الإخوان المسلمون مأزق تفكك الأيديولوجيا وأزمة نهاية التنظيم
"تحولات الإخوان المسلمين: تفكك الإيديولوجيا ونهاية التنظيم"، هو كتاب ألفه الباحث المصرى حسام تمام، ويندرج ضمن خانة المؤلفات النقدية لمسار الحركات الإسلامية، والأمر هنا يهم أمّ الحركات الإسلامية العربية: جماعة "الإخوان المسلمين"، بتنظيمها الدولى وتفرعاتها القطرية فى العديد من دول الوطن العربى والعالم الإسلامي، حتى أنه ضمن الوثائق التى جاءت فى خاتمة الكتاب نطلع على "لائحة النظام العام للتنظيم الدولى للإخوان المسلمين" كما هى مؤرخة فى عام 1982.
نحن إزاء تقييم تجربة ما يُعْتَبَر الواجهة الرسمية للإيديولوجية الإسلامية الحركية التى اجتاحت مصر والعالم العربى من السبعينيات، ووصلت قمتها فى نهاية الثمانينات، والتى كان شعارها أو روايتها الكبرى "إقامة الدولة الإسلامية"، وهو شعار كان يستقطب بريقه قطاعات وشرائح وأعمار بالغة التنوع والاختلاف ويخفى وراءه تناقضات طبقية ومصلحية تكاد تصل حد الصراع، كما نطلع على ذلك فى العديد من التجارب الإسلامية الحركية.
وكانت الإيديولوجية نفسها تجذب إليها المتمردين ذوى النزعات الثورية الراغبين فى المواجهة العنيفة مثلما ينضوى تحتها المندمجون اجتماعيا من أبناء البورجوازية التى طالما أحكمت وأجادت فن التفاوض والمساومة.
يتوقف الكاتب عبر سلسلة مقالات وحوارات أجراها مع فعاليات إسلامية من الجماعة ومن الساحة الإسلامية فى مصر، عند العديد من المحطات التى تؤكد من وجهة نظره على أن التحولات التى تعرفها الجماعة تصب أساسا فى نهايتها، أكثر من تضخمها، والمفارقة، أن هذه الخلاصة التى لا تخدم بالتأكيد المصالح الآنية والاستراتيجية للجماعة، لم يصل إليها العديد من المحللين السياسيين العرب والغربيين على حد سواء، لأسباب عدة، لعل أهمها الانبهار الحاصل خلال السنين الأخيرة، بسبب النتائج التى خلصت إليها العديد من الاستحقاقات الانتخابية فى الأقطار الإسلامية، لولا أن الفوز فى استحقاق انتخابي، لا يعنى بالضرورة أن الأوضاع الحركية للتنظيم الإسلامى المعنى به، على أحسن ما يرام.
تحولات الحالة المصرية
ولنبق مع الحالة المصرية، وبالعودة إلى أحداث آخر 2004، والتى تميزت بكثرة التظاهرات المنددة بممارسات السلطات المصرية فى تعاطيها مع الشأن الحزبي، تبين مثلا أن نزول الجماعة للشارع "تأخر كثيرا على الأقل إذا ما قورن بتظاهرات حركة "كفاية" التى كانت قد سبقتها بعدة أشهر، وذلك حتى قبل قرار تعديل المادة 76 للدستور، وبدا أن الامتداد الهائل لجسم التنظيم كان عبئا كبيرا وحجر عثرة وأهم أسباب تأخر قيادة الجماعة فى النزول للشارع، قبل أن تستجيب مضطرة إحراجا من حركة لا يتجاوز عدد أعضائها أصغر شعبة من شعب الجماعة التى تقدر بالآلاف فى كل مدن وأحياء مصر، وهو نزول كانت الجماعة مضطرة لأن تدفع تكلفته باهظة حتى لا تخسر مصداقيتها فى الشارع السياسى وقبله لدى كوادرها".
يرى المؤلف أن أول ما سيلاحظه الراصد لتحولات الإخوان أن تحولات "الجماعة الأم"، ينفصل فيها دائما الفعل عن الخطاب فلا يخضع له ولا ينطلق منه، فمشاركة الإخوان المصريين فى الانتخابات الطلابية ثم المهنية والمحلية فالنيابية، كلها كانت سلسلة من التحولات أشبه بالمبادرات التى لم يسبقها أى تنظير بل دائما ما جاء التنظير داعما وليس منشئا لها!
هذا الانفصال بين الممارسة والخطاب لدى الإخوان ربما كان السبب الحقيقى فيما يعتبره الكاتب "تناقض" تعانيه الجماعة، وهو ما يظهر فى موقف الجماعة من قضية الدولة، فهى تمارس فعلا سياسيا ينتمى إلى لحظة الدولة الوطنية الحديثة التى نعيش فى ظلها فيما مازالت أطرها الفكرية والتربوية عاكفة على تداول أفكار ونظريات سياسية عتيقة تنتمى إلى ما قبل ظهور الدولة القومية. إنها الفجوة التى يدخل منها خصوم الجماعة للطعن فى قناتها واتهامها والتحايل بل و"التقية" والازدواجية التى تستبطن فيها اعتقادا وتمارس فى الواقع خلافه. ومع اتساع حركة الجماعة وتعدد مسارات حركتها التى يلتقى فيها الدعوى والسياسى مع غيرهما؛ ومع تعدد بل تباين الخلفيات الثقافية والاجتماعية للمنضوين فيها تتسع هذه الفجوة التى تعيشها الجماعة بين الفعل والخطاب ولكن تبقى هناك حالة "تعايش" بين خطابات وممارسات متباينة بل ومتناقضة، ويساعد على هذا التعايش ما عرفت به الجماعة تاريخيا من التزام خطاب عام فضفاض يقوم على قاعدة "أن جماعة الإخوان يسعها ما يسع الإسلام".
الخلاصة الأهم من وجهة نظرنا، وتنطبق مرة أخرى على العديد من التجارب الإسلامية فى المنطقة، فتكمن فى أن "البرنامج السياسى للإخوان تتأكد يوما بعد يوم مفارقته تماما لكل ما كان يقدمونه عن "المشروع الإسلامي"، باتجاه برنامج ديمقراطى بعيد عن الأرضية الدينية التى كانوا ينطلقون منها، حيث كثر حديثهم عن الاحتكام التام للشعب أيا كانت خياراته، والقبول بحق ومنطق تداول السلطة والتسليم باختيار الشعب مهما كان، وأن حكم الشريعة مرتهن بقبول الشعب له، مع اتجاه للتخفف من المرجعية الدينية فى العمل السياسى قياسا بما كان يحدث من قبل"، وبتعبير آخر، فقد "اضطر الإخوان بفعل الدخول الكثيف فى العمل السياسى إلى أن يقولوا كلاما محددا بعيدا عن العموميات الفضفاضة التى كان يحرصون عليها وهو ما كان له أثر بالغ على مقدرتهم السابقة على الحشد الواسع لقطاعات متعددة ومتباينة فى المجتمع".
تفكك الإيديولوجية
وواكب ذلك تحول ثان بالغ الأهمية طال هذه المرة الدولة المصرية نفسها التى عاشت تحولات اقتصادية كبرى كانت تصب جميعها ضد مصالح الطبقات الفقيرة، فكان أن بدأت هذه الإيديولوجية فى التفكك لتكشف عما وراءها من تناقضات طبقية ومصلحية هائلة أكبر من أن يستمر تسترها وراء أيدلوجية تخلى عنها ممثلوها الرسميون.
من بين التحولات الأبرز التى طالت مشروع الإخوان، التحليق فى يوتوبيا دولة الخلافة إلى الاستغراق فى واقع الدولة الوطنية لحقت برافعته أو إطاره التنظيمي، أو التنظيم العالمى للإخوان المسلمين الذى تأسس وانطلق ليكون الرافعة السياسية لتحقيق المشروع الإسلامى والذى على شاكلته كان يفترض أن يقوم ويتحقق حلم دولة الخلافة الإسلامية.
طالما تحدث المراقبون وكذا الإخوان عن "التنظيم الدولي"، فتطل من بين أحاديثهم صورة أسطورية يبدو فيها كما لو كان هناك تنظيم عالمى يمسك بقبضة من حديد بالتنظيمات القطرية المحلية فيجمعها على رؤية واحدة ويقودها بسياسة موحدة تسير بالجماعة العالمية فى طريق تحقيق الهدف الواحد، لولا أن دراسة موسعة للتنظيم وما طرأ عليه من تحولات فى العقدين الأخيرين تقول إن الواقع مختلف تماما، وأن هذه الصورة هى أبعد ما تكون عن الحقيقة وأقرب للوهم الذى يتصوره المراقبون ويستعذبه الإخوان كما يستعذبون أمجاد السلف.
يصر الإخوان على الحنين إلى صورة التنظيم العالمى الحديدى المتماسك ويبالغون فى تقدير حجمه ودوره ويتابعهم فى ذلك خصوم يجدون فى هذه الصورة ما يبرر إشاعة الخوف والرعب من الإخوان فى حين أن الواقع يختلف تماما عن هذه الصورة. والواقع يقول أن الانغماس فى العمل السياسى جعل المصلحة العليا هى المصلحة الوطنية سواء للتنظيم القطرى أو لمشروعه الوطني، فهموم هذه التنظيمات وحساباتها قطرية وطنية بحتة لا يحتل فيها البعد العالمى إلا مساحة ضئيلة جدا تعكس فى النهاية وتوظف لمصلحة المحلى الوطني، ومن هنا رفضت قيادة التنظيم القطرى فى فلسطين الوساطة التى طلبها الراحل ياسر عرفات من قيادة الإخوان فى مصر للضغط على حماس فى إطار المفاوضات بينها وبين فتح، وغلبت حماس مصلحتها أو رؤيتها لمصلحة التنظيم القطرى على أى اعتبارات أخرى بما فيها التقدير للقيادة التاريخية لإخوان مصر.
تأثير المناخ الدولي
كما أن المناخ الدولى ساعد أيضا فى هذه التحولات التى طالت التنظيم الدولي، بعد أن انتهت حقبة الحرب الباردة، وانفردت الولايات المتحدة بقيادة العالم كقطب وحيد من دون منافس وحين وقعت هجمات سبتمبر عام 2001 وبدأت حربها العالمية على ما أسمته بالإرهاب أتت الرياح بما لا تشتهى سفن الإخوان التى فضلت التخفف من "العالمية" خاصة حين ترتفع كلفتها السياسية بما لا تطيقه ومن دون عائد..وبدأ كل تنظيم يعكف على شئونه وشجونه الخاصة مع الاحتفاظ بنوستالجيا- الحنين إلى حقبة التنظيم الدولى الواحد!
لم يصدر أى مراجعة أو تعديل فى القانون الأساسى للتنظيم الدولى للإخوان بما يستجيب لهذه التطورات، وهو ما يؤكد نظرتنا بأن من القصور الاكتفاء بدراسة الإخوان من خلال الوثائق والأدبيات، وأقصى ما صدر فى قضية التنظيم الدولى هو حديث بعض قيادات الجماعة الأكثر واقعية وانغماسا فى العمل السياسى والعام ـ مثل الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح ـ عن أن التنظيم الدولى صار فكرة غير واقعية وطوباوية وأن تكلفته السياسية أكبر بكثير من فائدة التمسك به وأنه من الأفضل تطويره كمنبر للتنظيمات الإخوانية التى تلتقى على الفكرة الإخوانية فى العالم كما هو العالم فى منتدى الاشتراكية الدولية الذى يجمع الأحزاب اليسارية والشيوعية فى العالم أو المؤتمر القومى العربى الذى يجمع الأحزاب القومية فى العالم العربي.
أما الذى تبقى من مفارقات مشهد التحولات التى طالت الظاهرة الدينية وانعكست على الوضع السياسى الحالى وموقع الإخوان فيه فهو الذى يتعلق بالتنظيم الإخوانى نفسه والذى ستقول أى دراسة وافية معمقة له أن "الصورة التى تبدو لنا لا علاقة لها بالضرورة بواقعه الحقيقي".
فعضوية الجماعة "تتوزع وتتعدد لتضم خليطا من الأعضاء من أزهريين وأنصار سنة وجمعية شرعية وتيار سلفى وجهاديين سابقين وسياسيين انطلقوا فى الأصل من أحزاب سياسية أخرى وقطاعات من العمال والفلاحين ليس لها أى خبرة سياسية سابقة ولا تتعاطى السياسة إلا لارتباطها بالجماعة وبأوامر من قيادتها دون أن يعنى ذلك وجود قناعة بها، وهو ما يستحيل معه الاتفاق على أجندة سياسية محددة فضلا عن خوض نضال طويل المدى من أجلها".
وبكلمة، لقد "راهن الإخوان على التنظيم ونزلوا به إلى الشارع لكن الذى غاب عنهم أن التنظيم يعانى مشاكل بنيوية كبرى، وأنه لا يصلح فى أفضل الأحوال لأن ينوب عن الأمة وأن الكوادر لا تصلح بالضرورة بديلا عن الناس".
"... يصر الإخوان على الحنين إلى صورة التنظيم العالمى الحديدى المتماسك ويبالغون فى تقدير حجمه ودوره ويتابعهم فى ذلك خصوم يجدون فى هذه الصورة ما يبرر إشاعة الخوف والرعب من الإخوان فى حين أن الواقع يختلف تماما عن هذه الصورة.."
الكتاب: تحولات الإخوان المسلمين
المؤلف: حسام تمام
دار النشر: مكتبة مدبولي- القاهرة