21 كانون1 2006
قراءة في موقعة بابا الفاتيكان!
باحث مصري في الشأن الإسلامي
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
في البداية ،وقبل أن يطول الحديث فينسي بعضه بعضا، أتصور أن الجميع مطالبون بالتأكيد علي حق التنوع الديني وما يفرضه من جدل وخلاف عقائدي بين أصحاب الديانات، وكذلك الإقرار بالحق في التعبير عن هذا الاختلاف. وأنه مثلما يحق لنا رفض عقائد الآخرين وانتقادها فإن من الإنصاف الإقرار بهذا الحق لبابا الفاتيكان وأي مسيحي بل وأي إنسان لا يؤمن بالإسلام أن يختلف عقائديا مع الإسلام وأن تكون له رؤية نقدية أو مؤاخذات جزئية عليه، بل أتصور أن هذا هو الطبيعي وإلا لكان مسلما... شريطة ألا يترجم ذلك في مواقف أو سياسات عدائية تجاه الإسلام وأهله.
يبدو هذا المدخل ضروريا لأي نقاش في الجدل المحتدم بشأن محاضرة البابا بنديكيت السادس عشر والتي أثارت غضب العالم الإسلامي تجاه ما اعتبره إساءة متعمدة من البابا الذي يمثل رأس الكنيسة الكاثوليكية في العالم.
قرأت الترجمة العربية لنص محاضرة البابا، وأستطيع القول إجمالا أن ما قاله البابا لا يصمد طويلا في أي نقاش علمي، وهو مردود عليه، وهو أخطأ فيما اقتبسه ودلّس علي الخطأ حين قال- لاحقا- أن الاقتباس لا يمثله. بل إن ما أخذه البابا -عبر اقتباسه-علي الإسلام في قضية الإيمان والعقل أو الجهاد يمكن أن ينطبق أكثر علي المسيحية بأكثر من الإسلام..غير أن مقاربتي لن تركز علي الجدل العلمي العقائدي لتفنيد ما قاله البابا بقدر ما ستحاول تلمس منهج النظر الأفضل في الأزمة التي تسبب فيها وفي إدارتها.
أول ما يجب الانتباه إليه هو إدراك السياق الذي قال فيه البابا كلامه ومن ثم التمييز بين المجالات التي يمكن أن تتنازعه والمستويات التي ينبغي أن نتعامل فيها مع كلامه.فما أتصوره أن أصل المشكل هو الخلط الذي جري بين السياسي والعقائدي اللاهوتي في كلام البابا وكذلك في قراءته أيضا، وربما كان خلطا متعمدا في بعض الأحيان.
فالمؤكد أن أصل كلام البابا كان- أو يفترض أن يكون- جزء من النقاش اللاهوتي العقائدي، فهو كان يتحدث في محاضرة أكاديمية محدودة بجامعة ريجينسبورج الألمانية، ولم تكن المناسبة مؤتمرا صحفيا أو عظة كنسية مثلا، كما أن موضوع المحاضرة لم يكن يتعلق بالإسلام وإنما كان عن "الإيمان والعقل والجامعة ذكريات وانعكاسات"، وتطرق بمناسبتها إلي الخلاف التاريخي والفلسفي بين الإسلام والمسيحية في العلاقة التي يقيمها كل منهما بين الإيمان والعقل..ومن ثم لم يذكر" الإسلام " إلا مرتين في بداية محاضرته كان يقتبس فيهما من محاورات الإمبراطور البيزنطي مانويل الثاني.
ما أتصوره أن الخطأ الأكبر الذي وقع فيه البابا هو أنه خلط – بقصد أو من غير قصد- بين مجال تخصصه الأصلي كأكاديمي يناقش قضايا لاهوتية في محاضرة يظنها أكاديمية وبين ما يرتبه عليه موقعه الديني الجديد كرأس للكنيسة الكاثوليكية في العالم من مسئوليات سياسية وحساسية تجعل لحديثه دلالات ومن ثم تداعيات تتجاوز الجدل الأكاديمي واللاهوتي الذي يصبح في هذه الحالة ترفا يستحق التوبيخ!
فالبابا بنديكيت السادس عشر أو يوزيف آلويس راتسينجر، هو ليس مجرد رجل دين تدرج في سلك الكهنوت، وإنما باحث في علم اللاهوت التحق في بدء حياته بالجامعة لدراسة "علم الأديان" الكاثوليكي والفلسفة، وأظهر مبكّرا اهتمامه بالكتابات الفلسفية-الدينية، خاصة كتابات الفيلسوف الديني "آوجوستينوس"، الذي كان في القرن الرابع الميلادي الركنَ الأساسي لتنظير تعاليم التثليث الكنسية وتثبيتها لدى الكاثوليك والأرثوذوكس، قبل انفصال الفريقين نتيجة خلافات على تفاصيل تلك التعاليم لاحقا.
حصل راتسينجر على الدكتوراة عام 1953م في العلوم الدينية، وعلى درجة الأستاذية عام 1957م في فرع "أسس علم الأديان"، وبدأ بالتدريس في العام التالي، لما يُسمّى الإملاءات العقدية الكنسية/ الدوجما وتاريخها، وفي عام 1959م بدأ التدريس في جامعة بون بمحاضرة عنوانها "إله الإيمان وإله الفلسفة"، ثم عام 1969م في جامعة ريجينسبورج (وهي الجامعة التي ألقى فيها محاضرته الأزمة ) وفي عام 1977م أصبح كبيرَ الأساقفة في المدينة نفسها، وبعد شهر واحد تمّ تعيينه برتبة "كاردينال"، وتطور الأمر حتي حل بابا للفاتيكان.
وفي فترة وجوده ك "كاردينال " في الفاتيكان كان مسئولا عمّا يسمّى "مجمع شئون الإيمان"، ولهذا السبب غلب عليه الاهتمام بالجدل اللاهوتي وما يتصل به من نقد العقائد وإثباتها، ثم كان مسئولا عن إصدار الكنيسة قرارها بفتح الملفّات الوثائقية القديمة عن تاريخ المحاكمات التي أودت في القرون الوسطى بحياة العديد من العلماء والمعارضين.
ما قاله البابا مردود عليه – كما أسلفت؛ وهو وقع في خطأ كبير ضاعفه الموقع الذي تحدث منه، ولكن لابد من أن يظل تناولنا للقضية في إطارها الطبيعي، لأننا إذا أردنا تحديد جوهر المشكلة فلن تبعد كثيرا عن الخطأ الناجم عن الخلط بين السياسي واللاهوتي في شخص البابا وفي كلامه.فالأرجح أن الرجل غلبت عليه خلفيته الأكاديمية واستغرق في اللاهوت والفلسفة خاصة عندما قارن مع الإسلام، ولم يكن يتحدث من موقع سياسي يريد منه توصيل رسالة سياسية تتعلق بالموقف من الإسلام وعالمه.
سيتحدث البعض عن أن الخلط جري فعلا وخرج كلامه عن أن يحصر في دائرة اللاهوت فصارت القضية "سياسية"..والكلام هنا صحيح لكنه يستحق التفصيل. أما القول بأن الكلام صارت له تداعيات سياسية فهذا صحيح بل ومؤكد بعد أن انفجرت ثورة الغضب والاحتجاج بطول العالم الإسلامي وعرضه،وأصبحت القضية حدثا سياسيا بامتياز.. لكن القول بأنه يؤشر علي موقف سياسي كما يذهب البعض يبدو غير مؤكد بل وسابق لأوانه بل ومحل نظر.
ينبغي علينا مبدئيا أن ندرس كلام البابا في ضوء مواقفه الشخصية وخاصة الأخيرة منها أو موقف الفاتيكان كرأس للديانة الكاثوليكية فيما يخص العالم الإسلامي وقضاياه السياسية..هل يؤشر كلامه هذا علي تبني البابا الجديد لموقف سلبي من الإسلام وأهله يمكن أن يتطور سياسيا؟ وهل سيؤثر ذلك علي مؤسسة الفاتيكان وسياساتها تجاه القضايا الإسلامية والتي شهدت في السنوات الأخيرة- خاصة في نهاية عهد يوحنا بولس الثاني- تطورا إيجابيا كما رأينا في
في غزو العراق الذي اعتبره الفاتيكان – وقتها- عملا لا أخلاقيا؟...من المهم أن يتوجه الجدل الدائر بين النخب المسلمة إلي مثل هذه الأسئلة " الحقيقية" التي يمكن أن تضيء الإجابة عنها هذه المساحة المعتمة في العلاقة بين الفاتيكان والعالم الإسلامي.
فهناك اتجاه من يري أن المحاضرة تعبر عن موقف سياسي للبابا الجديد الذي ينظر إليه باعتباره يختلف كثيرا عن سلفه يوحنا بولس الثاني في موقفه من الإسلام وقضاياه، ويرصد هذا الاتجاه موقف البابا الرافض لقبول دخول تركيا في الاتحاد الأوربي باعتبارها دولة مسلمة ستخل بالتركيبة السكانية المسيحية لأوربا، وإصراره علي أن يشير الدستور الأوربي الموحد إلي الجذور المسيحية لأوربا، وكذلك وترحيب المنظمات اليهودية باختياره وما قيل وقتها عن خضوعه لابتزاز بعضها بسبب اتهامات له بأن له ماض نازي...ولهذه الأسباب وغيرها ينتهي هذا الاتجاه إلي رؤية سلبية للبابا يتوقع معها الأسوأ.
ورغم وجاهة هذا الطرح إلا أنه قابل للنظر، فقراءة أشمل للرجل تقول أن هناك جوانب إيجابية في نظرته للإسلام يمكن رصدها ومن ثم البناء عليها لمن أراد، فقد كان الرجل أول من تصدي لتصريحات رئيس الوزراء الإيطالي بيرلسكوني التي انتقد فيها الإسلام وحضارته، وأكد بنديكيت وقتها علي أن الإسلام تفوق علي المسيحية فترة زمنية طويلة في الميادين العلمية والفنية، كما رفض بحسم الربط بين الإسلام وبين الإرهاب وقائلا: " إن الإسلام بالغ التنوع ولا يمكن حصره ما بين الإرهاب أوالاعتدال".
بالطبع سنجد آراء سلبية للبابا بنديكيت في الإسلام علي المستوي اللاهوتي والفلسفي ( خاصة رفضه فكرة قابلة الإسلام للتطور ) لكن يظل الموقف العام- المتعلق بالسياسيات -من الإسلام إيجابي، وهو ما يرجح أن البابا الجديد لن يمثل خروجا علي توجه الفاتيكان وسياسته تجاه العالم الإسلامي التي استقرت علي حالة من التقارب والتوافق في قضايا الحق العربي الإسلامي...خاصة أن بعض هذه الآراء لا ينفرد بها البابا مثل قضية قبول تركيا في الاتحاد الأوربي فهذا موقف للفاتيكان سابق علي هذا البابا، كما أن هناك كثيرا من العلمانيين في أوربا لديهم المخاوف نفسها، وهي رغم اعتراضنا عليها تبدو وجيهة في إطار الحساسية من مكر الديموجرافيا والقلق من تحول المسيحيين إلي أقلية في قارة عرفت تاريخيا بأنها معقل مسيحي!
أتصور أن المطلوب هو أن يكون توقفنا طويلا أمام دلالات الكلام وما يؤشر عليه في شأن التقارب الذي جرى بين الفاتيكان والعالم الإسلامي أكثر من إثارة معركة قد تكون سببا في تراجع هذا التقارب الذي لا تكمن أهميته في الجانب اللاهوتي بقدر ما تتعلق بالموقف السياسي الذي يصب لمصلحة التعاطف والتضامن الدولي مع قضايانا العادلة...أتصور أن هناك من يسعي إلي وقف هذا التقارب وأقصد الولايات المتحدة تقريبا التي ربما تريد توترا في العلاقة تكون محصلته جر الفاتيكان إلي تغيير مواقفه خاصة من الحرب علي الإرهاب التي تخوضها الولايات المتحدة.
تثير أزمة محاضرة البابا قضية بالغة الأهمية في تحديد الخاص والعام في الخطاب الديني، فكثير من موضوعات هذا الخطاب تقوم علي إثبات العقيدة بنقد العقائد المخالفة، وفيما قبل كانت قضايا الجدل اللاهوتي العقائدي تدور في مجال خاص ولا تخرج للعام إلا قليلا..وذلك بحكم محدودية وسائل النشر والاتصال..لكن الأمر تغير الآن بعد ثورة الاتصالات والمعلومات التي لم يعد ممكنا معها الحديث عن مجال خاص للخطاب الديني، فمحاضرة أكاديمية متخصصة – كمحاضرة البابا بنديكيت- صارت موضوع الساعة ومقدمة كل نشرات الأخبار في العالم وتكاد تندلع بسببها حرب دينية في مناخ بالغ التوتر.
لم يعد ممكنا الحديث عن أحاديث الغرف المغلقة أو المحاضرات الخاصة..فكل شيء في عالم القرية الواحدة شأن عام. وهذا ما يجب الانتباه إليه أيضا في الخطاب الديني الإسلامي الذي يتطرق إلي نوعية من القضايا – خاصة في الجدل العقائدي- كانت تناسب المجال الخاص، فتنقلها إلي الشأن العام: مثل نقد اليهود والنصارى بل والفرق الإسلامية كالشيعة..وغير ذلك مما جعل فضائياتنا ووسائل إعلامنا ميدانا لحروب دينية ومذهبية مستعرة.
حين تتوقف الحرب يكثر جنرالات المقاهي!..ليس أفضل من هذه العبارة تناسب المعركة التي نحن بصددها . فالذين أشعلوا المعركة وتولوا كبرها هم جنرالات المقاهي الذين بطّلوا معارك حقيقية وتفرغوا للمعارك الوهمية، ينتدبون أنفسهم وكلاء عن الأمة فيحددون لها معاركها وينتخبون أنفسهم قادة في هذه المعارك التي تدور رحاها من غير طحين!
بدأ الجدل بعد أيام من محاضرة البابا محدودة الحضور، وكان أول من حولها إلي معركة سياسية المتحدثة باسم الخارجية الباكستانية في حين كانت الخارجية المصرية الأكثر تفاعلا وتشددا في التعاطي مع المعركة فتعاملت معها باعتبارها أم المعارك!
لن يتعب المراقب كثيرا في الوقوف أمام هذا الحماس "الرسمي" العربي والإسلامي في الاشتباك مع القضية وإطلاق النفير للحرب، وسيجد أن أكثرها حماسا هي الأنظمة التي تقاعست في معارك الأمة الحقيقية، وأن صدارة المشهد في هذه المعارك دائما ما يحتلها جنرالات المقاهي الذين لا يجيدون إلا إدارة الحروب الكلامية مكيفة الهواء التي يخوضها المناضل علي وقع فلاشات كاميرات الفضائيات ودون أن ينكسر حد مكواة ملابسه!.
باكستان التي أعلنت النفير الأول كانت أول من "باع" القضية الإسلامية، وكانت في مقدمة الدول التي خضعت للإملاءات الأمريكية ونفذت مطالبها كاملة وقدمت للإدارة الأمريكية ثروة معلوماتية ودعما استخباراتيا لا يقدر بمال في حربها علي الإرهاب " الإسلامي".
أما الخارجية المصرية فهي صاحبة الموقف الأكثر سوءا أثناء الحرب الصهيونية علي لبنان، فهي أول من أدان عملية حزب الله ضد الصهاينة، وأول من جاهر بالقول أنها حرب بين الصهاينة وحزب الله ولا دخل لمصر أو لغيرها من العرب بها !.. وهي التي رفضت مجرد استدعاء السفير المصري في تل أبيب فضلا عن الاستجابة لمطالب الشارع المصري بطرد السفير الصهيوني .
يمكن أن ينطبق هذا علي جل إن لم يكن كل الأنظمة العربية والإسلامية التي اتخذت موقفا عنتريا من "الفاتيكان" بدأ بالتحريض علي التظاهر وإطلاق بيانات الشجب والندب والاستنكار وصل حد استدعاء السفراء والتهديد بقطع العلاقات إذا لم يعتذر البابا..وهي التي تخاذلت عن اتخاذ أي موقف إيجابي تجاه الغزو الصهيوني البربري للبنان وما خلفه من مجازر راح ضحيتها آلاف القتلى والجرحى وتدمير ممنهج أعاد لبنان عشرات السنين للوراء ( أسقط الصهاينة أكثر من مليون ونصف قنبلة عنقودية ستظل تعاني منها لبنان سنين عددا!).
هل يمكن أن تكون دماء العرب والمسلمين والأبرياء من الرخص بما لا تهتم معه الأنظمة العربية والإسلامية حتى بالإدانة أو طلب الاعتذار وهي التي تشعلها نارا علي مقالة قالها بابا الفاتيكان في محاضرة أكاديمية!. ألا يثير ما تتذرع به الأنظمة العربية والإسلامية من ضرورة الغضب للإسلام الشك والريبة في مصداقيتها وهي التي ما غضبت يوما لكرامة الإسلام وأهله التي انتهكت وتنتهك يوميا بطول العالم وعرضه؟ هل تحتاج هذه الأنظمة المجاهدة أن نذكرها بمواقفها المخزية في كل قضايا المسلمين من البوسنة والهرسك إلي كوسوفا، وبعدها في أفغانستان والعراق ولبنان..أو حتى في قضيتنا الأبدية فلسطين سجل العار والمهانة لهذه الأنظمة؟
ألا يحق لنا أن نقول أن ما تفعله أنظمة الخزي والعار في هذه القضية ما هو إلا غسيل لمواقفها المخزية وقت أن احتاجتها الأمة في قضايا حقيقية ومصيرية، وأنها تدلّس علي الأمة فتلبس ثوب الجهاد والكرامة وهي أبعد ما تكون عنه، وتطلق النفير لحرب لن تعيد لنا أرضا ولن تهزم لنا عدوا..وتسعي لاكتساب شرعية لا تستحقها بعد أن تخاذلت في معارك الأمة.
يحيلنا ما سبق إلي ما يمكن أن نسميه بإستراتيجية الأمة في خوض معاركها، الحاصل الآن وما جري من قبل في معركة الرسوم الدنمركية يؤكد أن الأمة تفتقد لبوصلة تضبط حركتها وأننا صرنا نخوض المعارك التي يحددها لنا الآخرون وفي الزمان والمكان الذي يحددونه لنا وهو ما يجعلها- بالضرورة- معارك خاسرة لا تقدم شيئا في نضال الأمة من أجل الخروج من حالة الهزيمة والانكسار التي تعيشها.
من يتأمل في المشهد الإسلامي يجد أن الأمة تستنفر في المعركة الخطأ وتغيب في معاركها الحقيقية، فالجبهة اللبنانية لم مازالت غامضة مفتوحة لا ندري ما تخبئ لنا، وتداعيات ما بعد الحرب لم تتكشف كاملا بعد وما بدا منها يؤشر علي أن النصر الذي حققته المقاومة علي الأرض يوشك أن يذهب هباء وتوشك أن تحوله الأنظمة إلي هزيمة!.
و حركة المقاومة الأفغانية التي انطلقت ضد القوات الأمريكية والمتحالفة معها لا تلقي من الأمة أذانا صاغية ولا تلقي ما تستحقه من اهتمام حتى علي المستوي الإعلامي ويوشك أن يضيع صوتها في ضوضاء النفير الذي أعلنته الأنظمة الرسمية في معركتها ضد الفاتيكان!
أما العراق سد المقاومة الصامد ضد الهجمة الأمريكية علي المنطقة فأكثر ما نفعله هو إحصاء ضحايا عمليات القتل الجماعي اليومية الذين تدفن جثامينهم في مقابر جماعية دون أن تعرف هوياتهم!..كنت أتابع بيانات الإدانة والشجب والتظاهرات التي خرجت ضد البابا فرأيت مظاهرة عارمة في البصرة وبيانا حارقا أطلقه قائد إحدى المليشيات الطائفية ضد البابا مهددا ومتوعدا..المفارقة أن كل التقارير التي أتابعها عن العراق تضع هذا الزعيم علي رأس المسئولين عن المجازر الطائفية في العراق..يذبح هذا القائد وتنظيمه أخوانه السنة حتى يلجئهم إلي الفرار خارج المدن العراقية ثم هو يقود التظاهرات ثأرا لكرامة الإسلام! ..هل هناك مأساة أكثر مما نحن فيه؟!.
ولن أتوقف طويلا أمام ما يجري في فلسطين وحملات التجويع والتركيع والإذلال الممنهج التي يقوم بها الصهاينة تحت سمع وبصر الأنظمة الرسمية بل بالاتفاق مع بعضها وبرضاها!..حتى أن نظاما سياسيا في دولة بمقام مصر رضي أن ينتهي دوره من قائد للأمة العربية إلي وسيط أقصي طموحاته أن يفرج عن الأسير الإسرائيلي ..ولم يوفق في أمله!
كما لا أحتاج أن أذكر بالكارثة التي حلت في السودان..حيث القوات الأمريكية توشك أن تدخل دارفور وتبدأ تقسيم السودان وتضع يدها علي مخزون النفط الذي مازال بكرا لم تمسه يد!
أصر علي فكرة المؤامرة وقلبي مطمئن بها، وأقول أن هناك من يسعي دائما إلي أن يتحكم في بوصلة الأمة فيهندس لها معاركها؛ يصرفها عما يجب أن تفر إليه كافة، ويدخل بها في معارك وهمية تستنزف طاقتها وتبدد إمكاناتها في غير طائل بل وكثيرا ما تكون في معارك مؤكدة الخسارة.
فبدلا من أن يلتفت النظام المصري- علي سبيل المثال- إلي كارثة دارفور والقوات الأمريكية التي ستعسكر علي مرمي حجر من السد العالي لتصبح في غضون أيام شوكة في خاصرة مصر؛ تفرغ لحرب الفاتيكان وأعلن النفير لأم المعارك يداري بها عجزه وخيبته!..وبدلا من أن تحشد القوي السياسية وقوي المجتمع المدني المصرية جهودها في معركة الإصلاح خاصة مع احتدام الجدل حول الدستور الجديد آثرت المعارك الإعلامية معدومة التكاليف، حيث تتسابق الفضائيات والصحف علي نشر بيانات الإدانة..ويحصل الجميع علي حقه في صورة وهو يهتف لكرامة الأمة!
في كل بلد عربي ومسلم انطلقت الحرب الكلامية ضد الفاتيكان لتغطي علي معارك حقيقية ومصيرية، معارك الإصلاح ومقاومة الفساد والاستبداد والطغيان والظلم بل والقهر الاجتماعي..وفي مقدمة ذلك كله المعركة الكبرى مع مشروع الهيمنة الأمريكي الاستعماري الذي يروم تمزيق المنطقة والسيطرة عليها وإجهاض إي محاولة للاستقلال والتحرر والنهضة.
لن يكتمل المشهد إلا بالحديث عن أمريكا، وهي- قبل الدنمرك والفاتيكان- القبلة التي كان ينبغي أن يتوجه إليها من يبحثون عن معارك تنتصر للإسلام ورسوله الأعظم؛ سواء أكانت معارك " كلامية" أو " حقيقية"! فالولايات المتحدة من دون مبالغة هي البلد الوحيد الذي يسب فيه الإسلام ورسوله في المحاضرات العامة وبرامج التلفاز والعظات الكنسية دون أن يجرأ نظام عربي أو إسلامي علي الاعتراض فضلا أن يستدعي سفيره للتشاور!.
لن أتوقف طويلا عند تصريحات الرئيس بوش التي يعرفها الجميع والتي دائما ما تؤول وتجد من يدافع عنها باعتبارها زلات لسان!..بل أشير فقط إلي آباء اليمين المسيحي من أمثال جيري فالويل وبات روبرتسون وبات بيوكانن ..وكلهم قريب الصلة ونافذ الرأي في قرار الإدارة الأمريكية ( بيوكانن كان مرشحا للرئاسة عن الحزب الجمهوري ).
لليمين المسيحي آلاف الكنائس وعشرات القنوات التلفزيونية التي يتهجهم فيها القساوسة علي الإسلام ويسخرون جهارا نهارا من نبينا الأعظم دون أن يتحرك أي من جيوش الشجب والاستنكار "الرسمية"! التي تفرغت لمعركة استلزم إشعالها التنقيب في محاضرة أكاديمية عن خطأ لبابا الفاتيكان الذي رفض الحرب الأمريكية..في حين أن ما يقوله الآباء الأمريكان- ويا للمفارقة- تترجمه الإدارة الأمريكية التوسعية الاستعمارية واقعا مريرا ودمارا شاملا علي رؤوسنا حيث الغزو والاحتلال والقتل والمجازر الوحشية بدءا من فلسطين ولبنان مرورا بالعراق وأفغانستان..بل ويشاك بعض هؤلاء الآباء في الحرب ضد المسلمين بوازع ديني كما فعل القس بات روبرتسون الذي غزا لبنان عام 1982 بفريق من المتطوعين المسيحيين تحت قيادة إريل شارون!.
أتصور أن أمريكا هي المنتصر الوحيد من هذه المعارك التي يشعلها جنرالات المقاهي في عالمنا العربي والإسلامي، فما إن خرجنا من معركة الرسوم الدنمركية حتى بدأنا في معركة بابا الفاتيكان، وفي كل معركة نخرج ولم يتغير في عالمنا العربي والإسلامي شيء؛ فالأنظمة المستبدة الظالمة، والفساد المعشش في كل مفاصل حياتنا، والتخلف والانكسار والهزيمة الحضارية.. ليبقي السرطان الأمريكي متمددا في جسد الأمة باقيا علي حاله بل ويتنفس من هذه المعارك ويستمد قوته!
أخطأ بابا الفاتيكان حتى ولو تنصل من خطأه، وهو مدين باعتذار لو أنصف من نفسه، ولكنها تبقي قضية لاهوت وعقيدة لا يصح أن تصبح قضية سياسية أو أن تجاوز حدود الأكاديمية ونقاشات علماء الدين في الغرف التي يفترض أن تبقي مغلقة، وللبابا أن يعتقد في الإسلام ما تمليه عليه عقيدته فليس مطلوبا أن يقول البابا في الإسلام ما نعتقده أو نؤمن به نحن، ولكن شريطة أن يلتزم القصد ويتجنب التطاول والتشهير، وقبل ذلك وبعده علينا أن نؤكد ونسعي علي أن يظل خلافنا تحت سقف الإنسانية المشتركة التي تملي عليه وعلي كنيسته أن ينحاز إلينا في قضايانا العادلة،خاصة في مقاومة الحملة الأمريكية الاستعمارية الظالمة.
أخطأ البابا ولكن خطأه لا يجب أن ينسينا أن الفاتيكان قد قطع شوطا كبيرا في التقارب مع العالم الإسلامي والدفاع عن قضاياه العادلة، كما جري في الغزو الأمريكي للعراق الذي وقف الفاتيكان في طليعة معارضيه، ولا يجب أن نقع في الفخ الأمريكي فنعجل بصدام مع الكنيسة الكاثوليكية لن يستفيد منه سوي خصمنا الاستراتيجي أو عصابة الشر في الإدارة الأمريكية وآبائها من اليمين المسيحي الصهيوني التي تسعي جاهدة لضم الفاتيكان في حلف الحرب علي الإرهاب( الذي هو الشفرة الأمريكية للإسلام).
أخطأ البابا وينبغي أن ينفر من علماء المسلمين ومفكريهم من يرد عليه خطأه ويحسن البيان في الدفاع عن الإسلام ورسولنا الأعظم، لكن دون أن ننسي أن المعركة الحقيقية لأصحاب الأديان جميعا هي مع الإلحاد والمادية التي لا تؤمن بالله، وأننا حين يحتدم الأمر سنجد أنفسنا في معسكر واحد ( وهو ما تكرر كثيرا في قضايا المرأة والأسرة والشذوذ وغيرها ) ضد تيارات الإلحاد والمادية التي ترفض أن يكون للدين أي دور في الحياة.
وأخيرا فإن التفكر في الأزمة لا يعني تلك العقلانية البرجماتية الانتهازية الباردة التي لا تعرف إلا معايير الربح والفائدة، فديننا نحمله فوق الرأس، ورسولنا الأعظم صلي الله عليه وسلم تفديه المهج والأرواح، ويهون من أجله كل شيء، ويرخص في الدفاع عنه وعن كرامته الغالي والنفيس وهو أحب إلينا من أهلينا ومن أنفسنا ومن الناس أجمعين.