مفكرون يبحثون أيديولوجية الإخوان المسلمين(الوطن السعودية(
أثيرت عدة إشكالات حول "جماعة الإخوان المسلمين.. الراهن والمستقبل" بعد الصدامات العنيفة مع السلطة في مصر، والمحاكمات العسكرية لأربعين من أبرز قياداتها، وأذرعها الاقتصادية، وهي القضية التي حجزتها المحكمة العسكرية للحكم في 26 فبراير الجاري ولا يعرف مصير الإخوان بعدها.
وقد صدرت خلال الأيام القليلة الماضية دراستان هامتان حول مستقبل الإخوان المسلمين، الأولى للباحث بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام خليل العناني بعنوان "الإخوان المسلمون وأمراض الشيخوخة.. خطر الانهيار من الداخل" وصدرت عن مكتبة الشروق الدولية، يتناول فيها المرحلة المعاصرة من صعود جماعة الإخوان المسلمين في مصر منذ سبعينيات القرن الماضي، ودورها المستقبلي. وتبحث الدراسة في طريقة "نفذ ثم اعترض" التي تتبعها الجماعة، حيث ترى في الطاعة أمراً سابقاً على الاختلاف في الرأي، والتحدي الماثل أمام الجماعة اليوم -وفق الكتاب- يتركز في كيفية الحفاظ على الأجيال الجديدة التي تنتمي لعالم مختلف، ويرى العناني أن مواقف الجماعة من المرأة والأقباط والحجاب تنم عن "السطحية" وعدم الجرأة في استنباط أحكام من مفكرين إسلاميين مستقلين أو حتى من تيارات إخوانية أكثر تقدمية. وشبه حال الإخوان بمن يعاني أعراض الشيخوخة، ويسعى جاهدا من أجل الحفاظ على حيويته ونشاطه، من خلال أجهزة اصطناعية!.
أما الدراسة الثانية فقد أعدها الباحث في مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام الدكتور عمرو الشوبكي ودارت -أيضا- حول قضايا مفصلية من أبرزها: هل تتحول جماعة الإخوان إلى حزب سياسي؟ وهل يقبل الإخوان بالآخر لو كان شيوعياً أو ليبرالياً دون استخدام المرجعية الإسلامية التي يستندون إليها ضد باقي الاتجاهات العلمانية، ودون النظر إلى من يخالفهم الرأي على أنهم مارقون مخالفون للإسلام؟ وهل يقبل الإخوان أن تمثل مرجعيتهم الإسلامية فهمهم للدين وليس الدين نفسه؟!. ووضع الشوبكي أربعة سيناريوهات حول مستقبلَ جماعة الإخوان المسلمين في مصر: السيناريو الأول: استمرار الوضع القائم، ويقوم على بقاء الجماعة كما هي جماعة دعوية وسياسية تجنّد أعضاءَها وتعلمهم بعض الأفكار السياسية وتبقَى غيرَ مرخَّصٍ لها بالعمل القانوني، ويتوقع استمرار هذا السيناريو في ظل حكم الرئيس مبارك، وألا يحدث تغيير في طريقة تعامل النظام القائم مع الجماعة في اتجاه دمجها كحزب سياسي مدني يلتزم بالدستور والنظام الجمهوري وحقوق المواطنة.
والسيناريو الثاني: الفوضى الخلاقة ويقوم على أن تتجه الأوضاع في مصر نحو مزيدٍ من التدهور بصورةٍ تؤدي إلى انتشار حالة من الفوضى، خاصةً مع تصاعد الاحتجاجات العشوائية التي لا تقودها تيارات سياسية، وتعبر عن أزمة اجتماعية وسياسية عميقة داخل المجتمع، وفي هذا الإطار يطرح سيناريو يتعلَّق بإمكانية استغلال بعض القوى السياسية -وعلى رأسها الإخوان المسلمون- لحالة الفوضى المتصورة أو أن تسهم في خلقها من أجل انقضاضهم على السلطة. واعتبره أضعف السيناريوهات الأربعة من حيث فرص التحقيق؛ ذلك لأن الإخوان بدايةً لا يسعَون بأي صورة من الصور إلى الانقضاض على السلطة، ولا يرغبون في التخلي عن مشروعهم المثالي الكامن داخل ثقافة الجماعة.
السيناريو الثالث: تطعيم الوضع القائم بالفكر الجديد ويقوم على إجراء دمج قانوني جزئي أو كلي لبعض تيارات الإسلام السياسي السلمية، ولكنه في ظل استمرار الجانب الأكبر من القيود المفروضة على العملية السياسية وفي ظل نفس القواعد (بعد تحسينها) التي وضعها الحزب الوطني الحاكم.
ويفترض هذا السيناريو إمكانيةَ أن يقبل النظام الحاكم بحزبٍ إسلاميٍّ غير إخواني، وهو ما يعني أن ملف حركات الإسلام السياسي قد تم فتحه، وبمزيد من التفاؤل ربما توافق حكومة الفكر الجديد على مجموعة من الأحزاب السياسة الإسلامية بغرض سحب بعض عناصر الإخوان إليها، حتى يتم إضعاف الأكبر سياسيًّا وتنظيميًّا.
والسيناريو الرابع: الدمج الكامل للإخوان المسلمين في عملية الإصلاح الديموقراطي يظل هذا السيناريو هو النموذج المثالي للتطور الديموقراطي في مصر، أي سيناريو الانتقال إلى نظام ديموقراطي، بصورة متدرِّجة لا تخضع لأي أغراض سياسية، تهندس مسألة الإصلاح على مقاس لجنة السياسات ليصبح مجرد تغيير شكلي، ويتصور هذا السيناريو دمج الإخوان في عملية الإصلاح الديموقراطي بصورة كاملة.
ولكن يبقى مستقبل الإخوان المسلمين كجماعة محط تساؤلات مثيرة للجدل يختلط فيها الدعوي بالسياسي، والقطري بالإقليمي والعالمي، والعام بالخاص، وقد طرحنا القضية على مجموعة من الباحثين في شأن الجماعات الإسلامية منهم من كان في الإخوان ثم استقل، ومنهم من كان له تجربة قيادية سابقة في تنظيم الجهاد المصري ثم صار بعيداً عن التنظيمات. فماذا يقولون عن مستقبل الإخوان في ظل الظروف الحالية؟
الإخوان والمشروع الإسلامي
في البداية يقول الدكتور كمال حبيب: لم تعد جماعة الإخوان هي تلك التي أسسها "حسن البنا"، نحن أمام جماعة في طور التحول الدائم الذي يعبر عن قدرة هائلة من التكيف لدى الجماعة، فهي أقدم من كل الأنظمة السياسية التي تحكم في العالم العربي اليوم، ومن ثم لديها خبرات كبيرة للتعامل مع واقع المنطقة العربية ونظمها التي تموج بالاضطراب والتحول، والمؤكد من خلال مراقبة تحولات الجماعة في علاقتها بالواقع أننا أمام اتساع لمساحة الدور السياسي لعمل الجماعة على عكس أدوارها السابقة والتي كانت تغلب المسألة الدعوية والتربوية ومن ثم التنظيمية، وإذا كان لنا أن نصف بعض النظم العربية وعلى رأسها مصر بالدولة العميقة فإن جماعة الإخوان هي الأخرى يمكن أن نصفها بالجماعة العتيقة والتنظيم العميق.
ومن ثم فإن حديث بعض المنتمين سابقا للحركة من أمثال دكتور "عبدالله فهد النفيسي" -أحد أعضاء التنظيم الدولي للإخوان في الكويت سابقاً- عن خيار حل الجماعة كما حدث في الخبرة القطرية، هو تعبير عن رؤية لمفكر يرى أن عبء التنظيم على الحالة الإسلامية قد أثقلها، وتلك رؤيته وهو من الأصوات الأولى التي مارست نقداً ذاتيا صريحا ومؤلما في عدد من دراساته القيمة وعلى رأسها "الحركة الإسلامية.. رؤية مستقبلية.. أرواق في النقد الذاتي"، لكن قدرة الجماعة الهائلة على جذب الأنصار وحشدهم وملء الفراغ السياسي التي تركته الأنظمة العربية مع غياب السياسة في العالم العربي يجعل من رؤية "النفيسي" أملا لن يتحقق.
أما بخصوص ما ذهب إليه الدكتور العوا من دعوة الجماعة لترك العمل السياسي والاهتمام بالعمل الدعوي يرى الدكتور كمال حبيب: إن هذا تعبير عن رؤية سادت لدى بعض المهتمين بالعمل الإسلامي في مصر ممن غادروا الإخوان ورأوا أن التركيز على العمل الدعوى والتربوي وعدم المصادمة مع الحكومات هو أجدى للعمل الإسلامي من مواجهة معها لا تفيد التيار الإسلامي العام، وهذه الرؤية تقول إن فكرة الدولة والوصول إلى السلطة أخذت مساحة كبيرة من فكر الإسلاميين وأدت إلى حوادث كارثية، ومن ثم لا بد من تغيير الدفة والوجهة إلى الاقتصار على العمل الدعوي والمجتمعي (فضاء ما قبل الدولة)، وأظن أن هذه الدعوة هي تعبير عن رؤية مهمة ولكنها أفكار بعيدة عن التحقيق - في تقديرنا.
ويقول قادة الجماعة والتنظيم إن هذه دعوات لمفكرين من خارج الجماعة أو من المتمردين عليها، ولكن يبقى سؤال مستقبل الجماعة سؤالاً مشروعاً وقلقاً بقدر ما يحمل من غموض، فالجماعة تعمل في سياق الفعل ورد الفعل الحركي - من وجهة نظري- وليس لديها دراسات لكيفية مواجهة المستقبل وتحولاته والسيناريوهات المختلفة التي عليها أن تسلكها في مواجهة مسارات الغد الحبلى بالمفاجآت.
ويحدد الدكتور حبيب عدة سيناريوهات حول المستقبل بالنسبة للجماعة تتمثل في الآتي:
السيناريو الأول: الفصل بين الدعوي والسياسي:
الخطوات الواسعة التي اتخذتها الجماعة بشأن التكيف مع الواقع السياسي كمشاركة فيه هو الذي دفعها إلى الاستجابة لقطاع مهم من قياداتها الوسطي بالفصل بين الدعوى والسياسي بحيث يمكن للجماعة أن تؤسس حزباً سياسياً أعلن برنامجه وأدى لصدمة لدى النخب المصرية والإخوانية الوسيطة والتي لم يجر استشارتها بشأن البرنامج، ولا يزال البرنامج في طور الأخذ والرد، وبظني ومن خلال قراءة الخبرة الحركية والتنظيمية للجماعة فإنها لن تسير قدماً في التحول ناحية العمل السياسي بشكل كامل من خلال العمل الحزبي، فهي تمارس السياسة كما يقول قادتها من منظور الحركة الواسعة التي لا يجب أن تتقيد داخل العمل الحزبي، ويبدو أن الضغط عليها من قبل النظام المصري سيوقف هذا المشروع إلى حين.
السيناريو الثاني: استمرار الدعوي والسياسي (المسار التقليدي للجماعة):
وهذا السيناريو هو الأرجح الآن في ظل تمكن التيار التقليدي للجماعة من صناعة القرار داخلها، والذي يتمثل في شيوخ الجماعة ممن يمثلون استمرار تقاليد التنظيم الخاص وهم ليسوا فقط الشيوخ ولكن منهم قطاع مهم من جيل الوسط أغلبهم ممن يحاكمون في القضية العسكرية التي يجري نظرها اليوم.
السيناريو الثالث: تغير بنية الجماعة لطور جديد مختلف:
هناك بعض الظواهر المهمة مثل وجود تيار تجديدي داخل الجماعة من جيل الوسط وهذا التيار أغلب أعضائه ينتمون لجيل الوسط وكان معهم بعض الشيوخ القدامي الذين لا يملكون مفاتيح القرار داخل الجماعة، وهذا التيار تم قمعه بقوة وانشق في منتصف التسعينيات، وبعضه أرغم على العودة للجماعة، وهناك الأجيال الجديدة داخل الجماعة من الشباب وهم من يطلق عليهم "مدونو الإخوان" وهم نمط مختلف في تفكيره وسلوكه فهم تعبير عن أبناء تيار التجديد داخل الإخوان، وهم عاشوا فترات قوة الجماعة وغناها ولم يعرفوا شيئاً عن محنها، وكل هذه الظواهر الجديدة داخل الجماعة من المبكر الحديث عن قدرتها على إحداث تغييرات بنيوية داخلها.
نحن أمام جماعة كبيرة جدا لها امتدادات واسعة داخل أجيال مختلفة من أبناء الطبقة الوسطي والعليا والدنيا داخل المجتمع المصري، ومن ثم هناك جسد ضخم قد يتضمن داخله آراء متباينة ولكن ما كينة التنظيم القوية هي التي تحدد هوية الجسد الضخم كفاعل اجتماعي يبدو أقرب للتنظيم الأبوي الذي تشيع داخله روح الانتماء العشائري والقبلي والذي ينتهي لتسويات يقبلها الجميع وإن كان يحمل رؤى مغايرة لها.
نفس الأمر بالنسبة لوضع التنظيم الدولي، فهو أطروحة فضفاضة لرؤى متعددة وواسعة جدا، وهو أقرب لمنتدى فكري يحمل صخب الأفكار والانتقادات وأبرزها تعديل اللائحة الإخوانية التي تتحدث عن ثقل العنصر المصري في التنظيم بما في ذلك إمكان أن يكون هناك مرشد من خارج مصر، وحدث هذا مرات عديدة حين كان يجري انتقال السلطة إلى مرشد جديد، كما أن لحظات الامتحان التي تواجه الجماعة فيها هجمة من السلطة فإنها تنشط حركة النقد الذاتي الداخلي ولكن في التحليل النهائي فإن تلك الظواهر جميعها لا يمكنها أن تنال من رسوخ النزعة التقليدية ذات الطابع الأبوي للجماعة، كما أن مستقبل الجماعة هو في التحليل النهائي جزء من مستقبل المنطقة كلها التي تمور بتيارات لا تزال غامضة وفي طور التكوين.
أطروحات بعيدة عن الواقع
أما الخبير في شؤون الجماعات الإسلامية حسام تمام فيقول: رغم وجاهة ما يوجه من نقد لطريقة إدارة جماعة الإخوان لعلاقتها مع السلطة في مصر إلا أن كثيراً منه يبدو غير دقيق أو بعيدا عن الواقع إلى حد كبير.. فالدعوة التي تبناها النفيسي مثلا وله معرفة وخبرة حركية بالإخوان تبدو بعيدة عن فهم طبيعة وضع الإخوان في مصر والوضع المصري عموما كما أن مقارنتها بالتجربة القطرية تبدو مخلةً وتقع في خطأ تعميم التجارب دون الوعي بخصوصية كل تنظيم وكل بلد..قطر لم يكن الإخوان فيها يحملون من التنظيم إلا الاسم.. لم يكن إخوان قطر يوما رقما مهما لا تنظيميا ولا سياسيا في قطر، كما أن طبيعة بلدهم يمكن أن تسمح لهم بدور غير تنظيمي قد يكون أفضل وأكثر تحررا وعطاء من حال تمسكهم بتنظيم سري لا أهمية له ولا تأثير..وأتصور أن هذا ما وعاه مسؤول الإخوان القطريين وقتها الدكتور جاسم سلطان فانتهى وإخوانه إلى قرار حل التنظيم والعمل من خلال بعض الجمعيات ومراكز الأبحاث..وهو حل أراه ذكيا ومبدعا وخارجاً عن المألوف في العقلية الإخوانية الحركية..لكنه لا يعني تعميمه...فالتجارب لا تستنسخ ولا يعاد تكرارها في بيئات مغايرة... وما قاله النفيسي لا يأخذ في الحسبان حجم حضور التنظيم في الوعي الإخواني المصري ومحوريته وتأثيره في المشروع الإخواني ومن ثم لا يبالي بواقعية طرحه..كما لا يأخذ في الحسبان أيضا طبيعة المرحلة الانتقالية الحالية التي تعيشها مصر في انتظار انتقال للسلطة يحتار الجميع في شكله وطبيعته..ومن ثم فلا يعقل أن يطالب أكبر تنظيم سياسي في مصر باتخاذ قرار حل نفسه أو أخذ هذه الدعوة على سبيل الجد..أنا سبق وكتبت عن خطر التنظيم على المشروع الإخواني ونشرت دراسة عن ذلك بعنوان (الإخوان المسلمون وغواية التنظيم) وفيها تحليل ونقد لوقوع الإخوان في غواية التنظيم السري المغلق..لكن الأمر يختلف عند تقديم رؤية عملية لصانع القرار في الإخوان..عقبة التنظيم يمكن أن تقارب بشكل مختلف يسعى إلى تجاوز مشكلاته ثم تجاوزه تدريجيا ومن ثم عودة الإخوان إلى الاهتمام بالمشروع وليس التنظيم..
أما فيما يخص دعوة العوّا الجماعة إلى الاهتمام بالدعوة وترك السياسة، فقد حدث فيها التباس سببه سياق دعوته ومفهوم السياسة التي يقصدها. فقد جاءت دعوة العوا في أوج قيادة الإخوان لحركة المعارضة ضد النظام. مما جعلها تبدو وكأنها دعوة للنأي عن المعارضة والتخلي عن مطالب الشارع وهو ما لا أتصور أنه مقصد العوا. كما أنه من المفهوم الدعوة إلى التمييز بين الدعوة وبين السياسة في نشاط الجماعة وهو محل اتفاق وليس ترك السياسة كلية..فهناك مشكل يتعلق بأن الجماعة انغمست تماما في العمل السياسي في السنوات الأخيرة ووظفت كل طاقاتها وفاعلياتها من أجله دون أن تترك مساحة للعمل الدعوي أو الاجتماعي وهو ما أضر بالمشروع الإسلامي وحوّله إلى مشروع سياسي بالمعنى التنافسي الحزبي..ومن ثم فالأكثر دقة وواقعية وإنصافا هو دعوة الإخوان للتمييز بين السياسي وبين الدعوي في مشروعهم وليس دعوتهم لترك السياسة.
إخوان المدونات
أما عن الحراك الذي تشهده الجماعة الآن وبروز جيل الإنترنت وما أثاره "إخوان المدونات" وهل يقلص دور الجيل القديم المحافظ الذي يرفض التغيير، فيقول حسام تمام: لا أتصور أن التقسيم داخل الجماعة جيلي يتمايز فيه جيل قديم محافظ عن جيل جديد منفتح. التقسيم الأكثر صواباً في نظري هو بحسب التيار..هناك تيار منفتح على المجتمع وآخر تنظيمي يغلب عليه الانغلاق. ولدى كل منهما القدرة على توريث رؤيته بحيث دائما سنجد داخل كل منهما أجيال مختلفة. سنجد في تيار الانفتاح مثلا مهدي عاكف الذي يتم عامه الثمانين في غضون شهور. فيما سنجد شباباً ثلاثينياً أكثر انغلاقا وتشددا.
أما فيما يخص الإنترنت والمدونات فإن أهم تأثيراتها هو ما أحدثته من تغيير داخل جسم جماعة الإخوان وبنيتها التنظيمية. وإلا فإن الإنترنت لا صلة له بالضرورة بالانفتاح بالضرورة. وأكثر من تعاطى معه واستفاد منه داخل الحالة الإسلامية هو تيار المحافظة. الإنترنت والمدونات الإخوانية هي التي تساهم الآن في تفكيك البنية الهرمية التقليدية والتي تتحرك فيها المعلومات والثقافة والتربية من أعلى لأسفل وفق تراتبية تنظيمية محكمة ومغلقة. لقد فككت الإنترنت هيمنة جهاز التربية في الجماعة على المعلومات وعلى عملية التثقيف وعلى التواصل المباشر والحي بين مكونات الجماعة وقطاعاتها وشرائحها التنظيمية المختلفة. وأضعفت القدرة على التحكم في المعلومة أو توجيهها وجهة محددة. ولأن المعلومات والمعرفة سلطة في ذاتها خاصة في التنظيمات المغلقة فإن الإنترنت والمدونات أعادت -ولو جزئيا- ترتيب الأوزان النسبية للقوة والسلطة داخل الجماعة فألغت أو حدت من بعض قوة قسم التربية، كما صنعت حضورا وتأثيرا لشخصيات كانت هامشية من قبل فقط لأنها حضرت بقوة في الإنترنت والميديا عموما وأخذت بعضا من قوتها وتأثيرها من هذا الحضور...التأثير الحقيقي للإنترنت سيظهر بعد فترة حين يكون الخارج أقوي تأثيرا من الداخل بعد أن يظهر آثار ثورة الميديا خاصة الإسلامية على الجماعة.
أما الحديث عن احتكار مصر للمرشد العام وما أثير حول مطالبات إخوان الخارج بـ "تدويل المنصب" بغض النظر عن ما يبرره في الوقت الحالي، ولماذا يرفضه الإخوان في مصر ويتبرأ منه الإخوان في الخارج؟ فأحسب أن ما يقال في هذا الشأن قديم نسبيا وربما يعود لزمن ما قبل أحداث 11 سبتمبر. وقد كتبت فيه دراسة قبل خمس سنوات تقريبا تطرقت فيه إلى التحول في العلاقات بين التنظيمات القطرية داخل التنظيم الدولي للإخوان. نعم جرى تحول كبير وتراجع دور إخوان مصر لمصلحة آخرين مما فتح باب السؤال حول أهليتهم في القيادة. لكن الوضع كله تغير بعد 11 سبتمبر والحرب على ما سمي بالإرهاب..لقد صار الأمر برمته خارج النقاش. بل وصارت كلفته السياسية والأمنية أكبر من أن يحتملها تنظيم غير إخوان مصر. الجميع الآن مهتم بالشأن الداخلي ولا يجاوز حدود بلده ومن ثم فالوضع الداخلي والخوف من الملاحقة منعا الكثيرين من طرح فكرة وضع إخوان مصر. كما أن فكرة التنظيم الدولي نفسها صارت أقرب إلى التاريخ منه إلى الواقع. فليس لمرشد الإخوان أو قيادتها في مصر أي سلطة توجيه أو ضبط على التنظيمات القطرية ومن ثم فالاتجاه العام الإبقاء على هذه القيادة طالما كانت شكلية ولا تأثير لها واقعياً. ولا أميل لتصديق ما يقال حول الصراع على قيادة التنظيم الدولي. فمن يصارع على شيء هو في ذمة التاريخ؟ خاصة أنه كلفته السياسية والأمنية لا يحتملها أي تنظيم إخواني آخر غير مصر البلد الأم.
التمايز بين الدعوي والسياسي
ويرى الباحث الإسلامي وصاحب أطروحة (التمايز بين الدعوي والسياسي) مصطفى كمشيش أن جميع الأطروحات حول مستقبل الإخوان -سواء اتفقنا أو اختلفنا معها- أراها جديرة بالاحترام والتقدير، خاصة أن الذين طرحوها ليسوا من المعادين لمشروع النهضة الإسلامي إلا أن هذه الأفكار قد أثمرت ردودا من الإخوان لا تقل أيضا عنها احتراما أو اعتباراً، فما طرحه الدكتور النفيسي يختلف عن طرح الدكتور العوا، فالنفيسي نادى بحل الجماعة بينما رأى الدكتور العوا أن تظل الجماعة قائمة نظراً لأهميتها الاجتماعية والدعوية والتربوية وأن تدع المجال السياسي في هذا الوقت ليس لعدم أهميته ولكن لعدم جدواه حالياً (وفق رؤيته). كما أن العمل السياسي بشكله الحالي قد يؤثر على بقية الأنشطة الهامة كالدعوية والتربوية والخيرية. ولعل رؤية الدكتور العوا قد دعمت رؤية الإخوان في أهمية بقاء بناء الجماعة التنظيمي لما لها من أدوار هامة في مجتمعاتها لا يمكن تجاهلها ولا الاستغناء عن أثره وهذه القضية تأخذنا إلى قضية العمل الفردي والعمل الجماعي. فهاهي أوروبا بدولها القوية تلجأ إلى تكوين الاتحاد الأوروبي وإذا انتقلنا إلى مجال الشركات نجد أنها تتحول إلى شركات جماعية فما بالك بالأفراد داخل المجتمع الواحد!.
ويضيف كمشيش قائلا: إن أي فكرة إن لم تتبلور في جماعة فسيكتب لها الفناء، وهذا ما تؤكده حقائق التاريخ والاجتماع كما قال ابن خلدون في مقدمته وهذا ما نراه في أعمال أقل أهمية كنقابة للصحفيين أو المحامين أو حتى الفنانين لخدمة قضاياهم والمحتفظة على دورهم، وهذه الدعوات التي تطالب بحل الجماعة أرى أنها تتأثر بواقع الاحتقان بين الجماعة والدولة ومن ثم يرى أصحاب هذا الطرح تفادي هذا الاحتقان بالتوجه نحو المجني عليه وترك الجاني!!و أرى أن تواجد تيار الاعتدال داخل المجتمعات الإسلامية بقليل من التوافق والحوار سيساهم في خدمة الدولة وخاصة للتيار الذي ارتضى أن يعمل وفق مقومات الدولة وقوانينها وآليات التغيير السلمي فيها.
وتبقى قضية الفصل بين الدعوي والسياسي للجماعة قضية مختلفاً عليها وحولها. فليس في الإخوان أو في الإسلام ذاته بل في كل الأديان، ولا يمكن أن يدعي أحد أن علاقة الديني بالسياسي أمر قد حسمه الفكر والممارسة السياسية الإنسانية، بيد أن إشكالية علاقة الديني بالسياسي تظل ملتبسة ومتجددة. وبالنظر إلى أهم نظام سياسي في العالم وهو النظام السياسي والمجتمع الأمريكي، في بنيته وحركته وعلاقاته الداخلية والخارجية، أصدق شاهد وأوضح نموذج في هذا الصدد
فهذه كتب سبعة تتناول التباس الديني والسياسي في أهم دول العالم والتي تزعم أنها راعية الديموقراطية في العالم:
1- كتاب: الدين والسياسة في الولايات المتحدة، تأليف "مايكل كوربت" و"جوليا ميتشل كوربت".
2- كتاب: كيف نفهم الأصولية البروتستانتية والإيفانجليكية، للكاتب جورج م مارسدن.
3- كتاب أصول التطرف: اليمين المسيحي في أمريكا.
4- كتاب: مقدمة في الأصولية المسيحية في أمريكا والرئيس الذي استدعاه الله وانتخبه الشعب الأمريكي مرتين، الكاتب والناشر "عادل المعلم".
5- كتاب: الكتاب المقدس والاستعمار.
6- كتاب: بلد الله: الدين في السياسة الخارجية الأمريكية، الذي يمثل ترجمة لمقال نشر في مجلة "Foreign Affairs" عدد سبتمبر/ أكتوبر 2006، وكاتب المقال (الكتيب بعد الترجمة) هو "والتر راسيل ميد" أستاذ كرسي هنري كيسنجر للسياسة الخارجية الأمريكية في مجلس العلاقات الخارجية.
7- كتاب: صعود البروتستانتية الإيفانجليكية في أمريكا وتأثيره على العالم الإسلامي، من تأليف الدكتور محمد عارف وهو ماليزي عمل كأستاذ للاقتصاد السياسي في الولايات المتحدة لمدة ثلاثة عقود.
فإذا كانت هذه القضية بهذا الشكل وفق ثقافة تقول (دع ما لله لله ودع ما لقيصر لقيصر) فكيف بدين وشريعة الإسلام التي لا تقر بهذا الفصل حيث يقول رب العالمين "قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين" (الأنعام 162).
أما لماذا تثار الآن هذه الأطروحات، فيرى مصطفى كمشيش أن هذا ليس بصحيح لأنها تثار بين حين وحين حسب درجة المد الإسلامي والتحديات التي يتعرض لها، فقد نفى علي عبد الرازق في منتصف القرن الماضي أن الإسلام دين ودولة قي كتابه (الإسلام وأصول الحكم) وسار خالد محمد خالد على نفس الدرب في كتابه (من هنا نبدأ) تأثرا بمعطيات ذلك الواقع، مما حدا بالشيخ محمد الغزالي ردا على هذه الأطروحات أن يكتب كتابه الشهير (من هنا نفهم) مؤكدا على شمول الإسلام وأنه دين دولة، وقد قال الرئيس السادات يوما (أنا أعرف أن الإسلام دين ودولة ولكن.. لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة) وأجدني هنا أنوه بدراسة قيمة للدكتور سعد الدين العثماني.. الأمين العام لحزب العدالة والتنمية في المغرب. عنوانها: الديــن والسياسـة: تمييز لا فصل.. تقدم رؤية معتبرة تنفي (حكم رجال الدين في الإسلام فلا كهنوت ولا قداسة للأشخاص) وتؤكد في الوقت نفسه على شمول الإسلام وأهمية التخصص للعاملين في ميادينه المختلفة وأنشطته المتعددة.
وبخصوص تأثير ذلك على دور الإخوان المستقبلي فإنني أرى أهمية أن يقدم الإخوان رؤية عصرية لهذا التمييز (لا الفصل) بين الدعوي والسياسي وخاصة في ظل تأثيرهم وحجمهم على الساحة الإسلامية وأهمية دورهم في تنمية تيار الوسطية والاعتدال، كما أنني أرى أهمية أن تدعم الحكومات المختلفة هذا التوجه والذي سيفتح منافذ للعمل العام للإسلاميين لخدمة أوطانهم بدلا من انسداد المنافذ فلا يبقى إلا خيار العنف والاحتقان، وبذلك يقدم الإسلاميون والحكومات معا حلا نموذجيا لهذا الصراع بين أبناء الوطن الواحد ومن ثم يمكن الاستفادة من طاقات المجتمع بكل شرائحه وتياراته على طريق نهضة مجتمعاتنا ولمواجهة التحديات التي تواجهنا صفا واحدا..ولقد نبهت إلى أهمية دعم تيار الاعتدال درءا لتيار العنف في مقال بعنوان (سكت الكلام والبندقية تكلمت) نشر على موقع (إسلام تايم) دعوت فيه للحوار الدائم بين الحكومات والإسلاميين خشية توقف الحوار ليقتصر الحديث على البندقية!.
وعن الحراك الذي تشهده الجماعة الآن وبروز جيل الإنترنت وآثاره يعترف كمشيش بهذا الحراك ويطالب بضرورة بلورة الطريق إلى المستقبل لأنه حراك صحي، وتعدد الأجيال داخل الجماعة من جيل ما قبل 54 إلى جيل المدونين مرورا بجيل الستينات ثم الثمانينات، حيث يظل كل إنسان أسيرا لتجربته ومتأثرا ببيئته.. والتطور من طبيعة الأشياء ومن يتخلف عن ركب التطور فلن يكون له مكانا على الساحة أو سيتقلص دوره. وأعتقد أن بالجماعة من يعي هذا جيداً.
أما عن موضوع المرشد واحتكار الإخوان المصريين له فيقول مصطفى كمشيش: إن هذا الموضوع طرح وتكرر كثيرا ورد عليه إخوان مصر وإخوان العالم في أن لمصر مكانة هامة في العالم الإسلامي وهي من البلاد القليلة التي حافظت على العمل وفق اسم الجماعة كما أنها بلد المؤسس.
لكن لا أحد زعم باحتكار مصر لمنصب المرشد كما أنني أعلم أن النظام الأساسي للجماعة لا ينص على جنسية المرشد. وأجد أن هذا الأمر يتشابه مع منصب أمين عام جامعة الدول العربية حيث ارتضى العرب طواعية أن يكون الأمين العام من مصر وظل هذا التقليد ساريا حتى اليوم ما عدا زمن المقاطعة العربية لمصر بعد توقيع اتفاقية السلام ونقل المقر إلى تونس وتولي التونسي الشاذلي القليبي (من بلد المقر أيضا) هذا المنصب، وبعد عودة العلاقات وعودة المقر عاد العرب إلى التقليد المستقر. وهذا الموضوع أرى أنه ليس هاما في هذه المرحلة حيث لا سلطان حقيقي للمرشد أو مكتب الإرشاد في القاهرة على إخوان أي بلد آخر إلا فيما يتعلق بالنصح والتشاور وتبادل الرأي
جريدة الوطن السعودية