حوارات الأديان.. ضرورة إنسانية أم مؤامرة عالمية؟!
كاتب وصحفي مصري
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
يُعدّ "حوار الأديان" من أكثر الموضوعات المثيرة للجدل، ويظهر ذلك في الانقسام الحاد من الموقف تجاه حدوث هذا "الحوار" والذي يتمايز بين اتجاهين متناقضين مؤيد أو معارض، وداعٍ إليه أو متشكك فيه، بل ويمتد الانقسام والتباين إلى داخل كل اتجاه بعينه فتتباين الآراء وتتعدد أيضاً الأهداف و القضايا والخطابات المستخدمة بالفعل ساحة "حوار الأديان" في مفارقة غريبة تجعلنا إزاء حوارات أديان وليس حوارًا واحدًا.
حوار الأديان ضرورة إنسانية:
ثبت فشل تنبؤات فلسفات التنوير بانتهاء دور الدين، وسقطت مقولات نيتشه وغيره من فلاسفة عصر التنوير الأوروبي عن موت الإله، حيث اجتاحت العالم الأوربي حمى الدين والتدين، وعلت فيه الدعوات التي تنادي بضرورة عودة فكرة الإله بعدما صار الأمل الوحيد لإنقاذ أوروبا بل والعالم، وتأجيل نهايته، والمفارقة أن هذه الدعوة قد فرضتها واقعية البحث عن منقذ للمجتمعات الغربية من الانهيار.
وقد عاشت البشرية في القرن الأخير سلسلة من المآسي والكوارث كلفتها حربين عالميتين فاق الدمار الذي خلفته الثانية منها كل ما لحق بالبشرية من دمار طوال تاريخها. وأدى ذلك إلى أن صارت هناك قناعة -تزداد رسوخًا مع الأيام- أن الدرس الحضاري يقتضي إدراك فكرة وجود (آخر)، وأن هذا "الآخر" له طموحاته وتطلعاته، ولأن الصدام معه لم يعد يُجدي، فإن الحل لن يأتي إلا بالتعايش والإدراك والتفاعل عبر بوابة "الحوار"؛ لذلك لم يكن غريبًا أن يتصدر حوار الأديان رأس الأجندة العالمية، وأن ترصد المنظمات والهيئات العالمية المانحة للتمويل ميزانيات ضخمة من أجل دعم فكرة "حوار الأديان".
حوار الأديان..حوار متحيز لكنه متحرر:
و"حوار الأديان" هو محاولة الفرد المحمل بقيم تقاليد وأفكار وعقائد مسبقة استكشاف الآخر (المختلف دينيًّا)-كما هو- وإدراكه وبلورة رؤية فلسفية غير نمطية إزائه، دون اللجوء إلى إصدار أحكام قيمية متحيزة ضده.
وبذلك يقبل المفهوم فكرة التحيز والذاتية، ولا يحاول ادعاء الموضوعية أو التجرد من الذاتية، أي أن المشاركين في "حوار الأديان" - بعكس ما قد يتبادر للذهن- يجب أن يتحقق فيهم الإيمان المطلق بعقائدهم دون محاولة التجرد من الذات كما يظن كثير من دعاة الحوار أنفسهم.
ويرفع أنصار "حوار الأديان" شعار إخلاص القصد، فهو يفترض التجرد من الشروط أو الأهداف إلا الرغبة في إدراك الآخر ورؤيته معرفيًا، وقد تحدث الاستفادة من هذه الرؤية وتطويقها لأهداف سياسية أو دعوية، أو غيرها من الأهداف الأخرى.
ولا يتنافى هذا المضمون للحوار مبدئياً مع القصة التي أوردها القرآن الكريم في "سورة الكهف"(الآيات 32-42)، عن محاورة بين رجلين أحدهما أتاه الله جنتين من أعناب يحيط بهما النخل وتتوسطها الزروع وتتفجر فيهما الأنهار، وزاده الله عن صاحبه مالاً وولدًا.
وتكشف القصة أن الحوار دار بين الرجلين بلا شرط أو قيد وأورده القرآن بتفاصيله كاملة، رغم أنها تتضمن كفرًا من أحدهما بالله لم يقطع الآخر بسببه الحوار، كما لم يتحرج القرآن من ذكر الأقوال "الكفرية" لأنها في مجملها تستطيع بناء وصياغة رؤية معرفية عن الشخصية الكافرة بالله عز وجل، وقد تكرر ذكر لفظ "حوار" مرتين في هذه القصة من أصل ثلاث مرات في القرآن الكريم كله، وجاءت الثالثة سورة المجادلة.
ويختلف "حوار الأديان" عن "مقارنة الأديان" و"مساجلة الأديان" وإن اختلطت هذه المفاهيم في الأدبيات، فمقارنة الأديان علم يعني دراسة دين مقارنة بآخر على مستوى العقيدة والشريعة والعبادات، وتصوراته عن الإنسان والكون والحياة وغير ذلك، من محاولة افتراض الموضوعية وإمكانية إلغاء التحيز، بينما مساجلة الأديان عملية تهدف إلى إثبات تفوق وتميز دين على آخر، وهو ما لا يهدف إليه بالطبع "حوار الأديان" الذي هو عملية إدراكية فحسب.
حوار المستعمرين..أم المضطهدين:
رغم أن التاريخ الإسلامي شهد فترات تمتعت بأجواء مناسبة للحوار الديني ومناخًا للحرية الدينية لم يتكرر كثيرًا في التاريخ الإنساني، إلا أن معظم الأدبيات التي قدمها التراث الإسلامي اختلط فيها مفهوم حوار الأديان بمقارنة أو مساجلة الأديان بالجدل الديني والمذهبي، مما أوحى بعدم تبلور هذا المفهوم في التراث الإسلامي. وقد وجدت بعض الكتابات التي اقتربت من مفهوم حوار الأديان بدرجات متفاوتة، ويعد كتاب (الاعتبار) للشاعر والفارس المعروف أسامة بن منقذ (488-584هـ) من أهم ما ورد في التراث العربي في هذا الصدد؛ إذ حرص كاتبه عند ذكره لعادات أصحاب الديانات المختلفة أن يعرضها كما هي، ويفصل في شرحها وبيانها دون أن يلجأ إلى نقدها أو الهجوم عليها بل كان هدفه معرفيًا بحتًا وهو ما يجعله رائدًا في هذا الباب.
ورغم أن "حوار الأديان" وفي العصر الحديث نشأ من خلال فكرة أخلاقية بحتة تولدت من الإحساس بقرب نهاية العالم نتيجة سيطرة الشر عليه، إلا أن تفعيل مفهوم "حوار الأديان" جاء لأسباب وظروف تاريخية. فمن ناحية، أدى تصاعد موجة الاستعمار الغربي وسيطرته على معظم أنحاء العالم القديم، إلى تفعيل فكرة حوار الأديان في محاولة لاكتشاف الآخر- الشعوب المُستعمَرة - والتي كانت موزعة على عدد كبير من الديانات المختلفة لم يكن العالم الغربي على دراية كافية بها، فكان الاتجاه إلى تفعيل الحوار حتى يمكن بناء رؤية معرفية حول هذه الأديان ومعتنقيها.
ويشبه ذلك الموقف - إلى حد كبير- ظروف نشأة علم الانثربولوجيا الذي بدأ كعلم استعماري أنشأته القوى الاستعمارية الغربية محاولة منها لدراسة الشعوب المغلوبة ومعرفتها؛ ومن ثم تحديد الكيفية التي يمكن أن تتعامل بها معها.
وتفسر تلك الرؤية تزايد اتجاه منظمات حوار الأديان العالمية لإشراك الإسلام في منظومة الحوار الديني بعد أن كان مقتصرًا على اليهودية والمسيحية وبعض الديانات الوضعية كالبوذية والهندوسية والشنتو..إلخ، إذ يرتبط ذلك إلى حد كبير بتزايد المد الإسلامي وظهور الحركات الإسلامية التي رأى فيها الغرب تهديدًا للمصالح والمشروعات الغربية في العالم الإسلامي، وهو ما يفسر أيضا اتجاه منظمات الحوار الديني لأن يكون ممثلو الإسلام في الحوار شخصيات إسلامية من خارج المؤسسات الرسمية لضمان اكتشاف مساحات أوسع من الآراء ووجهات النظر خارج الدائرة الرسمية.
ومن ناحية أخرى، مثل مفهوم حوار الأديان انعكاسًا للظروف التاريخية التي عاشت فيها أوروبا حالة من الصراع المذهبي والاضطهاد الديني؛ دفعت ببعض المذاهب الدينية التي عانت من الاضطهاد الديني في أوروبا كالبروتستانتية إلى تبني فكرة "حوار الأديان" بغرض إقرار مبدأ القبول بالآخر؛ حتى يتسنى لها البقاء كأقليات دينية، والحصول على حقوقها في المجتمعات الأوروبية ذات الأغلبية الكاثولوكية.
وساعد على رواج فكرة "حوار الأديان" مؤخرًا - بعد الحرب العالمية الثانية - محاولة بعض الدول الكبرى كاليابان تعريف نفسها ثقافيًّا وحضاريًا للعالم من خلال حوار الأديان (طرح الذات من خلال الآخر) ومؤشرات ذلك تظهر في تصدرها قائمة الدول الممولة لمنظمات حوار الأديان ومؤتمراتها بميزانيات ضخمة، في محاولة منها للوصول إلى الصدارة العالمية، ولكن من بوابة حضارية ثقافية تتناسب وأوضاع النظام الدولي الجديد.
حوار الأديان" ... خطابات متعددة
واقعيًّا، لا يوجد خطاب واحد لـ "حوار الأديان"، بل هناك خطابات متعددة تجعلنا إزاء "حوارات أديان" بعدد هذه الخطابات وتعدد أنواعها، ويرجع هذا التعدد إلى تباين الخلفيات الثقافية والدينية والفكرية والسياسية للمتحاورين، والأجواء التي تدور فيها عملية الحوار.
ورغم تنوع هذه الخطابات لكنها متداخلة فيما بينها، بحيث لا يوجد خطاب خالص Pure وإنما تداخل وتمازج وتجاور لأكثر من خطاب. وتأتي محاولتنا هنا من قبيل التصنيف لفهم وإدراك أنواع هذا الخطاب.
في "حوار الأديان" يمكننا أن نرصد الخطابات التالية:
1 - الخطاب الأخلاقي: وهو يركز على القاعدة الأخلاقية للأديان، ويسعى لتأكيد وجود قيم أخلاقية مشتركة بين الأديان يمكن من خلالها إرساء قاعدة يلتف حولها أصحاب الأديان المختلفة. وقد شهد هذا الخطاب رواجًا بين علماء الأديان في الفترة الأخيرة، خاصة مع تزايد موجة الانحلال الخلقي التي شملت أنحاء العالم، مما دفعهانز كوينج- أستاذ علم الأديان المقارن بجامعة توبنجن الألمانية وأحد أبرز دعاة حوار الأديان في العالم- إلى تبني مشروع عن "الأخلاق العالمية".
إلا أن هذا الخطاب يتسم بعيوب فادحة تجعله خطابًا تلفيقيًّا توفيقيًّا لا يبحث عن المعرفة واكتشاف الآخر-كما هو جوهر فكرة حوار الأديان-وإنما يقوم على صياغة توليفة مشتركة بين الأديان يمكن أن ينتج عنها ما يطلق عليه بـ "الأخلاق العالمية" من خلال منهجية متعارضة الأبعاد، فمن جانب، فإن المدخل الأساسي للإيمان بالدين هو العقيدة وليس الأخلاق، ومن جانب آخر فالأخلاق نفسها نسبية من دين إلى آخر، ولا يمكن الحديث عن توحيد أو عولمة الأخلاق.
2 - الخطاب التوافقي: هو خطاب يبحث عن نقاط الاتفاق والتلاقي بين الأديان-متشابهًا مع الخطاب الأخلاقي إلى حد كبير- ويمتد إلى البحث عن المشترك بين العقائد والشرائع والعبادات أيضًا، معتمدًا بدرجة أساسية على علم مقارنة الأديان.
ويعاني هذا الخطاب من نفس الخلل المنهجي الذي يقع فيه الخطاب الأخلاقي، وتزداد خطورته حينما يرتبط بأهداف سياسية كمشروعات السلام التي يروج لها في كثير من مناطق الصراع الديني كمنطقتنا، فهذا الخطاب ينتهي بأصحابه إلى أن الكل شيء واحد وأن التمايز بين الأديان شكلي أو ربما مفتعل، اعتمادًا على أن المشترك أكبر بكثير من نقاط الخلاف.
3 - الخطاب البراجماتي (العلمي): وهو خطاب لا يتحدث في الأديان كأديان، ولكن في موضوعات علمية وقضايا متفجرة يحاول بحث موقف أهل الأديان منها بما يمكن أن يؤدي لإيجاد حلول لها مثل: الحروب والاضطهاد الديني، التفرقة العنصرية،..الخ. ,br> وتعتمد على هذا الخطاب عدد من منظمات الحوار في العالم من أهمها: المنظمة العالمية للأديان والسلامWCRP ، وكان لها كفاح طويل ضد نظام التفرقة العنصرية في جنوب أفريقيا حتى سقوطه.
ولا يحمل هذا الخطاب ضررًا كبيرًا في ذاته-رغم اتصافه بالعملية- ولكنه يتجاهل استحالة التغاضي عن الخلفيات الدينية عند المشاركة في حل الخلافات والنزاعات المتفجرة.
4 - الخطاب المؤسساتي: وهو الخطاب الذي تتبناه المؤسسات الدينية الرسمية (أي التي يعترف بها رسميا داخل الدين: كالكنيسة في المسيحية) أو شبه الرسمية (وهي التي يعترف بدورها ومكانتها دينيًا ودون أن يترتب على ذلك أي سلطة دينية رسمية كالأزهر في الإسلام).
وتكمن مشكلة هذا الخطاب في أنه يرتبط مباشرة بالحالة السياسية ويتأثر بها-سلبًا وإيجابًا-خاصة وأن المؤسسات الدينية في العالم لم تعد بعيدة عن السياسة. مثل، تأثر خطاب بعض العلماء الرسميين في بعض البلدان العربية تجاه اليهود، فخطاب بعضهم شهد تغيرًا ملحوظًا مع بدء ما يسمى "بمسيرة السلام"في المنطقة، إذ اختلف هذا الخطاب بعد أن وقَّعت الحكومات اتفاقيات السلام مع إسرائيل إلى حد بعيد.
5 - الخطاب التاريخي: وهو يتعامل مع الدين بوصفه تاريخًا أو مجموعة من التراكمات التاريخية تختلط بأصل الدين نفسه حتى تصبح جزءًا منه فتتحول فيه الأحداث بل وأحيانا الممارسات التاريخية إلى دين. وهذا الخطاب يبدو أكثر وضوحًا عند اليهود بشكل خاص فالسبي البابلي والروماني وهدم المعبد وبناء الهكيل، وغيرها من الأحداث التاريخية اختلطت بالعقيدة والدين اليهودي نفسه وسيطرت على الخطاب الديني في الحوار مع الآخر.
6 - الخطاب التآمري: وهو خطاب يرى أن فكرة الحوار نفسها مؤامرة تهدف إلى تشكيك المتحاور في عقيدته وإثبات صحة عقيدة الآخر. وهو يعتبر شكلاً سلبيًا من أشكال الحوار الديني، وهو يتسم بالسهولة والابتسار، ولكنه يؤدي إلى التقوقع حول الذات وعدم إدراك الآخر ويقود إلى الاختزالية والتبسيطية التي تصور حركة العالم كله في شكل مؤامرة تحاك وتدبر. وهذا الخطاب-بكل أسف-يكثر انتشاره بين المسلمين في كثير من القضايا وليس في حوار الأديان فحسب.
7 - الخطاب التبشيري: وهو يقوم على محاولة إقناع الآخر بصحة عقيدة الذات وأفكارها وإدخاله في إطارها، وهو أقرب إلى مساجلة الأديان، وإن كان البعض يستعمله في حوار الأديان. وإشكالية هذا الخطاب ليست في أنه يخلط بين الحوار والدعوة فحسب وإنما أيضا في أنه لا يرى مستقبلاً للعلاقة مع الآخر إلا باستقطابه.
ما سبق من أنواع الخطاب في "حوار الأديان" يعد جزءًا من الممارسة الواقعية للحوار، لكنها تختلف-إلى حد بعيد-مع جوهر فكرة "حوار الأديان" القائمة على إدراك الآخر وإدراك الذات معًا، دونما اختزال أو تبسيط لأي منهما لصالح الطرف الثاني.
ولكن هناك نوعين من الخطاب يقتربان من حوار الأديان بهذا المفهوم ويعدان أقرب هذه الخطابات إليه وهما: الخطاب الأصولي والخطاب الاختلافي.
الخطاب الأصولي: خطاب معرفي يلتزم بالنصوص المقدسة للدين، وينطلق من أصوله الثابتة ويبني عليها بالتفسير أو إعادة قراءتها وإنتاجها مرة أخرى في ضوء واقع جديد ومتغير، وهو لا يسعى للبحث عن نقاط اتفاق أو اختلاف مع الآخر، ولا يسعى إلى إدراكه ورؤيته عبر النص الثابت المطلق المقدس عنده وفي ضوء منطلقات وضوابط النص الديني المقدس دون التأثر بالملابسات السياسية أو التاريخية أو الخلفيات الفكرية والثقافية، وهو أقرب الخطابات لفكرة حوار الأديان.
الخطاب الاختلافي: وهو يقترب من الخطاب الأصولي مع بعض الفروق، فهو خطاب يبحث عن نقاط الاختلاف مع الآخر لتأكيد التميز واكتشاف الذات على حقيقتها، ورغم اقترابه من فكرة الحوار إلا أنه مغرق في إثبات التميز بما قد يؤدي إلى الإغراق في الذاتية والبعد عن الموضوعية، وقد ينتهي أحيانا إلى إنكار كل تقارب أو تماثل مع الآخر حتى ولو كان موجودًا بالفعل.
ويتوقع بعض الباحثين أن يتصدر الدين بورصة سوق الأفكار العالمية، وأن القرن القادم سيكون قرن الدين، وبالتالي فإن "حوار الأديان" سيحتل رأس أجندة القضايا المطروحة عالميًّا لفترة طويلة في القرن الجديد .