الإخوان والمحليات..انتصارفي معركة لم تقع!
باحث في الحركات الاسلامية
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
أثار موقف الإخوان المسلمين من الانتخابات المحلية دهشة الجميع مرتين؛ الأولي حين أصروا علي المشاركة فيها رغم كل النقد الموجه لها ولهم، والثانية حين أعلنوا الانسحاب قبل يوم واحد داعين فيه الشعب إلي مقاطعتها.
انطلقت سهام النقد تتهم الجماعة مرة بغياب العقل وأخري بالذاتية وتغليب حساباتها الخاصة، بل ذهب البعض إلي حد الحديث عن صفقة يشارك بموجبها الإخوان كديكور في مسرحية عبثية تضفي علي الانتخابات شرعية لا تستحقها وتجمل وجه النظام البائس!.
أنا من الذين يتبنون موقفا نقديا من فهم الإخوان للسياسة باعتبار أن كونها جزءا من المشروع الإسلامي لا يفترض بالضرورة هذا النوع من العمل السياسي المباشر القائم علي التنافس والصراع مع الفرقاء، وفي مقدمتهم النظام، ومازلت أؤكد خطورة هذا الفهم وتلك المسلكية، ليس علي البلاد والعباد فقط، بل علي المشروع الإسلامي ذاته، لكنني وعند التوقف عند هذا الحدث تحديدا: سياقاته ومآلاته، أجدني أختلف كثيرا مع الانتقادات التي وجهت للجماعة في ضوء موقفها من انتخابات المحليات.
قرار جماعة الإخوان بالمشاركة، ثم المقاطعة للانتخابات المحلية يخضع ـ هذه المرة، لحسابات تبدو أبعد كثيرا مما ساءلها عليه المراقبون، فهو يبدو مختلفا كثيرا عما سبقه من ماراثونات سياسية سابقة (انتخابات مجلس الشعب ثم الشوري مثلا)، كما أن حسابات الربح والخسارة تبدو مختلفة أيضا فلا تتوقف علي مدي قدرتهم علي هزيمة النظام في مراكز نفوذه التقليدية أو اقتناص عدد من المقاعد التي يمكن أن تعزز نفوذهم السياسي، كما أستبعد أن تكون تطمح منها لتأثير محتمل لهم في معادلة انتخاب الرئيس المقبل. بل أزعم أن الأمر ليس مرتبطا هذه المرة بأهدافهم التقليدية من المشاركة في أي انتخابات؛ مثل تفعيل حركية التنظيم وقدراته، وإكساب كوادرهم خبرات سياسية، وإتاحة مساحة للحراك الداخلي بما يضمن تصعيد كفاءات وأجيال جديدة، إضافة إلي تعميق التواصل مع قطاعات الشعب ومناطق الحضور الإسلامي التقليدية.
هذا كله قد يكون حاضرا، ولكن وزنه النسبي في اتخاذ قرار المشاركة يبدو ضئيلا جدا إذا ما وضعنا في الحسبان الكلفة السياسية التي كانت الجماعة علي يقين بدفع فاتورتها باهظة ومقدما وهو ما يتمثل في ضربات أمنية عنيفة ومتلاحقة أسفرت عما يقرب من ألف معتقل وأعباء تنظيمية ومالية مرهقة.
أتصور أن قرار الإخوان بالمشاركة كان له صلة بما ظهر من استراتيجية جديدة للنظام، تقوم علي المواجهة الشاملة للجماعة، بهدف إقصائها عن المشهد السياسي إلي فترة طويلة إن لم يكن إلي الأبد، وتتلخص في السعي إلي حصار الجماعة علي كل الأصعدة وغلق كل مساحات الحضور والتواجد، واستعادة ما كانت قد حازته سابقا من مكتسبات وأماكن نفوذ.
وتقوم محاور الاستراتيجية علي سياسة الضربات الأمنية والاعتقالات المحسوبة للقيادات الفاعلة التي تمسك بالمفاصل الأساسية للتنظيم؛ وذلك بغرض استنزاف طاقة الجماعة تنظيميا وماليا ومعنويا، ولكن دون التوسع بما لا يحتمله وضع البلاد، إضافة إلي استهداف القوي الاقتصادية للتنظيم وملاحقة مصادر تمويله الحقيقية أو المحتملة.
ويواكب ذلك اللجوء إلي القضاء الاستثنائي والتوسع في إحالة قيادات الجماعة إلي المحاكم العسكرية؛ وذلك لضمان حرمانها من أكبر عدد من قيادتها لأطول فترة ممكنة، خاصة مع صعوبة إدانتهم أمام القضاء الطبيعي.
ويتم تغطية ذلك بنيران حملات إعلامية "مكارثية" يحشد فيها النظام وسائل إعلامه، القريبة منه، لتعميق حالة الخوف في الشارع وبين النخب من الإخوان ومشروعهم.
ويأتي أخيرًا إدخال تعديلات مهمة علي الدستور تهدف إلي القضاء علي الفجوات التي نفذ الإخوان منها إلي السياسة والعمل العام فكان قصر الترشيح لانتخابات الرئاسة علي رؤساء الأحزاب المرخص لها فعليا، وإلغاء الإشراف القضائي علي الانتخابات، وهو ما كان مسئولا عن توفر قدر كبير من الشفافية والرقابة علي الانتخابات بما سمح للإخوان بالفوز بخُمْس مقاعد البرلمان.
ومن ثم أتصور أن الدافع الأقوي لإصرار الإخوان علي خوض الانتخابات المحلية هو عدم مساعدة النظام علي تنفيذ استراتيجيته لحصارهم، ومن ثم استبعادهم من المشهد السياسي بسهولة، وهو ما يقدمه خيار المقاطعة علي طبق من ذهب، ومن ثم فيمكن تلمس استراتيجية مضادة للجماعة تقوم علي عدم القبول بالإبعاد الطوعي وجر النظام إلي تنفيذ ذلك بالقمع ومخالفة القانون، وهو ما يسهل من فضحه أمام الرأي العام داخليا وعالميا، كما يظهر الجماعة كضحية للنضال الديمقراطي بإصرارها علي حق المشاركة في مواجهة نظام قمعي استبدادي لا يسمح لخصومه بأي مساحة للحضور والتواجد. وأتصور أن من يتأمل التغطية الإعلامية محليا وعالميا للحدث يقل إن هذا ما تحقق بالفعل!.
ولما تحقق للإخوان ما أرادوه جاء قرار آخر أكثر ذكاء بإعلان مقاطعة الانتخابات قبيل يوم واحد من إجرائها فعليا، إذ لم يعد هناك معني للاستمرار في المشاركة بعدما تحققت معظم أهدافها، كما أن 20 فقط من جملة 10 آلاف هم من استطاعت الجماعة الترشح بهم فعليا، وهو رقم لا يستحق الصراع عليه!
ومن ثم فقد جاء قرار إعلان المقاطعة بمثابة إسدال الستار علي هذه المسرحية العبثية، ولكن الفارق أن الإخوان هم من اتخذوا القرار وليس النظام، وهذا في حد ذاته بمثابة انتصار للإخوان في حلبة الصراع