد سيد طنطاوي، وزكي نجيب محمود، وأنيس منصور، وزغلول النجار، وأحمد عمر هاشم، وعبد الصبور شاهين، وعبد العزيز التويجري. ونظم أكثر من معرض خاص به في هذه المساحة مثل "توظيف العمل الفني في غلاف الكتاب الإسلامي"، و"العناصر النباتية كقيمة تشكيلية وتعبيرية في غلاف الكتاب"، و"رؤية فنية معاصرة للخط العربي في غلاف الكتاب"...
كما شارك منذ تخرجه في العمل الصحفي حيث صمم العديد من أغلفة المجلات المصرية والعربية من أشهرها مجلة أكتوبر، وروزاليوسف، وصباح الخير، وآخر ساعة (مصرية) ومجلة الحرس الوطني (سعودية) ومنار الإسلام (إماراتية).
عاشق المآذن
قدم يحيي عبده عشرات اللوحات الفنية التي تترجم رؤيته فتجمع بين المضمون الإيماني والإبهار الفني.. وقد اشتهرت من لوحاته في الأوساط الإسلامية لوحات الطواف حول الكعبة، وتسابيح المآذن ودعاء الفجر، وسجود وارتقاء، ويهدي الله لنوره من يشاء، ولسوف ينتصر الحق...
وكان من أشهر من وظفوا المساجد والقباب والمآذن وأماكن العبادة والرموز الإسلامية في الفن التشكيلي حتى لقب بـ"عاشق المآذن"، وكانت أعماله في عدد كبير من معارض الفن التشكيلي في مصر والعالم العربي وآسيا وأوربا وكلها حازت جوائز وشهادات تقدير كثيرة حتى رُشح صاحبها عنها كأول فنان تشكيلي مصري وعربي لنيل جائزة الملك فيصل العالمية عام 1996م.
كان يحيى عبده من أوائل من دعوا إلى إنشاء كلية للفنون الجميلة (الزخرفة والعمارة والفن التشكيلي) تتبع جامعة الأزهر، وعلى منواله نسج كثير من شباب الفنانين التشكيليين الذين تتلمذ بعضهم عليه في الجامعة (فقد أشرف على أكثر من ثلاثين رسالة للماجستير والدكتوراة لطلاب من أنحاء العالم العربي) أو في الجمعية العربية للفنون التشكيلية واستخدامات الجرافيك التي أسسها وتولى رئاستها.. وربما تدل جولة سريعة في عالم الكتاب الإسلامي وما وصل إليه فنيا على بعض آثار يحيى عبده في المصالحة بين الإسلاميين والجمال.