الخبرة المغربية في التمييز بين الدعوي والسياسي
باحث مصري في الحركات الإسلامية
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
تعد قضية الخلط بين الدعوي والسياسي وعدم وجود تمييز واضح بينهما من أكثر الإشكاليات التي تواجه الحركات الإسلامية ذات البعد السياسي والتي تمثل جزءا من المشهد السياسي في بلادها. فهي من ناحية تعكس قلق معظم الفرقاء السياسيين من احتكار الإسلاميين السياسيين لورقة الدين التي يستطيع صاحبها أن يكتسح المشهد السياسي حتى من دون ميزة استثنائية إلا رفعه الراية الدينية، ومن ناحية أخري فهي تمثل مصادرة للعمل الإسلامي في مساراته المختلفة لصالح مسار واحد ربما كان أضعفها وأقلها أهمية وهو المسار السياسي، كما أنه يعرض العمل الإسلامي إلي أن يصبح عرضة للملاحقة والتضييق باعتباره بوابة خلفية يدخل منها الإسلاميون السياسيون إلي الفعل السياسي.
برزت تلك الإشكالية جليا في عدد من التجارب السياسية التي خاضها إسلاميون والتي تميزت بحضور كثيف للدين علي مستوي المشاركة أو علي مستوي الشعارات التي غلب عليها توظيف الرموز والمعاني الدينية.
الجدل النظري لا ينتهي في قضية حضور الدين في السياسة وحول مدي أحقية القوي الإسلامية السياسية في الإعلان عن هويتها في المنافسة السياسية، ومن ثم فلن نتعرض له في هذا المقام وإنما سنستعرض تجربة تبدو مهمة ولها خصوصيتها في إنجاز نوع من التمييز بين الدعوي والسياسي لدي حركة إسلامية واحدة دخلت بقوة في العمل السياسي .
التجربة من المغرب وتمثلها حركة التوحيد والإصلاح وهي تنظيم دعوي تربوي وذراعها السياسي حزب العدالة والتنمية، وهي الحركة الإسلامية الأوسع انتشارا بين الفصائل الإسلامية التي قبلت بالانخراط في العملية السياسية بقواعده، تمييزا لها عن جماعة العدل والإحسان الأقوى تنظيميا والأكثر انتشارا لكنها تقاطع النظام السياسي برمته.
تأسست الحركة قبل عشر سنوات تقريبا من اندماج عدد من القوي الإسلامية نتيجة مراجعات فكرية ومنهجية خاضتها كل مكوناتها( أهمها: رابطة المستقبل الإسلامي، الإصلاح والتجديد..) والتي حاولت تأسيس قطيعة مع منهج جماعة الشبيبة الإسلامية عقب تورط بعض أعضائها في العنف في عقد السبعينيات، وانتهت المراجعات بتبني خيار المشاركة السلمية ، وقد حاولت الحركة الجديدة تأسيس إطارها/ حزبها السياسي الخاص بها فتقدمت بطلب لتأسيس حزب التجديد الوطني رفضته السلطة، فاتجهت الحركة لتفاهم تاريخي مع الدكتور عبد الكريم الخطيب زعيم حزب الحركة الشعبية الدستورية الديموقراطية سنة 1996 صار بموجبه إطارها السياسي بعد أن عملت علي إعادة هيكلته.
رغم أن الفصيلين المتوحدين سيختلفان في التعاطي مع قضية العلاقة مع الحزب، وموقع السياسة في المشروع الوحدوي، إلا أنهما سيتفقان على تأجيل النظر في هذه القضية (علاقة الدعوي بالسياسي) لحين خوض الانتخابات البرلمانية سنة 1997.
وفي سنة 1998 ستتجه الحركة إلي السعي لبلورة تصور واضح في العلاقة مع الحزب، خاصة بعد النجاح في المشاركات الانتخابية، وهنا سيظهر بقوة اتجاه واضح عند قياديي الحركة إلي اعتبار أن الوظائف الأساسية للحركة هي الدعوة والتربية والتكوين، وأن الحزب هو تنظيم سياسي يهتم بتسيير الشأن العام.
وقد ساهمت تفجيرات الدار البيضاء في 16 مايو 2003 في تسريع مسار مراجعة العلاقة بين الحركة والحزب بعدما شن خصوم الحركة – خاصة اليسار- حربا استئصالية ضدها بدعوي مسئوليتها الأصلية عن الإرهاب، فاتجهت الحركة إلي تبني خيار التمييز بين الدعوي والسياسي والإسراع في إنجازه وهو الخيار الذي سيهندسه سياسيا سعد الدين العثماني الأمين العام للحزب وتنظيميا محمد الحمداوي رئيس الحركة.
تعبر عن هذه الإستراتيجية ورقة "المشاركة السياسية والعلاقة بين الحركة والحزب" فكريا ونظريا، وهي وثيقة غير منشورة وغير متداولة ظهرت سنة 2006 وخضعت لنقاش مطول داخل الهياكل التنظيمية للحركة منذ 2003، وهو ما يفترض أن يكون على رأس جدول أعمال مؤتمر حركة التوحيد والإصلاح الذي يعقد نهاية هذا الصيف (صيف 2006) بمناسبة مرور عشر سنوات علي تأسيس الحركة .
بداية ومن خلال مطالعة بعض معالم الرؤية الإستراتيجية الجديدة ولقاء المسئولين عن صياغتها يمكن القول بأن إستراتيجية التمييز بين الدعوي والسياسي التي اعتمدتها حركة التوحيد والإصلاح قد نضجت علي المستوي الفكري، وهي وإن لم تأخذ مجري التنفيذ كاملا في أرض الواقع فإن الدلائل تؤشر علي استقرارها واستيعابها في مجال التطبيق.
في زيارتي الأخيرة للمغرب اقتربت من التجربة التي يمكن أن تكون رائدة في تقديم مقاربة التمييز بين الدعوي والسياسي في حركة إسلامية واحدة، قرأت بعض وثائقها وتابعتها والتقيت بعدد من المسئولين عنها.
الأستاذ محمد يتيم من الذين جمعوا بين العمل الفكري والعمل السياسي فهو نائب رئيس حركة التوحيد والإصلاح وعضو الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية، وهو يعد -إلي حد كبير- أهم منظري الحركة والحزب وصاحب الجهد الأكبر في صياغة مقاربة التمييز بين الدعوي والسياسي في الحركة ..وهو قدم للمكتبة عدة مؤلفات منها : العمل الإسلامي ومنهج التغيير الحضاري، ومقالات في التغيير الحضاري، والعمل الإسلامي والسؤال الثقافي(كتاب الحركة الاسلامية بين الدعوي والسياسي) ..وهي تحمل في داخلها خطوط عامة أو جنينيات هذه المقاربة التي لم تصدر رسميا بعد ( عنوانها "المشاركة السياسية وعلاقة الحركة بالحزب").
يشرح محمد يتيم مقاربة التمييز بين الدعوي والسياسي في الحركة فيؤكد أن الحركة علي مستوي الفكرة تنطلق من شمول الإسلام، ومن ثم فقد كانت لها أهداف شمولية منها : الإسهام في إقامة الدين في الفرد والأسرة والمجتمع والدولة والأمة وصولا إلي الإسهام في الحضارة الإنسانية الشاملة..لكن شمولية أهداف الحركة لم تحجب عنها حقيقة أنها مجرد مساهم أو طرف في العمل لإقامة الدين وليست الوحيدة فيه، فالمغرب- في تصور الحركة- دولة إسلامية بها مكتسبات تاريخية للإسلام ..ومن ثم فلا تقدم الحركة نفسها كبديل وإنما كتجربة مكملة تتكامل مع غيرها.
وشمولية الأهداف انعكست علي شمولية مجالات عملها أيضا فهناك دعوة فردية ودعوة عامة وعمل سياسي وآخر اجتماعي واقتصادي ونقابي وثقافي وفكري..مجالات تتعدد وتتسع باتساع الإسلام نفسه.
وما بين شمولية الأهداف وشمولية مجالات العمل كان لابد من فصل ووصل، ففي المجالات كان لابد من ضرورة التمييز بين الوظائف الأساسية لتنظيم الحركة ( هي بالأساس: دعوة – تربية- تكوين )..وبين ما يسمي بالأعمال التخصصية ( سائر المجالات الأخرى ).
والوظائف الأساسية هي التي تعرف بها الحركة، وهي صلب الحركة وعنوانها وسر وجودها.. والتي يمكنها أن تتعاون فيها مع كل من يتفق معها في شأنها سواء الدولة أو الحركات والفاعلين الآخرين.
أما الوظائف أو الأعمال التخصصية فهي تجليات الحركة خارج النطاق الدعوي الذي هو صلبها وسر وجودها، مثل الوظيفة السياسية ( الحزب ) أو الوظيفة الاجتماعية ( جمعيات ) والوظيفة العمالية ( النقابة )..إلخ، والعمل في هذه الوظائف التخصصية لابد أن يستصحب معه المرجعية الكلية للحركة لكنه ينفصل عنها في الإطار التنظيمي
ومن ثم فهو يصوغ علاقة الحركة ( القائمة بالوظائف الأساسية ) مع الحزب ( القائم بالوظيفة التخصصية ) في جملة واحدة: التلاقي في المرجعية والتكامل في المشروع مع التمايز في الوظائف.
أما السيد محمد الحمداوي رئيس حركة التوحيد والإصلاح فيري أن العلاقة بين الحركة والحزب هي علاقة شراكة بين مؤسستين مستقلتين؛ شراكة إستراتيجية في المشروع بين حركة دعوية تربوية وحزب سياسي ..فهناك وصل في المرجعية الجامعة لكن هناك فصل في الإطار التنظيمي. ولتفيهم المقاربة يحيل الحمداوي إلي مقاربة أوربية تشبهها في قضية بالبيئة..فهناك مشروع واحد أو هدف واحد هو حماية البيئة تقوم علي تحقيقه جمعيات مجتمع مدني وتتبناه أحزاب وتخصص له وزارات ..والكل يهدف إلي حماية البيئة..وهو ما يمكن أن نقرب به المشروع المشترك الذي يجمع الحركة والحزب وهو: الإسهام في إقامة الدين.
في إدارة العمل
في إطار سياسية التمييز بين الدعوي والسياسي سعت الحركة علي سياسة الفصل استقلالا تاما علي مستوي الإدارة بين الحركة والحزب علي الرغم من أن نحو 80% من أعضاء الحزب هم أعضاء بالحركة يمثلون سوي نحو 30% من العضوية العاملة بها.
رئيس الحركة السيد محمد الحمداوى كان عضوا بالحزب قبل انتخابه رئيسا للحركة في دورتها الأخيرة، لكنه قدم لرئاسته بالاستقالة من الحزب ..هو يقول أنه جاء رغبة منه في ألا يستقل الحزب بالقيادات ذات التكوين الحداثي فتبقي الحركة خاصة بالشيوخ وذوي التكوين الشرعي (فاختصاصه هو الهندسة وليس العلوم الشرعية)..لكن استقالته تعكس -من زاوية أخري- الرغبة في تأكيد الاستقلالية بين الحركة والحزب؛ فرئيس الحركة ليس عضوا في الحزب ورأس الحزب -أمينه العام سعد الدين العثماني- لم ينتخب في المجلس التنفيذي للحركة- أعلي سلطة بها- وإن ظل عضوا بمجلس الشورى المنتخب.
والحركة تحولت إلي إدارة مؤسساتها بمنهجها الخاص وبمنطق مؤسسة المجتمع المدني والتوجيه فيها والإلزام يتعلق بالتربية فقط أما التوجيه السياسي وبناء الموقف السياسي فتلزم الحركة أعضاءها ممن ينخرطون في العمل السياسي الحزبي بالرجوع فيه إلي الأطر والمؤسسات الحزبية
لا تتدخل الحركة في رسم السياسات المحددة والتفصيلية للحزب أو في تحديده مواقفه السياسية ..فالحزب له قيادة مستقلة ( مجلس شوري ومكتب تنفيذي ) وله انتخابات تنظم هذه القيادة، وأقصي ما يقع من الحركة في علاقتها بالحزب نقاش عام في مجلس شوري الحركة حول المسار السياسي لا يدخل فيما بعد التوجهات العامة ولا يلزم الحزب وقيادته بشيء.
وهناك حرص علي تأكيد هذه الاستقلالية ودعمها ونقلها إلي وعي القواعد؛ لذلك كثيرا ما تنشر صحيفة الحركة أخبارا عن رسائل رسمية إلي الأمين العام للحزب في أمور مختلفة بما يظهر استقلالية الهيئتين.
والحركة ضد توظيف الشعارات الدينية في العمل السياسي الحزبي، وهي تتخوف من أن تتأثر الدعوة سلبا بالسياسة التي ستستفيد منها حتما لكنها ستضر بها حال الربط المباشر بينهما..فالعمل السياسي الإسلامي سيتراجع حتما ليس لمشكل فيه بالضرورة وإنما لأنها سنة التغيير ومنطق الديمقراطية كما يقول الحمداوي: " أرقي الديمقراطيات لا يمكن أن يستمر البرنامج السياسي فيها أكثر من دورة أو دوريتين ثم يتراجع ويحل بديلا عنه برنامج سياسي آخر"
وأثناء اشتعال معركة الانتخابات البرلمانية التي خاضها الإخوان في مصر والتي غلبت عليها الشعارات الدينية نشرت صحيفة الحركة " التجديد "عدة مقالات للباحث والقيادي بالحركة بلال التليدي في نقد رفع شعار الإسلام هو الحل في الانتخابات..
وترفع الحركة شعارها ( إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت ) شعارا دعويا زادته إيضاحا بشعار فرعي ( عمل إسلامي تجديدي للإسهام في إقامة الدين وإصلاح المجتمع ) فيما يرفع الحزب شعارا مختلفا يخلو من اللغة الدينية ( أصالة- تنمية- عدالة ) ولا يتوسل بها مباشرة.
في برامج التكوين والتثقيف
الفصل بين المؤسستين استلزم اعتماد نوع من الفصل بين برامج التكوين والتثقيف في كل منهما بما تقتضيه طبيعة كل مؤسسة وقبلها في شروط العضوية، فشروط العضوية بالحركة شروط أخلاقية ومبدئية ( مثل الالتزام بالاستقامة والابتعاد عن المحرمات والشبهات )‘ وهي تميل للتشدد في العضوية في الالتزام بعكس الحزب الذي لا يشتدد في هذه الشروط طالما التزم العضو بالموقف السياسي للحزب ومرجعيته العامة.
وقواعد التصعيد في العضوية داخل الحركة هي قواعد أخلاقية علمية فكرية لا علاقة شرطية لها بالقواعد السياسية؛ كما أن الإجراءات العقابية بحق الأعضاء مختلفة داخل الهيئتين لمن يخالف التزامات العضوية ولا يلزم أن يمضي العقاب في واحدة علي الأخرى فقد يفصل العضو من الحزب لأسباب تتعلق بالانضباط التنظيمي السياسي ويظل عضوا بالحركة والعكس وارد. فالحركة تتعاطي مع المشكلات والمخالفات التربوية التي تتصل بمدي التزام العضو بمنهج الحركة وأخلاقياتها فقط .
مثال علي ذلك وقع في إحدى الانتخابات التي خاضها الحزب، فقد تورط عضو في الحركة والحزب في شراء الأصوات، فعلمت قيادة الحركة بالواقعة وأجرت تحقيقا موسعا انتهي إلي فصل العضو من الحركة لإخلاله بمتطلبات الانتماء لها..تم ذلك كله دون العودة إلي قيادة الحزب بل دون علمها، فقط أخبر الحزب بقرار الحركة دون إلزامه بموقف ودون انتظار سماع رأيه.
وعلي هذا الأساس فإن برامج التكوين في الحركة تصاغ بما يناسب حركة دعوية ثقافية قوامها الدعوة والتزكية والتربية، ويتم ذلك عبر محاضن الحركة وفاعلياتها من دروس دينية وخطب ولقاءات عامة أو فعاليات تربوية ودعوية خاصة، أما التكوين السياسي فيتم عبر أطر الحزب وهياكله وفاعلياتها..ولا تتوجه الحركة بتكوين أو مناهج خاصة لأعضائها العاملين بالسياسة..بل تصر علي الإبقاء علي الرسالة الدعوية التزكوية والتربوية العامة الجامعة.
في ضمانات الضبط
كان من الطبيعي أن تثار تساؤلات بل وهواجس وتخوفات لدي بعض القيادات من أن تؤدي الاستقلالية إلي تعارض بين الهيئتين ..وكانت الهواجس أكثر- بالطبع- لدي الدعويين الذين أصابهم القلق من أن يتأثر المسار السياسي للحزب بإكراهات السياسة وموائماتها وحساباتها التي لا تبدو أقل كثيرا أو تنعدم أحيانا لدي الحركة..وأثير الحديث عن ضمانات التزام الحزب بالإطار المرجعي للحركة، لكن استقر الأمر ألا يكون هناك ضمانات لأنها غير ممكنة فعلا ولأن الحديث عن أدوات ضبط أو سيطرة من الحركة علي الحزب هو ضد الاستقلالية الحقيقة وضد الفاعلية الحركية والسياسية...وحسمت الحركة خيارها بأنه ليست هناك ضمانات تنظيمية لضبط مسار الحزب- الذي يؤدي وظيفتها السياسية- وإنما هي ضمانات منهجية وفكرية فحسب.
العلاقة مع الآخر الإسلامي
إستراتيجية التمييز بين الدعوي والسياسي ساعدت في تطوير العلاقة مع الآخر الإسلامي . فالحقل الديني المغربي – مثل غيره- يتعدد فيه الفاعلون بداء من المؤسسات الرسمية كوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية ومؤسساتها المختلفة وعلي رأسها المجالس العلمية، أو المؤسسات غير الرسمية مثل الطرق الصوفية والجماعات الإسلامية الأخرى وفي مقدمتها جماعة العدل والإحسان أكبر تنظيمات الإسلام السياسي في المغرب.
انطلقت الحركة كما أسلفنا من قاعدة أنها مجرد طرف في الإسهام في إقامة الدين، ومن ثم فهي لا تمانع في التعاون مع غيرها في هذا الغرض أيا ما كان الموقع أو الموقف السياسي لهذا الغير..ومن ثم فهي رحبت بمشروع الدولة لإعادة هيكلة الحقل الديني والذي طرحته وزارة الأوقاف وحددت فيه معالم وقواسم المشترك الديني للمغرب ( العقيدة الأشعرية- المذهب المالكي- التصوف علي طريقة الجنيد- إمارة المؤمنين )...وأصدرت الحركة بيانا ثمنت فيه الدعوة إلي إعادة هيكلة الحقل الديني " بدلا من استئصاله " وعدته خطوة للإمام يجب دعمها، ومن ثم اعتبرت نفسها شريكا للدولة في تنظيم الحقل الديني وتعاونت مع الوزارة فيه خاصة في عمل المجالس العلمية العليا التي بدا أن كثيرا من أعضائها وممن يقودون المشروع هم من أعضاء الحركة، فكبار القيادات العلمية للحركة عز الدين التوفيق ومحمد الروكي وفريد الأنصاري - استقال مؤخرا- هم أبرز من يشرفون علي تكوين الوعاظ والواعظات في وزارة الأوقاف؛ بل إن العبادى أحمد رئيس مديرية الشئون الإسلامية بوزارة الأوقاف كان أحد قيادات الحركة ..وتهتم الحركة بدعم المشروع إعلاميا فتخصص صحيفتها- التجديد- مساحات واسعة وشبه ثابتة لتغطية أخبار المجالس العلمية والتنويه بها وبعلمائها.
أما فيما يخص العلاقة مع المنافس الإسلامي الأكبر؛ جماعة العدل والإحسان، فإن الحركة رغم اختلافها مع الجماعة في كثير من القضايا الجوهرية مثل إستراتيجية الجماعة في القطيعة مع النظام والطعن في شرعيته وتوسعها في قضية الرؤى والمنامات بما استدعي الحركة لإعلان معارضتها علانية عبر بيان نصيحة؛ إلا أنها تجاوزت منطق إلغاء الآخر والاستقطاب الفكري إلي الإقرار بالاختلاف مع القبول به، فلم تعد تقف منها موقف المعارضة والخصومة بل تتعاون في القضايا محل الاتفاق – التنسيق لنصرة فلسطين والعراق ..إلخ- ولا تري حساسية في ذلك رغم حصار النظام للجماعة وتضييقه عليه .
وقد جسد الموقف من جماعة العدل والإحسان منطق الفصل بين السياسي والدعوي الذي نتحدث عنه، فالحركة أعلنت انشغالها بما يجري في حق الجماعة من اعتقالات وإغلاق لمقراتها والأماكن التي أعلنتها للتواصل مع جمهورها – ما عرف بالأبواب المفتوحة – وأصدرت بيانا يؤكد علي رفض التجاوزات بحقها وأتاحت صحيفتها للجماعة التي شهدت حصارا إعلاميا فرصة التعبير عن موقفها عبر حوار أجرته مع متحدثها الرسمي فتح الله أرسلان، في حين تبني الحزب مسلكا برجماتيا التزم فيه بمنطق السكوت مراعاة لعدم استفزاز النظام ورغبة في ضمان ثقته خاصة في ظل تصاعد المؤشرات علي احتمال مشاركته في الحكومة القادمة إن لم يكن تشكيله لها، فلم يعقب الحزب رسميا علي حملة المصادرة والاعتقالات بحق إسلاميي العدل والإحسان بل وصرح أمينه العام سعد الدين العثماني- تحت محاصرة الإعلام له- في لقاء بمدينة طنجة بعدم قانونية مجالس النصيحة والأبواب المفتوحة التي تقوم بها الجماعة لأنها تتم من دون إذن السلطات! فخضع موقفه من " إخوة " الطريق الإسلامي إلي إكراهات السياسة ومواءمتها التي لم تجد الحركة نفسها مرغمة علي اعتبارها أو تقديمها علي موقفها المبدئي.
ويمكن أن ينطبق المنطق نفسه علي الطرق الصوفية التي شهدت علاقة الحركة بها تحسنا عما كانت عليه قبل سنوات فانتقلت من القطيعة معها والمواجهة إلي سياسية الإنصات والاستماع ورفع الحواجز ويمكن رد ذلك إلي اعتبارات كثيرة أهمها تحول حركة التوحيد إلي إطار دعوي خالص يغلب منطق الدعوة وجمع الشمل علي المنافسة .
التمييز في الخطاب والمجالات والرموز
يمكن القول بأن إستراتيجية التمييز بين الدعوي والسياسي في هذه التجربة تتحرك علي مستويات ثلاث:
مستوي الخطاب: الحركة تجمع دعوي يستوعب كل من تجمعه المرجعية الإسلامية أيا كان انتماؤه أو موقفه السياسي، فالمرجعية الإسلامية لا يمثلها حصرا تمظهر سياسي وحيد ولا يصح أن يعبر عنها خطاب سياسي واحد..فالخطاب السياسي يحتمل الاختلاف ويستلزم الخصومة السياسية ويخضع للموائمات التي يمليها المسلك البرجماتي ومن ثم فهو يفترض التغير والتحول بحسب المصلحة. فيما تبقي الحركة رهنا بالمرجعية الإسلامية الجامعة لكل من يري نفسه منطلقا منها.
لذلك اعتمدت الحركة قرارا حاسما بمنع مشاركة الدعاة والوعاظ من أعضائها في الانتخابات لا ترشيحا ولا مساندة كما منعت نزول قيادات الحركة في الحملات الانتخابية للحزب، باعتبار أنهم يمثلون المرجعية الإسلامية التي يجب أن تظل ملكا لجميع المغاربة وليست حكرا علي حزب سياسي أو خصما لخصومه وخطابها يجب ألا ينساق إلي وهاد الحزبية الضيقة..
وبالإجمال سعت لحركة إلي تبني خطاب دعوي توعوي إرشادي تجميعي عام مميز عن الخطاب السياسي في لغته ومحتواه فلا يعلن عن انحياز إلا للمبدأ ولا يتورط في خصومة سياسية مباشرة ويركز مقاربته علي القضايا والمبادئ والأفكار وليس الأشخاص والمؤسسات.
وتتجه الحركة إلي إنهاء حالة التداخل في مجال الخطاب الإعلامي بينها وبين الحزب بحيث تستقل صحيفتها – التجديد- عن الحزب الذي يتجه لتأسيس صحيفة خاصة به علما بأن لكل منهما موقع علي شبكة الإنترنت مستقل تماما عن الآخر.
مستوي مجالات العمل: تطرح الحركة في مراجعاتها الأخيرة ضرورة وجود تمييز بين الحركة والحزب في مجالات العمل..فالحركة لا يمكن أن تصدر بيانا في شأن تسيير العمل العام ( إصلاح جسر أو قنطرة، أو واقعة سياسية أو اقتصادية محددة ...) بل يلزم الحزب باتخاذ المبادرة في ذلك..أما الحركة فهي مؤسسة مجتمع مدني لكل أبناء الوطن مهمتها الدعوة وإعداد الإنسان وتربيته وتبني قضاياه العامة مثل محاربة الظلم والفساد والرشوة والبطالة وحث الناس علي التزام الفضيلة وإتقان العمل والولاء للوطن ..وكذلك دعم قضايا الأمة ( فلسطين والعراق وأفغانستان...)
وتثير الدعوة للتمييز بين مجال اشتغال الحركة ومجال اشتغال الحزب القضية الشائكة حول اشتغال الناشطين السياسيين الإسلاميين بقضايا الهوية: هل يجب أن تكون جزءا من مجال اشتغالهم السياسي؟ وما الحجم المفترض لقضايا الهوية في خطاب الحزب؟ وهل يمكن أن تتحول قضايا الهوية إلي قضايا سياسية أم تبقي ثقافية دعوية من اختصاص الحركة؟
محمد يتيم يري أن " من مصلحة الحزب أن يقلل من اشتغاله علي قضايا الهوية ويتفرغ أكثر للرقي بالخطاب السياسي والتدبيري" ..وإن كان يجزم بصعوبة تحقق هذا علي الوجه المطلوب فمازالت قضايا الهوية محور اهتمام الشارع وهي التي تصنع سمعة الأحزاب وتكثف من حضورها ومن غير الحصافة السياسية التخلي عنها جملة واحدة لأن من شأن ذلك التأثير علي شعبية الحزب.
ويؤكد يتيم أن الحركة تسير في طريق الحسم لجهة أن يتولي الحزب قضايا التدبير المباشر لاهتمامات الناس والموقف السياسي المباشر أو ما تسميه بنهج يوسف الذي قدم نفسه للعمل السياسي ليس بصفة النبي وإنما بصفة المدبر للأزمة الاقتصادية ( قال لعزيز مصر : اجعلني علي خزائن الأرض إني حفيظ عليم ).
لكن تبدو بعض القضايا أكثر تركيبا وتداخلا بما لا يسمح بالتمييز الواضح بين مجال اشتغال الحركة ومجال اشتغال الحزب مثل قضايا الرقابة علي الفن ودور الدولة في حماية الأخلاق أو منع الإساءة إلي الآداب العامة مثلما حدث في قضية فيلم " ماروك " الذي تضمن مشاهد فاضحة وقدم صورة مسيئة للفتاة المغربية اعتبرها البعض إساءة إلي سمعة المغرب بما كان يستدعي تدخل الرقابة لمنعه.
وهنا تفرق الحركة بين قضايا الإجماع العام التي لا تصادر علي حق تيار فكري أو وجهة نظره وبين الدعوة إلي نشر منظومة قيم وأخلاق تمثل تيارا بعينه ..والمثال الواضح هو قضيتي لباس البحر والدعارة ..فهناك جدل كبير حول الملابس العارية التي ترتديها الفتيات والنساء علي شواطئ البحر والتي تثير تحفظ واعتراض جماهير الإسلاميين وعموم المتدينين والمحافظين ثم هناك مشكل انتشار شبكات الدعارة وتجارة الجسد استغلالا للفقر والحاجة التي تعانيها بعض المناطق.
تميز الحركة بين القضيتين فتعتبر أن التصدي لقضية الملابس والأزياء الفاضحة هو من عمل الحركة لأنه يتطلب جهدا دعويا تربويا ولا يجب أن تتحول إلي قضية سياسية يتحرك عليها الحزب لأنها ليست قضية إجماع وطني ولا يجب أن يفرض الإسلاميون منظورهم الأخلاقي علي غيرهم خاصة وأن هناك تيار علماني حداثي لا يري في هذه الملابس حرجا أو عيبا..أما قضية الدعارة واستغلال الفقر في تجارة الجسد فهي محل رفض من كل التيارات داخل المغرب بما فيها التيارات العلمانية الحداثية ومن ثم فيمكن للحزب أن يتشارك مع الحركة في التصدي لها وتحويلها إلي قضية سياسية فهي قضية تتقاطع فيها الهوية والأخلاقية مع الشأن السياسي والتدبيري العام.
وفي كل الأحوال يؤكد محمد يتيم علي ضرورة التزام الحزب في اشتباكه مع قضايا الهوية بلغة تبعد عن التخوين والتكفير لتبقي لغة سياسية منضبطة غير إثارية هو ما سعي الحزب غلي التزامه في قضية فيلم " ماروك " حيث أحال النقاش إلي دائرة مؤسسات الدولة ومدي فاعليتها وتعبيرها عن الخط العام لسياسة الدولة دون التورط في اتهامات بالانحلال أو اللا أخلاقية .
مستوي الرموز: وتسعي الحركة إلي أن أحداث فصل بين رموز الدعوة/ الحركة وبين رموز السياسة/ الحزب، فرموز الحركة هم رموز الأمة لا يجب أن يجيروا لمصلحة فصيل سياسي دون غيره فيما رجال الحزب يمثلونه فحسب.
مازالت قضية الفصل علي مستوي الرموز صعبة ولم تنجز كاملة حتي باعتراف الحركة، فمازالت معظم رموز وقيادات الحزب هي قيادات رئيسية في الحركة فعبد الإله بنكيران عضو المجلس الوطني للحزب وعضو المكتب التنفيذي للحركة وعبد الله بها رئيس فريق الحزب بالبرلمان وعضو المكتب التنفيذي للحركة ومحمد يتيم هو عضو الأمانة العامة للحزب ونائب رئيس الحركة حتى سعد الدين العثماني الأمين العام للحزب هو نفسه عضو مجلس شوري الحركة. .. ومازال حضور هؤلاء معتبرا من خلال الحركة أكثر من الحزب، ومرد ذلك أن الحزب مازال حديثا ويعيش في مرحلة انتقالية يسعي فيها لتثبيت وجوده في الساحة السياسية ..وهو ما يجعل من الصعب الحسم مباشرة في قضية فصل رموز الحركة عن رموز الحزب، ويمكن أن نتحدث هنا عن مرحلتين في العلاقة بين رموز الحزب والحركة، الأولي كانت عام 1996 حيث انغمست كل قيادات الحركة تقريبا في عملية إعادة بناء الحزب بعد التحالف مع حزب القوي الشعبية والذي أثمر عن حزب العدالة والتنمية وتلتها انتخابات 1997 التي صار رموز الحركة أعضاء في البرلمان عن الحزب الجديد
الثانية عقب انتخابات 2002 التي استقر الحزب فيها كثاني أكبر الأحزاب المغربية فقد بدا الحزب يتهيكل ويتفرع ويستقر ومن ثم يستقل عن الحركة بما يسمح له بفك الارتباط علي مستوي الرموز ليس علي مستوي الفصل بمعناه الحاسم وإنما في صيغة الشراكة التي تسمح لكل من الكيانين باستقلال مؤسسي.
يتحدث محمد يتيم بواقعية ولكن بتفاؤل مؤكدا أنه من الصعب الحديث عن إنجاز الفصل المقبول علي مستوي الرموز بين الحركة والحزب قبل الانتخابات القادمة 2007 ويتوقع أن يبدأ مسار الفصل بعد أن يستقر وضع الحزب سياسيا كما هو متوقع، ويرجح أنه بحلول انتخابات 2012 سيكون الفصل قد أنجز علي مستوي الرموز بين الحركة والحزب،
بل يطمح يتيم إلي أكثر من ذلك بأن تعاد صياغة علاقة الحركة بالمجال السياسي لتصبح كل الأحزاب علي قدم المساواة ولا يظل دعم الحركة حكرا وحصرا علي حزب العدالة فقط..وأنه إذا كانت الحركة ترمي بثقلها علي الحزب الآن فهي تأمل مستقبلا أن تتحدد مواقفها مستقبلا علي أساس القضايا والمواقف وليس الأفراد والمؤسسات..ويشير الحمدواي إلي أن الحركة بدأت السير في هذا الاتجاه حيث دعمت أنشطة عدد من البرلمانيين من خارج حزب العادلة والتنمية كان آخرها اقتراح برلماني بإغلاق عدد من الخمارات..كما أن صحيفة الحركة لا تقصر تغطيتها للنشاط البرلماني علي برلمانيي العدالة والتنمية وإنما تتوسع في تغطية أداء عدد من البرلمانيين الذين يتبنون توجها مقاربا لتوجه الحركة.
غير أن يتيم يؤكد أن الأمر يحتاج إلي استقرار الخط الاستراتيجي للحزب أولا ونموه بما يسمح بفطامه عن الحركة، وهو ما سيكون من مصلحة الحركة مستقبلا فالحزب يؤثر لا شك سلبا علي الحركة بحجبه الشخصية الدعوية لها حيث كل إنجاز يحسب مباشرة لمصلحة الحزب..لكنه يشكل أحيانا حماية للحركة فالقوة السياسية تقلل من أطماع البعض في تصفية الحركة وهو ما ظهر بعد تفجيرات الدار البيضاء 16 مايو 2003 التي شهدت حملة تحريض غير مسبوقة تطالب بالتصفية والاستئصال للحركة برمتها.
المقاربة التي ترمي إلي التمييز بين الدعوي والسياسي في تجربة حركة التوحيد والإصلاح وحزب العدالة والتنمية مازلت اجتهادا في طور التجريب فالفكرة في كلياتها غير تنزيلها واقعيا وفيها اجتهادات كثيرة، لكنها تصلح لأن تطرح للنقاش علي التجارب الإسلامية الأخرى، فهي تفكك بعض إشكالياتها في مساحة العلاقة المفترضة بين العمل الدعوي والعمل السياسي الإسلامي. وتعطي أملا في أن بالإمكان أن تتحول حركة إسلامية ما لإطار دعوي وتربوي حاضن لتجربة سياسية ومنتج للإطارات والقيادات السياسية دون الانغماس الكلي في السياسي الذي يؤدي إلي تسييس الدعوة وإلغاء منطقها الحضاري.