الجهاديون التائبون، بيئة معاكسة وعودة غير محتملة
باحث مصري في الحركات الإسلامية
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
ثمة تفاوت في تقدير أعداد الجهاديين التائبين ووزنهم في الساحة الإسلامية المصرية؛ إذ تتراوح التقديرات ما بين 20 إلى 30 ألفاً إذا ما اعتمدنا على التخمينات حول عدد الجهاديين المعتقلين.وتمثّل الجماعة الإسلامية الوزن الأكبر حيث بلغ عدد معتقليها "التائبين" نحو 12 ألفاً، في ما تتوزع البقية على تنظيمات جهادية نخبوية أو محدودة العدد أهمها تنظيم "الجهاد"، إضافة إلى جهاديين مستقلين كانوا يعتنقون أفكار السلفية الجهادية.
منذ بدء مراجعاتهم العام 1997 لم يجد الجهاديون التائبون بيئة مؤاتية يمكن أن تتقبلهم أو تسهم في تطوير هذه المراجعات؛ فالنظام السياسي على رغم دوره في هذه المراجعات مازال يتعامل معهم كملف أمني خاص ويمنعهم من العودة إلى العمل العام. والقوى السياسية تتراوح مواقفها ما بين التشكيك فيهم وفي مراجعاتهم وبين التجاهل التام لهم ولمستقبلهم، بل إن القوى الإسلامية السياسية (الإخوان المسلمون مثلاً) لم تكن أفضل حالاً، فهي إما تجاهلت الأمر برمته أو رأت فيهم منافساً محتملاً يمكن أن يهدد نفوذها وموقعها كممثل للاعتدال السياسي الذي لا تحب أن يزاحمها فيه آخرون على أرضيتها الإسلامية نفسها.
كانت توبة معظم الجهاديين التائبين مقدمة لانسحابهم من الحياة العامة والبدء في رحلة البحث عن حياتهم الخاصة التي توقفت ساعتها عند البعض كما كانت قبل نحو عشرين عاماً. لقد خرجوا الى واقع جديد من دون تأهيل كاف ولا إمكانات لازمة ومن ثم انهمكوا سريعاً في طاحونة البحث عن حياة كريمة في بلد لم يعد كالذي كان وقت بدء اعتقالهم حيث الغلاء والبطالة وندرة فرص العمل، وحيث التنافسية التي تفرض تأهيلاً لا يمتلكونه. غير أن بعضهم مازال يحاول أن يبقى في المشهد السياسي ولو بالتحايل، وهو ما تفعله قيادة الجماعة الإسلامية التي تسعي إلى ولوج الحياة العامة ثانية ولو من ثقب صغير هو موقعها على شبكة الإنترنت الذي تنشر فيها مبادراتها ومقالاتها.
تحاول الجماعة الإسلامية، في ما يشبه الصراخ، لفت الأنظار إليها في ثوبها الجديد؛ وقد نجحت إلى حد كبير في ذلك خاصة وأن ما تطرحه بدا جديداً بل ومفاجئاً من الجماعة صاحبة التاريخ الجهادي الطويل؛ فمرة كتبت ترثي نجيب محفوظ الحائز على جائزة نوبل الذي حاولت اغتياله، ومرة أخرى امتدحت أنور السادات الذي اغتالته فعلاً وتحدثت عن دوره الإيجابي في الدعوة الإسلامية، ومرة ثالثة كتبت عن إيجابيات جمال عبد الناصر أتاتورك مصر (كما كانت تراه من قبل) بل واتهمت الإخوان المسلمين بالمسؤولية عن محاولة اغتياله. وخاضت الجماعة أيضاً- على غير عادتها- في قضايا اجتماعية وحياتية مثل غلاء الأسعار والبطالة بين الشباب وشهادة الثانوية العامة، وطرحت رؤيتها في قضايا الشأن العام مثل الدعاة الجدد وأقباط المهجر ودور اليسار والعلمانية المصرية، وقدمت مراجعات جديدة في قضايا فقهية ودينية مثل الاحتفال بأعياد الأم، كما انفتحت على حوارات مع رموز من تيارات فكرية وسياسية مختلفة.
ولقد قدمت الجماعة نماذج واقعية لمراجعاتها الفكرية والفقهية، وبلغة سهلة قريبة من المزاج المصري بعيدة تماماً عن الأيديولوجيا واللغة الخشبية اللتين كانتا لديها سابقاً. وعلى رغم ذلك مازالت غير قادرة – كجماعة أو كأفراد- على النزول من فضاء الإنترنت التخيلي إلى الواقع فهي ممنوعة من العمل السياسي أو الاجتماعي أو حتى الدعوي، بل مازالت هناك عقبات أمنية تحول دون إعادة إدماج أعضائها ليس في العمل العام فقط بل في سوق العمل الذي مازال يتحفظ على القبول بهم.
لم يتراجع الجهاديون عن توبتهم، ولم تثبت عودتهم- فرادى أو جماعات- إلى العنف مجدداً، بل كانت أقوالهم وأفعالهم الجديدة تؤكد دائماً تحولهم عن العنف، ولكن على رغم ذلك يخشى البعض أن تكون توبتهم غير صادقة أو أن اليأس الذي يولده بؤس المشهد السياسي المصري دافعاً قوياً إلى عودتهم إلى العنف؛ غير أن تحليلاً واقعياً يؤكد صعوبة عودة هؤلاء الجهاديين التائبين إلى العنف. فمعظمهم جاوز الخمسين من العمر، وتندر بينهم العناصر الشابة، كما أن غالبيتهم ممن بقوا في السجون أكثر من عشرين عاما انقطعوا فيها عن العالم وضعفت صلاتهم أو انعدمت تقريباً بالأجيال الجديدة التي يمكن أن يعوّل عليها في ممارسة العنف أو خوض معارك جهادية ضد النظام.
إن عشرين عامًا كاملاً من المواجهات والملاحقات الأمنية، والمحاكمات القاسية، والتضييق التام والمستمر على مؤسسات وقواعد الجهاديين وتنظيماتهم قد قضى - تقريبًا- على البنى الاجتماعية التي كانت تمثل رافداً يتغذون منه. لقد أصبحنا إزاء جهاديين أنهكوا واستنزفوا، ولم يَعُد التوقف عن العنف لديهم إلا تحصيل حاصل لنهاية قدرتهم على العنف المنظم.
لا يمكن فهم العنف الجهادي المحتمل في مصر من دون فهم ما جرى للحالة الإسلامية التي لم يَعُد الفاعل الأول فيها التنظيمات (المؤسسة) وإنما تحولت باتجاه الفردانية أو النموذج الفردي في التديّن. لقد كانت "التنظيمية" هي أهم سمات العلاقة بين الناشطين الإسلاميين الذين كان لا بد أن يؤطروا في بنية تنظيمية معينة.
لذا فقد ظلت التنظيمات تتسيّد المشهد الديني وتتحكم في مساره حتى منتصف التسعينيات، لكن سطوة التنظيم أو المؤسسة الدينية تراجعت مؤخراً لتحل بدلاً منها أنماط التدين الفردي الذي لا يتطلب علاقة مؤسسية، بل يقوم على التعامل المباشر مع ما يمكن تسميته "سوق العرض الديني" الذي أصبح متعددًا ومتاحًا، من دون فرض نموذج بعينه أو إعطائه صفة إلزامية. وعلى عكس ملتزم الحقبة السابقة، يمكن للملتزم الجديد أن يدخل في تجربة التزام ديني (سلمي أو جهادي) ويعيشها كاملة من دون ارتباط مباشر بأي من التنظيمات الإسلامية، وهو لن يفتقد الزاد الديني أو الأيديولوجي اللازم لتأطيره (سلميًّا أو جهاديًّا) في ظل التدفق الهائل للعرض الديني الذي تتيحه له ثورة المعلومات والاتصال وتنوعها بشكل مذهل يسمح بالحصول على الأفكار التي تناسبه. إن فهم ذلك يؤكد أن ثمة مبالغة سواء في التعويل على توقف العنف بمجرد الإعلان عن المراجعات، أو في الحديث عن إمكانية عودته أيضاً في حال اليأس.
العنف رهن بإحساس عميق بالأزمة يعانيه الناشط الإسلامي، يتمثل داخليًّا في حالة الانسداد السياسي المزمن والبؤس الاجتماعي المتعاظم بلا أفق لانفراج قريب، وخارجيًّا في حملة أمريكية تستفز المشاعر الوطنية والدينية، وهي أوضاع لم تتغير بعد وليس في نهاية نفقها ضوء. ومن ثَم يبقى العنف واردًا. لكنه لن يكون عنفًا منظماً، بل سيكون حالة غير تنظيمية أقرب إلى العنف الفردي أو المحصور في خلايا صغيرة تجمعها علاقات اجتماعية أو مهنية. كما أنه سيكون عنفاً اجتماعيا في الأغلب لا يتغذى من الأيديولوجية الإسلامية التي أفَلَتْ في مصر بل من أوضاع اجتماعية بائسة.
نشرة الاصلاح العربي
موقع كارنيجي