في تناقضات الحركات الجهادية
باحث مختص في الحركات الاسلامية
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
إلى وقت قريب كانت علاقة الإخوان المسلمين بالعمل المسلح في طريقها للطي باعتباره من الماضي لولا التطورات التي شهدتها الجماعة في مصر والجدل الذي دار حولها مؤخرا، فقد أثار أبو العلا ماضي القيادي الإسلامي ووكيل مؤسسي حزب الوسط الجدل مجددا حول علاقة الجماعة بالعنف والعمل المسلح حين كشف عما اعتبره دورا للإخوان في العمل الجهادي في الشيشان إبان ذروة الحركة الانفصالية التي شهدتها منتصف التسعينات، كما ذكر حديثا قديما، يعود لأواخر السبعينات من القرن الماضي، للمرشد الخامس (مصطفى مشهور) تحدث فيه عن تنظيم سري للإخوان في الجيش على استعداد للتحرك لأجل الوصول للسلطة.
ما زاد من أهمية كلام القيادي الإخواني السابق هو تزامنه مع تخوفات أبداها مراقبون ونخب سياسية من النتائج التي أسفرت عنها الانتخابات الداخلية الأخيرة للجماعة وعززت هيمنة التيار التنظيمي المحافظ على التنظيم وهو التيار الذي ينتمي أبرز رموزه، ومنهم المرشد الجديد محمد بديع، لما يعرف بتنظيم 1965 الذي حاول التغيير المسلح لنظام الحكم الناصري، وكان يقوده سيد قطب صاحب أفكار الحاكمية والجاهلية والعزلة الشعورية، والموسوم باعتباره الأب الروحي لكل تنظيمات الرفض والعنف الإسلامية في الأربعة عقود الأخيرة.
لقد كان النظام الخاص أو التنظيم السري الذي أسسه الشيخ حسن البنا أولى المحطات في علاقة الإخوان بالعنف، كان تنظيما سريا يتلقى أفراده تدريبا عسكريا، شارك التنظيم في عمليات المقاومة ضد العصابات الصهيونية في فلسطين، لكنه سرعان ما تورط في عمليات عنف ضد خصوم الجماعة السياسيين داخل مصر؛ كان من أبرزها اغتيال القاضي أحمد الخازندار ورئيس الوزراء محمود فهمي النقراشي، وهي العمليات التي عجلت بالرد السريع بحل الجماعة وحظرها ثم اغتيال مؤسسها ومرشدها حسن البنا.
حاولت الجماعة تجاوز تجربة النظام الخاص، مرة بإدانة مباشرة وصريحة لهذه التجربة والنظر إليها باعتبارها خروجا على الخط العام للجماعة، على النحو الذي فعله مؤسس الجماعة نفسه في بيانه الشهير (ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين) الذي تبرأ فيه من منفذي الاغتيالات ومن يقبلون بالعنف وسيلة لحسم الصراعات السياسية، ومرات أكثر بمحاولة تبريرها بربطها بالسياق التاريخي حين كانت كل الحركات الوطنية لا تتورع عن توظيف السلاح لتحقيق مشروعها السياسي.
لكن مسار الأحداث أخذ بالجماعة، أو للدقة بجزء منها، في مجرى تيار العنف المؤسس دينيا بعد دخولها في أجواء الصدام مع ضباط ثورة يوليو (تموز) ونظامها الناصري، وكانت جينات العنف الكامن في التنظيم الخاص بحاجة فقط إلى لقاء سيد قطب وأفكاره، لتنشط في بيئة مواتية من القمع والاضطهاد، فكان تنظيم 1965 الانقلابي الذي يمكن اعتباره امتدادا وتطورا طبيعيا لفكرة النظام الخاص وخبرته.
*** في السجون الناصرية حاولت قيادات بالجماعة لجم أفكار سيد قطب ومنعها من اكتساح أطروحة مؤسسها الشيخ حسن البنا، فأصدرت رسالتها الشهيرة (دعاة لا قضاة)، نجحت الجماعة بدرجة كبيرة في محاصرة فكرة منطق التكفير المستتر في أطروحة قطب، لكنها فشلت في اقتلاع جذور العنف الكامن فيها، وهي الجذور التي أينعت وأثمرت وحان قطافها في عهد الرئيس السادات، في السبعينات من القرن العشرين، الذي شهد انفجارا هائلا في المد الديني كان التيار الكاسح فيه لا يرفض العمل المسلح من حيث المبدأ بل يختلف حول مدى جدواه والتوقيت المناسب له.
في هذه الحقبة عادت فكرة التغيير المسلح بقوة لتلهب خيال الشارع الإسلامي، فشهدت مصر أول تنظيم انقلابي إسلامي في تاريخها وهو تنظيم الفنية العسكرية (1974)، ونشأت تنظيمات جهادية كثيرة، أبرزها الجهاد والجماعة الإسلامية، كانت لا ترى حرجا للدعوة إلى الانقلاب والثورة وحمل السلاح ومواجهة الدولة، ولم يكن الإخوان بعيدا عن هذا المزاج، فقط كان الفارق بينهم وبين الآخرين هو فارق الخبرة وحده الذي يعطي الإخوان دائما قدرة أفضل على قراءة المشهد بواقعية خوفا من فاتورة الحساب، ويمنحها أيضا حاسة استثنائية في تشمم رائحة السفن الغارقة التي ليس أكثر منها نفاذا حين يكون العنف ضد الدولة المصرية بما لها من ميراث قديم في الضرب بيد من حديد.
ليس ممكنا الجزم بتورط جماعة الإخوان في تنظيمات أو فاعليات العنف التي جرت في هذه الفترة، ومن ثم يصعب القبول بما قيل عن دور لها في عملية تنظيم الفنية العسكرية وهو ما ذكره طلال الأنصاري أحد قادة التنظيم، كما يصعب التسليم بدقة ما نسب لمصطفى مشهور عن وجود تنظيم للإخوان في الجيش وقتها، لكن طبيعة التداخل الكبير بين أطياف الصحوة الإسلامية المتصاعدة وقتها وعلاقة الأواني المستطرقة التي كانت تحكم الجميع، تسمح بالحديث ليس فقط عن تقاطعات بين شخصيات إخوانية أو محسوبة على الإخوان وبين شخصيات جهادية تتبنى منهج التغيير المسلح، بل وعن أن فكرة التغيير المسلح لم تكن مستبعدة وقتها عند الإخوان وأن الشيء الذي كان يحول دونها غياب الشروط اللازمة واللحظة المناسبة.
*** على عكس المفترض؛ كان أول ما دفع الإخوان باتجاه الحسم في قضية العنف هو نجاح عملية اغتيال الرئيس محمد أنور السادات عام 1981، لقد نجح تنظيما الجهاد والجماعة الإسلامية في اغتيال رأس الدولة، لكنهما افتتحا بتلك العملية فصولا أكبر وأقوى مواجهة مع الدولة العتيدة التي استنفرت لها كل أجهزتها، وكان على الإخوان الإسراع بتحديد موقعهم في المشهد الإسلامي فاختاروا أن يكون ضمن مربع «الاعتدال» الإسلامي ليس فقط باعتباره الأقرب لخط مؤسسها الأول بل والأنسب لتأسيس شرعية جديدة للجماعة في ظل نظام لا يتردد في قبول دعم تيار إسلامي في مواجهة حركة التمرد التي تقودها تنظيمات إسلامية مسلحة، فكان أن دشن الإخوان حضورهم الجديد على أساس أنهم تيار الاعتدال الذي يمكن أن يساعد الدولة في حصار تيار العنف.
ثم جاء بعدها بقليل قرار الجماعة المشاركة في الانتخابات البرلمانية عام 1984 ودخول التحالف مع حزب الوفد الليبرالي، لقد كانت بداية حقيقية للتغير التدريجي باتجاه التجاوز التام للعنف كوسيلة ممكنة ومقبولة للتغيير، فقد سمحت هذه الخطوة للجماعة بالانغماس تدريجيا في منظومة العمل السياسي السلمي، بدءا من النقابات المهنية فالمجالس المحلية والبرلمان، وصارت الجماعة «تتورط» بالتدريج في منظومة يصعب أن تنتج عنفا حتى ولو حمل من يدخلها «جينات» كامنة لهذا العنف في كتب وأدبيات تجاوزتها الجماعة واقعيا بالفعل ولكن لم تملك جرأة مراجعتها ونقدها فكريا، كما في بعض كتابات سيد قطب التي ما زالت تدرّس ضمن المناهج التربوية داخل الجماعة.
*** يمكن القول إن موقف الإخوان من العنف يتحدد بموقفهم من السياسة ومدى «تورطهم» فيها، بأكثر مما تحدده الأفكار التي تحتمله ولا تخلو منها مقررات الجماعة ومما ينقضها أيضا، وكلما أتيحت للجماعة فرصة الحضور والوجود السياسي كلما ابتعد الإخوان عن احتمالات التورط بالعنف.
في مصر لم يمانع الإخوان طوال عقدي الثمانينات والتسعينات من التموقع فكريا في نفس مربع الدولة ضد جماعات العمل المسلح، طالما عزّز ذلك من فرص حضورهم السياسي، وظل الإخوان يقدمون أنفسهم باعتبارهم البديل المعتدل الذي ليس أمام النظام سوى القبول به إذا ما أراد مواجهة حركات العنف الإسلامية.
وفي الجزائر التحقت الجماعة بالسلطة في مواجهة مشروع جبهة الإنقاذ والجماعة الإسلامية المسلحة معا وقبلت بلعب دور الإسناد الإسلامي للعسكر في حملتهم ضد التمرد الإسلامي، وقبل محفوظ نحناح زعيم الإخوان (حركة مجتمع السلم) المشاركة في الانتخابات الرئاسية الصورية فقط لاستعادة الدولة للمسار السياسي ولو من دون جبهة الإنقاذ التي كانت قد فازت بالانتخابات قبل حظرها وضربها من النظام.
وبل لم يتردد إخوان العراق (الحزب الإسلامي) في الالتحاق بالعملية السياسية ضمن مجلس الحكم الانتقالي ولو برعاية مندوب «الاحتلال» الأميركي بول بريمر، ترك الإخوان المقاومة المسلحة وفضّلوا مقاومة الاحتلال بالدعوة إلى التوبة كما تسجل لوحة إعلانية للحزب الإسلامي امتلأت بها مساجد العراق (قاوموا الاحتلال بالتوبة في رمضان)، ورغم أن قطاعا من الإخوان شارك في تأسيس تنظيم للمقاومة (حركة جامع) فإن التيار العام فضل العمل السياسي والحصول على حصته بالسياسة في عراق ما بعد صدام، ورفض المقاومة المسلحة ورفض الحديث عنها حتى من داعيتهم وشيخهم الأبرز محمد أحمد الراشد الذي سجل نقده لهم في كتابه «نقض المنطق السلمي».
*** ورغم أطروحة «الأممية الإسلامية» التي يرفعها الإخوان المسلمون فإنهم يبدون أقرب لأطروحة الدولة الوطنية، وفي تعاملهم مع الجهاد المسلح يقترب الإخوان من نموذج الجهاد الوطني منه إلى الجهاد المعولم على غرار «القاعدة» وأخواتها، حين حمل إخوان اليمن (التجمع اليمني للإصلاح) السلاح في حرب الدفاع عن الوحدة 1994 كان ذلك تحت مظلة الدولة، وفضل إخوان الصومال (الاتحاد الإسلامي) العمل السياسي على التحول لحركة مقاومة مسلحة، وفي الصراع الأخير بين إخوة السلاح من الإسلاميين انحاز الإخوان إلى شيخ شريف وجناحه في السلطة على حساب حركات الجهاد المعولم الراغب في جهاد مفتوح يتجاوز الحدود الصومالية، وفي لبنان أسس تنظيمهم (الجماعة الإسلامية) «قوات الفجر» لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي للبنان، ولكن التجربة رغم ريادتها في العمل المقاوم ظلت هامشية ولا تعكس تحولا كاملا للجماعة نحو المقاومة، وفي غزة لم تتجه حركة حماس التي كان ينظر إليها كذراع الإخوان العسكري الوحيد، للحسم العسكري إلا بحماية رمزية ممثلة بشرعيتها كسلطة منتخبة. وربما كان إخوان سورية الاستثناء حين تمردوا عسكريا وأعلنوا المواجهة المسلحة ضد النظام البعثي العلوي في معركة انتهت بمجزرة كبرى راح ضحيتها آلاف الإخوان في مدينة حماة 1982، والحق أن القرار لم يكن يعكس التيار الأساسي للإخوان بل قاد إليه تضخم نفوذ النواة الجهادية داخل الإخوان ممثلة في «الطليعة المقاتلة»، ثم انساق إليه التيار الغالب في القيادة وتبنته الجماعة كاملة وقيل إنها أخذت عليه موافقات من القيادة العالمية بعدما تم إقناعها بإمكانية الانتصار، لكن سرعان ما ضرب الانشقاق الجماعة وتنحى تيار المواجهة لمصلحة تيار السياسة ولكن بعد فوات الأوان وسقوط عشرات الآلاف من الضحايا في مجازر حماة وتصفية الوجود الإخواني جذريا في البلاد. وباستثناء إخوان سورية الذين تحولوا للصدام المسلح مع الدولة، يصعب الحديث عن نماذج مشابهة، نسبت وقائع عنف لتنظيم النهضة التونسي، لكنها لا تعدو حالة فردية غير مؤكد وقوعها تتصل بصراع انتخابي أدى لقتل جندي، لكن لم يثبت وجود تنظيم عسكري للحركة يؤشر على تحولها للعنف، بل كانت «النهضة» التنظيم الإخواني الأكثر وضوحا وحسما ومبادرة في رفض العنف.
وفي ليبيا تحدث البعض عن تورط بعض الإخوان في حادثة ثكنة باب العزيزية في التسعينات التي كانت تستهدف اغتيال العقيد القذافي، لكن الأرجح أن تنظيم الإخوان في ليبيا كان بعيدا عن الحادثة كتنظيم، وإن تورط أفراد منه فبمبادرة منهم.
*** لا يرفض الإخوان فكرة الجهاد المسلح، سواء في مواجهة الاحتلال أو في مواجهة الدولة غير الإسلامية، لكنهم لا ينخرطون بأنفسهم في هذا «الجهاد» ويفضلون أن يقوم به آخرون، لذلك ومع بدء حركة الجهاد الأفغاني ضد الاحتلال السوفياتي حسم الإخوان، بعد خلافات كبيرة، خيارهم برفض الانغماس في الجهد الحربي والاكتفاء بالدعم المادي واللوجيستي، وهو القرار الذي اتخذته اللجنة المسؤولة عن ملف الجهاد الأفغاني وقتها وكان يرأسها الدكتور أحمد الملط، وكان قرارا يعكس قدرا كبيرا من الإدراك السياسي؛ لقد خشيت الجماعة من أن تنقلب الأنظمة العربية الداعمة للجهاد على المجاهدين فيوظف الأمر لاحقا ضد الإخوان وهو ما جرى فعليا، فاتجه الإخوان إلى دعم الراغبين في الجهاد، ولكن امتنعوا عن بناء أي تشكيلات عسكرية بل ورفضوا مشاركة أفرادهم!. في أفغانستان استفاد الإخوان من درس تجربة التطوع بالآلاف في حرب فلسطين وقرروا أن الأولوية لمصلحة بناء تنظيمهم داخل مصر وتقويته سياسيا مع الاستفادة دعائيا بقضية الجهاد. وقد تكرر الأمر في حرب البوسنة والهرسك التي اقتصر فيها الدور الإخواني على الدعم المادي والإغاثي. في البوسنة كان الدرس قد تأكد للإخوان، وزاد عليه درس العائدين من أفغانستان وما نالهم من مطاردات وملاحقات، لذلك اقتصر عملهم عل الإغاثة، ولم يكن لهم أي صلات مباشرة بالعمل أو العتاد العسكري.
وكان المنطق نفسه هو الذي حكم علاقتها بكل الحركات الانفصالية الإسلامية، سواء في كشمير أو الفلبين أو في الشيشان.. لقد دعم الإخوان الحركات الانفصالية في هذه الدول ولكن دون المشاركة العسكرية المباشرة فيها، وحتى في الحالات التي «تورط» فيها إخوان ضمن الجهاد المسلح كما حدث مع الحركة الانفصالية الشيشانية، فقد تم بشكل فردي ولم يكن قرار التنظيم وتوجهه الصريح، وقد دفع الإخوان ثمن هذا بوضع روسيا الجماعة على قوائم المنظمات الإرهابية في واقعة هي الوحيدة تقريبا من نوعها، ولا أتصور أن بإمكانهم العودة إلى ذلك مرة أخرى!
--------------------------------
صحيفة الشرق الاوسط
العدد 11385
http://www.aawsat.com/details.asp?section=45&issueno=11385&article=554830&search=حسام%20تمام&state=true