عن الاستثناء الياباني في السياحة!
كاتب وصحفي مصري
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
لم أزر اليابان بعد، والمؤكد أنني لن أحزن كثيرا إذا لم أزرها مستقبلا برغم عشقي للسفر والترحال في أرض الله.. ربما لهذا السبب -عشق أرض الله- لن أزور اليابان! فأنا أشعر يوما فيوما أن اليابان ليست من عالمنا، إنها عالم آخر أسطوري فانتازي.. أي غير حقيقي بالمرة.. وأن أهلها ليسوا كالبشر الذي نعرفه وننتمي إليه.
أرجو ألا تفهم وجهة نظري على أنها وجه من وجوه العنصرية، لا أقصد هذا حتى لو كان بعض ما في مقالي يشير إليه... لكنني- بالفعل- أشعر أن اليابانيين ليسوا مثلنا بشرا.. بالتأكيد كلامي ليس من باب المدح والثناء كذلك الذي يصدع رؤوسنا به من أدمنوا الحديث عن المعجزة اليابانية.. وكيف أن اليابان نجحت حيث فشلنا نحن، بل ونجحت في مقارعة أوروبا وأمريكا والتفوق عليها!
ثمة كُتّاب احترفوا العزف على النغمة اليابانية، وهم لا يتوقفون عن التغزل في اليابان أرض الشمس المشرقة.. يحدثونك ليل نهار: كيف هو النظام في اليابان والنظافة في اليابان والالتزام في اليابان والدقة في اليابان والتعليم في اليابان والعائلة في اليابان.. سيمفونية مديح لا تنتهي في الشعب الياباني الذي من فرط ذكاء أطفاله أنهم يتكلمون اليابانية قبل دخول المدرسة! (هي معجزة فعلا تعلم اليابانية).
الموظف ما أعظمه.. غاية في الكفاءة والانضباط وحب العمل، إنه من فرط عشقه للعمل يرفض حتى الإجازات ويتظاهر ويحتج طلبا للمزيد من ساعات العمل وأيامه.. أما المدير الياباني فهو عنوان الإدارة الناجحة.. إذا فشل فليس أقل من أن ينتحر!.. المرأة اليابانية.. ما أطوعها لزوجها وأخلصها لبيتها وعائلتها.. ومثلها الرجل الوفي لزوجته الذي لا تزوغ عيناه على غيرها وهو بها قانع.. والأسرة اليابانية.. تلك المعجزة التي جمعت بين أصالة الشرق وأقصى حداثة الغرب.. يا له من مجتمع مثالي.. جمع أطراف المجد.. وأشياء كثيرة قيلت في مدح اليابان لكنها عندي إلى الذم أقرب!
أسطورة
في مقتبل عمري كان لدي شيء من هذا الشعور بالإعجاب باليابان، ربما بسبب كثرة ما قرأته مبكرًا من هذه النوعية "التافهة" من الكتابات التي تتكلم بروح إعجاب باليابانيين تجعلهم أقرب إلى آلهة الإغريق، وربما كنت "أريد" الإعجاب وقتها باليابان نكاية في أمريكا ومن وراء أمريكا.. فاليابان كانت عندي خصما مفترضا أو محتملا للمارد الأمريكي المتجبر.. لكن يوما فيوما تغيرت قناعاتي وأظنها إلى الأبد.
لم أعد أعتبر اليابان تحديا لأمريكا وأوروبا في شيء.. اليابان جزء من الحضارة الغربية.. جزء لا يتجزأ، وهي لا تختلف عن الغرب في شيء إلا أنها تقع في أقصي الشرق، وهذا أسوأ ما في غربيتها: أنها نموذج غربي زرع بنجاح في قلب الشرق.. تجربة ناجحة لتوطين التغريب في مجتمع كان يفترض أنه شرقي!
منذ هزيمتها في الحرب العالمية الثانية واليابان تابع لأمريكا، بل وتابع ذليل، حدث ذلك بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية، وقع مرة واحدة وللأبد.. ولا أتصور أننا يمكن أن نتكلم مستقبلا عن مشروع أو حتى رغبة يابانية في الاستقلال لا سياسيًّا ولا حضاريًّا بالطبع!
أعلى موجات التغريب في اليابان، في السلوك ونمط الحياة ثم -وهذا الأهم- في خيال الإنسان الياباني.. من أشهر الجراحات وأكثرها انتشارًا في اليابان جراحات تجميل الوجه التي تحول وجوه اليابانيات إلى الوجه الغربي (توسيع العينين بالذات)!.
قيم العائلة الآسيوية التي يتشدق بها المتفلسفون لم يعد لها مكان في المجتمع الياباني الذي يتجه للفردانية بسرعة فائقة.. الأسرة اليابانية قد لا نجدها إلا في مسلسل أوشين الشهير.. والذي فات الكثير ممن احتفوا به أنه جزء من الماضي، وأنه لا يمكن أن نفهم منه المجتمع الياباني إلا كما نفهم الواقع السوري الحالي من خلال شخصيات مسلسل باب الحارة الذي يأخذنا كل عام إلى الماضي السوري الجميل!
الأمر يحتاج مراجعة
قبل سنوات التقيت بصالح السامرائي مدير المركز الإسلامي في طوكيو، وهو عراقي يحمل الجنسية السعودية ومن عائلة السامرائي المعروفة... جلس السامرائي يحكي لي ساعات عن الشعب الياباني المؤدب المهذب المحب للإسلام، وطفق يحدثني عن التجاوب الياباني مع الإسلام، وعن المستقبل الواعد للإسلام في اليابان، كان الرجل يحكي لي ما يتمناه أو ما يريده أو ما يريد لنا أن نتصوره، وربما كان يحكي لي ما كنت أريد أن أسمعه أنا أيضا.. أسعدني حديثه وكتبت عنه وعن اليابان والإسلام في اليابان.. ولكن بكل أسف -وليسامحني القارئ- اكتشفت لاحقًا أن شيئا من هذا غير دقيق، أول من نبهني لذلك المؤرخ الكبير رؤوف عباس رحمه الله في مكالمة هاتفية طويلة، وكان قد كتب عن اليابان وتاريخها.
لقد علمت لاحقا أن أقل معدلات الدخول في الإسلام هي لليابانيين، وأنه وفق التاريخ والواقع الحالي وبناء على مؤشرات مختلفة وكثيرة فلن يكون للإسلام مستقبل في اليابان، وأن جهود الدعاة وتبرعات المحسنين لو توجهت لأفريقيا مثلا لكانت ثمارها أضعافا مضاعفة، لولا أن سحر الأسطورة اليابانية يجذب إخواننا الخليجيين.
ربما تأكد للخليجيين في لحظة صدق أنه من المستحيل أن يكرروا التجربة اليابانية فتصوروا أن الأسهل هو إدخال أصحابها في الإسلام.. ولم يدركوا أنه أصعب من تكرار تجربة يابانية في الخليج أن يدخل اليابانيون الإسلام.
لا أغلق الباب في وجه رحمة ربي فهو إذا أراد فعل وعطاؤه بغير حدود ودون حساب وفوق كل منطق وأسأله أن يهدي الناس جميعا للإسلام، لكنني أتكلم من باب مؤشرات في الاجتماع الديني.. اليابانيون شعب غارق في الحلولية وتتضاءل عندهم فكرة الإله الواحد حتى تكاد تتلاشى، وهم للأسف أقل فرصة في التأثر بالإسلام؛ فلا هم أهل كتاب كالمسيحيين يمكن أن تبحث معهم عن مشترك لفهم فكرة الإله الواحد، ولا هم وثنيون ممن يدينون بديانات وثنية بدائية من اليسير تجاوزها والتوصل إلى فكرة الخالق الواحد، هم أصحاب خليط من العقائد الوثنية والوضعية والفلسفات الغريبة التي يحتار في مخاطبتها الدليل.
مشاعر حيادية
ما سبق قد لا يكون مهما كثيرا، ويمكن أن ينطبق على كثير من الشعوب والبلدان.. كما أنني يمكن أن أتجاوزه شخصيا لولا أن العلاقة المباشرة تجعلني لا أرتاح كثيرا لليابانيين كما لا أثق كثيرا في صواب ما ينسب إليهم من مآثر!
مشكلتي مع اليابانيين أنني أعتبر أن البشر الحقيقيين هم الذين نحبهم أو نكرههم.. نستطيع تحديد موقف منهم.. بينما اليابانيون يتركون عندي مشاعر حيادية قاتلة... لا أكرههم فعلا.. هم لا يفعلون شيئا أكرههم لأجله.. لكن يستحيل أيضا أن أرتبط بهم عاطفيا.
عرفت يابانيين كثيرا ولم أعتبر أحدهم صديقا أو بمنزلة صديق أو يمكن أن تتطور علاقتي به كصديق.. لم أقابل يابانية أو حتى أراها ولو في التلفزيون، وأشعر أنها إنسانة يمكن أن تحرك عواطفي تجاهها فأحبها أو أعجب بها فضلا عن أن أفكر في الارتباط بها!
لدي مئات الأصدقاء من أنحاء العالم الأربعة، وأعرف مئات الزيجات المختلطة بين شعوب وقبائل بل وأديان مختلفة، ولكن لا أعرف أحدا له صديق ياباني، كما لم أصادف رجلا أحب يابانية! أعرف أن بطل الجودو المصري محمد رشوان تزوج يابانية، لا أعرف بالطبع ملابسات الأمر، لكن أتصور أنه تزوج الجودو في صورة امرأة يابانية!.. الغريب أنني أشعر -وأنا أقدر الرجل كثيرا كبطل قومي- أنه لم يعد مصريا!.. ليس لدي تفسير معين، لكنه إحساس!
كثيرا ما أراقب اليابانيين أثناء سفرهم في بلاد العالم المختلفة ومنها مصر فلا أجد أي ميزة من تلك التي نسمع عنها سوى ما هو ميزات يمكن أن تنسب لغير البشر.
اليابانيون يشتغلون بلا هوادة طوال اليوم بلا انقطاع وأثناء الإجازات.. ما الميزة في ذلك؟ ما الإنساني في هذا؟ أن تشتغل كالماكينات بلا انقطاع ولا تتصور نفسك متوقفا عن العمل؟
روبوت بشري
اليابانيون منظمون حتى في أكلهم وشربهم وسفرهم.. وما الفارق بينهم وبين النحل؟ بل وما الفارق بينهم وبين الآلات؟
نعم، أشعر دائما أنهم أقرب إلى مشروع بشر وليسوا بشرا أو أنهم -وهذا أكثر دقة- النسخة الأخيرة من البشرية حين تكاد تقترب من الماكينات أو حتى تختلط بها!.
نعم هم أقرب لروبوت بشري.. يفعل كل شيء بإتقان ونظام، ويوم أن يخطئ يفترض أن تحل نهايته ويتم التخلص منه.. الفارق أنه هو من يفعل ذلك بنفسه.. ينتحر الموظف أو المدير حين يفشل في مهمته!.. روبوتات مبرمجة على أن تنتحر وقت نهاية كفاءتها!
أنا أحب البشر الذي يصيب ويخطئ، البشر الذي يحب ويكره، ومن ثم البشر الذي يمكن أيضا أن نحبه أو نكرهه.. واليابانيون ليسوا هكذا!
الياباني ليس له أي قدرة على التواصل مع العالم، يعيش الياباني خارج اليابان في عالم خاص، يبني عالمه الذي قد يتسع فيضم كل اليابانيين من فصيلته، وقد يضيق إذا غابوا فيقتصر عليه وحده.. لكنه ليس مؤهلا أبدا للعيش مع الآخرين.
إذا راقبت اليابانيين وهم يسيحون في الأرض ستقع على أطرف مشهد كوميدي يكشف لك كيف أننا نبالغ في تقدير ذكائهم!
الياباني يمكن في أسبوع سياحي واحد أن يزور عدة بلاد! طبعا ليس لقدرات خارقة... فقط لأنه يزور العالم مثلما إنسان ألجأه الملل والوحدة إلى تصفح جريدة أجنبية لا يعرف لغتها!
يتجول اليابانيون في تجمعات سياحية منضبطة تماما، لا تشعر أبدا أنك أمام وفد سياحي يبحث عن المتعة، وقد يأخذه ما يأخذ السائح من إعجاب أو تأمل أو رغبة مفهومة في التحلل من القيود والروتين.. اليابانيون في السياحة مثل خلية النحل.. الانضباط ثم الانضباط.. ثم الانضباط... تبدأ الجولة السياحية بميعاد والانتهاء منها بميعاد.. الأكل بميعاد.. والنوم بميعاد.. البرنامج السياحي غير قابل للتغيير.. التصوير واجب أمام الآثار وفي المتاحف وعند المباني الكبيرة أو الصغيرة أو القديمة أو الجديدة التي يتوقع أن تكون أثرا أو معلما سياحيا!
الجولة السياحية للياباني معروفة مسبقا.. بمجرد أن يأخذ الياباني الصور الفوتوغرافية (دائما هي صور جماعية متبادلة) تنتهي مهمته.. مباشرة يتحرك لمهمة أو لمرحلة ثانية في الجولة السياحية..
ليس بإمكان أحد أن يغير من برنامج الياباني السياحي، الياباني يمشي في برنامجه كالقطار على القضبان.. ولو خرج توت عنخ آمون من مقبرته، فلن يلتفت إليه الياباني ما دام أن وقت زيارته انتهى، والتقطت الصور الفوتوغرافية أمام تابوته.. أو إذا لم تكن زيارته مدرجة في برنامج الرحلة!
قابلتهم في كثير من البلاد ووجدتهم يتصرفون على النحو نفسه... صرت أعرف اليابانيين ليس بوجوههم وأجسامهم المميزة فقط، ولكن بطريقتهم في السياحة والسفر!
يابانيون في سويسرا
أكتب هذا المقال وأنا في مدينة لوزان السويسرية على بعد أمتار من بحيرتها الجميلة.. ثمة مبنى (ظريف لكنه عادي) أمام البحيرة به يعرف بمتحف الأولمبياد.. يوميا أنزل للتمشية على شاطئ البحيرة وأمر على المتحف الظريف الذي بجوار سكني.. يوميا لا بد أن أقابل الوفود السياحية اليابانية وهي بزيارتها التقليدية الثابتة.. تزور المتحف كما لو كان تقليدا دينيا.. نفس الوجوه التي لا تميزها عن بعضها البعض (وهذا لا دخل لهم به بالطبع)، ولكن أيضا نفس التوقيت، ونفس الزيارة، ونفس الخطوات، صور صور صور صور.. طوفان من الصور.. الجولة كلها تصوير أمام هذا المتحف الذي يمكن أن يكون ظريفا، لكنه مجرد مبنى لا يختلف عن أي مبنى في لوزان.. كل مجموعة تأخذ صورة وتتبادل التصوير في مشهد كاريكاتوري غاية في السخف.. وفي خطوات سريعة أشبه بمن يؤدي مهمة عمل يومية.. وما إن ينتهي التصوير حتى يهرع الجميع للانصراف، حيث يصل الأوتوبيس السياحي في وقته بالدقيقة.. تابعتهم يوميا حتى كرهت المتحف والمنطقة وفكرة التصوير نفسها.
كان الأسلوب يستفزني.. ماذا يفعل هؤلاء أمام هذا المبنى يوميا؟ ولماذا يتعامل اليابانيون مع السياحة كالحج الذي لا يجوز أن تبدل في طقوسه أو تنسى؟ وكيف لسائح أن يقطع آلاف الكيلومترات لبلد بجمال سويسرا ليقضي كل الوقت في التصوير؟ وهل يتبقى له من وقت الزيارة ما يسمح برؤية المكان فضلا عن تأمله؟ ولماذا لا يفعل اليابانيون أي شيء إنساني في سياحتهم؟ لماذا لا يمكن أن يغيروا في برنامجهم؟ ولو لمجرد التغيير؟
لماذا لم أقابل سائحا يابانيا وحده؟ لماذا يتحركون بهذا الشكل الكاريكاتوري غير المألوف للبشر؟ لماذا لم أصادف في حياتي وفي أي بلد سائحا يابانيا وحده على مقهى في مواصلة عامة أو في مكان عام؟ فهل يمكن أن يكون هذا جزءا من ثقافة خاصة بالسياحة لا نعرفها؟ أم ربما هي طبيعة خاصة بهم؟.. هل فعلا اليابانيون أذكياء؟ لقد صرت أشك.
وحدها السيدة العجوز التي كنت أتلقى منها دروس الإنجليزية كل صباح في لوزان من كان لها الجرأة في أن تعتقد مثلي: اليابانيون ليسوا بالذكاء الذي الشائع عنهم! هكذا قالت.
قالت لي إن الياباني يمكنه أن يزور كل أوروبا في ثلاثة أيام فقط!، وإنه لا يرجع من جولاته السياحية الكثيرة شرقا وغربا إلا بألبومات صور ضخمة كانت لن تكلفه كثيرا لو أرسل في شرائها من شركات السياحة والسفر، وساعتها كانت ستكون أكثر جودة!
وأنا أكتب هذا المقال قرأ صديقي، وهو باحث في علم الاجتماع، بعضا من سطوره وعرف بفكرته.. في البداية أخذ يحذرني من أنه قد يعتبره البعض نوعًا من العنصرية، لكنه لما تخلى عن دبلوماسيته السويسرية، وشاركني رأيي أهداني نكتة سويسرية رأيت أنها تصلح خاتمة لمقالي: عاد ياباني إلى بلده بعد رحلة سياحية إلى سويسرا، فسأله أصدقاؤه: كيف هي سويسرا.. فأجاب: لا أعرف.. لم أَرَ الصور التي التقطتها بعد!