الاحتفال بالألفية الثالثة عولمة الرموز والطقوس
صحفي وكاتب مصري
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
مع اقتراب هذا العام من نهايته تتسارع الاستعدادات للاحتفال بحلول الألفية الثالثة على ميلاد المسيح -عليه السلام-. ورغم أن البداية الحقيقية للألفية تأتي مع اليوم الأول من شهر يناير لعام 2001م؛ إلا أن الذي شاع واستقرّ في الأذهان أنها سوف تبدأ في يناير القادم (سنة 2000م).. وعلى كلٍّ: ليست هذه هي القضية التي تستحق كثيرًا من النقاش، كما لم يعد مجديًا إثارتها أو الحديث عنها بعد أن بدأ العالم كله فعليًّا في الاستعداد لإقامة الاحتفالية في منتصف ليل اليوم الأخير من ديسمبر القادم.
وأهم ما يلفت النظر في هذه الاحتفالية "المنتظرة" أن الاستعدادات الخاصة بها أخذت طابعًا عالميًّا، حتى صارت أشبه ما تكون بالظاهرة الكونية التي لا تترك أحدًا بمنأى عنها -وعيًا واهتمامًا واستعدادًا-، تمامًا كما حدث في ظاهرة الكسوف التي شهدها العالم مؤخرًا؛ والتي شهدت توحّدًا عالميًّا في استقبال الظاهرة والطقوس المصاحبة لها، ربما كان الأول من نوعه وإن كان المُحقق أنه ليس الأخير. وعلى الأرجح فإننا سنشهد في الأيام القادمة ما يمكن أن يُطلق عليه "عولمة" للظواهر الكونية؛ ليس في ذاتها -التي هي بطبيعتها عالمية-، وإنما في الاستعدادات والإجراءات والطقوس التي تُصاحبها، بحيث تصبح ذات صبغة عالمية واحدة لا تختلف من مكان لآخر، حتى تكاد تتماثل مع الظاهرة الكونية نفسها في توحدها وعالميتها، وهو ما لم يكن يحدث قبل ذلك؛ إذ كانت هناك خصوصيات تسمح بالتفرع والتعدد والاختلاف في التعاطي مع أي ظاهرة بما فيها الظاهرة الكونية نفسها.
هذا ما يحدث فعلاً في الاحتفالية الخاصة بحلول الألفية الثالثة؛ والتي تمثل نموذجًا معبِّرًا للعولمة؛ التي تنتقي رموزًا وطقوسًا خاصة بكتلة حضارية معنية -هي الغرب تحديدًا في حالتنا هذه-، وتفرضها على العالم كله وكأنها رموز وطقوس عالمية بالفعل، حيث يصير الغرب مركزًا للعالم يفرض عليه ثقافته وتاريخه بما فيه من رموز وطقوس، ويفرض على الآخرين إعادة قراءة ورؤية أنفسهم في ضوء معطيات التاريخ والثقافة الغربية دون اعتبار لخصوصياتهم الحضارية؛ التي تهدرها العولمة أو تحوّلها -على الأقل- إلى "فلكلوريات" بجانب عالمية هذه الرموز والطقوس!
فكرة "الألفية" نفسها فكرة مسيحية غربية بالأساس، وتحتل مكانة بارزة في الفكر المسيحي الغربي، وتعود بدايتها إلى أكثر من عشرة قرون كاملة. ويُعد القديس أوغسطين أول من أطلقها حينما أكد منذ أكثر من ألف عام مجيء المسيح -عليه السلام- للدنيا المجيء الأخير بعد ألف عام كاملة من مولده؛ ليأخذ شعبه إلى رحمة الله المنقذة. وهي الفكرة التي تولّدت عنها نبوءة نهاية العالم بعد ألف عام من مولد المسيح -عليه السلام-، وقد روَّج لها القساوسة الكاثوليك حينها، واستغلوها أسوأ استغلال لدفع المسيحيين الغربيين للمشاركة في الحروب الصليبية لإقامة مملكة المسيح في أرض فلسطين، مستغلين في ذلك المشاعر الإيمانية الجياشة وجو الشائعات والخرافات التي تتحدث عن قرب القيامة؛ وهو ما ألهب المشاعر المسيحية لدى الأوربيين، وظهر أثره في عشرات الحملات الصليبية التي توجهت إلى العالم الإسلامي لنهب ثرواته بزعم استعادة بيت المقدس تحت لواء الصليب.
والغريب أن هذه الفكرة تجد لها الآن أنصارًا كثيرين في العالم الغربي؛ خاصة من أتباع الصهيونية المسيحية؛ التي تنادي بنهاية العالم وحدوث "القيامة" مع نهاية الألفية الثانية. وتأثير هذه الأفكار آخذ في الازدياد مع اقتراب نهاية الألف الثانية، وتكثر الجماعات الدينية المسيحية التي تعتنقها في الغرب. وكثيرًا ما تتسبب هذه الأفكار في حوادث قتل أو انتحار جماعية مثلما حدث في مذبحة "داكو" التي قُتل فيها عدد كبير من المسيحيين الألفيين بإحدى المزارع في ولاية تكساس الأمريكية، ومذبحة "جوايانا" التي شهدت كارثة الانتحار الجماعي لأتباع القس جونز، وتكثر الجماعات التي تتبنى مثل هذه الأفكار في الغرب؛ وأبرزها "جماعة الحق الأبيض"، و"جماعة الحقيقة المطلقة"، وجماعة "فييناس".. وغيرها من الجماعات التي ينضوي تحتها عشرات الآلاف من الشباب "الألفيين"، وقد ازداد نشاطها وانتشارها في الفترة الأخيرة؛ خاصة مع تزايد حدوث الزلازل والكوارث الطبيعية في أنحاء متفرقة من العالم، وهو ما تراه نذيرًا بقرب نهاية العالم، والتي ستكون القيامة فيها حربًا نووية عالمية! الغرب إذن يُعيد إنتاج أفكاره -أو بالأحرى خرافاته -مرة أخرى، في نهاية الألفية الثانية، ولكن بعد تداولها وعولمتها؛ بحيث تتعدى حدوده لتأخذ طابعًا عالميًا هذه المرة.
ومن المفارقات توظيف الأبعاد والخلفيات الدينية للمناسبة في أهداف استعمارية تمامًا كما حدث في نهاية الألفية الأولى، فإذا كانت نهاية الألفية الأولى قد وُظِّفت في تعبئة الغرب المسيحي لاحتلال فلسطين والسيطرة على بيت المقدس من خلال الحملات الصليبية، فإن ختام الألفية الثانية يُستغل أيضًا في كثير من الأوساط الغربية لتدعيم الوجود الإسرائيلي بفلسطين والاعتراف بالقدس عاصمة أبدية لإسرائيل؛ حيث تنتشر بين الإنجيليين البروتستانت من أتباع الصهيونية المسيحية -وهي النخبة الحاكمة في الولايات المتحدة الأمريكية- فكرة ضرورة تسليح أعداء الرب (اليهود) تعجيلاً بقيام المسيح ونهاية العالم، وهو ما تتم ترجمته في تكثيف المساعدات العسكرية لإسرائيل وحشد الجهود للاعتراف بالقدس عاصمة لها.
جذور التقويم الميلادي
إن التقويم الذي تقوم عليه الاحتفالية -وهو التقويم الميلادي- يؤكد ذلك؛ فالتقويم الميلادي الذي يبدأ بميلاد المسيح -عليه السلام- مرتبط جذريًا بالحضارة الغربية المسيحية، ويحاول الغرب فرضه عالميًا (عولمته)؛ لا باعتباره داخلاً ضمن تقاويم أخرى، بل باعتباره التقويم الأوحد الذي ينبغي أن يصبح مركزًا تاريخيًا للعالم يعيد قراءة تاريخه وَفْقَه ومن خلاله؛ باعتباره "التاريخ المشترك العام" بالتعبير الغربي، متجاهلاً وجود تقويمات أخرى غير التقويم الميلادي تمثّل حضارات غير الحضارات الغربية لها طقوسها ورموزها الخاصة التي تختلف تمامًا عن تلك التي يحاول الغرب عولمتها. فهناك التقويم الصيني وهو رغم كونه تقويمًا شمسيًا -كالتقويم الميلادي- إلا أنه له دلالاته الحضارية الخاصة بالشعوب الصينية؛ فهو يبدأ في منتصف شهر فبراير الذي يمثل بداية نشأة الحضارة الصينية كما تزعم أسطورة "الإمبراطور التنين". وهناك التقويم العربي الهجري؛ وهو تقويم قمري ارتبط بالطبيعة العربية التي يمثل فيها القمر محورًا لحياة السفر والترحال التي كانوا يعيشونها، وبدايته مرتبطة أيضًا بحادث هجرة رسول الإسلام محمد -صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى المدينة وتأسيس الدولة الإسلامية الأولى، ومن ثَم فهو يحمل دلالات دينية وحضارية تهم المسلمين في أنحاء العالم كله -بما فيه الغرب أيضًا-. وهناك التقويم الجيني الذي تتبعه الشعوب الهندية؛ والذي يبدأ مع بدء الخليقة الأولى كما تزعم الأساطير الهندية. وهناك أيضًا التقويم المصري القديم الذي يرتبط بنجم "الشِّعْرَى" اليمني؛ والذي يعد أصلاً للتقويم القبطي المعروف الآن. وهناك التقويم العبري الذي يؤرخ ببداية نزول التوراة. وتقويمات أخرى ليست على نفس الحظ من الشهرة. لكنها جميعًا تمثل رموزًا حضارية لها خصوصيتها التي لا ينبغي أن تضيع تحت وطأة التحيّز الغربي للتقويم الميلادي ومحاولة "عولمته"؛ هذا التحيز الذي يبدو واضحًا ليس في اعتماد التقويم الميلادي كتقويم أوحد للعالم، بل وفي داخل التقويم نفسه.
إذ يعتمد الغرب التقويم "الجريجوري" الكاثوليكي الغربي فقط، ويتجاهل تمامًا التقويم "الليلياني" الأرثوذكسي رغم أن كليهما ينتمي إلى الرمز نفسه -ميلاد المسيح-، وهو ما يعني أننا بإزاء رؤية ترفض التنوع والاختلاف حتى داخل الإطار الحضاري الواحد.
ورغم أن الاحتفاليات المنتظرة تتصل بمناسبة دينية وهي ميلاد السيد المسيح -عليه السلام- إلا أنها أسقطت الجوانب والأبعاد الدينية للمناسبة؛ فلم تعر جانبًا من الاهتمام لقيم التسامح والرحمة التي جاء بها المسيح، والتي تتمسح بها الحضارة الغربية، فجاءت لتجسد قيماً مادية واستهلاكية خالصة كما يبدو من مظاهرها التي تكاد تخلو من أي مضمون ديني؛ حيث تركز على الجانب الدعائي الاستهلاكي بعد أن تم توظيفها لأغراض نفعية وتجارية بحتة.