التقاليد العريقة لمجوهرات العائلات المسلمة
باحث وصحفي مصري
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
"التقاليد العريقة الخاصة بمجوهرات العائلة المسلمة".. هذا العنوان لم يكن لافتة لمعرض فني قاعاته بأحد المتاحف أو صالات الفنون المنتشرة في عواصم وحواف العالم الإسلامي، والتي لا يتوقف فيها معرض فني إلا ليخلي القاعات لآخر أيًا كان هدفه ومضمونه، ولا عنوانا لإحدى الموسوعات أو الألبومات الفنية التي لا تكف مؤسساتنا الثقافية والفنية عن إصدار الغث منها والسمين بداع ومن دون.
لكنه -وهذه المفاجأة- كان عنوانا لمعرض فني عالمي استمر قرابة ثلاثة أشهر في إحدى مدن أقصى الشمال الأوربي (مدينة روتردام) التي يبعدها عن أقرب عاصمة إسلامية آلاف الكيلومترات، كما كانت موضوعًا لموسوعة فنية رائعة ونادرة صدرت بثلاث لغات (ليس من بينها العربية!!) عن الفنون والتقاليد العريقة الخاصة بمجوهرات وحلي العائلة المسلمة.
المعرض -الذي حضرته قبل عامين وعدت إليه ثانية حين طالعت موسوعته الرائعة- كان قد نظمته واستضافته مؤسسة صالة الفن الهولندية (Kunsthal) الشهيرة، وعرضت به مجموعة متنوعة ونادرة من المجوهرات والحلي التي تنتمي للحضارة الإسلامية، جمعها الفنان "رينيه فان دير ستار" أحد أهم وأشهر المختصين في فن وتاريخ المجوهرات والحلي الإسلامية في العالم.
والمعرض كان قد لاقى -وقتها- اهتمامًا واسعًا في الأوساط الفنية الهولندية، وشهد إقبالا كبيرًا من الجمهور؛ إذ يعد الأول من نوعه في العالم لمجموعة كبيرة (500 قطعة)، ونادرة ومتنوعة، وفريدة في مقاساتها ودرجة جودتها، من المجوهرات والحلي الإسلامية التي تتنوع في تصنيفها التاريخي والجغرافي والحضاري؛ فالمجموعة التي قضى "فان دير ستار" في جمعها قرابة 25 عامًا عبر تجواله في العالم الإسلامي أو بالشراء من المعارض الفنية المختصة في تجارة المجوهرات والحلي والتحف الفنية تنتمي تاريخيًا إلى الخمسمائة عام الأخيرة، وإن كان القسم الأكبر منها يعود تاريخه إلى القرن العشرين، كما تغطي منطقة جغرافية شاسعة تمتد من المغرب العربي مرورًا بشبه الجزيرة العربية وآسيا الوسطى، وحتى أقصى الشرق عند الجزر الإندونيسية. فتنتمي إلى قوميات وعرقيات وشعوب مختلفة تمثل معظم مناطق ومراكز الحضارة الإسلامية؛ فمن أفريقيا التي تضم مقتنيات من الشرق (مصر والسودان)، ودول المغرب العربي (المغرب وتونس والجزائر)، وغرب أفريقيا (موريتانيا وغانا وبوركينا فاسو)، ومن الشام فلسطين، ومن شبه الجزيرة العربية عمان واليمن، ومن آسيا الوسطى تركمانستان وأوزبكستان وطاجيسكتان وكازاخستان وأذربيجان وداغستان وإيران... ثم تمتد السلسلة إلى شبه القارة الهندية (الهند، باكستان، أفغانستان) مرورًا بالصين ومنغوليا.. حتى تصل إلى أقصى جزر الشرق الإندونيسية... لتغطي معظم المساحات والمناطق الحضارية الممثلة للحضارة الإسلامية التي يغيب بعضها تمامًا عن دارسي التنوعات الحضارية في الحضارة الإسلامية.
وقد حرص "فان ديرستار" في اختياراته ونماذجه أن تكون ممثلة تمامًا لفن وتقاليد ارتداء المجوهرات والحلي للمنطقة الحضارية التي جاءت منها، وساعده على ذلك زياراته ورحلاته الطويلة التي استغرقت نحو ربع قرن في مختلف أرجاء العالم الإسلامي.
المعايير التي وضعها الفنان الهولندي لاختيار مجموعته الكبيرة نسبيًا هي "الجمال والكمال والمهارة"، وهي المسئولة -فعلا- عن التميز والإبداع الذي اتسمت به وتمثل في ذاتها معالم رؤية تجديدية في العامل مع المجوهرات والحلي ودراسة علاقتها بحضارة الشعوب؛ إذ طالما توافرت هذه العناصر الثلاثة (الجمال والكمال والمهارة)، انطبق عليها وصف (المجوهرات والحلي) الذي توسع في هذه المجموعة فلم يعد قاصرًا على المجوهرات والحلي التقليدية التي اشتهرت في عالمنا الإسلامي (مثل حلق الأنف وحلق الأذن، والقلائد، والأساور والخلاخيل...) بل ضمت كذلك الخناجر (والجنابيات) والمزامير والغلايين وعلب الدخان وأنواعًا أخرى من الحلي والمجوهرات، شاع استعمالها لدى عرقيات وقوميات إسلامية في أفريقيا وشرق آسيا، وتوفرت فيها المواصفات أو المعايير الثلاثة.
كما لم تعد الحلي والمجوهرات تلك المصنوعة من المعادن النفيسة (الذهب والفضة) أو الأحجار الكريمة (الياقوت والزبرجد والمرجان واللؤلؤ...) بل صارت كل خامة مهما رخص سعرها، وتضاءلت قيمتها، استعملت بقصد الزينة والحلية، وتوافرت فيها المهارة والجمال والكمال (أو عناصر الإبداع الثلاثة)؛ لذا فقد ضمت المجموعات مقتنيات من الخزف والخشب والحجر ونوى بعض النباتات.. وخامات أخرى رخيصة لم تكن لتصبح خامة لحلي أو مجوهرات في ظن أكثر الناس، لكنها في هذه المجموعة كانت مادة لآيات من الإبداع الخالص الذي استكمل كل شروط الفن والإبداع، وهذا المعرض ينحاز وفق هذا التصنيف إلى المفهوم والتصور الشعبي للحلي والمجوهرات..
فالحلي والزينة وارتداء المجوهرات ليس قصرًا على العائلات الغنية فقط، كما أنه ليس منحصرًا في أشكال وخامات بعينها مهما ارتفعت أثمانها أو ندر وجودها؛ بل هو كل ما استجمع شروط الإبداع والفن، واستخدم كحلية أو زينة لدى الشعوب المسلمة التي تأثرت فيها فنون وتقاليد المجوهرات والحلي بالبيئة والثروة والثقافة المحلية ورؤيتها الجمالية الخاصة بها.
العمل الذي لا يقل روعة وأهمية عن المعرض الفني الذي استحوذ على إعجاب جمهور الفن من الهولنديين.. هو ذلك الإصدار الضخم الذي قدمته صالة الفن Kunsthal تحت عنوان "مجوهرات الشرق"، وصدر بثلاث لغات (الإنجليزية والفرنسية والهولندية)، ويضم معلومات تفصيلية عن تقاليد وفنون المجوهرات والحلي في العالم الإسلامي ودراسات فنية موسعة مكملة بفهارس مفصلة وصور إيضاحية لا تقل في ذاتها روعة عن المجموعة، وربما كان هذا الإصدار الأول من نوعه في هذا الموضوع؛ حيث لا توجد أدبيات عربية تتناول فنون وتقاليد المجوهرات والحلي الإسلامية أو هي غير معروفة إن كانت موجودة أصلا!!