النظام المصري والإخوان.. سياسات المواجهة الشاملة
باحث مصري في الحركات الإسلامية
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
تبدو المواجهة مختلفة هذه المرة بين النظام السياسي والإخوان المسلمين في مصر، فكل الإشارات تقول إنها مواجهة مفتوحة ومتواصلة من دون إمكانية للتفاوض أو أفق للحل ولو كان بعيدًا، فالنظام المصري لا يتوقف عن سياسة الضربات المتلاحقة والمتواصلة للجماعة التي لا يبدو أمامها إلا خياران كلاهما مر؛ إما التصعيد المضادّ وهو ما يبدو أن ثمة شكًّا في قدرتها على خوضه وتحمُّل كلفته أو الخروج تماما من اللعبة السياسية وهو ما تراه نهايتها التي لن تسلم بها.
سياسات المواجهة
يؤرَّخ بقضية "سلسبيل" الشهيرة (نهاية 1992) كنقطة فارقة تحول فيها النظام إلى سياسة المواجهة الدائمة مع الجماعة، فقد كانت ثغرة اطلع النظام منها على أهم الوثائق التي تتضمن إستراتيجية الجماعة للوصول إلى الحكم وبنائها التنظيمي المحكم والذي يقارب بناء الدولة نفسها!.
وصلت المواجهة إلى قمتها في منتصف التسعينيات (عام 1995) مع أول محاكمات عسكرية تعرضت لها الجماعة منذ محاكمات العهد الناصري، ثم استمرت بشكل متواصل في السنوات اللاحقة، وإلى الآن تسير وفق إستراتيجية تتعدد وسائلها وتختلف وتيرتها، ولكنها تبقى ثابتة: حصار على كل الأصعدة وغلق كل مساحات الحضور والتواجد، واستعادة ما كانت قد حازت عليه الجماعة سابقا من مكتسبات وأماكن نفوذ.
اعتمد النظام سياسة الضربات الأمنية والاعتقالات المحسوبة للقيادات الفاعلة التي تمسك بالمفاصل الأساسية للتنظيم؛ وذلك بغرض استنزاف طاقة الجماعة تنظيما وماليا ومعنويا، ولكن دون التوسع في الضربات الأمنية بما لا يحتمله وضع البلاد، ثم طوّر النظام هذه السياسة باستهداف القوى الاقتصادية للتنظيم وملاحقة مصادر تمويله الحقيقية أو المحتملة عبر اعتقال رجال الأعمال المنتمين لها، والتحفظ على مؤسساتهم الاقتصادية، كما جرى قبل عام من اعتقال المهندس خيرت الشاطر النائب الثاني للمرشد، وشريكه المهندس حسن مالك، وينظر إليهما باعتبارهما المسئولين عن الاستثمارات الاقتصادية للجماعة، إضافة إلى عدد من رجال الأعمال والتحفظ على مؤسساتهم الاقتصادية (33 شركة ومؤسسة اقتصادية).
ومواكبة لسياسته في التوسع في اعتقال وسجن القيادات التنظيمية المؤثرة اضطر النظام إلى اللجوء إلى القضاء الاستثنائي والتوسع في إحالة قيادات الجماعة إلى المحاكم العسكرية؛ وذلك لضمان حرمانها من أكبر عدد من قيادتها لأطول فترة ممكنة، خاصة بعد أن تبين صعوبة إدانتهم أمام القضاء الطبيعي، ونتيجة لذلك صار تقليدًا ثابتا أن يبقى فوج من أهم قيادات الجماعة رهن الاعتقال أو السجن مددًا ما بين الثلاث سنوات إلى الخمس ولا يفرج عنهم إلا بعد أن يحل فوج بديل ضيفا على السجون!
وغطى النظام ضرباته المتواصلة للإخوان بنيران حملات إعلامية "مكارثية" حشد فيها وسائل إعلامه والقريبة منه لتعميق حالة الخوف في الشارع وبين النخب من الإخوان ومشروعهم، وكثيرا ما جاءت الحملات الإعلامية متزامنة مع الضربات الأمنية أو ممهدة لها في بعض الأحيان، كما في حادث استعراض طلاب الأزهر الذي وُظّف إعلاميا تمهيدا للاعتقالات الواسعة التي طالت 40 من قادة الجماعة بينهم نائب المرشد.
وأخيرًا.. عمد النظام إلى إدخال تعديلات مهمة على الدستور تهدف إلى القضاء على الفجوات التي نفد الإخوان منها إلى السياسة والعمل العام بحيث لا تترك لهم مستقبلا أي مساحة أو إمكانية للحضور والفعل فكان قصر الترشيح لانتخابات الرئاسة على رؤساء الأحزاب المرخص لها فعليا وإلغاء الإشراف القضائي على الانتخابات، وهو ما كان مسئولا عن توفر قدر كبير من الشفافية والرقابة على الانتخابات بما سمح للإخوان بالفوز بخُمْس مقاعد البرلمان.
لحظات فارقة
أسباب كثيرة تدفع بالنظام إلى استمراره في إستراتيجية المواجهة الشاملة ولكن المتدرجة، منها القلق من تعاظم الحضور السياسي لجماعة الإخوان وتطورها على مستوى الخطاب أو الممارسة بما صار يمثل تهديدا له، والتغير الذي طرأ على بعض الدوائر السياسية المؤثرة في الغرب والذي خفف من رفضها للحركات الإسلامية على الإجمال، وجعلها أكثر قبولا من ذي قبل للتعامل مع الحركات الإسلامية السياسية المعتدلة مثل الإخوان وسعيا لإدماجها في بنية النظم السياسية في بلدانها.
لكن ربما كان أهم أسباب التصعيد والاستمرار في سياسة المواجهة الشاملة أن النظام المصري يقف على عتبات مرحلة جديدة تتطلب ضمان حسم ملف انتقال السلطة مستقبلا والتغيير المنتظر في هرمها بخلو منصب الرئاسة (يكمل الرئيس حسني مبارك عامه الثمانين في شهر مايو 2008)، وهو انتقال سيعاني صعوبات غياب نائب للرئيس يخلفه وتضارب التكهنات بشأن سيناريو محتمل للتوريث يمكن أن يدفع بنجله جمال لخلافته.
لهذا كله يأتي تصعيد النظام لحملته ضد جماعة الإخوان لتحييد القوة المعارضة الأكبر والأكثر حضورا في الشارع وشل فاعليتها.
الجميع في مأزق
ثمة مأزق يعانيه النظام في مواجهته ضد الإخوان يتمثل في ارتفاع الكلفة السياسية والاقتصادية لضرب الإخوان بما قد تنوء به البلاد، خاصة أن النظام يعيش أضعف لحظاته مع تصاعد أزمات الغلاء التي طالت السلع الأساسية ومست حياة القطاع الأوسع من الشعب، وكذا توسع حملات المعارضة للنظام وسياساته ودخول قوى غير تقليدية فيها لأسباب وأغراض مطلبية مثل العمال والمهنيين.. هذا كله في وقت تعيش فيه البلاد ما صار يعرف بـ"موت السياسة"، حيث أجدبت الحياة السياسية، وبلغت حد العقم ولم يبق في ملعبها سوى النظام والإخوان!.
لقد استطاع النظام طوال ربع القرن الأخير إضعاف القوى السياسية الفاعلة في البلاد فاخترقها جميعا، وتمكن من السيطرة عليها بحيث لم ينجُ حزب سياسي من تدخله، ولم تفلت قوة سياسية من قبضته، فكان أن النظام وهو يخوض مواجهته الشاملة ضد الإخوان لم يجد -هذه المرة- تيارًا يملأ الفراغ الذي يمكن أن يولده غيابهم.
على عكس سلفيه جمال عبد الناصر وأنور السادات يفتقد نظام الرئيس حسني مبارك لمشروع وطني يمكن أن يجتمع الشارع المصري عليه، كما تنعدم أمامه البدائل التي يمكن أن يفسح لها لتتمدد في الفراغ الذي سيحدثه غياب الإخوان عن الحياة السياسية. لقد كان ناصر صاحب مشروع وطني طغى حضوره كثيرا على غياب الإخوان أو تغييبهم عن المشهد السياسي وقتها، فيما كان لدى السادات وهو يضرب اليسار والناصريين بدائل أكثر قوة وحضورا تتمثل في التيار الإسلامي والإخوان أنفسهم.. فيما يحاول مبارك استئصال جماعة الإخوان المسلمين من المشهد السياسي برمته دون مشروع وطني جديد أو بديل سياسي ملائم.
وليست وضعية الإخوان بأفضل كثيرًا من النظام؛ فالتنظيم الضخم الشامل الذي بناه الإخوان وأتقنوا في صنعة بنائه على غرار دولة بديلة يصير عند مواجهات طويلة الأمد من هذا النوع عبئًا كبيرًا، بل ونقطة ضعف وهو ما يظل يدفع بالجماعة دائمًا إلى إيثار السلامة وعدم التصعيد برغم تداعيات ذلك سلبا عليها مستقبلا.
يمتد تنظيم الإخوان في كل أنحاء البلاد تقريبا ويخترق قطاعات المجتمع المصري جميعها ويضم في صفوفه نخبة مميزة (تضم دعاة وأكاديميين وسياسيين ونقابيين ورجال أعمال وطلابا وناشطين في العمل الأهلي..) سمحت له بالدخول في منافسة مع النظام على الشارع استطاع حسمها في غير مرة لصالحه، لكنها في صراع مفتوح وممتد، مثل الذي تواجهه الجماعة يبدو عبئا يحدّ من قدرة قيادتها على إدارة الصراع؛ نظرًا لكلفته العالية وعدم قدرته على تحمل المواجهات الطويلة لاعتبارات كثيرة بعضها يتصل بوضعه الاجتماعي.
إضافة إلى ما سبق ما زال الإخوان يعانون نتائج عدم نجاحهم في بناء تحالف أو تفاهم مع القوى السياسية الأخرى بما يمهد لتشكيل كتلة تاريخية تسمح لهم بقيادة التغيير، فما زالت هواجس النخبة والشارع على السواء تجاههم قوية، وكثيرا ما ساعد الخطاب المرتبك للجماعة على تدعيمها.
لقد حيّد الإخوان بصيغة التنظيم المغلق الشارع وهمّشوا قواه الفكرية والسياسية فصاروا وحيدين في مواجهة تبدو غير متكافئة مع النظام.
أما النخب السياسية على اختلافها والتي تعاني بدورها الهشاشة والضعف، فقد فضلت مقعد المتفرج العاجز عن الفعل أو المراقب السلبي في معركة إما أنها لا تخصّها أو أنها مطلوبة -بقدر معين- لإنهاك القوتين العظميين اللتين تكاد تتفق هذه النخب على الخوف منهما: النظام والإخوان!
وتبدو المأساة أن ضيق أفق هذه النخب في أنها تفتقد القدرة على التمييز بين انحيازها لأحد أطراف الصراع وبين أهمية الحفاظ على مكتسبات الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان المهددة بأن تهدر في هذا الصراع