محممود غالي..شيخ المترجمين لمعاني القرآن الكريم
كاتب وصحفي مصري
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
من آفات هذا الزمان أن الذي يصنع وعي أهله دوائر ومؤسسات إعلام يقف على أبوابها حراس يحسبون كل ما يلمع ذهبا ولا يكلفون أنفسهم عناء البحث عن المكنون والمستور، حتى صار لكل علم وفن رجال أتقياء أخفياء؛ إذا غابوا لم يُفتقدوا، وإذا حضروا لم يُذكروا في ضوضاء الزحام وبريق الأضواء التي يصعب أن يجاريها عالم جليل وقور لم يلحق بعد بثقافة الفيديو كليب، ولم يحط خبرا بكواليس ومافيا عالم صناعة النجوم.
وأحسب أن العالم الكبير الدكتور محمد محمود غالي من هؤلاء؛ فهو الرجل الذي لا يكاد يعرفه من خارج محيطه العلمي أحد على الرغم من أن أي حديث عن الترجمة بقضاياها وعلومها وعالمها ورجالها لا يصح أن يبدأ إلا به، لولا أن الزمان زمان الفيديو كليب.
فالرجل الذي ما زال يعمل أستاذا متفرغا للغة الإنجليزية بجامعة الأزهر الشريف -رغم أعوامه الثمانين- هو أحد أبرز من اشتغلوا في حقل ترجمة القرآن الكريم إلى اللغات الأجنبية في العالم، وصاحب الجهد العلمي الرائد وغير المسبوق في هذا المجال في مسيرة زادت على نصف القرن، توَّجها بترجمة لمعاني القرآن الكريم إلى اللغة الإنجليزية، وصفت بأنها واحدة من أدق الترجمات إن لم تكن الأدق والأفضل في تاريخ الترجمة.
السيرة العلمية
الحديث عن الرجل الذي أسس أول كلية للغات والترجمة بجامعة الأزهر الشريف، وكان أول عميد لها يستدعي التعرف -ولو سريعا- على مسيرته العلمية التي بدأها قبل 60 عاما (ولد في 9-1-1339هـ = 23-9-1920م)؛ فقد نشأ غالي في بيئة ريفية يغلب على أهلها التدين وتقدير العلم والاحتفاء بأهله رغم انتشار الأمية فيها، واتصل مبكرا بدعوة الإخوان المسلمين، وتوجه لدراسة اللغة والأدب الإنجليزي، وحصل فيهما على شهادة الليسانس من جامعة فؤاد الأول (القاهرة حاليا)، ثم سافر في بعثة تعليمية لاستكمال الدراسات العليا في مجال اللغة الإنجليزية وعلم الصوتيات بجامعة إكستر بالمملكة المتحدة، ثم انتقل إلى الولايات المتحدة حيث حصل على درجتي الماجستير والدكتوارة في علوم اللغة (الألسنيات) من جامعة ميتشجان، ومنها إلى اليابان حيث درس علوم الصوتيات في الجامعات اليابانية.
وفي حياته العملية اشتغل بتدريس اللغة الإنجليزية وعلوم اللغة وعلم الصوتيات في جامعات القاهرة والأزهر في مصر، والملك سعود والملك عبد العزيز في المملكة السعودية طوال نصف قرن من الزمان، تتلمذ خلالها على يديه أجيال من العاملين في مجال الدعوة الإسلامية باللغات الأجنبية وعلوم اللغة والصوتيات في العالم العربي. وشارك في عضوية عدد من الهيئات والمؤسسات العلمية الإسلامية العاملة في حقل الترجمة ونقل القرآن والعلوم الإسلامية إلى اللغات الأجنبية؛ من أهمها مشروع جامعة الملك عبد العزيز، ورابطة العالم الإسلامي لإنجاز ترجمة القرآن.
وقد قدم للمكتبة الإسلامية 16 مؤلفا ومترجَما باللغتين الإنجليزية والعربية في اهتمامات قضايا متعددة، منها:
الصوتيات الإنجليزية، وتاريخ الإنجليزية، والرسول محمد ودولة المسلمين الأولى، ونظريات أجزاء الكلام، وعلماء اللغويات في القرن 19، ولذة الإيمان، والحرية الأخلاقية في الإسلام، الإسلام والسلام العالمي، تربية الأطفال في الإسلام، وكلها باللغة الإنجليزية. وله باللغة العربية: المسلمون في عالم اليوم، وأئمة النحاة، وله باللغتين معا كتابه الأهم الفريد "المترادفات في القرآن الكريم"، إضافة إلى ترجمته لمعاني القرآن الكريم إلى الإنجليزية التي أنجزها بجهد فردي.
المشروع الفكري
وطوال حياته العلمية التي زادت على 60 عاما تركز النشاط العلمي للدكتور محمد محمود غالي فيما يمكن أن نعتبره مشروعا فكريا متكاملا، عنوانه الرئيسي "خدمة عملية نقل القرآن الكريم والعلوم المرتبطة به إلى اللغات الأجنبية وخاصة الإنجليزية"، وهدفه المحدد هو "تقديم أفضل ترجمة ممكنة للقرآن الكريم إلى الإنجليزية والاستفادة منها في الترجمة إلى بقية اللغات".
فقد اشتغل الرجل في مساحات عدة شكلت معالم مشروعه الفكري، وكان من أهمها:
* مراجعة معظم ترجمات معاني القرآن الكريم للإنجليزية (وصلت إلى 20 ترجمة) التي صدرت في العقود الأخيرة في معظم أنحاء العالم الإسلامي، وتقديم تقارير علمية تفصيلية عنها إلى الهيئات والمجامع العلمية الإسلامية المختصة، فراجع ترجمة محمد الخطيب الصادرة عن دار ماكملان بإنجلترا 1983، وترجمة أحمد زيدان وزوجته الصادرة عن بيلدز جليفورد ببريطانيا 1999، وترجمة عبد الله يوسف على طبعات دمشق وبيروت والمدينة، وترجمة المنتخب في تفسير القرآن لعبد الخالق همت أبو شبانة الصادرة عن المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بمصر، وترجمة محمود صالح بجامعة الملك فهد/ طبعة المدينة المنورة، وترجمة المنتدى الإسلامي بلندن... وترجمات أخرى عديدة في شتى أنحاء العالم.
وقد عمل طوال 3 عقود عضوا ومستشارا علميا في لجان ترجمة القرآن الكريم والعلوم الإسلامية في جامعات الملك سعود والملك عبد العزيز والأزهر الشريف ووزارة الأوقاف المصرية ووزارة الأوقاف السعودية والمجلس الأعلى للشئون الإسلامية بمصر ورابطة العالم الإسلامي بالسعودية والمنتدى الإسلامي بلندن... إلخ.
* تقديم دراسات رائدة لوضع الأسس والقواعد العلمية اللازمة لترجمة أو نقل -حسب المصطلح الذي يفضله- معاني القرآن الكريم إلى اللغات الأجنبية وعلى رأسها الإنجليزية. وكان أهم ما كتبه في هذا الصدد كتابه الرائد وغير المسبوق "المترادفات في القرآن المجيد" باللغتين العربية والإنجليزية، وهو دراسة دقيقة ونادرة لكل المترادفات التي يحدث فيها التباس عند ترجمتها من القرآن الكريم إلى اللغة الأجنبية، مثل: "غافر وغفور وغفار، طريق وسبيل وصراط، روح ونفس، قلب وفؤاد، علم ومعرفة، ريب وشك، عقل وفهم... إلخ"، وهو ينطلق من فكرةٍ جوهرها التفريق بين المترادفات القرآنية؛ باعتبار أنه لا توجد كلمة تحل بديلا عن غيرها مهما بلغت أوجه التشابه بينهما في القرآن. وتمثل هذه الدراسة بين الفروق منهجا متكاملا لنقل معاني القرآن إلى الإنجليزية؛ بحيث يلتزم في هذا النقل (الترجمة) منتهى الدقة والتمييز بينها؛ بحيث تصل إلى المتلقي الإنجليزي بنفس مقابلها الإنجليزي الذي يؤدي مقاصد اللفظ القرآني مع الابتعاد قدر الإمكان عن الخلط بين المترادفات في الترجمة الإنجليزية.
* إنجاز واحدة من أدق ترجمات القرآن الكريم عموما، وإلى الإنجليزية بصفة خاصة، وصفها الشيخ المرحوم محمد متولي الشعراوي بأنها من أفضل ترجمات القرآن الكريم إن لم تكن أفضلها، وقد طبعت منها 3 طبعات مزيدة ومنقحة، وقد عمل فيها منفردا لمدة 7 سنوات متواصلة معتمدا فيها على 20 ترجمة سابقة، وقد سبقها بالعمل لمدة 15 سنة متواصلة في مشروع جامعة الملك عبد العزيز بالسعودية لإنجاز ترجمة شاملة متكاملة لمعاني القرآن الكريم، وقد رعتها رابطة العالم الإسلامي لكنها لم تطبع. كما سبقها أيضا بترجمة متميزة لأسماء الله الحسنى إلى الإنجليزية، ولم يسبقه إليها "أربري"، ورغم ذلك جاءت ترجمة غالي لتضيف عليها.
* وضع نظرية متكاملة لترجمة القرآن الكريم إلى اللغات الأجنبية كلها، أهم أسسها:
أ- عدم ترجمة التفسير والتركيز على المعنى فقط؛ حيث يرى حرمة تقديم ترجمة تفسير القرآن كترجمة لمعاني القرآن؛ لأنها تمثل في رأيه ابتعادا عن المقصد القرآني بدرجتين: واحدة للتفسير وأخرى للترجمة، كما أنها تمثل ترجمة لأفكار المفسر ومذهبه في التفسير وتحتمل الخطأ.
ب- التفرقة الدقيقة بين المترادفات من خلال نظرية تقول: إن كل لفظ في القرآن مقصود لذاته، ولا يتماثل مع مترادفه مهما بلغت أوجه التشابه.
ج- الإقرار بوجود خطأ في كل ترجمة يستدعي إعادة تنقيحها وتصويبها من آن لآخر حسب تجدد معاني القرآن، وعدم وقوفها على زمن بعينه، وحسب التطور والتغير الدلالي في اللغات الأجنبية.
* تربية جيل من الباحثين المسلمين العاملين في حقل الدعوة الإسلامية باللغات الأجنبية بهدف تقديم الإسلام وعلومه لكل الشعوب غير العربية، وذلك من خلال تأسيس أول كلية للغات والترجمة بجامعة الأزهر، كان أولَ عميد لها، وقد ساعده في تأسيسها كل من الشيخ أحمد حسن الباقوري، ثم الدكتور عبد العزيز كامل وزيري الأوقاف الراحلين، وكانت في البداية معهدا قبل أن تتطور إلى كلية، كما كان له فضل تأسيس معهد الصوتيات بجامعة الأزهر.
بركة العلم
كان لي شرف التعرف على هذا العالم الجليل والتواصل معه قبل سنوات، وحين زرته أدهشني أمران:
الأول أنه رغم كبر سنه -أمد الله في عمره وبارك فيه- ما زال يقرأ ويعمل وحده بانتظام، وينفق الساعات الطوال في دأب وإصرار، لا نراه في طالب ما زال في أول طريق العلم.
أما الأمر الثاني الذي لفت انتباهي فهو حالة الرضا والسكينة التي تغشاه وتعم مجلسه؛ فتشعر فيه بالحميمية والدفء الذي تبثه فيك أخلاق التواضع والبذل والرغبة في مساعدة الآخرين حتى من دون سابق معرفة؛ فتفاجأ به -مثلا- يفسح لك من وقته بأكثر مما أردت وتوقعت، ويقوم على خدمتك بنفسه رغم كبر السن والمقام ووجود خادمة، ربما تشعب الحديث، وتعددت موضوعاته، وتداخل فيها الخاص بالعام حتى لا تغادر مجلسه إلا وأنت مجبور الخاطر غانما بأكثر مما رغبت، وفوق ذلك كله صديق في عمر جدك!
أمد الله في عمر العلامة الدكتور محمد محمود غالي ونفع به.