الرأي العام الإسلامي ومنع المآذن في سويسرا
باحث وصحفي مصري
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
في الأول من مايو 2007، أطلق تيار في حزب الشعب المسيحي (يميني متشدد) في سويسرا مبادرة لتضمين مادة في الدستور تمنع بناء المآذن باعتبارها لا تمثل مطلبا تعبديا بقدر ما تمثل رمزا للشريعة التي تخالف في نظرهم القانون السويسري.
ووفق الذين أطلقوا المبادرة فإن المآذن تمثل السيوف والقباب ترمز لخوذات المصلين فيما المصلون هم المقاتلون أنفسهم.. وأن الأرض التي بها مئذنة هي أرض للفتح الإسلامي!
ويسمح الدستور السويسري بالاستفتاء الشعبي لتعديل بعض مواده ولكنه يرهن ذلك بجمع 100 ألف توقيع لطرح أي مبادرة على الاستفتاء، وهو ما استطاع أصحاب المبادرة إنجازه بعد جمعهم أكثر من 113 ألف توقيع يرفض أصحابها بناء المآذن باعتبارها تمثل تهديدا بأسلمة البلاد، ومن المقرر أن يتم الاستفتاء شعبيا على المبادرة نهاية نوفمبر المقبل 2009.
ما يلفت النظر في الجدل الدائر حول هذه المبادرة هو ردود الأفعال في العالمين العربي والإسلامي والتي اتسمت على غير السائد في كل الأزمات التي تتصل بقضايا تمس الإسلام دينا أو هوية، بغير قليل من الهدوء والتعقل ومحاولة الفهم.
لكي نفهم هذا الوضع الذي يبدو استثنائيا لابد أن نستحضر الإحساس العارم بالغضب والمهانة الذي طالما سيطر على المسلمين في كل الأزمات التي كان طرفها الغرب وتعلق موضوعها بالإسلام.
قبل سنوات خرجت المظاهرات بطول العالم الإسلامي وعرضه ضد دولة الدنمارك التي أصبحت -وفق عدد من استطلاعات الرأي- في صدارة الدول الأكثر عداء للإسلام والمسلمين متساوية مع الولايات المتحدة حينا ومتقدمة عليها في بعض الأحيان، بعدما كان ينظر إليها كدولة صديقة أو على الأقل محايدة، حدث ذلك بعد أن نشرت صحيفة دنماركية محدود الانتشار مجموعة من الرسوم الكاريكاتيرية المسيئة للإسلام ولشخص الرسول محمد.
لقد أدى نشر الرسوم الكاريكاتيرية والإصرار عليها إلى مظاهرات ضخمة وحملات مقاطعة للبضائع الدنماركية بل إعلان الجهاد الذي ترجمته اعتداءات متفرقة على بعض سفارات الدنمارك في عدد من البلدان العربية والإسلامية، ومازالت تداعيات الحدث مستمرة بعد أكثر من أربع سنوات، وما زالت المشاعر السيئة والسلبية تسيطر على نظرة المسلمين تجاه الدنمارك.
شيء قريب من ذلك تكرر مع هولندا بعد فيلم مسيء للإسلام للنائب البرلماني المتطرف جيرت فيلدرز أصر على عرضه في إحدى المناسبات الدينية الإسلامية.
فرنسا أيضا دخلت في قائمة الدول الأكثر عداء للإسلام بعد أن أصدرت قانونا يمنع المحجبات من دخول المدارس والجامعات بالحجاب، ثم بدأت في طرح نقاش واسع حول إمكانية الحظر القانوني للنقاب والبرقع من على الأراضي الفرنسية تماما.
ولحقت بها ألمانيا بعد أن قام أحد مواطنيها بقتل سيدة مسلمة وإصابة زوجها طعنا بالسكين في قاعة إحدى المحاكم التي لجأت إليها السيدة من أجل منع هذا المتطرف العنصري من التعرض لها وإهانتها بسبب حجابها.
في كل هذه الحالات اتسم رد الفعل الإسلامي بتشدد وصرامة بل تصعيد مبالغ فيه أحيانا؛ فيما كان الأمر مختلفا مع حالة المبادرة السويسرية التي ليس من الصعب وضعها في سياق موجة الإسلاموفوبيا التي دائما ما تواجه في العالم الإسلامي بمثلها وأضعافها.
وحين نفكر في أسباب اختلاف رد الفعل الإسلامي على مبادرة حظر المآذن في سويسرا عن مثيلاتها من قضايا التعرض للإسلام والمسلمين في أوربا يمكن أن نرصد جملة أسباب أتصور أن أولها ومدخلها هو الطريقة التي تعرف بها العالم العربي والإسلامي على القضية والتي كانت مسئولة إلى حد كبير عن هذا الموقف الاستثنائي من العالم الإسلامي في مواجهة قضايا الإسلاموفوبيا في الغرب.
كان القسم العربي في موقع سويس أنفو الإخباري السويسري الرسمي هو النافذة الأولى والأهم التي أطل العالم العربي والإسلامي منها على قضية مبادرة حظر المآذن، وكانت منهجية الموقع وأسلوبه في تغطية القضية مسئولة كثيرا عن الطريقة التي استقبل بها الرأي العام العربي والإسلامي القضية وتفاعل معها، خاصة أن الغالبية العظمي من المنابر الإعلامية العربية اعتمدت بشكل شبه تام على ما نقلته سويس أنفو.
كانت سويس أنفو دقيقة في التغطية التي قدمتها للحدث؛ فالمبادرة ليست رسمية كما يظهر في كل ما تنشره بل هي مبادرة من بعض المنتمين للتيار اليميني المتشدد، والمتابعة الخبرية تؤكد باستمرار على أن الموقف الرسمي بل الشعبي العام هو ضد المبادرة.
تتبع التغطية الإخبارية للموقع يؤكد أن قدرا كبيرا من الإحساس بالمسئولية مع التزام المهنية كان مسئولا عن أن الرسالة التي وصلت للقارئ العربي كانت في مجملها إيجابية، وهو ما قد يظهر بوضوح لو تتبعنا عناوين التقارير والتحقيقات التي نشرها الموقع وفق ترتيب زمني في أقل من عام:
"مبادرة حظر بناء المآذن في سويسرا تثير رد فعل حكومي استثنائي" (بتاريخ 8 يوليو 2008)
"مبادرة حظر المآذن غير مسئولة" ( بتاريخ 14 يوليو 2008).
"مجلس النواب يوصي الناخبين برفض حظر المآذن" (بتاريخ 5 مارس 2009)
"أغلبية واضحة ترفض المبادرة الداعية إلى حظر المآذن" (بتاريخ 28 أبريل 2009)
"مجلس الشيوخ يرفض مبادرة حظر المآذن والقرار النهائي بيد الناخبين" (بتاريخ 5 يونيو 2009)
"الموافقة على مئذنة خامسة في سويسرا" (بتاريخ 3 يوليو 2009)
"مبادرة حظر المآذن عودة مؤسفة إلى عصر الصراعات الدينية" (بتاريخ 7 يوليو 2009).
وكلها -كما نرى- عناوين مباشرة توصل رسالة صريحة للقارئ العربي وهي أن الموقف الشعبي والرسمي هو ضد هذه المبادرة التي لا تمثل سويسرا، ولا يتردد الموقع إبان أزمة الرسوم الدنماركية في نشر تقرير يحسم موقف الحكومة الفيدرالية الرافض للرسوم بعنوان لا لبس فيه: "إثارة مشاعر المسلمين أمر غير مقبول" (بتاريخ 13 فبراير 2008 ) وهو وإن كان يتصل بقضية أخرى فإنه لا يقرأ إلا في سياق طبيعة الرسالة التي يريد الموقع توجيهها للرأي العام العربي والإسلامي.
وقد أثّرت هذه المقاربة الإعلامية الواضحة في المقاربة الإعلامية العربية التي اعتمدت بقدر كبير على التغطية السويسرية للأزمة وتأثرت أيضا بروحيتها، ويمكننا، بقدر مقبول من التعميم، القول إن التغطية الإعلامية العربية وحتى مقالات الرأي اتسمت بدقة نقل تفاصيل الأزمة وبروحية التهدئة والتعقل وتكاد تكون خلت من أي نزعة للإثارة أو التعبئة ضد سويسرا.
على سبيل المثال فإن موقع "إسلام أون لاين.نت" يعد أهم المواقع ذات الطابع المرجعي في مثل هذه القضايا نظرا لما يمثله من مرجعية إسلامية تتمتع بالمصداقية ويتبعها جمهور عريض (يتصدر المواقع الإسلامية عالميا)، وكذلك في كونه أقرب لوكالة أنباء تنقل عنها الصحف ووسائل الإعلام العربية فيما يتصل بمتابعة شئون المسلمين التي يتميز بها.
ولو راجعنا ما نشره الموقع عن الأزمة فسنجده يلتزم الدقة سواء في نقل المعلومات أو في رسم طبيعة الأزمة وكون المبادرة لا تعكس ظاهرة معتبرة في المجتمع السويسري، فضلا عن أن تمثل توجها في الدولة ومؤسساتها، فالقضية افتعلها اليمين (يمين سويسرا يدعو لحظر المآذن - بتاريخ 17 يونيو 2007)، وموقف الحكومة الفيدرالية متعاطف مع المسلمين (حكومة سويسرا تتمسك بالمآذن ومسلموها يرحبون - بتاريخ 9 يوليو 2008).
كما أن المؤسسات التشريعية أيضا كلها ضده (بعد رفضه في مجلس النواب قبل عدة أشهر.. الشيوخ السويسري يرفض حظر المآذن- بتاريخ 6 يونيو 2009).
بل إن المجتمع الحقوقي الغربي ضد المبادرة (العفو الدولية تنتقد سعي يمين سويسرا لحظر المآذن- بتاريخ 28 يونيو 2009).
إن تغطية إعلامية دقيقة ساهمت في بقاء الأزمة في حدودها الحقيقية كتعبير عن تيار يعيش حالة الخوف من الإسلام ويسكنه هاجس التنامي الديموغرافي المتسارع للمسلمين (قفز عدد المسلمين في سويسرا عدة مرات في أقل من ثلاثين عاما من نحو 30 ألفا إلى 350 ألفا من أصل 7.5 ملايين مواطن أي نحو 4.5% من تعداد السكان)، لكنه يبقى في النهاية تيارا ضعيفا لا يمثل الشارع السويسري، كما أنه لن ينال بسهولة من تقاليد الحرية الدينية والتعايش والقدرة على إدارة التعددية الدينية التي تمتعت بها مؤسسات الدولة في سويسرا وعلى أساسها حظيت بمصداقية عالية في العالم العربي والإسلامي لا تتوفر- تقريبا- لغيرها من الدول الأوروبية.
إن ردود الفعل العقلانية غير المتشنجة من العالم العربي والإسلامي وعدم ميله لوضعها ضمن تيار كراهية الإسلام والخوف منه المتصاعد في كل أوروبا كان سببها إدراك طبيعة الأزمة وحجمها وحدودها، فالأزمة جاءت من الهامش السياسي في سويسرا بعكس فرنسا مثلا التي جاءت فيه الأزمة من قلب المركز السياسي بما بدا معه الأمر كمواجهة شاملة من الدولة الفرنسية كما في قضية حظر الحجاب عام 2004 أو في النقاش المثار الآن بصدد الاتجاه لحظر النقاب والبرقع من فرنسا.
مبادرة حظر المآذن في سويسرا دعا إليها حزب هامشي (حزب الشعب المسيحي اليميني) بل تيار هامشي داخل الحزب وليس الحزب كله، في حين قوبل بمعارضة ورفض حاسمين من كل الأحزاب السياسية الكبرى: الحزب الاشتراكي الديمقراطي رفضها بحسم، والحزب المسيحي الديمقراطي قال إنها بلهاء وخطيرة ومخالفة للدستور، والحزب الليبرالي الديمقراطي رأى فيها قمعا.. بل إن مؤتمر الأساقفة (المسيحي) رفضها من دون تردد.
لقد سارعت الحكومة الفيدرالية بإعلان رفضها الحاسم للمبادرة باعتبارها ضد مبادئ الحرية الدينية التي يكفلها الدستور، دون أن تنتظر لترى مسار المبادرة وطريقة استقبال الشارع لها.
أما مجلس الشيوخ فقد أوصى، بأغلبية 36 في مقابل 3 فقط، برفض مشروع المبادرة ورأى فيه تعارضا مبدئيا للتسامح وحرية الاعتقاد، وكان قد سبقه مجلس النواب إلى الرفض، بما يعني أن مجمل السلطة التشريعية انحازت مبكرا ومبدئيا ودون لبس لمصلحة المسلمين ولم تترك مجالا للتأويل أو التردد.
لقد كانت الصورة جلية للرأي العام العربي والإسلامي أنها مجرد مبادرة من مواطنين عاديين فيما وقفت الحكومة الفيدرالية بحزم ضدها رغم أنها اضطرت في النهاية للتعامل معها بطريقة قانونية، بل إن نقد المبادرة أول من قام به السويسريون أنفسهم، فيما لم تأل الدولة جهدا في بيان عدم مسئوليتها عن الأزمة ورغبتها في ألا يؤثر على علاقاتها بالمسلمين والعالم الإسلامي، بل أصدرت ولاية "برن" قراراها بالموافقة على بناء المئذنة الخامسة قبل حسم أمر المبادرة شعبيا تأكيدا على رفضها القاطع لهذه التوجهات.
أما في الحالة الفرنسية، مثلا، فقد جاءت الإسلاموفوبيا من قلب النخبة السياسية الفرنسية، ففي المرة الأولى قاد "نيكولاي ساركوزي"، حين كان وزيرا للداخلية، قضية حظر الحجاب في المؤسسات التعليمية ثم دعا هو نفسه حين صار رئيسا لمنع النقاب والبرقع، وبدا في كلتا الحالتين أنه تعبير عن مزاج عام في النخبة السياسية الفرنسية كما لو كان قرار الدولة الفرنسية نفسها.
قريب من هذا الأمر في أزمة الرسوم الدنماركية التي انتهت إلى ما يشبه صراعا حضاريا انحازت فيه النخبة الدنماركية حتى قمة الهرم السياسي، بدفاعها عن الرسوم الكاريكاتيرية، إلى ما رأت أنه حرية الرأي والتعبير حتى إن أساءت لمشاعر المسلمين.
ويبدو أن طبيعة المشكل نفسه كان مسئولا عن اختلاف رد الفعل، فالمبادرة ترمي إلى تعديل دستوري لا يترتب عليه فعل مباشر يؤثر على حرية الاعتقاد أو حق الممارسة الدينية بشكل صريح؛ فهو متوجه لمنع بناء المآذن وليس لمنع بناء المساجد مثلا، المساجد بدورها قليلة جدا، ولا يتجاوز عدد ما يشتمل منه علي مئذنة الأربعة فقط، وليس في الأفق طموح عام للتوسع في بناء مآذن، بل لربما كانت المشكلة في غياب ولو مصليات صغيرة تسع التنامي الديموغرافي للمسلمين.
لم تكن قضية المآذن مطروحة أصلا على جالية أقل في مؤهلاتها وتنظيمها من أن يكون لديها ترف الاهتمام بمسألة يمكن النظر إليها باعتبارها تتصل في جزء كبير منها بمعمار المساجد وليس وجودها.
وجهة نظر أصحاب المبادرة أن المئذنة مجرد رمز للشريعة وليست مطلبا للتعبد، وأنها ليس لها طابع ديني، ولا تؤثر على الشعائر، ولم يتم ذكرها في القرآن أو أي نصوص شرعية، وهو أمر يتقاطع مع نظرة البعض في العالم العربي والإسلامي ممن لا يدركون أن حرية ممارسة العبادة تكون في أماكنها ووفق الشروط التي يراها أبناء هذه الديانة وليس خصومهم أو غيرهم من أبناء الديانات الأخرى.
المفارقة أن وجهة النظر هذه ربما ستتقاطع مع قطاعات واسعة من التيار السلفي المتنامي والذي لا يولى كثيرا من العناية لعمارة المساجد بل ربما نظر إليها أو إلى المبالغة فيها (ومن ذلك المآذن) نظرة استرابة وتبديع.. فالمآذن ليست من ضرورات المسجد عنده، وهي، في النظرة السلفية، ربما كانت قرينة البدعة التي دخلت على المسلمين وصرفتهم عن مقصود الصلاة وجوهر العبادة، إنها مفارقة أن يتقاطع تيار الإسلاموفوبيا في سويسرا مع قطاعات واسعة من السلفية في النظرة إلى قضية المآذن، وهو ما يفسر ولو جزئيا لماذا لم يتحرك التيار السلفي الواسع الانتشار والعميق التأثير في الحالة الإسلامية ضد هذه المبادرة!
أيضا لم تكن المبادرة، على ما تؤشر عليه من رفض للحضور الإسلامي، موجهة للمسلمين ومصالحهم الحياتية بقدر ما كانت موجهة لرمز يتعلق بالثقافة الإسلامية نفسها دون أن يترجم لتمييز عملي على مستوى العمل أو التعليم أو التعبد أو أي من حقوق المواطنة، إنها حالة من الإسلاموفوبيا تتوجه -بحسب الباحث أوليفييه موس- إلى الإسلام فقط وليس المسلمين، وهو ما جعل رد الفعل أكثر هدوءا وأقل توترا.
وحتى وهي تتعرض لرمز إسلامي تسعى المبادرة لمصادرته وترفض وجوده فهي لا تتعرض لمشاعر المسلمين بشكل مباشر كما في قضية الرسوم الكاريكاتيرية التي تصدم أي مسلم يطالعها وتلاحقه أينما راح وتؤرق ضميره وقتما تذكرها، وتدفع به للتعبير الصريح والسريع عن غضبه بحيث لابد سيشعر بالذنب إذا ما فضل ردود فعل أكثر تريثا وعقلانية، إن مبادرة ترمي لمنع بناء مئذنة كجزء في عمارة مسجد لا تتطرق المبادرة من قريب أو بعيد لما يعرقل بناءه، ليست كمثل كاريكاتير ساخر يتعرض لنبي الإسلام ويسخر منه على ما يمثله الرسول من مركزية في الضمير والوجدان المسلم.
الاخبار اللبنانية