تأجير الأرحام بين الطب والسياسة
صحفي وكاتب مصري
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
لم تكد تنتهي المعركة الطاحنة حول نقل الأعضاء في مصر بتغليب الرأي القائل بجوازها تمهيدًا لإعداد قانون بهذا الشأن؛ حتى اندلعت معركة أخرى لا تقل عنها ضراوة، حول تأجير الأرحام، وهي المعركة التي اندلعت مؤخرا ومستمرة في التفاعل، خاصة بعد أن دخلت كل المرجعيات الدينية طرفًا فيها، ويجمع بين المعركتين إضافة إلى انشغال الرأي العام بهما أن موضوعهما يتعلق بدخول التقنيات الطبية الحديثة في علاج الإنسان بما يستلزم اجتهاد فقهي جديد.
والمعركة بدأت بنقاش حول مدى شرعية تأجير رحم بديل للمرأة التي تعاني من ضعف الرحم وعدم القدرة على الاستمساك بالجنين والاحتفاظ به مدة الحمل؛ مما يؤدي إلى طرد الجنين، أو تعاني من أمراض تؤدي إلى وفاة الجنين المتكررة قبل بلوغه المدة، أو تعاني من الإجهاض المتكرر أو غيرها من الأمراض التي تضعها في حالة خطيرة في أثناء الحمل قد تعرضها للوفاة.
وتأجير الأرحام هو إحدى الوسائل التي يلجأ إليها في الغرب خاصة الولايات المتحدة لعلاج مثل هذه الحالات؛ حيث يتم تلقيح بويضة المرأة التي يراد علاجها بحيوان منوي من زوجها حتى تصير مضغة مخلقة، ثم تنقل أو تزرع في رحم امرأة أخرى تكون إما حاضنة أو حاملة لهذه المضغة المخلقة حتى تكمل مدة حملها.
كان النقاش يدور في مجلس الشعب المصري بين د."عبد المعطي بيومي" عميد كلية أصول الدين بجامعة الأزهر، وعضو اللجنة الدينية بالمجلس وبين د."إسماعيل برادة" أستاذ طب النساء الشهير بجامعتي "مينسوتا" و"تكساس" بالولايات المتحدة، وانتهى بفتوى للدكتور بيومي أباح فيها تأجير الأرحام قياسًا على الرضا، معتبرًا أنه كما يجوز تمليك منفعة الثدي وما يفرزه من لبن ينبت اللحم وينشر العظم لدى الوليد زمن الرضاعة، فإنه يجوز قياس الرحم على الثدي فيما يفرزه من أمشاج تنبت اللحم وتنشز العظم لدى الجنين زمن الحمل؛ لأنه إذا جاز ذلك في الثدي فإنه يجوز في الرحم؛ إذ إن الثدي يعطي من دم المرضع وغذائها خلاصة أشد نقاء مما يعطيه الرحم.
واقترح د. عبد المعطي بيومي أن يطلق على المرأة صاحبة الرحم المستأجر "الأم الحاضنة"، في حين تكون المرأة صاحبة البويضة هي "الأم الأصلية"، ورتب على ذلك الحكم بأنه يحرم من تأجير الرحم ما يحرم من الرضاع؛ لأن العمليتين متساويتان، فيصبح المولود المتولد من هذه العملية محرمًا على المرأة، صاحبة الرحم الحامل فتصير أما حاضنة له مثل الأم المرضعة، ويصبح بمثابة الابن لها يحرم عليه الزواج من أولادها.
واعتمد د.بيومي على ما اعتبره حقائق طبية، وعلمية أكدها له عدد من أطباء النساء على رأسهم د.إسماعيل برادة، وهي حقائق تقطع في رأيه بالآتي:
أولا: أن التشكيل الوراثي للجنين الجديد سيكون بالقطع للزوج صاحب الحيوان المنوي وزوجته صاحبة البويضة، وأن البويضة الملقحة بالحيوان المنوي للزوج لا يمكن بأي حال من الأحوال إعادة تلقيحها مرة أخرى بأي حيوان منوي آخر غير الذي لقحت به بالفعل.
ثانيا: أن الرحم لا ينقل أي صفة وراثية، ولا يسهم بأي تكوين جيني ولا يعمل إلا كحضانة للطفل تحميه وتمده بما يلزم نموه.
ثالثا: انعدام أي احتمال لاختلاط الأنساب.
رابعا: أن احتمال نجاح هذا الأسلوب لإنجاب طفل من هذه السيدة وزوجها أعلى بكثير من احتمال الحمل في رحم منقول إليها من سيدة أخرى.
ما إن صدرت هذه الفتوى حتى اندلعت معركة فقهية كبرى اختلطت فيها الصراعات السياسية بالخلافات الطبية؛ فلم تعد مجرد خلاف فقهي فقط، فكثيرون رأوا أن الفتوى ليست في الأغلب إلا بالون اختبار أطلقته السلطة لمعرفة حجم ما يمكن أن يلقاه مشروع قانون لتأجير الأرحام من معارضة، خاصة بعد أن ربحت معركة نقل الأعضاء بصدور فتوى من مجمع البحوث الإسلامية بإباحته، وهو ما دعم مشروع القانون الذي يجيز نقل الأعضاء.
وعزز من مخاوف أصحاب هذا الرأي أن صاحب الفتوى هو د.عبد المعطي بيومي الذي تم تعيينه وليس انتخابه بمجلس الشعب عن الحزب الوطني الحاكم، واختير عضوا باللجنة الدينية في المجلس، وهي اللجنة التي تقدم في نظر الكثيرين الدعم الديني للنظام، وكان قد تردد بعد تعيينه أن الحكومة استعانت به لمواجهة النواب الإسلاميين بالمجلس (17 نائبا عن الإخوان المسلمين) أو على الأقل إحداث توازن معهم.
ود.بيومي ينتمي إلى المؤسسة الدينية الرسمية، وسبق أن خاض عددًا من المعارك الدينية بجانب شيخ الأزهر د.سيد طنطاوي ضد خصومه، وخاصة جبهة علماء الأزهر.
وتخوف البعض من أن كثيرًا مما اعتبره بيومي حقائق علمية وطبية ما زال مثار شك وجدل بين الأطباء أنفسهم، وخاصة فيما يتعلق باحتمالات وجود تأثيرات وراثية للرحم على الجنين، واحتمالات اختلاط الأنساب خاصة في حال حدوث معاشرة زوجية بين الأم الحاضنة (صاحبة الرحم) وزوجها، إضافة إلى اعتراضات قانونية خاصة بعقد إيجار الرحم وبالوضع القانوني للمولود وما يمكن أن يترتب عليه من نزاعات قانونية.
بطبيعة الحال كانت جبهة علماء الأزهر الخصم التقليدي أول المعارضين لفتوى بيومي؛ فهي دائما ما كانت ترى أنه ليس لديه أهلية للفتوى خاصة في مثل هذه القضايا الحساسة؛ إذ إنه لا يعدو في رأيها كونه أستاذًا للفلسفة وليس لديه مؤهلات فقهية أو شرعية تمكنه من أداء دور الفقيه، كما أنها تشكك دائمًا في أنه يعمل كمحلل للسياسات الحكومية.
لذلك فقد أصدرت بيانًا شديد اللهجة هاجمت فيه الفتوى شكلاً وموضوعًا، ورفضت مبدأ إجازة استئجار الرحم في غير محل النكاح وعقود الزواج، واعتبرت إباحته خروجًا على الدين وترويجًا للباطل وفتحًا لأبواب الفاحشة وسعيًا لإبطال حد من حدود الله، ووجهت إلى صاحب الفتوى من دون أن تسميه اتهامات أهونها: الكلام في دين الله وفي الفقه بغير علم والتسبب في فتنة كبرى.
ورغم أن بيان الجبهة لم يتعرض تفصيليا بالنقض لتنفيذ الأسس والقواعد الفقهية التي استند عليها بيومي في فتواه، واكتفى بمطالبة علماء الشرع وأصحاب الرأي في هذه المسألة بالتصدي لهذه الفتوى وتفنيدها شرعيا وعلميا وإعداد دراسة مفصلة في هذا الشأن، إلا أنه كشف عن بعض المثالب التي يمكن أن تؤخذ على هذه الفتوى وتنقضها من أساسها، وأهمها إجازتها زرع البويضة المخصبة في المرأة المتوفى عنها زوجها، أي يفتح ذلك بابا واسعا للفاحشة، ويعطي مبررا لمن تظهر عليها علامات الحمل دون أن يكون لها زوج بأن تدعي أنها تؤجر رحمها، كما أثار نقطة أخرى تتعلق بمدى شرعية امتناع المرأة المؤجرة لرحمها عن زوجها صاحب الفراش وقت الحمل، كما يشترط عقد إيجار الرحم الذي يقترحه د.بيومي، خاصة وأن ذلك يصطدم مع نصوص شرعية، ويتعارض مع حق الزوج في التمتع بزوجته.
وقد نقل بيان جبهة علماء الأزهر المعركة إلى صفحات المجلات والصحف التي اهتمت بنقل تفاصيلها ومعرفة آراء أصحاب الاختصاص، وكانت معظم الآراء إن لم يكن كلها ضد الفتوى.
وكان أكثرها حجة ما كتبه المستشار "مصطفى فرغلي الشقيري" رئيس محكمة استئناف القاهرة الذي أثار عددًا من الاعتراضات والتساؤلات القانونية والشرعية تنتقض الفتوى من أساسها، مثل: السؤال عن كيفية تحديد عقد إيجار الرحم وأطراف هذا العقد؟ ومدى شرعية امتناع المرأة صاحبة الرحم المؤجر عن زوجها في أثناء الحمل؟ وهل يعد استجابتها لطلب زوجها إخلالا بشرط عقد الإيجار الذي وقعته أم أنه شرط حرام يحرم حلالا لا يجب الوفاء به؟.
وهل يجوز للمرأة المؤجرة لرحمها إذا توفي زوجها وانقضت العدة أن تتزوج ورحمها مشغول بحمل بموجب عقد استئجار رحمها، أم عليها الانتظار إلى وقت وضع هذا الحمل؟ وهل من حق هذه المرأة التنقل والسفر بعيدا عن صاحبي البويضة والنطفة، أم من حقهما استصدار أمر بمنعها من السفر والتنقل دون الرجوع إليهما في حال خوفهما من هروبها بالجنين؟
كما تساءل عن الوضع القانوني للمولود إذا أنكرت المرأة صاحبة الرحم عملية الاستئجار وقيدت المولود باسمها واسم زوجها؟ وماذا يمكن أن يفعل الأبوان أصحاب البويضة والنطفة، لإثبات أبوتهما للمولود؟ وعن الكيفية التي يمكن التوفيق بها بين حقهما في المولود وبين القاعدة الشرعية (الولد للفراش وللعاهر الحجر) خاصة وأن لصاحبة الرحم فراش زوجية صحيح وشرعي، وفي حال إسقاطها للجنين عامدة، هل تعاقب صاحبة الرحم قانونيا؟.
وإذا أمكن طبيًّا أن تحمل المرأة مؤجرة رحمها من زوجها في أثناء حضانتها للنطفة؛ فكيف يمكن تحديد مولود كل طرف؟.
ثم انتقل إلى تأثير هذا الوضع الشاذ اجتماعيا؛ ليتساءل كيف يمكن أن تبرر المرأة المطلقة أو الأرمل، إذا أجرت رحمها حمله لأهلها؟ وكيف يمكن التمييز بينها وبين الزانية؟ وتساؤلات أخرى تضرب في الأسس والقواعد التي بنيت عليها الفتوى.
وأمام تزايد الانتقادات الموجهة للفتوى وتصاعد حدتها وكثرة الجدل التي أثارته أحال د.محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر الأمر إلى مجموع البحوث الإسلامية الذي أفتى في جلسته المنعقدة يوم الخميس 30/3/2001 رفض فكرة تأجير الأرحام، واعتبارها خروجًا على الشريعة الإسلامية، وجاء قرار المجمع بإجماع أعضائه، ولم يعترض عليه سوى د.عبد المعطي بيومي نفسه صاحب الفتوى، والذي رفض كل النقد الموجه إلى فتواه، معتبرا أنه يزيده تمسكًا بها؛ لأنه لم ينقض الأسس التي بنى عليها الفتوى.
فنفى أن يكون لفتواه أي علاقة بالسياسة، مؤكدا أنها موضوع علمي وشرعي بحت، وأنه لا يمارس السياسة إلا داخل مجلس الشعب فقط، كما استبعد احتمال طرح هذه الحقيقة ضمن مشروع قانون بمجلس الشعب، معتبرًا أن ذلك غير وارد الآن، نافيا علمه بوجود نية لذلك، كما اعتبر أن المعركة ضده شخصية وليست موضوعية وتهدف لتصفية خصومات وأحقاد قديمة على حد تعبيره.
وقد أكد لنا اختلافه ورفضه التام لفتوى مجمع البحوث الإسلامية التي تحرم تأجير الأرحام، معتبرا أن الموضوع لم يناقش بشكل علمي من قبل أعضاء المجمع كما ينبغي؛ إذ كان من المفترض في رأيه أن يعرض على لجنة البحوث الفقهية بالمجمع والتي تكلف بدورها عددا من الفقهاء والمختصين بدراسة الموضوع وتعطيهم الوقت اللازم لإيضاحه وفحصه تفصيليا، وهو ما لم يحدث؛ إذ إن المجمع في رأيه تعجل البت في الموضوع وأخذ بالرأي المرجوح طبيا والذي يرى إمكانية وجود تأثير للأم الحاضنة صاحبة الرحم على الجنين.
وأشار د.عبد المعطي بيومي إلى أن عدم حضور د.إسماعيل برادة لجلسة المجمع، ورفض طلب د.إبراهيم بدران إعطاءه مهلة شهرا لتقديم دراسة تفصيلية للموضوع طبيا كانا سببا في تبني أعضاء المجمع لقرار التحريم.
وفي تصريحات خاصة أكد د.بيومي أنه يدعو العلامة الكبير الشيخ يوسف القرضاوي لإبداء رأيه في هذه القضية؛ لأنه سيكون فاصلا في تحديد الموقف من تأجير الأرحام، ويؤكد بيومي أنه سيتمسك بفتواه ولن يتنازل عنها إلا إذا أكد الأطباء المختصون إمكانية حدوث اختلاط للأنساب في حال تأجير الرحم أو وجود تأثير وراثي للأم الحاضنة على الجنين، أو في حال تفنيد علماء الشريعة الإسلامية لأسس فتواه، ويؤكد أن أفضل من يمكنه الفصل في هذه القضية هو الشيخ القرضاوي فهو (قيمة علمية كبيرة أحترم رأيه حتى ولو عارض ما أقتنع به).
وبسؤال الدكتور "محمد خالد الورداني"، مدرس النساء والولادة بجامعة الأزهر، المتخصص في أطفال الأنابيب والحقن المجهري، أكد لنا أن الرحم في الإنجاب ليس إلا وعاء ولا يحمل أي تأثيرات وراثية على الجنين الذي يكون قد تخلق فعلا واكتمل وراثيا بتلقيح البويضة بالحيوان المنوي، كما أكد استبعاد أي فرصة لحدوث حمل للمرأة صاحبة الرحم المؤجر من زوجها في أثناء حملها للنطفة المخلقة؛ لأن هرمونات الحمل توقف التبويض تمامًا حتى انتهاء الولادة.
لكنه في الوقت نفسه يعارض تمامًا مبدأ تأجير الأرحام ويميل للفتوى الشرعية القائلة بحرمته؛ لأنه سيؤدي إلى الخلاف حول النسب، وهو من الأمور التي ترفضها الشريعة الإسلامية، وتحرم كل ما من شأنه أن يتسبب فيها؛ حيث كثيرا ما تتمسك كل أم صاحبة (البويضة وصاحبة الرحم بحق) بالأمومة ونسبة الولد إليها- وهو ما يحدث باستمرار في الغرب وخاصة الولايات المتحدة- ولا يصبح أمام القضاء إلا الحكم لمن يستطيع إثبات ادعائه وهو ما يؤدي في كثير من الأحيان إلي اختلاط الأنساب.
ويشير إلى أنه في سنة 1980 وبعد عام واحد من أول عملية أطفال أنابيب في مصر أفتى المرحوم الشيخ جاد الحق علي جاد الحق (وكان مفتيا ثم تولى مشيخة الأزهر) بحرمة تأجير الأرحام مطلقا، ولم يكن الموضوع مطروحا وقتها مثلما هو الحال الآن، لكن مجلس الفتوى بمكة المكرمة خالفه، وأفتى بإباحته داخل الأسرة الواحدة (الأم وابنتها أو زوجات الرجل الواحد). . لكنه عاد وتراجع بعد ثلاث سنوات، وأعلن التزامه بفتوى الشيخ جاد الحق؛ بسبب ما سيؤدي إليه من خلاف قد يؤدي بدوره إلى اختلاط الأنساب.