الفضائيات الدينية.. هل نحن بحاجة إليها؟
كاتب وصحفي مصري
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
لا أعتقد أننا بحاجة لكل هذه القنوات الدينية التي صارت تتوالد كالفطر! فدعوة الناس إلى الهداية لا تكون بفتح هذا النهر الجارف من الوعظ الديني طوال اليوم أو استمطار دمعاتهم في الأدعية الماراثونية التي تشبه لطميات الشيعة في عاشوراء، وردّهم إلى شرع الله لا يكون عبر إدخالهم في متواليات فقهية غارقة في التفاصيل تبدأ من قضايا الاستنساخ ولا تنتهي عند "تزغيط البط"، وهو الموضوع الذي شغل مؤخرا أحد الفقهاء، فكتب (تزغيط البط.. رؤية فقهية)! فكثرة الوعظ الديني ليست دليل تدين أو عافية، كما لا أتصور أن بالإمكان إدارة حياة الناس بأدلة فقهية كأدلة تشغيل الأجهزة الكهربائية!
السلف الصالح
لمن يرون في كثرة الوعظ والأدعية الباكية بل الصارخة فائدة أنبه إلى أن هذه الظواهر لم تعرفها الأمة إلا في عصور التدهور والانحطاط، وأن السلف الصالح كان يرفض شيوع الوعظ أو الخروج على السنة في الدعاء وأمور التعبد التي كان يحكمها التوجيه الإلهي {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا للهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا}[سبأ:46].
تروي أم المؤمنين عائشة فتقول: "كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتخوّلنا بالموعظة مخافة السأم"، وسأله رجل نصيحة لا يسأل بعدها أحدا فقال صلى الله عليه وسلم: "قل آمنت بالله ثم استقم"، أما عبد الله بن عمر فكان يحفظ عشر آيات ولا ينتقل لغيرها حتى يعمل بها.
أتصور أن فلسفة الدعوة الإسلامية كما سنّها الرسول صلى الله عليه وسلم وطبقّها صحابته الكرام وسلف الأمة الصالح كانت تميل إلى الاقتصاد في الوعظ والحذر من التوسع في إشاعة المعلومات الدينية، خاصة بين غير المؤهلين لها وعوام الناس عموما، ولم تكن تفضل إغراق الناس في تفصيلات فقهية وعقائدية يمكن أن تضر أكثر مما تنفع.
كان على بن أبي طالب شديد الرفض للوعاظ المحترفين الذين لا همّ لهم إلا الوعظ ليلا ونهارا، وكان الخلفاء يمنعونهم من اعتلاء المنابر.
وتصدى سلف الأمة بشدة لظاهرة الـ"أرأيتيين" أصحاب: "أرأيت لو" الذين يفترضون مسائل وقضايا لم تقع ويضعون لها الفتاوى، أما مالك إمام المدينة فقد جاءه متنطع في مجلسه وبين المصلين يسأله عن معنى الاستواء في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}[طه:5] وهي مسألة شائكة في علوم التوحيد فأجابه بغضب: الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة.. ثم التفت إليه قائلا: وأراك رجل سوء.. وقال للناس: اصرفوه عني!
لا يمكن أن الرسول صلى الله عليه وسلم، بأبي هو وأمي، أن يقتصد في الوعظ ويتوسع وعاظ الفضائيات.. ولا يمكن أن يخشى أن يثقل على صحابته فيصيبهم بالملل، وهو أحب الناس وأكرمهم، ولا يشعر شيوخ الفضائيات بأي حرج ويستمرون في الوعظ على مدار اليوم!
ثم من قال إن حياة الناس يمكن إدارتها بدليل فتاوى لا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا أجاب عنها وبالتفصيل؟ لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يرفض كثرة الأسئلة ويقول: "ما نهيتكم عنه فاجتبوه، وما أمرتكم به فائتوا منه ما استطعتم، وما سكت عنه فهو عفو وليس نسيانا ويردد (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا)".
وعاظ الفضائيات
والمفارقة ليست فقط في كون معظم هؤلاء الوعاظ والمشايخ لم يتخرجوا من كليات شرعية ولم يتخصصوا في العلوم الإسلامية، بل في كون غالبيتهم درس الطب والهندسة والاقتصاد والتجارة.. ثم سلك طريق الخطابة والوعظ وترك التخصصات العلمية.. فلا هم تحولوا إلى علماء شرع يمكن أن يضيفوا للمعرفة الإسلامية شيئا جديدا ومفيدا، غير أشرطة الوعظ خفيفة الوزن والقيمة، ولا هم بقوا يخدمون الناس فيما يعود عليهم بالنفع.. فيا لخسارة ما بذله أهلوهم والمجتمع والدولة في تعليمهم وتأهيلهم!
أليس غريبا –مثلا- أننا لم نستفد في علوم الجيولوجيا شيئا من د.زغلول النجار الذي حصل فيها على الدكتوراه ثم تركها ليحدثنا في علوم التفسير فلا يزيد عن أن القرآن معجزة وبه معجزات؟! لماذا لا يرعى زغلول النجار فريقا من شباب الباحثين في الجيولوجيا وعلوم البحار ويتبناهم علميا ويبحث لهم عن دعم ولمشروعاتهم عن تمويل، وهو قادر على ذلك، بدلا من أن يزيد لنا يوميا العشرات في طابور باحثي وواعظي الإعجاز العلمي الذي لا يضيف شيئا للإسلام والمسلمين، هذا إذا سكتنا عما بهذه الفكرة من أخطاء بل خطايا!
إن الأمة الآن تعاني فائضا وليس نقصا في المعلومات الدينية حتى نبث لها كل يوم قناة دينية جديدة وتنافسها الأخرى في زيادة البرامج الدينية، وإن ما يعرفه مسلم اليوم أكثر وربما أضعاف ما كان يعرفه معظم صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم!
إن ما نحتاجه اليوم هو تحويل معارفنا إلى طاقة فعل لبناء الأمة وليس تحويل المعرفة الدينية إلى ما يشبه الكلمات المتقاطعة التي كان يتسلى بها الموظفون والراغبون في ملأ الفراغ قبل أن يكتشفوا عالم الفضائيات الدينية الأكثر جذبا وتشويقا وقدرة على ملأ الفراغ!
إن الفضائيات الدينية مثل غيرها استثمار وبيزنس يقوم على فكرة الترفيه والتسلية ولا يهدف بالضرورة إلى تغيير السلوك وبناء المسلم العصري، كما أنها نذير شؤم يوشك أن يقطع علاقة الناس بالمساجد بعد أن صارت الوجبات الدينية تأتيهم للبيت (تيك أواي!).
وأخيرا؛ فمن العبث أن أكتب ما سبق ليفهم البعض أنها دعوة لإغلاق قناة أو منع واعظ، ومن المأساة أن يغمز آخرون بأنني سكت عن قنوات الفيديو كليب وتفرغت لنقد القنوات الدينية.. لكن لأن الحال على ما نعرفه فقد لزم التنويه.