حسام تمام : التيار الاسلامي يعيد تفكيك نقاط الالتباس والتوتر مع مجتمعه( السراج الموريتانية)
شهدت ظاهرة الحركات الإسلامية في الآونة الأخيرة اهتماما متزايدا لما تمثله هذه الحركات من تفاعل مع قضايا مجتمعاتها التي تزخر بالأحداث و الحبلى بالمتغيرات السياسية والاجتماعية والفكرية.
ولمراجعة بعض ملفات الحركات الإسلامية تجري مجلة السراج الشهري هذا الحوار مع الباحث في شؤون الجماعات الإسلامية الصحفي المصري حسام تمام محرر ملف الحركات الإسلامية في شبكة إسلام أون لاين، ومحرر موقع مرصد دراسات الظاهرة الإسلامية وصاحب عدد من الكتابات والإسهامات في هذا المجال.
** حسام تمام مرحبا بك على صفحات السراج الشهري.. بوصفكم مهتمين بدراسة الحركات الإسلامية ما هي أبرز السمات التي تميز الحركة الإسلامية في هذا الظرف؟
* أهلا بكم وسهلا..وفي البداية لابد من وقفة أساسية مع نوعين من الحركة الإسلامية حيث إن الكتابات حول الحركات الإسلامية انقسمت إلى نوعين من الكتابات كلاهما غفل عن طبيعة وجوهر هذه الحركة وأنها حركة اجتماعية لها مشروع سياسي لكنها تهدف إلى تغيير اجتماعي في مجتمعاتها.. كثير من الكتابات تعاطت معها بشكل أيديولوجي بحت عبر رؤية نقدية لا تنفذ إلي عمق هذه الحركات ..فهي اهتمت بأوجه القصور فيها ..وكثير من هذه الرؤى صاغها الموقف العدائي لهذه الحركات باعتبارها كلها إرهاب وكلها عنف ومعاداة للحداثة .. إلخ...وبالمقابل كان جل كتابات الحركة نفسها تأخذ الصيغة الدفاعية في ظل هذه الهجمة.
على كل حال أنا أتصور أن أي دراسة حقيقية للحركة الإسلامية بالجملة مع تنوعاتها المختلفة يجب أن تنظر إليها من خلال كونها حركة اجتماعية. الحركة الإسلامية هي حركة تغيير وتحديث أساسي في مجتمعاتها. إذا تحدثنا مثلا عن الحركة الإسلامية في موريتانيا تجد أنها استجابة لتحدي التحديث في موريتانيا على عكس ما قد تصوره بعض الكتابات العلمانية أن الإسلاميين يعودون بالمجتمع إلى الوراء.
أنا أتصور أن الحركات الإسلامية تقوم بدور تحديثي بمعنى من المعاني قد لا يتفق مع الرأي الغربي لمفهوم الحداثة لكن الإسلاميين بالمحصلة هم إجابة عن سؤال الحداثة في لحظة من اللحظات. ويقوي هذا أن الحركات الإسلامية قطعت شوطا في طريق النضج سواء في بلورة أطروحتها السياسية أو في التواصل مع مجتمعها في إعادة فهم مكونات هذا المجتمع وتشكيلاته المختلفة. فصرنا الآن أمام تيار أعاد تفكيك نقاط الالتباس أو التوتر مع مجتمعه.
ربما في الفترات الأولى من نشأة هذا التيار كان هناك نوع من الصدام مع النسق الثقافي والبنية الاجتماعية لكن يبدو أن هذه الحركات في مجملها قطعت شوطا في بلورة مشروعاتها السياسية نحو تفهم هيكلة الدولة الوطنية الحديثة وكذلك التفاعل والتكيف مع مجتمعاتها الطبيعية.
ويستثنى من ذلك الحركات الجهادية بسبب مشروعها المضاد لفكرة الدولة الوطنية وهو مشروع ذو طابع أممي عالمي.. إذا تكلمنا مثلا عن الحالة المصرية نجد أن تنظيما مثل تنظيم الجماعة الإسلامية الذي مارس العنف سرعان ما قام بمراجعاته الفقهية واستقر- ملتحقا بالتيار الرئيسي الذي يمثله الإخوان المسلمون- في إعادة الاعتبار للتفاهم مع المجتمع في حين أن تنظيم الجهاد الذي أصر على مقولاته سرعان ما ترك الساحة المصرية وانتقل متحالفا مع تنظيم القاعدة وصار يتحرك خارج إطار الدولة الوطنية.
** على ذكر فكرة الدولة؛ يرى بعض الكتاب تراجع سقف المطالب لدى الحركات الإسلامية من إقامة الخلافة إلى المشاركة في الحكم، ومن طرد المحتل إلى مقاومة التطبيع ما رأيكم؟
* يمكن النظر إلى هذا الموضوع من عدة مستويات:
المستوى الأول أنه ربما طال الحركة الإسلامية ما طال الحركات التغييرية في العالم والتي تراجعت لديها الروايات الكبرى أو المقولة الكبرى، والمقولة الكبرى لدى الحركات الإسلامية كانت بناء دولة إسلامية على منهاج الخلاقة الراشدة..هذا المستوى من التراجع نجده لدى كل الحركات الشيوعية وغيرها..
ولكن هناك مستوى آخر من التراجع يتعلق بالاندماج الواسع للحركات الإسلامية في الشأن السياسي المحلي مما يجعلها تدريجيا تتموقع في صيغة الوحدة السياسية التي تشتغل من خلال فكرة الدولة الوطنية لأن المشروع الإسلامي التغييري طاوله انحراف متعلق بفكرة أن الدول ربما تكون هي المساحة الأكبر التي يراهن عليها في تغيير المجتمع فارتبط مشروعها بالدولة نفسها فأعادت هيكلة نفسها وفق الدولة وتراجع لديها الطابع الأممي وبدأت تدخل في التفصيلات خاصة بنيتها التنظيمية صارت تتموقع على فكرة الدولة الوطنية: الحركة الإسلامية في موريتانيا.. الحركة الإسلامية في المغرب إلخ، وتضبط إطارها التنظيمي وحتى الدعوى في إطار الدولة .. وكلما انغمست أكثر في السياسة كلما اتضح مظهرها باعتبارها أقرب إلى حزب أو جماعة وطنية..
والسبب الأساسي في هذا أن هذه الحركات رهنت مشروعها التغييري بفكرة الدولة وأنها إلى حد كبير ابنة لمشروع التحديث العربي الذي راهن على أن السلطة هي التي ستنجز مشروع الحداثة.. وهذا رغم واقعيته مرتبط بأن الدولة خلال الأربعة أو الثلاثة عقود الأخيرة كانت هي الفاعلة في مجتمعاتها لكن التعويل عليها كاملا يبدو خطأ؛ خصوصا في مجتمعات لم تتغول فيها فكرة الدولة، قد يفهم هذا في حالة الدولة المصرية التي فيها الدولة ذات تراث عريق ينتمي إلى سبعة آلاف سنة. لكن قد لا تجد له مسوغا في دولة مثل موريتانيا أو اليمن أو السودان ونحوها من البلدان التي لم يكن للدولة حضور ..وأقصد الدولة بآلياتها، السيطرة على التعليم والإعلام وغير ذلك.
لذلك أتصور أن الحركات الإسلامية يجب أن تنتبه إلى هذه الحقيقة، أنه رغم أهمية فكرة السلطة ودورها المحوري من الخطأ أن تتحول الحركة الإسلامية من مشروع الأمة إلى مشروع الدولة لأن التغيير عبر الأمة ثبت أنه الأقوى وأن السيطرة على الدولة لا تقدم جديدا، كما حصل في تجربة السودان أوغيرها من تجارب سيطرة الإسلاميين على السلطة كتجربة حماس أيضا.. ذلك أن الدولة في وضع أمتنا الحالي، وضع دولة التجزئة، هي دولة هشة في منزلة بين المنزلتين..فهي أمام مهام كبرى تعجز عن القيام بها مثل الوضع بإزاء الاتفاقات والمعاهدات والمواثيق الدولية ..فهي تسلم بها ولها من دون ممانعة.. فإذا جئت تتكلم عن الاتفاق مع إسرائيل يقولون هذه اتفاقات دولية..وهذا ينطبق علي كل الاتفاقات والمعاهدات التي وقعوها مضطرين في مجالس الأمم المتحدة..
أما المنزلة الثانية فهي التي تتصل بمهام أدني مثل التعليم والاقتصاد ..إلخ.والدولة إذا كانت تتراجع أمام المهام الأولي " الكبري" فهي تترفع عن القيام بالمهام كبرى الثانية " الأدني" وتطلب من الناس أن يقوموا بها بأنفسهم.. لقد انسحبت الدولة تماما من مهامها ولم يعد لها الآن قيمة..لذا فإن وضع الرهان كاملا على الدولة في هذه الفترة يضر بالمشروع الإسلامي الذي يجب أن يأخذ بعين الاعتبار فكرة الوصول إلى الدولة أو مس مفاصلها الأساسية وتدعيم ممانعتها ضد التحديات الخارجية لكن من دون أن يكون مشروعه الأساسي الرهان عليها لأن ذلك يلغى أممية المشروع الإسلامي ويجعله رهنا لمعادلات وتوازنات قوى أكبر منه كما وقع مثلا في حماس.
فحركة حماس حركة إسلامية قوية ونظيفة فازت في انتخابات ديمقراطية نزيهة وأخذت أغلبية كاسحة في البرلمان لكنها حين مسكت السلطة ضعف موقفها. كانت في المعارضة أقوى منها في السلطة لأن السلطة مرتهنة بتوازنات دولية أكبر من قدرة حماس وهي في السلطة على التصدي لها. لم تحسب حماس جيدا الأمور جيدا حين تولت السلطة ..فالذي تغير مع فوز حماس هو المعادلة الداخلية وتراجع فتح لمصلحة حماس لكن المعادلة الدولية والإقليمية كانت كما هي أكبر من قدرتها وأكثر تعقيدا..
لذا فمن الخطأ أن تنفر الحركة الإسلامية كلها إلى العمل السياسي أو يكون رهانها كاملا عليه..لابد أن يتوجه مشروعها إلى الأمة، إلى دعم استقلالية هذه الأمة في اتخاذ قرارها، إلى دعم قدرة الأمة على الممانعة وعلى مواجهة الهجمة الإمبريالية الجديدة التي تقودها أمريكا ..,والمثال العراقي دليل على نجاح المجتمع فيما فشلت فيه الدولة.. فقد فشلت الدولة العراقية في التصدي للأمريكان مع ذلك نجح المجتمع في وقف هذه الحملة لأن بنية الدولة الحديثة في العالم العربى هشة لم تستطع أن تجد لها جذورا ثابتة بينما الأمة كأمة لديها إمكانيات الممانعة الداخلية والمقاومة والحفاظ على نفسها في ظل غياب الدولة. هذا موجود في موريتانيا،في طرق التعليم "المحظرة" التي حفظت للشعب ثقافته وقيمه في غياب مؤسسات التعليم الحديثة..وموجود في الصومال في تجربة المحاكم الإسلامية التي كانت كاشفة لإمكانية أن تقوم الأمة بمهام الدولة في استمرار بقاء المجتمع ..فهؤلاء لم ينتخبوا ولكن اختارتهم الأمة بطريقتها فحفظوا الأمن وأعادوا الهدوء وبنوا المؤسسات التعليمية وغيرها.
** ألا ترون - أستاذ حسام - أن تركيز الحركات الإسلامية المعتدلة على القضايا التكتيكية الآنية كالفوز بالانتخابات...وغيره هو السبب في تنامي التيار الجهادي أو تنامي العنف نظرا لتخلي الحركات المعتدلة عن مطالبها؟
* إلى حد كبير يجد هذا الكلام مسوغاته ووجاهته،المشكل أن التيار الإسلامي بدا وكأنه بدلا من أن يستوعب السياسة استوعبته السياسة.
إذا نظرنا إلى تجربة الحركة الإسلامية في مصر نجد أن حسن البنا كان لديه قدرة على ضبط السياسة وحظها في مشروعه التغييري الإصلاحي فلم يدخل الانتخابات إلا مرتين وتنازل مرة مقابل مكاسب عرضت عليه من قبل رئيس الوزراء؛ مثل فتح شعبا ومدارس ومؤسسات جديدة للحركة.. فكان يعي رغم أنه هو مؤسس الحركة السياسية حظ وقدر السياسة ..لذلك انتشرت حركته في المجتمع المصري بشرائحه المختلفة وأنجز في عشرين سنة ما يعجز عنه أي قائد إصلاحي.
أما المشكل الآن فهو أن الحركة الإسلامية نفسها استوعبتها السياسة فصار صراعها سياسيا مع أنظمة مستبدة متسلطة فكان المسار الثقافي والمسار الدعوى يدفع باستمرار ثمن هذا الصراع.. لذلك جففت منابع التدين وأغلقت مؤسسات للدعوة والثقافة ودفعت الحركة الإسلامية في مجملها ضريبة السياسة..
إضافة إلي ذلك أتصور أن انغماس الحركة إلى هذا الحد في السياسة ولد احتجاجا لدى تيارات أخرى إسلامية... وفكرة التنوع عموما في الحركة الإسلامية جيدة لكن بعضا منها جاء احتجاجا على أن الإغراق في السياسة كان على حساب العمل الاجتماعي والخيري والدعوي فظهرت تنوعات إسلامية سواء منها السلفية أو الجمعية الشرعية أو أنصار السنة أو غيرها تحاول أن تعيد للحركة الإسلامية اعتبار فكرة أن التغيير الإسلامي تغيير ثقافي اجتماعي وأن التغيير عبر السياسة مهما كان قويا إلا انه كالبناء على الرمال معرض للانهيار في أي وقت.
فأنا أتصور أن الحل هو إيجاد نوع من التمييز ما بين الدعوى الثقافي والسياسي والتمييز هنا لا يحيلنا إلى التصور العلماني(لا سياسة في الدين ولا دين في السياسية) فهو تمييز وليس فصل لعدم الالتباس..وأحسب أن ما طرحته حركة التوحيد والإصلاح وحزب العدالة والتنمية في المغرب نموذجا يحتذي في ذلك: أن تعود الحركة إلى مهامها ووظيفتها الأساسية في الدعوة وإقامة الدين ويتخرج من مدرستها تيارا يعمل في الجانب السياسي..وبهذا لا توظف الحركة كلها في العمل السياسي ولا يرتهن المشروع الإسلامي نجاحا ولا فشلا بنجاح أو فشل التجربة السياسية.
** على الرغم من استبطان هذا الطرح لوجاهة أو قبول الطرح العلماني فهو أيضا يستلزم قضية أخرى ظهرت في الأردن مثلا هي ازدواجية اتخاذ القرار؛ بعبارة أخرى من يتخذ القرار: أصحاب الثقافة والدعوة أم أصحاب السياسة؟
* لا أتصور أن فكرة التمييز بين الدعوي والسياسي تقوم علي استبطان الطرح العلماني ..فالطرح العلماني يتعارض في مجمله مع الطرح الإسلامي في إمكانية ممارسة السياسة في المجتمع علي أساس من الدين..بل أقصي ما في هذا التمييز ربما استيعاب لحوادث طرحها الطرح العلماني خصوصا أن الدخول الواسع في المجال السياسي أوجد مشاكل تبدو أخلاقية مثل توفير منابر دعوية لمرشح سياسي وحتى الخطاب السياسي للناشط الإسلامي الذي يأخذ طابعا قطعيا طابعا تسلطيا على النص حتى يبدو وكأن الإختلاف مع السياسي الإسلامي اختلاف مع النص نفسه أو الشرع نفسه. هذه محاذير يستوعبها المشروع الإسلامي ليس لأنها ناتجة عن ضغط العلمانيين ولكن من قبل فكرة (التوبة والمراجعة) .
وسؤال العلاقة بين السياسي والدعوى بدء يلح بعد أن توسع المشروع الإسلامي..وإذا تكلمنا عن المشروع الأساسي للحركات الإسلامية كتيار الإخوان المسلمين فسيبدو لك أن لكل قطر تجلياته وإجابته على سؤال العلاقة بين السياسة والدعوة. في اليمن مثلا تم دمج الحزب والحركة فصارت الحركة جزء من حزب التجمع اليمني للإصلاح، في الأردن تأسس حزب العمل الإسلامي كذراع سياسي للإخوان المسلمين، في الجزائر توحد الحزب والحركة وفي المغرب تميز ما بين الحزب والحركة، وفي قطر تم حل التنظيم وأعيدت هيكلته في جمعيات ... إلخ. فكان لكل مجتمع إجابته...لكن للأسف معظم هذه الإجابات لم تتم في مناخ طبيعي لذلك أثر هذا على الحركة الأم في مصر وتصورها للإجابة عن هذا السؤال..وفي كل الأحوال يجب التأكيد علي أنه ليس هناك نمط يجب توحيده على الجميع ..بل يحب أن يكون هنالك نظر لخصوصية كل بلد.
** على ذكر الفرق بين المركز والأطراف يرى راشد الغنوشي أن هنالك فروقا بين الحركة الإسلامية المغاربية وأخواتها في المشرق؟
* أوافق على أن كل تجربة تأثرت إلى حد كبير بالمحيط الثقافي الذي نشأت فيه. الحركة الإسلامية المغاربية ربما كانت لها طبيعتها الخاصة وأنها أنجزت في مساحات تأخرت فيها الحركات الأخرى ..وكما قلت فإنه ليس من المطلوب صب هذه الحركة في قالب واحد تنظيمي أو تصور سياسي واحد خصوصا أن الاختلافات الحضارية والثقافية والسياسية جد متباينة مابين بلد مثل مصر تتغول فيه الدولة المركزية وبلد ما زال يعيش ما قبل نشأة الدولة مثل موريتانيا التي بها مجتمع حي وفاعل معظمه لم يتأثر ببنية الدولة الحديثة..فيوم خرج الاحتلال الفرنسي لم يكن هناك سوي 490 طالبا فقط في كل المدارس النظامية الموريتانية وبقي العلم موجودا عبر المحاظر القوية وفي ظل المجتمع القبلي..وإذا نظرنا إلي مصر فهي دولة حديثة بمعنى من المعاني..ومن ثم فلا يجب النظر إلى تجربة الحركة الإسلامية المصرية خلوا من السياق الذي تتحرك فيه؛ فالتجربة الإسلامية المصرية هي وارثة لإشكالات تجربة الدولة نفسها فهنالك قضايا تجتمع فيها الحركة الإسلامية والدولة المصرية علي نفس الإشكالات. مثلا إذا نظرنا إلى التجربة التاريخية فالإخوان مازالوا يعيشون تجربة حسن البنا والجماعة الصامدة والتراث الممتد ..ومصر مازالت تعيش فكرة أنها حامية الأمة العربية وقلبها النابض .لذلك تتأثر حركة الإخوان وحركة الدولة بهذا الميراث..ومثلما أصبحنا نجد دولا عربية هامشية صغيرة تستطيع أن تأخذ مبادرات سياسة أكثر جرأة وفاعلية من مصر أصبحنا نجد أيضا حركات إسلامية هامشية وأصغر كثيرا من إخوان مصر تأخذ بزمام المبادرة.
أيضا هنالك بعض القضايا التي لا يستطيع الإخوان المصريون تجاهلها مثلا القضية الفلسطينية.. يمكن للإخوان المغاربة أو اليمنيين أوفي أي دولة من دول الأطراف أن يخفضوا سقف القضية الفلسطينية بينما تعتبر فلسطين بالنسبة للحركة الإسلامية في مصر قضية مركزية لأن الحركة الإسلامية المصرية هي التي خلقت القضية الفلسطينية في الوعي العربي وهي التي نشأت فيها فكرة الجهاد من أجل فلسطين فصارت جزء بنيويا من اهتماماتها و لا يمكن أن تقلص منه مثلما فعلت الحركة الإسلامية في تركيا التي كان جزءا مهما من قدرتها لتنجز في السياسة أن المشكل الفلسطيني لم يكن له أولوية في أجندتها و لم يأخذ أكثر من التعاطف العام. وأيضا الحديث عن العلاقة مع الغرب يتأثر بهذه القضية فميراث التاريخ وكلفة الأخ الأكبر والحركة الأم مازال يؤثر على الإخوان..لذلك نجد أن الأطراف نجحت وقطعت أشواطا مهمة في ملفات كثيرة ما زالت الحركة الأم لم تفتحها.
أيضا نجد أنه في الوقت الذي وصلت فيه الحركة في اليمن وصل إلى رئاسة البرلمان ومشاركة الحزب الحاكم في السلطة ..ووصلت إلى السلطة كاملة في السودان ..مازالت الحركة أسيرة السياق المصري الذي تمثل فيه معضلة قانونية.
** بم تفسرون تراجع الهم الثقافي والإنتاج الفكري للحركات الإسلامية عموما؟
* أتفق معك في هذا الموضوع وأعتبره من نقاط الضعف لدى الحركة الإسلامية لأنها لم تستطع أن تقارب مابين أن تكون جماهيرية شعبوية وما بين أن تقدم مقاربة فكرية معتبرة فغلب الخطاب الجماهيري -الحشد والتعبئة وإثارة العواطف- على الاشتباك الحقيقي مع الأسئلة والإشكالات الفكرية..وربما أعتبر أن التوسع الضخم في العمل السياسي دون تكوين الأطر والعناية بالجانب الفكري كان مسئولا عن هذا التدهور...لقد بدا أن الحركة تتضخم تنظيميا في حين يظل نمو عقلها فقيرا فلم يتناسب النمو الفكري للحركة مع المساحات الواسعة التي اتسعت لها في فترة زمنية قصيرة وهي مسئولة عن ذلك بشكل كبير، لكن أحيانا ما تكون لحظة تاريخية سببا في هذا الضعف فالاستقبال الذي قوبلت به من طرف الجماهير وتعلق الجماهير بها في مجمل البلاد الإسلامية ورهانها عليها مع فشل أو تراجع المشروعات الأخرى ربما كلفها ما لا تطيق فصارت منهكة ومستنزفة بالفعل الآني واليومي دون أن تبصر أهمية أن تكون لديها عقول تدير هذا الموضوع.
** يرى بعض الكتاب أن الحركات الإسلامية سقطت في أوحال أمراض مجتمعاتها: الطائفية في العراق، القبلية في اليمن الموقف من المرأة في الخليج...الخ؟
حسام تمام: يمكن الاتفاق مع هذا الرأي إلى حد كبير لكن لابد من التدقيق لفهم هذا الموضوع.
على المستوى النظري كانت الحركة الإسلامية عموما تحديثية ضد البني والأفكار التقليدية.. فهي كانت منذ نشأتها ضد الطائفية مثلا بمعنى لم تكن قائمة على التقسيم الطائفي فمثلا حسن البنا تبنى فكرة تقريب بين المذاهب وكانت جديدة في وقتها، والحركة الإسلامية في أمريكا تضم السنة والشيعة..وشيء من ذلك يمكن قوله بالنسبة للقبلية.. لكن بدا أن الحركات الإسلامية لما اشتبكت مع مجتمعاتها لم تستطع أن تغير شيئا فاضطرت إلى الاشتباك مع القبيلة في بعض الأماكن ولم تميز ما بين القبيلة والقبلية. ركبت أحيانا الخريطة الطائفية ولم تميز ما بين الطائفة كمكون أو تشكيل اجتماعي لا تستطيع القفز عليه وما بين الطائفية...وكانت الحركة في هذا المستوي تقدم استجابة للواقع لكنها استجابة دون مستوي تصورها النظري..
وفي هذا الصدد يمكن أن نثمن مقاربة الحركة الإسلامية في موريتانيا في قضايا مثل التمييز والعبودية والقبلية التي يعانيها المجتمع الموريتاني؛ فحين نتكلم عن بنية الحركة من الداخل نجد أنها تشتمل على كل عناصر المجتمع لكنها حين تتعاطى سياسيا مع المجتمع تحاول أن تفهم هذا الواقع الاجتماعي دون أن تقبله تماما فلديها تمييز بين القبيلة والقبلية و بين الطائفة والطائفية.هذه أمراض مجتمعات حاولت الحركة علاجها لكنها لم تستطع تقديم مقاربة إجرائية في هذا المجال.
** ألا ترون أنكم - وأنتم تمارسون النقد الذاتي- تنخرطون بشكل غير مباشر في حملة التشويه والتخويف العالمية ضد الحركات الإسلامية؟
*..أبدا..وهذا الفهم هو من أكبر مشكلات الحركة الإسلامية..إنها تخطأ بهذا مرتين... أولا: حين تجعل نفسها مجتمعا منفصلا أو موازيا للمجتمع ..وهذا مالا يجوز لأن أي حركة ترى نفسها حركة تغيير اجتماعي ..إذ يجب أن تحرص على نوع من الشفافية ونوع من الوضوح وترى أن النقد يؤدي إلى مكاسب مختلفة كالتطوير الداخلي وتجاوز العثرات. ..ثانيا: أنها لا تري فائدة أن تكون موضوعا للتحليل والنقد إذ ينقلها ذلك من كونها حالة تنظيمية لتصبح حالة مجتمعية..وهناك قاعدة أساسية لكل من يتصدي للعمل العام وهي أنه يتصدق بعرضه ( بالمعني العام للعرض ) ويقبل أن يكون موضوعا للنقد والتحليل.
للأسف مازال لدي الحركة الإسلامية قلق من أن تكون معرضة للنقد و التحليل في حين أنها إذا قامت بذلك تتحول إلى حركة اجتماعية وحركة الأمة نفسها لأن الأمة إذا اختلفت معك ردا ونقدا ومدحا وقدحا .. هذا معناه أنها صارت تنظر إليك باعتبارك ممثلا لها، أما إذا فضلت أن تكون موضوعا تنظيميا لا يدور الحديث عنه إلا في الغرف المغلقة فهذا يضر بمكاسب الحركة لهذا خسرت الحركة كثيرا من أبنائها الذين أرادوا ممارسة حق النقد من أجل التطوير فابتعدوا عنها.
هذا الموقف من قضية النقد هو موقف الذين تربوا من الحركة في أطر مغلقة واستمرءوا فكرة أن يكونوا بعيدا عن أعين المجتمع لكن لو استعادت الحركة الإسلامية منطقها الحقيقي باعتبارها حركة عالمية وأن السرية فيها استثناء وأنها يمكن أن تكون في لحظة أو قضية معينة ثم تعود إلى مكانها الطبيعي ضمن سياق ونسيج المجتمع الذي تنتمي إليه، لو فعلت ذلك لما نظرت إلى النقد هذه النظرة المرتابة المتوجسة ..وأنا أتصور أن أي حركة ترى أنها رائدة أو ممثلا للمجتمع يجب أن ترحب بهذا النقد بشروطه وأخلاقياته التي لا يختلف عليها.
** قلتم في أحد حواراتكم إن حركة الإخوان حركة باطنية وتحدثتم عن نبوءة العدل والإحسان ما السر في هذا التحول الباطني في طرح الحركات الإسلامية ؟
* وصف الباطنية هذا لم أقل به ولم أقصده..بل هو من فعل صحفي من جريدة السياسة الكويتية أراد الإثارة الصحفية ..وكل ما قي الأمر أنني انتقدت إحجام الإخوان عن كتابة تاريخهم بسبب أنها تسيطر علينا هواجس الخوف من فتح ملفات الحركة تجعلها تمنع النقاش في هذه الملفات إلا في أطر سرية.. والباطنية لها مفهوم آخر يختلف مع أهل السنة والجماعة الذين ندين بمذهبهم.. وهذه آفة الخطاب العلماني أنه ينقل قضايا البحث المتعلقة بالحركة الإسلامية لتوظيفها في خطاب حجاجي تحريضي ضد الحركة.
أما ما قلته في مسألة النبوءة والسياسة في حركة العدل والإحسان فهو كان محاولة لتفسير قضية أن تحول حركة تنظيمية قضيتها ونزالها مع النظام السياسي إلى أرض النبوءة وكانت محاولة تفسيرية لقضية قدرة الفاعل الإسلامي علي أن يوظف مساحة لا يستطيعها كما هو الحال في موضوع المنامات والرؤي ويحاول أن يرتب عليها صراعا سياسيا ..وقد كتبت ذلك ولم يكن فيه رأيي الشخصي ..ولكن لو سألتني عن موقفي فأنا أرى أن ما فعلته جماعة العدل والإحسان كان خطأ كبيرا خاصة حين أدخلت موضوع المنامات في الصراع السياسي مع النظام ..
لكن مجمل ما قلته في مقال كتبته عن النبوءة والسياسة كان مقاربة لتلمس كيف يمكن لحركة ذات مشارب صوفية في مجتمع كالمجتمع المغربي تكثر فيه أحاديث المنامات والرؤى ويدخل بها معارك سياسية تذكرني بالحالة الإنجيلية في الولايات المتحدة وكيف يقوم المشهد السياسي فيها على بعض النبوءات الدينية..وأنا من الذين يذهبون إلي رفض تورط الحركات الإسلامية في هذا خشية أن يدخل الخطاب الإسلامي في نفق العبثية غير المنضبطة.
** يلاحظ على بعض المفكرين الإسلاميين تضخم الطرح العقلاني المادي على حساب الأبعاد الربانية الغيبية.. بما ذا تفسرون ذلك؟
* أرى أن هذا جزء من تأثر شريحة تنتمي للنخبة الإسلامية بضغط المادية الغربية وقيم الحداثة ..وهم وإن لم ينته بهم الأمر إلي أن يتبنوا رؤية مادية فإن ظلال هذه الرؤية يتأتى أحيانا من خلال الاستبعاد الكلي للغيب عبر المبشرات والإشارات الربانية التي أرى أن الناشط الإسلامي أيا كان موقعه يجب أن لا ينعزل عنها كلية بل هي جزء من قدرته وقدرة الحركة على الاستمرار والصمود في ظل حسابات منطقية لا تدعو إلى ذلك ولا تبشر بنجاح.
والذي يمكن أن نتكلم عنه في هذا الموضوع أن نبدأ نقاشا حول مساحة استحضار الغيب في الخطاب الحركي: كيف ومتى وأين ؟ حتى يتم ضبطه ولا يتحول إلى تواكلية ولا يعزز فكرة الخرافة فينفي السننية ويحول الحركة إلى حركة طرقية تحلق في فضاء اللا معقولية.
أتصور أن اهتمامنا يجب أن يكون منصبا حول كيف نتصل بأسباب الغيب و كيف نعود إلى منطق الرؤية الإسلامية دون أن نتورط في نفي السنية التي هي أيضا جزء من الرؤية الإسلامية.
** ما الذي يعنيه الحوار بين الولايات المتحدة والحركات الإسلامية من وجهة نظركم؟
* إجمالا أرى أن الحوار كعملية لا تنقطع، وهي لها مستويات متعددة فأحيانا المقاومة العراقية تحاور أمريكا على طريقتها..وحركة الجهاد وحماس تحاوران الصهاينة على طريقتهما. كما يقول عبد الوهاب المسيري..الحوار لا ينقطع دائما..وانقطاعه غير مطلوب لكن يجب أن لا يكون في موضوعات مجتزئة وقضايا تصاغ وفق الأجندة الغربية؛ مثل المرأة وحوار الأديان وحقوق الإنسان..إن أي حوار يجب أن يدور ضمن مقاربة كاملة لهذه القضايا في سياق المشروع الإسلامي وليس في سياق الأجندة الغربية.
فالذي يحدث أن هذه المصطلحات تصير أيديولوجية بذاتها ويدار جولها الحوار ضمن مقاربة مفروضة على الحركة.. فيعيد الإسلاميون تأسيس رؤيتهم المعرفية وصياغة مشروعهم الإسلامي بناء على أسئلة الآخر وهذا أول خطوات تفكيك المشروع الإسلامي؛ أن يعيد الإسلاميون بناء منظومتهم المعرفية وتأسيس مشروعهم بناء على مجموعة أسئلة يطرحها الآخرون فيقف الإسلاميون على البوابة الأمريكية فيسألون ويجيبون سؤالا سؤالا وموضوعا موضوعا كالطالب في الامتحان.
فإذا أنت قبلت أن تجيب على أسئلة الآخر بترتيب صاحبها وتوقيتها والكيفية التي يريد فأنت مخطأ ولو أحسنت الإجابة لابد أن يكون للحركة وللصحوة الإسلامية مشروع متكامل تتشكل في إطاره مقاربتها لهذه الأسئلة.
**شكرا لكم.
* بل الشكر لكم
مجلة السراج الموريتانية