ذكريات من زمن الخلاف بين ناصر والإخوان
باحث مصري في الحركات الإسلامية
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
"مهندس عبد الحكيم جمال عبد الناصر يتقدم بخالص العزاء للمهندس أسامة فريد عبد الخالق في وفاة المغفور لها بإذن الله السيدة والدته، تغمد الله الفقيدة بواسع رحمته وأسكنها فسيح جناته وألهم أهلها وأحباءها الصبر والسلوان"
كان هذا النعي في صفحة الوفيات أبرز ما لفت نظري بجريدة الأهرام وتحديدا في عدد الأربعاء 28 فبراير 2008.
الناعي هو المهندس عبد الحكيم نجل الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، أما الفقيدة فهي والدة صديقه المهندس أسامة فريد عبد الخالق وحرم الداعية الإسلامي والقطب الإخواني الكبير الأستاذ محمد فريد عبد الخالق أحد أبرز القيادات في تاريخ جماعة الإخوان المسلمين!.
الأستاذ فريد عبد الخالق – وهو أشهر من أن يعرّف- من الرعيل الأول للإخوان المسلمين، تعرف علي الإمام حسن البنا في صدر شبابه وعمل مديرا لمكتبه وكان أول مسئول عن قسم الطلاب في الجماعة، كما عمل أيضا بقسم الاتصال بالعالم الإسلامي الذي أسسه الراحل الأستاذ عبد الحفيظ الصيفي، وكان عبد الخالق من أبرز دعاة الإخوان وخطباؤهم طوال تاريخ الجماعة وقد ظل- ولزمن قريب قبل أن يفرض السن حكمه وقد جاوز التسعين أمد الله في عمره ونفع به - خطيبا مفوها يؤم الناس في صلاة العيد بجامع مصطفي محمود بحي المهندسين بالقاهرة.
الكلام عن الأستاذ فريد سيطول حتما بالنظر إلى حياته الغنية والثرية والمؤثرة في مسيرة الحركة الإسلامية والعمل الإسلامي، وبالنظر إلى أن لدي ما يغريني بالاسترسال خاصة وقد اقتربت منه إلى حد كبير وربطتني به وبأكبر أبنائه ( المهندس أسامة ) وشائج إنسانية، ثم أنني قضيت زمنا في مراجعة مذكراته التي أتمني أن تصدر قريبا بعون الله..
لكن ما أتوقف عنده هو علاقته الخاصة وربما الملتبسة بالرئيس جمال عبد الناصر؛ أو البكباشي في الجيش المصري وقت أن تعرف كلاهما على الآخر.
كان فريد عبد الخالق ضمن مجموعة القيادة التي أدارت العلاقة بين الإخوان والضباط الأحرار، وكانت هذه المجموعة تعرف بمجموعة الستة وتضم معه الأساتذة: صلاح شادي وحسن عشماوي ومنير دلة و عبد القادر حلمي وصالح أبو رقيق .
يجمع الستة أنهم من أهل اليسر في الإخوان ( متميزون اجتماعيا وأوضاعهم المادية ميسورة) وأن عملهم وثيق الصلة بالقانون ( محامون ووكلاء نيابة وقضاة وضباط بوليس ) وأن بينهم صلات قرابة أو مصاهرة ( منير زوج أخت حسن وصلاح زوج أخت فريد وهكذا!).
ومن دون تفصيلات كثيرة لا يسعها المقاوم يمكن القول أن ناصر استطاع خداع هؤلاء الإخوان والإيقاع بهم في شباك الثقة العمياء في " الأخ " جمال الذي سبق أن بايع الشهيد حسن البنا وانضم للإخوان ولم يزل يردد لهم البيعة ويؤكد الوفاء وأن الثورة ستكون إسلامية!
هكذا كان فريد عبد الخالق وإخوانه يثقون ثقة عمياء في "الأخ"! جمال كما كانوا ينادونه، فسلّموا له مقاليد الأمور دون مراجعة بل وتولّوا عبأ الدفاع عنه في حضرة المرشد الثاني المستشار حسن الهضيبي الذي لم يكن يأمن لناصر أو يقبل منه صرفا ولا عدلا لولا أنه كان شديد الثقة في مجموعة الستة لما عرفوا به من تقدير ومصداقية داخل الجماعة ولما يربطه بهم من علاقة خاصة لم يعرف مثلها في شأن بقية قادة الإخوان المسلمين ( أشياء كثيرة تجمعهم منها القانون مثلا !)
نجح الصقر جمال عبد الناصر في اقتناص الثورة والطيران بها بعيدا عن المحضن الإخواني الذي بذرت فيه بذورها وتولى أبناؤها حمايتها في مراحلها الأولي، ولما لم يسلّم الإخوان بذلك وثقل عليهم الأمر وأرادوا منازعة الصقر صيده أوقع بهم المقتلة وأثخن فيهم الجراح فسجن عشرات الآلاف من الإخوان طوال حكمه ( في اعتقالات 1966 زاد عدد المعتقلين منهم عن ثلاثين ألفا!) غير عشرات ممن عُلّقوا على أعواد المنابر أو قتلوا في السجون ( مثل مجزرة سجن طره الشهيرة).
ما سبق يمكن أن يكون معروفا لمن طالعوا تاريخ هذه الحقبة الدامية والمهمة في مصر، وربما يكون مفهوما لدى البعض ممن نظروا للمسألة من باب الصراع السياسي الذي يتواجه فيه حلفاء الأمس ويصير كل شئ محتملا ومفهوما. أما الذي قد لا تذكره الكتب وتحتار العقول في استيعابه فهو هذه العلاقة الفريدة التي ربطت فريد عبد الخالق وأسرته بجمال عبد الناصر وأسرته والتي يمكن أن يلخصها هذا النعي المؤثر الذي افتتحت به المقالة.
عرفت الأستاذ فريد قبل عشر سنوات تقريبا وزرته مرارا وقرأت له وسمعت منه في أمر الثورة والإخوان والضباط الأحرار الكثير والكثير، ولكن لم يحدث مرة أن سمعته أو قرأت له كلمة يذكر فيها جمال عبد الناصر بسوء، قد يقفز في ذكرياته عن ناصر عن بعض المحطات التي يؤلمه ذكرها، وإذا ذكرها مر عليها مرورا عابرا كأن لم يشهدها أو محايدا كما لو لم يك طرفا فيها وفي أقسي الأحوال ينتقدها سياسيا، لكنه وفي كل ما رواه كان لا يذكر الرجل بسوء أو يولغ في شخصه أو حياته الخاصة كما فعل أقوام لم يصبهم من جمال عبد الناصر وثورة يوليو معشار ما أصاب فريد عبد الخالق وإخوانه وأهله الأدنين!
لقد قضي فريد عبد الخالق زهرة عمره في سجون ناصر وعُذّب وأُهين وتجرعت أسرته مرارة اعتقال عائلها سنوات طويلة وذاقت طعم الظلم الحرمان بسبب صديق الأمس بل وبفعله ومما جنته يداه، ورغم ذلك لم تحمل في نفسها كرها ولا بغضا للرجل الذي ظلمهم وكان مسئولا عن تعاستهم وبؤسهم وفقدان عائلهم.
رغم ما قيل ويمكن أن يقال في شأن معاناة الإخوان في سجون ناصر فقد أتفهم أمر الصفح والغفران في شأن الأستاذ فريد عبد الخالق الذي ربما كان يدين لناصر بما نسميه في أخلاق المصريين "حق العيش والملح" وواجب سنوات النضال معا ضد الاحتلال وبركة جلسات ذكر أو صلوات لله جمعتهما يوما ما وأوثقت بينهما عرى أخوة فوق أخوة الدم.
وهذا نفسه الذي دفع بالأستاذ حسن عشماوي أن يرد على ابنه محمد بصفعة قوية على وجهه حين سب أمامه جمال عبد الناصر ذات مرة، كان الابن الصغير قد تأثر بما سمعه من مرارة القهر والظلم الذي عاناه أبوه حتى اضطر للهرب والتشرد في المنافي وهو سليل العائلات الأرستقراطية وابن وزير المعارف ..لكن أباه لاقاه معنفا ومتوعدا: إياك أسمعك تشتم عمك!
قد أتوقع هذا السلوك من الأستاذ فريد عبد الخالق وبقية مجموعة الستة بل وكثير من خصوم ناصر الذين عرفوه وارتبطوا به عن قرب وأكلوا معه عيش وملح النضال، لكنني تأثرت كثيرا جدا بموقف زوجة الأستاذ فريد عبد الخالق وأم أولاده السيدة كوثر رضا الساعاتي أو " ماما أنس " كما كان يناديها كل من اقترب من هذه العائلة الكريمة.
ماما أنس التي ينعيها عبد الحكيم جمال عبد الناصر هي شخصية بالغة الأهمية في تاريخ الحركة الإسلامية التي – وبكل أسف- لم تدون إلا القليل من تاريخها وأغفلت فيما دونته أهم ما يتصل منه بالنساء أو " الأخوات المسلمات ".
سمعت عنها لما بدأت دراسة تاريخ الإخوان في الحقبة الناصرية وتعرفت عليها مما كانت تقصه " أخوات" هذه الحقبة التاريخية المهمة لمصر وللحركة الإسلامية، كانت واحدة من نساء الإخوان اللاتي صبرن علي اعتقال رجالهن سنوات طويلة، فتحملن دون مساعدة عبأ القيام بمسئولية بيوتهن في غياب الرجال؛ من تربية الأبناء وتعليمهم، ومن تدبير نفقات المعيشة والحياة في ظل حصار خانق يطول بالسجن والتنكيل كل من يثبت عليه تقديم مساعدة مالية لأسر الإخوان المعتقلين، ومن صبر على غيظ من راهنوا على انكسار هؤلاء النسوة ومن ثم تفكك هذه البيوت تحت وطأة سنوات السجن والذل والحرمان.
كانت هذه السيدة ضمن أخريات لا تكاد تجد لهن ذكرا حتى في كتب الإخوان أذكر منهن السيدات: فاطمة عبد الهادي زوجة يوسف هواش ورئيفة شاكر شقيقة صلاح شادي وأمال أخت حسن العشماوي ونساء بيت حسن الهضيبي جميعا؛ أخته بهية وابنتاه علية وخالدة ..وزوجته السيدة نعيمة خطاب وأمينة الجوهري، وأمينة وحميدة شقيقتي سيد قطب.
كوثر الساعي من عائلة كبيرة ( شقيقها الدكتور المهندس محمود الساعي أحد أشهر خبراء إنشاء محطات تحلية المياة في العالم) من طين هذا البلد الطيب الذي ظل عصيا على الانكسار تحت وطأة الظلم وأبيّا في مواجهة الجبروت ولكن دون أن يفقد معدنه الأصيل أو تضيع منه إنسانيته النبيلة.
لقد كانت، وهي المرأة التي فقدت السند وباتت تربي أبناءها كما الأيتام من جون أب، على قدر من الإيمان والإنسانية التي جعلتها تتغاضي عن خصومة زوجها مع جمال عبد الناصر وتتعالى على جراحها وآلامها وأبنائها الصغار فترفض أن تورثهم الضغينة والكراهية والحقد حتى ولو كان بحق من آذاهم ونكل بهم وبأبيهم.
لقد ربت هذه السيدة الجليلة أبناءها على محبة الخير ومحبة الناس وألا يبيتوا وفي صدر أحدهم غل على أحد أو حقد، واتسع صدرها من الرحابة حتى ضم إلى أبنائها أبناء خصم زوجها وساجنه فنشئوا كما الإخوة في بيت واحد ولم تعرف قلوبهم بغضا ولا كرها على كثرة ما يتوفر من أسباب الكراهية!
لم يسبق لي شرف التعرف على أسرة الزعيم جمال عبد الناصر أو أولاده، ولكنني تعرفت عن قرب علي الصديق العزيز المهندس أسامة عبد الخالق بما يسمح لي بكتابة هذه السطور وليس من طبعي الاقتراب من الأمور الخاصة، وأستطيع أن أجزم بالقول أن من يعرف طبيعة الصداقة بين أسامة عبد الخالق وعبد الحكيم عبد الناصر والمحبة المتبادلة بينهما لا يمكن أن يفكر بأن والد أحدهما هو من بطش بوالد الآخر وأثخن فيه الجراح وغيّبه نحو عشرين سنة وراء القضبان بغير ذنب أو جريرة.
إن أسرة الأستاذ فريد عبد الخالق وتحديدا حرمه السيدة الجليلة كوثر الساعاتي والعلاقة الفريدة التي تجمعها مع أسرة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر تستحق أن نتوقف أمامها كثيرا في فهم طبيعة الشعب المصري ومن ثم التعامل معه، فهو شعب تضرب في أعماقه الأخلاق والقيم بجذور أقوى من أن تجتثها خصومات السياسة ومآسيها، وهو شعب لديه قدرة استثنائية في معرفة معادن الرجال وسبر أغوار نفوسهم ومن ثم إقالة زلات الكبير ومعرفة قدره ولو أخطأ، إنه شعب تربى علي قول الله تعالي " إن الحسنات يذهبن السيئات " و تخلق بخلق الرسول القائل لمن آذوه "اذهبوا فأنتم الطلقاء" ثم هو وعي ما قاله الأصوليون من أن الماء إذا جاوز القلتين لم يبلغ النجس، وأبدع فقال: " الحر من راعي وداد لحظة".
بغير أن يقولها مباشرة أو يكتبها وهو رب القلم واللسان الذي لا يعدم الوسيلة يقول الأستاذ فريد عبد الخالق أن خلاف الإخوان والثورة كان خلافا سياسيا بين أبناء الوطن الواحد انتهي بنهاية زمنه ولا يجب أن يورّث، وهو خلاف دفع الطرفان فيه والإخوان خاصة الثمن مضاعفا ولكن ظلت بقية من قيم وأخلاق تستعصي على فعل السياسة وأفاعليها وما أسوأها، هي القيم والأخلاق التي لا غابت عن كثير من الأقلام التي جرى مدادها بما لا يفيد ذكره والتفصيل فيه إلا تعميق الخلاف وتوسيع الهوة بين أبناء وطن وشعب واحد.
لقد نشأت أجيال في الحركة الإسلامية تقتات على ذكريات دامية تروي ما فعله جمال عبد الناصر بالإخوان المسلمين، وأشعلت معارك لا تنكفئ نارها إلا لتلحق بها أخرى ثم لما هدأت النفوس والتئمت الجروح وانتبه الجميع ( إسلاميون وقوميون وناصريون بالطبع) إلى الخطر المحدق تأكد لهم وبيقين أن رحابة الوطن تتسع لكل أبنائه ما أخلصوا وصح انتمائهم لهذا الوطن.
يبقي جمال عبد الناصر زعيما وطنيا وبطلا قوميا، وهو إن أخطأ فقد كان عظيما من عظماء هذا الوطن، عظيم المجد عظيم الأخطاء كما وصفه نزار قباني، ويبقي أن أجيالا ولدت بعد رحيله وتربت من دونه بل وربما تربت على كراهيته ما إن تشعر بالتحدي حتى تحن إلى ناصر وزمنه ومشروعه وترفع صوره وتفتقده، وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر.
رحم الله السيدة كوثر رضا الساعاتي وغفر لها وتقبلها في الصالحين. وصدق الله العظيم القائل: (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون)
جريدة العربي
http://al-araby.com/docs/1098/vision/article2142176688.html