حسن الترابي.. حين يغرق المفكر الإسلامي في بحور السياسة!
باحث في شئون الحركات الإسلامية
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
أراد أحد الإسلاميين أن يلخص رأيه في الزعيم والمفكر السوداني حسن الترابي فقال عنه: "إنه من أفضل المفكرين الإسلاميين في العالم، ومن أسوأ السياسيين فيه كذلك".ورغم ما في هذا الوصف من مبالغة واضحة فإنه الكلمة الافتتاحية الأنسب لفك شفرة حياة الرجل؛ ومن ثم فهم ومعرفة طبيعة وأبعاد هذه الشخصية التي ملأت الدنيا، وشغلت الناس في عالمنا الإسلامي، وربما العالم كله طوال عقد التسعينيات المنصرم، كذلك تفهم واستيعاب ما انتهت إليه تجربته والتجربة الإسلامية عموما في السودان التي يصعب تصورها بشكل صحيح إلا من خلال إدراك العلاقة الجدلية بين الفكر والسياسة في حياة هذا الرجل.
وُلد د. حسن عبد الله الترابي سنة 1932 لعائلة كبيرة في منطقة كسلا عُرفت بالعراقة في العلم والدين، فكان والده أحد أشهر قضاة الشرع في عصره، وأول سوداني حاز الشهادة العالمية. حفظ الترابي القرآن الكريم صغيرا بعدة قراءات، وتعلم علوم اللغة العربية والشريعة في سن مبكرة على يد والده، وجمع في مقتبل حياته أطرافا من العلوم والمعارف لم تكن ميسرة لأبناء جيله خاصة في السودان؛ فتدرج في سلك التعليم حتى حصل على شهادة عليا في القانون. سافر بعدها لأوربا، وتنقل بين أكثر من بلد فيها، فنال الماجستير من جامعة لندن والدكتوراة من جامعة السوربون، وأجاد الإنجليزية والفرنسية والألمانية، وحصَّل صنوفا شتى من المعارف والثقافات الغربية حتى عده خصومه من الإسلاميين متغربا، وليس شيخا أصوليا.
وبعد عودته إلى وطنه تولى الترابي عمادة كلية الحقوق بجامعة الخرطوم لتبدأ محطته الفكرية والحركية الأولى، إذ جاءته فرصة تولي القيادة الفكرية والحركية للحركة الإسلامية بعد أن استقال "الرشيد الطاهر" المراقب العام للإخوان المسلمين من منصبه سنة 1964، وتحول إلى حزب الأمة ليصبح بعدُ نائبا للرئيس النميري!
والترابي المفكر (وليس السياسي) يعتبره الكثيرون المفكر الإسلامي الأول -في جيله- الذي استطاع على المستوى النظري بلورة رؤية فكرية متكاملة منفتحة على العالم. مقتربة من الواقع، قادرة على الاستجابة لتحديات العصر أيا كان تقييمنا لتفاصيلها على الرغم من أنه حينما حاول تطبيقها بنفسه جاءت أقل كثيرا مما توقع أشد خصومه!
والترابي في كتاباته أقل منه كثيرا في محاضراته وخطبه، يصفه من سمعوه -بمن فيهم خصومه- بأنه ذو شخصية آسرة، متحدث بارع، يجيد الخطابة، فصيح اللسان، سريع العارضة، قوي الحجة، واسع الثقافة، لديه القدرة على أن يخلب أذهان مستمعيه، ومع ذلك فإن كتاباته تُعدُّ -مقارنة بالكتابات الإسلامية التي صدرت متزامنة- على درجة من الأهمية بما تحمله من أفكار ونظريات تجديدية، حتى إن عبد الوهاب الأفندي في كتابه "ثورة الترابي: الإسلام والقوة في السودان" وهو يقرر أن الحركة الإسلامية لم تقدم في فترة السبعينيات أي كتاب له قيمة.. يستثني كتاب الترابي "الصلاة عماد الدين" الذي كان المحاولة الأولى -وإن وصفها بأنها محاولة خجولة- لإنتاج عمل أيديولوجي ذي قيمة!
ملامح المشروع الفكري
وفي الوقت الذي كانت تسيطر فيه أفكار سيد قطب وتفسيراتها المتعددة على عموم الحركات الإسلامية -خاصة في المشرق العربي- وتسوقها نحو العزلة الشعورية عن مجتمعاتها "الجاهلية" كان الترابي يبشر بنظرية "التفاعل مع المجتمع"، ويصوغ خطابا إسلاميا مغايرا بل ومفارقا للخطاب الإسلامي السائد وقتها، وهو الخطاب الذي دشنه بعدد من الكتب مثل: "الإيمان وأثره في حياة الإنسان"، و"تجديد الفكر الإسلامي"، و"تجديد أصول الفقه"، و"قيم الدين ورسالية الفن"، و"نظرات في الفقه السياسي"... وعدد من المحاضرات أهمها: "الحركة الإسلامية والتحديث"، و"قضايا فكرية وأصولية".. وكلها تحمل أفكارا وآراءً تؤكد أن صاحبها يمتلك مشروعا فكريا تجديديا متكاملا، لم يأخذ حقه من القراءة والدراسة ليس بسبب طغيان الجانب السياسي على صاحبه -ولم يكن هو الجانب الأفضل منه بالمناسبة- والذي جعله سياسيا أكثر منه مفكرا، بل لأن هذا المشروع -وهذا هو الأرجح- يحمل آراء وأفكارا تتجاوز في تجديديتها السقف المسموح به في الفكر الإسلامي المعاصر. ولولا أن الترابي تصادم مع كل الأنظمة العربية -تقريبا- لكان أول من تصدى له وواجهه الحركات الإسلامية التي كان معظمها ينظر إليه باعتباره خارجا عليها. ويُنظر إلى أفكاره باعتبارها خلايا سرطانية كان يجب استئصالها، ولكن لم يدفعها للسكوت عليه إلا صدامه مع تلك الأنظمة التي تخوض بدورها معارك طاحنة ضد هذه الحركات، وكان السكوت من باب ارتكاب أخف الضررين.
فرغم أن المشروع الفكري للترابي يقوم على فكرة محورية أساسها تجديد الدين، وهو التجديد القائم على فهم الواقع والتغيرات والتجارب الإنسانية والتوفيق بين الثابت المطلق والمتغير النسبي، وهي نفس المنطلقات التي اتخذتها الحركات الإسلامية عنوانا لمشروعاتها الفكرية.. فإن الأفكار والآراء التي قدَّمها الترابي تحت نفس العناوين جاءت في معظمها مخالفة ومفارقة تماما لكل ما شاع واستقر في أوساط هذه الحركات بل ولدى المؤسسات الدينية الرسمية أيضا.
فالترابي لا يتردد في كتابه "تجديد الفكر الإسلامي" عن الهجوم على الفكر الإسلامي ووسْمه بالإغراق في التجريدية، والخروج من التاريخ، والانفصال عن الواقع، ويعتبر أن هذا الفكر "القديم" كان استجابة لعصور مضت لم تعد موجودة الآن؛ ومن ثم فهو بحاجة إلى تجديد شامل يتجاوز الشكليات والمظاهر التي افتتن بها المفكرون الإسلاميون المعاصرون؛ الذين لا يتردد الترابي في الهجوم عليهم ووصفهم بالقصور وضعف القدرة على التنظير والتفكير؛ مثلهم مثل بقية أبناء الحركات الإسلامية التي يطولها اتهام الترابي بالجمود والقصور الفكري، كما أن قادتها -في رأيه- أهل ثقافة وإدارة وسياسة أكثر منهم أهل علم وتفكر وتأمل، وهو ما قد يعني-وربما كان هذا المقصود- أحقيته بلقب المنظر والمفكر الأوحد للحركة الإسلامية؛ على الأقل في بلده السودان!
والتجديد عند الترابي يجب أن يمتد إلى كل جوانب الدين، فهو يدعو مثلا في محاضرته "قضايا فكرية وأصولية" إلى ثورة تجديدية شاملة للفقه الإسلامي الذي يصفه بالجمود والتقليد واستحضار القديم والامتنان به، وحصر الدين في تقاليد القدماء، ويعلن بلا مواربة ضرورةَ تجاوز الموروث الفقهي كله باعتبار أن التنقيب فيه لن يغني عن ضرورة إيجاد فتاوى جديدة عصرية.
وخط التجديد يمده الترابي على استقامته حتى يصل به إلى التجديد في أصول الفقه نفسها، والدعوة إلى بناء منهج أصولي جديد للاجتهاد بعد أن صار من غير الممكن للمنهج القديم الاستجابة لبناء المجتمع المعاصر وقد خالفه في دعوته لتجديد أصول الفقه علماء معتبرون وقدموا نقدا علميا لمنهجه.
والمنهج الجديد -الذي يتصوره الترابي- متجاوز لكل التراث الإسلامي، ولا يحتاج -في رأيه- إلى أن نطلب له شاهدا من التاريخ أو سابقا من السلف. فالتراث الديني عند الترابي فيما بعد التنزيل (أي القرآن والسنة) كله من كسب المسلمين، ولا بد أن يتطور مع الأزمان تبعا لاختلاف البيئات الثقافية والاجتماعية والمادية.
وتتجاوز آراء الترابي في قضية السنة النبوية في كثير من جوانبها التصور الأصولي السلفي المعاصر لها. فهو لا يعترف مثلا بخبر الآحاد كحجة في الأحكام، ويفرق بين الملزِم وغير الملزِم من أوامر النبي صلى الله عليه وسلم ونواهيه ولا يعطيها كلها حد الإلزام، ويفرق أيضا بين ما ورد عن النبي كرسول ومشرّع وبين ما ورد عنه كبشر لا يلزمنا في شيء، ويطالب بإعادة النظر جملة في علوم الحديث، ويدعو إلى إعادة صياغتها مرة أخرى بعد تنقيح مناهج الجرح والتعديل ومعايير التصحيح والتضعيف.. ومن ضمن ما يقترحه في هذا الصدد إعادة تعريف مفهوم الصحابة، وعدم الاعتراف بقاعدة أساسية عند المحدثين تنص على أن كل الصحابة عدول؛ وهو ما أثار عليه ثائرة السلفيين حتى اعتبره بعضهم من منكري السنة النبوية، بل وألَّف أحد قيادات الإخوان بالسودان كتابا خاصا أسماه: "الصارم المسلول في الرد على الترابي شاتم الرسول"!!
وكان الترابي أول من طرح -من بين الإسلاميين- فكرة إعادة صياغة الإسلام وتكييفه بحسب العادات والأعراف والسمات الخاصة بكل شعب بحيث يصبح الإسلام نسخا متباينة بحسب طبيعة هذه الشعوب مع الاحتفاظ بالقاسم المشترك الذي يوحد بين هذه النسخ، فتصبح بإزاء إسلام سوداني وآخر مصري وثالث أوربي... وهكذا.
ويدعو الترابي إلى تأسيس ما يسميه بالفقه الشعبي، وهو فقه لا تكون صياغته حكرا على من يسميهم برجال الدين، ولا يكون لهم فيه ميزة عن غيرهم من عموم المسلمين؛ إذ يكون الإجماع فيه إجماع الشعوب المسلمة وليس إجماع الفقهاء؛ وهو ما يعني أنه يعيد تعريف الإجماع وهو الأصل الثالث من أصول الفقه ليصبح إجماع الشعب (أو ما يطلق عليه الرأي العام وفطرة المسلمين) بديلا عن إجماع الفقهاء.
وللترابي جملة من الآراء الفكرية والفتاوى الفقهية تجعله في نظر البعض أقرب للفكر العلماني منه إلى الفكر الأصولي السلفي الذي دائما ما ينسب إليه. فهو في قضايا المرأة يتبنى خطابا أقرب إلى حركات تحرير المرأة والحركات النسوية المعاصرة في الغرب منه إلى الخطاب الإسلامي أو حتى الشرقي، حتى يصل فيه إلى التأكيد على المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة حتى في أصل الخلقة!
ويدعو إلى حرية المرأة في العمل والملبس (حيث يعتبر الحجاب خاصا بنساء النبي) والاختلاط.. وكان تنظيمه -الجبهة الإسلامية- أول تنظيم إسلامي يقبل الاختلاط حتى داخل بنيته التنظيمية!!
والمذهل أيضا أن الترابي -ذلك المنعوت بالأصولية!- كان من أوائل من قبلوا بمفهوم المواطنة والذي يعني المساواة بين أبناء الوطن الواحد دون التمييز بينهم على أساس ديني، بل وطبقه فعليا في أوساط الإسلاميين حتى قبل الاستيلاء على السلطة، إذ فتحت الجبهة الإسلامية عضويته لغير المسلمين، ونصت على ذلك في دستورها؛ وهو ما دفع تيارات إسلامية الأخرى إلى اتهامه بالخروج على أصول الإسلام وثوابت الشريعة باعتماده عقيدة المواطنة بدلا من عقيدة التوحيد.
كما كان الترابي من أسبق الإسلاميين إلى إعلان رفض حد الردة، بل ورفض أي عقوبة قانونية على من بدل دينه، واعتبر أن ذلك يدخل في باب حرية الفكر والاعتقاد.
أما في مجالات الإبداع والفنون فقد كان للترابي في رسالتيه (قيم الدين ورسالية الفن) و(نمارق إسلامية) جملة من الآراء غاية في التحررية، فهو يجيز بلا تحفظ كل أنواع الفنون طالما لا تؤدي إلى محظور أخلاقي، ويدعو إلى تصالح جماهير المسلمين مع الفن الذي يراه وسيلة للإصلاح والتغيير والدعوة إلى الله.
والترابي المفكر منطلق ومتحرر من كل قيد أو زمام؛ وهو ما جعله مثار صدمة وقلق دائم للجميع، خاصة الإسلاميين الذين كانت معظم خصوماته ومعاركه الفكرية معهم فطالته لائحة الاتهامات الشائعة: الماسونية، والإلحاد، وإنكار السنة، وإفساد النساء، والتحلل الأخلاقي.. حتى إن جماعة الإخوان المسلمين بالسودان -التي كان قائدا لها يوما ما- أصدرت بيانا نشر سنة 1988 تؤكد فيه أن الخلاف بين الإخوان والترابي خلاف في الأصول، ووصفه أحد الكتاب السلفيين بأنه يكرر ما فعله مارتن لوثر مع الكنيسة الكاثوليكية، ويؤسس لما أسماه بالبروتستانتية الإسلامية!
غير أن هذا لم يمنع -في الوقت نفسه- الكثير من الإسلاميين من النظر للترابي باعتباره مدرسة تجديدية إسلامية مستقلة بذاتها، حتى إن اللبناني "فتحي يكن" أحد القيادات الفكرية والحركية البارزة للإخوان المسلمين أقر بأن الترابي (بجانب الغنوشي وسيد قطب) مدرسة تجديدية مستقلة بذاتها من ضمن ما أسماه بالمدارس التجديدية للإخوان المسلمين!
غير أن الترابي لم يقنع بدور المفكر الذي يفكر وينظر ويجتهد، ولم يقنع أيضا أن تقوم على أفكاره دولة (كما فعلت ثورة الإنقاذ)، ولم يقبل بدور المرشد والموجه والمنظر الذي يعلو على السياسة وإن احتفظ بدور فاعل فيها كما فعل آية الله الخوميني -مثلا- الذي ظل حاكما للعبة السياسية برمتها في إيران حتى وفاته دون أن يتورط كمرجع ومرشد ديني في صراع الفرقاء السياسيين، بل أراد الترابي أن يجمع بين الفكر والسياسة، فانتقل من دور المفكر "الحر" ليلعب دور مفكر "تحت الطلب" يفكر ويجتهد ليوظف أفكاره واجتهاداته لمشروعه السياسي، فبدا سياسيا حتى وهو يفكر ويجتهد، ليقدم المشروعية والعقلانية والغطاء الأيديولوجي لحركته السياسية.
وعبثا حاول الترابي أن يمسك العصا من منتصفها فيبقى المفكر والسياسي فيحفظ لنفسه مكانة متميزة بين أقرانه من المفكرين والسياسيين على السواء، فهو يتميز عن المفكرين بالسلطة التي هم على بعد مسافة منها إن لم يطلهم أذاها، ويفوق السياسيين بالفكر الذين هم أبعد الناس عنه، لكنه لم ينجح في هذه اللعبة طويلا، وغلب السياسي فيه على المفكر في آخر المطاف، وبدا للناس في الوجه الذي قد يقبلون به، ولكنهم لا يحبونه؛ فهو المناور الذي لا يستقر على رأي، ولا يلتزم بموقف، والثعلب المراوغ القادر على التلون باللون الذي يوصله لمراده، والانتهازي الذي يقتنص كل الفرص ويوظفها لمصلحته الشخصية، والبراجماتي الذي لا يتورع عن استخدام كل الوسائل والحيل التي تحقق له غايته، والميكيافيللي الذي تبرر الغاية عنده الوسيلة... فوقع في التناقضات وأضر -من حيث لا يدري- بأفكاره، وبدا أن هناك بونا شاسعا بين السياسي والمفكر في شخصية الترابي.
فالترابي الذي ملأ الدنيا حديثا عن أهمية الشورى واحترام رأي الشعب وإجماعه حتى في الأحكام الفقهية! ضرب عُرض الحائط بهذه النظريات والأفكار التي لم تتجاوز حدود قلمه ولسانه وكان في ممارساته السياسية مستبدا من الذين لا يحترمون آراء الآخرين أو اجتهاداتهم، ولم يعرف إلا رأيه واجتهاده فقط لدرجة أن مشكلته الكبرى مع زملائه من قيادات الحركة الإسلامية أنه كان دائم السخرية منهم، والاستهزاء بآرائهم التي تخالف رأيه، بمن فيهم علي عثمان طه الرجل الثاني في حركته الذي كان عرضة هو الآخر للسخرية والاستهزاء بشكل متكرر، وعلى الملأ، رغم أنه كان مرشحا -قبل انتقاله لمعسكر البشير- لخلافته في قيادة الحركة.. وكانت نتيجة ذلك إعلان قيادات الحركة الإسلامية رفضها لأسلوب الترابي، وتقديمها مذكرة للرئيس البشير -عُرفت بمذكرة العشرة- يطالبون فيها بتقليص سلطاته والحد من استبداديته، رغم أن كل هؤلاء القيادات كانوا من تلاميذه!
والترابي الذي كان ينادي بضرورة اعتزال كل من يتجاوز الستين للعمل السياسي التنظيمي لإتاحة الفرصة أمام جيل الشباب، ظل مصرًّا -وكان قد قارب السبعين- على الاستحواذ على مقاليد السلطة بكاملها، ولم يتردد في التخلص من جيل كامل من القيادات الشابة في حركته؛ لأنهم تجرءوا وخالفوا بعض أفكاره وتوجهاته، وما زال متشبثا بمقاعد السلطة تحت دعوى أن ثورته لم تبلغ أهدافها بعد.. وما زالت في مرحلة البداية!
والترابي الذي بدأت علاقته بالرئيس نميري بالصدام الذي قضى بسببه 7 سنوات في السجن خرج ليعقد تحالفا معه صار بمقتضاه وزيرا للعدل!
وتدرج -وهو الإسلامي- في عضوية المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي حتى صار النائب العام للبلاد ثم المستشار الخاص للرئيس نفسه.. وكانت المفارقة أنه هو الذي استطاع إقناعه بعد ذلك بإعلان تطبيق الشريعة الإسلامية سنة 1983.
والترابي السياسي لديه القدرة على اقتناص الفرص، واستغلال كل الأحداث والظروف لمصلحته، ولديه القدرة على الاختراق والتسلل وصناعة التحالفات غير الثابتة، وتبني وسائل وآليات مختلفة لتحقيق مآربه يروى -في أحد الحوارات التي أجريت معه- كيف استغل خطأ سب أحد الشيوعيين للرسول صلى الله عليه وسلم، في تعبئة الشعب السوداني كله في معركة ضد خصومه الشيوعيين انتهت بحل الحزب الشيوعي، وطرد أعضائه من البرلمان.
والترابي الذي كان دائم الهجوم على مصر واتهامها باستعباد أهل السودان واستعمارهم والاستعلاء عليهم حتى استطاع في فترة وجوده بالسلطة الإضرار بالعلاقات الإستراتيجية بين البلدين، عاد بعد ذلك وغيَّر لهجته المتشددة فدعا إلى المصالحة والوفاق، وقال في حوار معه أجري بعد أزمته مع البشير: إن القاهرة هي أحب العواصم العربية إليه، وأقربها إلى قلبه!
وهكذا سارت سياسة الترابي، فكانت النهاية الطبيعية لهذا الصدام مع السلطة التي جاءت لتطبق وتحقق أفكاره على أرض الواقع بعد أن أصر على الاستحواذ عليها، وأن يكون الصوت الوحيد المسموع في السودان كله، وكان أول من انقلب عليه تلامذته وأتباعه الذين كانوا قبل ذلك تحت قيادته، وعلى رأسهم الرئيس عمر البشير الذي كان عضوا بالجبهة الإسلامية وقت أن قام بثورة الإنقاذ سنة 1989، وتولى مقاليد الحكم.
ورغم نصائح المخلصين لم يقنع الترابي بأن يترك الساحة، ويعتزل السياسة، ويكتفي بدور المفكر المنصور الذي أمهله التاريخ حتى قامت على أفكاره دولة، وما زال رغم كبر السن وقسوة التجارب يأمل في أن يعود مرة أخرى إلى أضواء السلطة وبريقها بعد أن تعود البحث عن السلطة والسعي إليها حتى لم يعد يتصور نفسه دونها، وهو على ثقة من أن التاريخ سيعيد معه سيرته الأولى فيخرج من المحنة، ويعود إلى السلطة مرة أخرى. غير أن الوضع يبدو مختلفا تماما عما كان عليه مع الرجل الذي كانت لديه من الإمكانات والظروف المواتية ما يجعله أقرب أبناء جيله لأن يحمل راية التجديد في الفكر الإسلامي لولا بريق السياسة حين يخطف أبصار المفكر ويجذبه ويملأ عليه قلبه فيفسد عليه أفكاره، خاصة حين يصر على تحقيقها بنفسه!
والآن.. لم يعد أكثر الناس تفاؤلا يتوقع عودة الترابي بعد أن صار عبئا ثقيلا يود الجميع التخلص منه؛ فالحكومة ترى أنه لا وجود للاستقرار مع الترابي، والمعارضة تفضل نار الحكومة على جنته، ودول الجوار تحمله مسئولية كل أزماتها مع النظام السوداني، والولايات المتحدة الأمريكية تعتبره الراعي الأول للأصولية في العالم، والحركات الإسلامية تعتبره خارجا عليها، حتى الجبهة الإسلامية التي صارت قياداتها التاريخية تعتبره مرحلة لا يجب التوقف عندها كثيرا، وقبل ذلك وبعده: التاريخ الذي قضت سنته بذلك.