في حضرة عبد الوهاب المسيري
كاتب وصحفي مصري
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
لن تعرف عبد الوهاب المسيري إلا إذا اقتربت منه ولن يغني عن معرفته أن تقرأ ما كتبه أو ما كتب عنه، ستعجبك كتاباته لا شك وستأسرك قدراته الفكرية ونظراته الفلسفية وقدراته التفسيرية الاسثتنائية، لكن لن تكتمل بل ربما لن تبدأ معرفتك به إلا حين تقترب من عالمه وتدخل في حضرته...ساعتها فقط ستعرفه وعليك أن تملك القدرة في ألا تصبح من مجاذيبه.
أول ما عرفت المسيري في عام 1997 ولم أزل حديث عهد بالقاهرة، كان الحديث عن موسوعته المعروفة " اليهود واليهودية والصهيونية" يملأ الدنيا ويشغل الناس، لم أجد في نفسي ميلا لأن أدخل في زمرة المهللين للموسوعة ولما تزل معرفتي بها وبصاحبها محدودة، وزادني زهدا أنني وجدت معظم المطبلين والمزمرين لها من محترفي النصب الثقافي وكذابي الزفة،فتملكني شعور بأن هناك شيئا زائفا في الأمر، ولم أكن أعرف ما هو.
استضفت الرجل في ندوة عن الموسوعة أدرتها وقدمته فيها، ورغم ذلك لم أجد نفسي مرتاحا للانضمام لجوقة الموسوعة...اتهمت نفسي بالانطباعية والتسرع في الحكم علي الناس، فتحاملت علي نفسي وانحشرت في أحد فرق الجوقة التي يبدو أنها كانت في اتساع وأنه لا عمل لبعضها في الدنيا إلا الطبل والزمر وزرت الرجل فأعماني عن رؤيته صخب وضجيج مجموعة من الملتفين به والمتدثرين بردائه من غير وجه حق، كلهم يدعي التلمذة له والعمل معه بل والصداقة في حين أن بعضهم مجرد لصوص أفكار ومن محترفي الشقشقة والرطانة التي تخيل علينا فنظنهم مشاريع مفكرين وهم ليسوا سوي خضراء دمن ( قيل وما خضراء الدمن يا رسول الله ؟ قال المرأة الحسناء في المنبت السوء ).
أزعجني كثيرا أن أري أنصاف مثقفين يتجرأون علي الادعاء جهارا نهارا بأنهم تلاميذ المفكر الموسوعي عبد الوهاب المسيري بل وشركاؤه في الموسوعة، وأزعجني أكثر أن الرجل لا ينكر عليهم ذلك، فكل يدعي وصلا بليلي ولكنها هذه المرة لا تنكر هذا الوصل بل تقر لهم به، اغتظت من الرجل كثيرا وهو يمنح بعضهم جوازات مرور في أمور وقضايا لو عرضت علي عمر بن الخطاب لجمع لها أهل بدر..وتحاملت علي الرجل وغاب عن بصيرتي مبررات الرجل ودوافعه...وفي تحاملي غاب عني الكثير وكان أقصي ما وصلني من الرجل بعض أفكاره ونموذجه التفسيري في فهم المسالة اليهودية ثم المسالة العلمانية.
وحده الصديق والأستاذ أسامة القفاش الذي فتح لي باب عبد الوهاب المسيري واسعا، وكانت هذه واحدة من أفضاله الكثيرة قبل أن تفرق بيننا السبل. كان أسامة القفاش يري أن مصر بل والعالم العربي ليس فيه مفكرا يستحق وصف المفكر سوي عبد الوهاب المسيري، وأنه لا يجوز أن نطلق علي غير المسيري هذا اللقب، أما غيره فهم مفكرون بالمعني الفلاحي، والمفكر بالمعني الفلاحي هو الذي أصابه الفكر!!
أصر أسامة علي أن يعرفني بالمسيري وفكره وعطائه ، أعارني وربما اهداني كثيرا مما كتبه الرجل أو كتب عنه بجد وليس طبلا وزمرا، وأصر علي أن يهديني نسخة من سيرته الفكرية لتي صدرت علي هيئة قصور الثقافة، وأن تكون نسخة شخصية من المسيري بذاته، كنا نقضي بالساعات الطوال نتناقش في عالم المسيري، كان أسامة أقرب تلاميذه له وأكثرهم إدراكا لأهميته واستثنائيته، بل وأقدرهم علي فهم أفكاره بل وتطويرها، ولولا أن الأمور تجري بمقادير لكان القفاش الامتداد الطبيعي لعبد الوهاب المسيري أو شارحه الأكبر علي الأقل.
نجح أسامة في أن يضعني علي عتبات عالم المسيري، ونجح آخرون في أن يمنعونني من ألج فيه ترفعا عن أحشر نفسي في زمرة المدعين والراغبين في العيش علي وهم التلمذة لهذا الرجل المحترم...فحافظت علي علاقة بالرجل وأفكاره تبعدني عما أكره ولا تمنع عني بعضا من فيوضاته...حتي قدر الله لي بالفتح من عنده.
كان الزمان في مارس من عام 2005 حين تلقيت دعوة كريمة من منتدي الحكمة للباحثين والمفكرين في الرباط للمشاركة في الندوة الدولية التي ينظمها لمناقشة " إشكالية العلاقة بين الفكري والسياسي" ، وفي المطار كان من أقدار الله الطيبة أن أكون بصحبة عالمين جليلين جاءت الرحلة لي اكتشافا لهما كما تعيد العين رؤية النور بعدما كانت تنكره من رمد، فالتقيت بالدكتور سيف الدين عبد الفتاح أستاذ النظرية السياسية بكلية العلوم السياسية والعالم الجليل الذي ظلمه صعوبة أسلوبه في الكتابة واحترامه الكبير لنفسه – وربما كانت لي معه عودة- وأستاذنا المفكر عبد الوهاب المسيري...والقاسم بين الرجلين غير العلم والعبقرية والخلق الرفيع هو أنني تعرفت عليهما بعد التباس وسوء فهم.
وأستطيع القول من دون أي مبالغة أن سبعة ايام في صحبة عبد الوهاب المسيري غيرت كثيرا ليس من نظرتي له فحسب، بل ومن نظرتي للحياة عموما، في البداية كنت صريحا مع الرجل حد الفجاجة فأخبرته بأسباب زهدي في زيارته والتقرب منه، وحكيت له عما بداخلة نفسي تجاهه، كان ذلك ولم نزل في قاعة الانتظار بمطار القاهرة، لم يعقب الرجل وبل تجاوز الأمر وتضاحكنا وتناقشنا في أمور كثيرة وحكايات وطرف ومواقف ..حني بدا وكأننا أصدقاء ومعارف من عشرات السنين..ونسيت نفسي في غمرة هذه الدفقة الهائلة من البساطة والصدق والإنسانية التي رفعت بيننا حواجز كانت ستمضي بالرحلة في وتيرة واحدة: احترام وتقدير ومعاملة تليق بعالم مثله وبرجل في سن والدي رحمه الله.
وفي المغرب تأكد لي صدق من قال " لا كرامة لنبي في أهله" لما وجدته من حفاوة وتقدير للرجل يفوق الوصف، ففي الدار البيضاء كان في استقباله تلامذته ومريدوه علي مائدة غداء جمعت لفيفا من أرقي الأكاديميين والسياسيين والمثقفين وكان قد سبقنا إليها المفكر الفلسطيني الرائع منير شفيق، والجميع في حضرة المسيري ينصتون أكثر مما يتكلمون، علي غير تلامذته المصريين الذين نصبوا أنفسهم متحدثين باسمه وهو لم يزل بينهم، حتي منير شفيق المفكر الالمعي والمتحدث البليغ يصر علي أنه يفضل أن يسمع للمسيري، الباحث والمناضل الفلسطيني سعيد خالد الحسن أستاذ العلوم السياسية بجامعة محمد الخامس يصر علي أجازة كاملة من كل أعماله وحياته حتي العائلية للتفرغ تماما للرجل، وعشرات المحبين والمريدين يتنافسون علي خدمته ويكادون يستهمون علي من ينال شرف صحبته في الرحلة إلي مدينة وجدة – مكان الندوة- علي حدود الجزائر .
التئم الشمل وكان لي شرف صحبة الثلاثي عبد الوهاب المسيري ومنير شفيق وسيف الدين عبد الفتاح في رحلة استمرت أسبوعا ما بين وجدة والدار البيضاء والرباط، وهالني هذا الاستقبال الأسطوري الذي كان في انتظار الرجل بدأ من المطار المحلي وحتي قاعة المحاضرات التي احتشد فيها مئات الطلاب والباحثين يتقدمهم قيادات الجامعة وأعضاء المجلس العلمي وقيادات المدينة، امتلأ المدرج عن آخره فانتقل الحضور لمدرج آخر ضاق بهم رغم هو الاخر ولم تسعفهم الدوائر التليفزيونية، وكان من المستحيل علي من يري المشهد أن يتصور أن الحضور جاءوا لندوة فكرية بحتة ( عنوانها: علمنة السياسة ) وليس للقاء مع نجم سينمائي أو لاعب كرة مشهور أو حتي زعيم سياسي.
شعرت بالخجل حين قارنت بين عدد الحضور ومثيله في ندوات حاضر فيها الرجل في القاهرة بلد العشرين مليون نسمة وليست مدينة وجدة التي يقطع لها المسافر عشر ساعات سفر من العاصمة، وأخجلني أكثر أن الطلبة – فضلا عن الباحثين- كانوا يناقشونه في أدق أفكاره ويسألونه عما كان يقصده في صفحة كذا من كتابه كذا..وبدا أن معظمهم قرأ كل ما كتبه المسيري .كل ما كتبه! وتفاعل معه وجاء ليسأل فيه ودون تمسح وادعاء صلة غير صحيحة أو ارتداء لعباءة لم تكن له..وحين انتهت محاضرته كان المئات وخاصة من الطالبات – ولا أعرف سر تعلق النساء والفتيات به- يحتشدون حوله للسلام عليه والتقاط الصور معه، وكانت المرة الأولي التي أشهد استقبالا جماهيريا لمفكر!
بقينا يومين في وجدة فلم أجد حفاوة بمفكر كتلك التي قوبل بها المسيري، علم الباشا – والي المدينة – بقدومه فأولم علي شرفه بوليمة مغربية غاية في كرم الوفادة واستقبلنا في قصره استقبال الملوك، وأولم رئيس المجلس العلمي للمدينة الشيخ مصطفي بن حمزة علي شرفه في أحد القصور العريقة، وتنازع الناس – كبراؤهم وبسطاؤهم -شرف الاحتفاء به بصدق وإصرار غريبين، حتي تعب الرجل من كثرة إلحاح الناس وإقبالهم عليه، دخلنا إحدي الصيدليات نشتري له دواءا فما كادت الطبيبة تراه حتي صرخت ذاهلة: معقول!!..الدكتور عبد الوهاب المسيري عندنا ..ياللكرامة والنور!! وأقسمت علينا أننا ضيوفها ولابد أن نتناول عندهم العشاء كرامة لقدوم الولي الصالح عبد الوهاب المسيري..وبعد الأيمان المغلظة اكتفت بألا تأخذ مقابلا عن الدواء من ضيف المغرب المفكر والعالم المسيري، وطلبت منه فقط أن يبلغ السلام لجدها الأمير المجاهد عبد الكريم الخطابي بطل الريف المغربي المدفون في مصر...وقد مازحته سائلا عماذا إذا دخل الصيدلية المجاورة لبيته في مصر الجديدة فتمني ضاحكا لو تعرف عليه صاحبها ولكان هذا يكفيه ! ..وحين غادر المسيري إلي مطار وجدة في طريقه للرباط أصر الشيخ بن حمزة الرجل المبارك صاحب الاعمال الجليلة والآيادي البيضاء في المدينة أن يقوم بتوصيله بنفسه إلي المطار وهناك لم فتحت أبواب المطار وحواجزه للمسيري حتي أبواب الطائرة من دون الإجراءات المتبعة وكان العسكر يرفعون أيديهم بالتحية كما لو كانوا في وداع زعيم سياسي !
وفي الرباط كنا نضطر إلي إخفاء الرجل حرصا علي عدم إرهاقه بكثرة ضيوفه الذين ازدحم بهم جدول الزيارة، وقصرنا الجدول علي بعض المقابلات أغلبها مع مفكرين وباحثين كان من أجملها والطفها مقابلته مع الفيلسوف المغربي العظيم طه عبد الرحمن رئيس منتدي الحكمة للمفكرين والباحثين، وقد كان لقاء الكبار الذين لا يجوز لك في حضرتهم إلا الاستماع والمراقبة، وحين زرنا دار الأمان أشهر مكتبات المغرب فوجئت بأن المسيري هو أكثر المفكرين الذي تباع كتبهم بالمغرب، التف حوله الجمهور يشترون كتبه ليوقعها لهم بنفسه، وهو مشهد أزعم أنه ربما لم يسبق حدوثه في بلده مصر !
بقينا مع المسيري ؛ الدكتور سيف وأنا بقية الأسبوع في فيلا علي شاطيء الأطلسي، نأكل ونشرب ونتحدث ونتجول معا ولا نفترق إلا ساعة النوم ، فكانت أجمل فرصة في حياتي اكتشفت فيها عبد الوهاب المسيري : المفكر والإنسان..القادر علي إشاعة البهجة والسعادة في نفوس كل من حوله، والقادر علي أن يصنع لنفسه دروبا وطرقا إلي أعمق ما في النفس الإنسانية ببساطته ورحابة صدره، والذي يتفهم الضعف الإنساني فيمن حوله ويقبلهم علي علاتهم وضعفهم ويظل باشا لهم متقبلا لهم دون أن يجرح مشاعرهم أو يكسرهم بوضعهم في أحجامهم الحقيقية..تعرفت علي المسيري الذي لا ينشر كتابا إلا بعد أن يقدمه بمقدمة يشكر فيها كل عاونه أو ساعده أو قدم له خدمة ولو كانت صف كتابته علي الكمبيوتر أو مراجعتها لغويا أو شراء ورق وأقلام الكتابة ربما! وهو يشكر الجميع ويحتفي بهم باعتبارهم شركاءه في هذا العمل دونما قلق أو غضب من أن يستغله أحدهم أو يمشي بسببه كالقط يحكي انتفاخا صولة الأسد!
في المغرب تعرفت علي المسيري الإنسان المتصالح مع نفسه الذي يعرف ضعفه الإنساني ويتعايش معه ولا ينكره أو يداريه؛ المسيري الذي لا يداري حبه للأشياء البسيطة أو التافهة أحيانا – عفوا- وولعه بها ، والذي يفاصل في الأسعار عند الشراء ونحن في السوق ويتحايل علي مكر وجشع التاجر المغالي فيستعطفه بأنه قد يلاقي العقاب من زوجته إذا ما لم يحصل علي هذه الهدايا بالمبلغ الذي لا يملك غيره، المسيري الذي حول عشاءنا في أحد المطاعم الشامية بالرباط إلي أحلي جلسة فكاهة ومرح عرفتها بنكاته غير المتكلفة أو المتحفظة وقدرته الرهيبة علي الحكي والتقمص من دون ادعاء وقار أو تصنع حشمة، المسيري الإنسان الخالي من العقد النفسية وادعاء التطهر والذي يكتب محللا ومفسرا لظاهرة الفيديو كليب دون أن يمنعه الوقار من أن يقر بأنه قضي الساعات الطوال في مشاهدة ورصد عوالم الرقص من لدن سعاد حسني حتي روبي ونانسي عجرم، ولم يدع لنفسه ورعا ليس له ولم يردد في الموضوع وعظيات الآخرين!
بعيدا عن مصر عرفت علي المسيري الذي يولي مشاعر الآخرين عناية بالغة فيفسح لهم في المجلس ويقدر لهم رأيهم ، ويجيد الاستماع إلي الآخرين خاصة من الشباب، بل ويهتم بهم اهتماما حقيقيا وإنسانيا يتجاوز الادعاء وإبراء الذمة، فتراه يبحث لهذا عن وظيفة وذلك عن علاج ويتدخل ليساعد أحد طلابه علي الزواج، ويخترع لآخر وظيفة وهمية كمساعد له دونما حاجة حقيقية إلا الرغبة في مد يد العون له وإشعاره بأن له أهمية في الحياة..المسيري هو شخص استطاع أن يتخلص من عقد وأمراض كثيرة يعانيها كتاب ومفكرون أصابتهم لعنة التأله، وسيطر عليهم إحساس بأن الله لم يخلق الدنيا إلا لهم وأن خلق الله كلهم ما عليهم إلا الطواف حولهم كما يطوف الحجيج حول الكعبة.
عدنا إلي القاهرة ولم يعد يغادر الرجل قلبي وعقلي، وصرت لا أتذكره إلا وأدعو الله له: اللهم أنا نحب المسيري فأحبه وأنا بحاجة إليه وإلي علمه فأمدد لنا في عمره...اللهم آمين!