صلاة العشاء.. أزمة مسلمي هولندا
صحفي وكاتب مصري
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
صلاة العشاء.. هي المشكلة الفقهية المزمنة لمسلمي هولندا وما بين نهاية شهر مايو إلى أوائل أغسطس من كل عام تُصبح صلاة العشاء القضية المطروحة على بساط النقاش والجدل بين أبناء الجالية المسلمة، تُعقَد بشأنها الندوات والمؤتمرات وتتعدد حولها الآراء والاجتهادات الفقهية، وما إن يستقر على رأي بشأنها حتى يظهر رأي جديد يعيد القضية إلى نقطة الصفر. ويثور السؤال مرة أخرى: متى نؤدي صلاة العشاء؟!.
والمشكلة يختلط فيها الفقه بعلوم الفلك؛ فمواقيت الصلوات الخمس في الفقه الإسلامي محددة، والأحاديث الواردة فيها تصل إلى درجة التواتر المعنوي وتفيد العلم اليقيني؛ فصلاة الفجر موعدها مع بزوغ الفجر، والظهر مع زوال الشمس، والعصر عندما يصير ظل الشيء مثله، والمغرب عندما تغرب الشمس، أما موعد العشاء فحين يغيب الشفق وكل كتب الفقه الإسلامي تُجمِع على ذلك.
وكما هو واضح، فإن الأساس الذي يُعتمَد عليه في تحديد أوقات الصلوات الخمس هو حركة الشمس، وليست هناك أي مشكلة في تحديد مواعيد الصلاة في البلدان التي تقع ضمن دائرتي عرض 45 شمال وجنوب خط الاستواء، وهي المنطقة التي تضم معظم البلدان الإسلامية، ولكن المشكلة تبدأ مع البلاد التي تقع شمال وجنوب هذين الخطين؛ حيث يصعب كلما اقتربنا من اتجاه القطبين: الشمالي والجنوبي تطبيق هذه المقاييس إلى أن يصبح من المستحيل تطبيقها كليًا في بعض المناطق.
ويصبح تحديد مواقيت الصلاة مشكلة بالغة الصعوبة، خاصة وأن هناك مناطق تبقى فيها الشمس طالعة لا تغرب أبدًا، منها على سبيل المثال المنطقة الواقعة ضمن دائرة عرض 66 درجة شمال خط الاستواء، والتي تظل الشمس طالعة فيها 17 يومًا كاملاً (من 13 يونيو/ حزيران إلى 1 يوليو/ تموز) لا تغيب مطلقًا، في حين تظل في مناطق أخرى مدة 86 يومًا طالعة بدون غياب! (كما هو الحال في منطقة دائرة عرض 72 درجة شمال خط الاستواء في الفترة من 9 مايو/ آيار إلى 4 أغسطس/ آب).
صعوبة تحديد موعد صلاة العشاء
وهولندا إحدى الدول الواقعة ضمن هذه البلدان (تبدأ من شمال فرنسا) التي تُعاني في بعض فترات السنة من صعوبة تحديد بعض مواقيت الصلاة، وخاصة صلاة العشاء؛ حيث يصل الفارق أحيانًا بين موعد صلاة العشاء الشرعي (غروب الشفق) وبين موعد صلاة الفجر أقل من أربعين دقيقة فقط، وقد يحدث أحيانًا أن يطلع الفجر قبل مغيب الشفق؛ فيصبح من المستحيل تبني وقت صلاة العشاء في أقصى الشمال.
وتزيد المشكلة تعقيدًا حينما يصادف شهر رمضان أيام الصيف؛ حيث يصبح من الصعوبة انتظار صلاة العشاء ثم أداء صلاة التراويح ثم القيام إلى السحور في وقت قصير جدًا قد يصل أحيانًا إلى أقل من ثلث ساعة فقط، في حين يصل الفارق بين وقتي المغرب والعشاء إلى عدة ساعات.
والمشكلة ذات أبعاد متعددة؛ ففضلاً عن الوقت القصير الذي يفصل بين صلاة العشاء (غروب الشفق) وبين بزوغ الفجر، هناك بُعد آخر يتعلق بالتوقيت نفسه؛ فصلاة العشاء وفق هذا التوقيت تتأخر إلى الساعة الواحدة أو الواحدة والنصف بعد منتصف الليل، وهو ما يؤدي إلى مشقة بالغة على المسلمين في هولندا في أداء الصلاة في جماعة (فضلاً عن الاستيقاظ في منتصف الليل)، خاصة إذا علمنا أن عدد المساجد في هولندا لا يتجاوز 450 مسجدًا موزعة على أنحاء البلاد، وفي الغالب لا يستطيع أبناء الجالية المسلمة الوصول إلى أقرب مسجد لهم إلا عن طريق وسائل المواصلات التي تُعطل في منتصف الليل، والقليل من أبناء الجالية من يمتلك سيارات خاصة؛ بسبب تدني المستوى المادي لمعظم المسلمين في هولندا، حيث يعمل غالبيتهم كعمال وفي مهن متواضعة.
جمع المغرب والعشاء هل يحل المشكلة؟
الشيخ "محمد الشروطي" رئيس اتحاد المساجد بهولندا، وهو من أقدم الشخصيات الإسلامية في هولندا أكد لنا "أن مشكلة توقيت صلاة العشاء من عمر الجالية المسلمة في هولندا ودول الشمال الأوروبي كلها، وهي تتجدد كل عام ومثار خلاف بين المساجد والمؤسسات والهيئات الإسلامية في كل هذه البلاد، رغم كل الندوات التي عُقِدت والفتاوى الفقهية التي صدرت".
وأضاف: "في البداية كنا نحل المشكلة بشكل فردي؛ حيث لم تكن هناك مؤسسات إسلامية، فكنا نأخذ بفتاوى العلماء والفقهاء من البلدان الإسلامية، وكان هناك خلاف بالقطع بين التجمعات الإسلامية لكنها كانت قليلة أو غير ظاهرة بسبب قلة عدد المسلمين وكثرة القضايا والمشكلات الأكثر خطورة، وفي بداية الثمانينيات وتكوين المؤسسات الإسلامية بدأ البحث في المشكلة يأخذ بُعدًا جماعيًا".
ويشير الشيخ الشروطي إلى الندوة التي عقدها المركز الإسلامي ببروكسل في بلجيكا سنة 1982 باعتبارها من أوائل الندوات التي عالجت المشكلة وحضرها مجموعة من العلماء، وقد انتهت الندوة إلى جواز الجمع بين صلاة المغرب وصلاة العشاء في هذه الفترة التي يصبح فيها وقت صلاة العشاء متأخرًا إلى قرب وقت الفجر.
ثم عقد اتحاد المساجد ندوة أخرى عام 1983 بالمسجد الكبير في أمستردام جمعت بين علماء الفلك وعلماء الفقه، وانتهت الندوة إلى تبني الرأي نفسه بعدما أكد علماء الفلك صحة المعلومات التي ذُكرت بشأن تأخر غياب الشفق إلى ما قبل الفجر بدقائق قليلة.
لكن المشكلة كما يشير الشيخ الشروطي - هي أن عددًا من المساجد لم تلتزم بالفتوى وكانت لها مبررات وأسانيد فقهية معتبرة ولها وجاهتها؛ فالبعض أشار إلى أن الأخذ بهذه الفتوى قد يؤدي إلى أن تتحول رخصة الجمع بين الصلاتين إلى أصل، خاصة وأن مدة الجمع تقارب خمسة أشهر كاملة في هولندا، وهذا في رأيهم مخالف للمستقر فقهيًا؛ ومن ثم أصروا على الالتزام بالموعد الشرعي لصلاة العشاء، على الرغم من عدم استطاعة معظم أبناء الجالية الالتزام به، في حين شكك بعضهم في حسابات الفلك إلى أن نجحنا في إقناعه بصحة الحسابات الفلكية.
رأي بتقدير موعد صلاة العشاء
المشكلة ناقشتها الندوة الإسلامية الأوروبية الأولى للبحث عن فتوى تُوفِّق بين الرأيين المتعارضين بحيث تراعي التيسير ورفع الضرر والمشقة عن المسلمين، وفي الوقت نفسه تحافظ على أداء صلاة العشاء في جماعة، وقدّم الشيخ "طيارالتي قولاج" المفتي السابق في تركيا بحثًا قيمًا للندوة بعنوان (وقت صلاة العشاء ووقت الإمساك في المناطق التي لا يغيب فيها الشفق إلا متأخرًا ويطلع الفجر مبكرًا)، ويمكن اعتباره من أفضل الدراسات التي عالجت هذه القضية واستوفت جوانبها.
وقد انتهى فيها إلى جملة من الآراء الفقهية القيمة، منها جواز الجمع في الصلاة لغير علة من سفر أو مطر أو مرض أو خوف أو ظلمة أو غيرها من الأسباب التي تعطي الرخصة بالجمع، وذلك تيسيرًا على أهل هذه البلاد، ودفعًا للمشقة والحرج الذي يعانونه من انتظار مغيب الشفق لأداء صلاة العشاء، باعتبار أن هذه المشقة تفوق المشقة التي اعتبرها الفقهاء القدامى سببًا للجمع في الصلاة.
ولكنه على الرغم من ذلك أشار إلى أن الجمع في الصلاة لن يحل المشكلة نهائيًا؛ لأنه يذهب بالحكمة التشريعية التي تقتضي أن تؤدَى الصلوات في خمسة أوقات محددة ومختلفة، بل سيرجعها في حال الاستمرار في الجمع إلى أربعة أوقات فقط.
لذلك، فقد أفتى بتقدير وقت صلاة العشاء للبلاد التي يغيب فيها الشفق متأخرًا شمال خط عرض 45 من خط الاستواء، وأورد على ذلك أدلة من فتاوى للفقهاء القدامى المعتبرين، كلها تؤكد جواز تقدير موعد صلاة العشاء بحيث تؤدَى قبل مغيب الشفق لدفع المشقة والحرج عن المسلمين؛ وإزالة أسباب الفرقة والاختلاف.
واقترح أن يتم تقدير وقت صلاة العشاء في هذه البلاد تبعًا لمكة المكرمة؛ نظرًا لمكانتها كمهبط للوحي ومحلاً للكعبة المشرفة، بحيث يصبح الفارق بين وقت صلاة المغرب ووقت صلاة العشاء في هذه البلاد هو الفارق نفسه بينهما في مكة.
ورغم الأسانيد الشرعية التي اعتمدت عليها هذه الفتوى وما لاقته من تأييد، فإنها لم تحظ بقبول كل الجهات ووجدت اعتراضًا من البعض الذين رفضوا مبدأ تقدير أوقات الصلاة على غير الأوقات الشرعية، باعتبار أن هذه الأوقات توقيفية لا يجوز الخروج عليها. وبدلاً من أن تحسم هذه الفتوى الجدل زادته وصارت الجالية إزاء ثلاثة آراء: الأول يأخذ برخصة الجمع بين المغرب والعشاء، والثاني يدعو إلى تقدير مواقيت العشاء، والثالث يصر على الالتزام بالأوقات الشرعية للعشاء وهي مغيب الشفق على ما فيه من مشقة وحرج.
سألت الشيخ محمد الشروطي عن دور اتحاد المساجد في حل هذه المشكلة، وهو الاتحاد المفترض أن يتولى حسمها باختيار رأي فقهي أو فتوى معينة والالتزام بها؛ فأكد أن دور الاتحاد استشاري وتوجيهي فقط ولا يمتلك أي قدرة على إلزام المساجد بفتوى معينة.
مسلمو الغرب في حاجة إلى فقه جديد
أما د/ "مرزوق أولاد عبد الله" إمام المسجد الكبير في أمستردام أستاذ الفقه بجامعة "روتردام" الإسلامية، وهو من خريجي الأزهر الشريف، فيؤكد أن الخلاف جزء من أزمة أكبر وأعمق بكثير تعيشها الجاليات المسلمة في أوروبا، وهي الحاجة إلى فقه آخر يختلف عن الفقه المستقر في بلاد العالم الإسلامي، ويشير إلى أن هذه المشكلة تحديدًا لم تكن معروفة في كتب الفقه حتى القرن الرابع الهجري؛ لأن الفقهاء كانوا يجتهدون في حدود المكان الذي يعيشون فيه، ومن ثم، فإن الواقع الجديد يقتضي اجتهادًا فقهيًا جديدًا يراعي خصوصية واقع الأقليات المسلمة ومستجداته.
ويشير إلى خطأ الأخذ المباشر عن اجتهادات الفقهاء القدماء في هذه المسألة دون تمحيص ونقاش علمي يجمع بين علماء الفقه والأصول وعلماء الفلك، ويكون فيه لأبناء الأقليات المسلمة في أوروبا الدور الأكبر في تحديد الفتوى الملائمة لهم، ويثني على الفتاوى التي يصدرها "مجلس الإفتاء الأوروبي" الذي يرأسه الشيخ "يوسف القرضاوي"، ويرى أن طبيعة فكر وعمل هذا المجلس أقرب إلى الواقع الأوروبي، وأكثر استجابة لمتطلبات الأقلية المسلمة فيه.