معركة النبؤءة والسياسة فى المغرب
باحث مصري في شئون الحركات الإسلامية
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
عائد من المغرب الذي يشهد معركة سياسية نادرا ما تتكرر..فقد بدأت السلطات المغربية حملة موسعة ضد جماعة العدل والإحسان الإسلامية، طالت بالاعتقال مئات من أنصارها وأغلقت عددا من مراكز الدعوة التي كانت تنظم ما أسمته الجماعة بأيام " الأبواب المفتوحة " لاستقبال الجماهير في مختلف المدن.
السلطة بررت حملتها بأنها لوقف التجمعات غير القانونية التي لا تلتزم فيها الجماعة بالحصول علي ترخيص من السلطة، في حين أرجعها بعض المراقبين إلي كونها تأتي في إطار سعي السلطة للتضييق علي الجماعة التي تعد أكبر تنظيم سياسي في المغرب وحصارها في مربع الخروج علي القانون لمنع توسعها في ضم أعضاء جدد أو كسر حالة الحصار المضروب عليها...لكن السبب الحقيقي والذي يعلو به الهمس هو أنها بسبب منامات ورؤى الجماعة الصوفية !؟
فمنذ بدايات العام الحالي نشرت الجماعة بين أعضائها وأنصارها رؤيا لمرشدها الشيخ عبد السلام ياسين تقول أن عام 2006 ستشهد فيه المغرب حدثا عظيما ..شاعت نبوءة الشيخ وكان لها أن تشيع في بلد غارق في التصوف والطرقية حتى يفاخر أهله فيقولون: " إذا كان المشرق بلد الأنبياء فالمغرب بلد الأولياء "...لم يحدد المرشد في بشارته " الحدث العظيم "، لكن تفسيرات أنصاره وجماهيره وبعض خصومه تعددت ما بين وقوع " القومة " التي يبشر بها الشيخ لإعادة الخلافة ..إلي تفسيرات أخري تقول بمقتل "عظيم" ..وهو التفسير الذي زاده انتشارا نبوءة لعرافة من سويسرا تنبأت بواقعة القتل!
معركة النبوءة التي تشهدها الساحة المغربية تستحق أن نتوقف أمام قضية المنامات واتجاه بعض التيارات السياسية خاصة الإسلامية إلي إدخالها في صراعها السياسي ..كما هو الحال في المواجهة المفتوحة التي تدور رحاها في المغرب بسبب منام!.
يمكن تعريف النبوءة بأنها: رؤية المستقبل في صورة ماضوية متحققة ويقينية وليست غيبًا مجهولاً كما هو المفترض. وهي واحدة من المفاهيم الرئيسية في المشترك الديني للإنسانية، بحيث لم يخل الخطاب الديني من هذا المفهوم في أي مرحلة من مراحل التاريخ الإنساني ..وفي التصور الإسلامي فإن النبوءة يمكن مقاربتها من خلال مفهومي الرؤية والبشارة التي ينبغي الإيمان بها ثم التسليم بها حال تحققها دون أن تلزمنا بفعل يؤسس عليها. لكن دائما ما كانت هناك رغبة في توظيف النبوءة في الحقل السياسي في مواقف ومراحل مهمة وفاصلة في التاريخ الإنساني كله، يوظفها السياسيون لمصلحتهم، بل وربما اخترعوها إن لم تكن موجودة، وذلك من أجل تحقيق مصالح وأهداف سياسية لما لها من تأثير واسع يماثل العقيدة، خاصة وأنها تستمد قوة إضافية من كونها تلعب على غريزة البحث عن المجهول والولع بمعرفة الغيب لدى النفس الإنسانية.
في حرب العراق رأينا شكلا من أشكال التوظيف السياسي لبعض النبؤات الدينية حتى غير المؤكدة التي تفسر طبيعة الحرب وتتنبأ بمصيرها ومآلها وكان من أكثرها غرابة العمل الضخم الذي قام به الدكتور فاروق الدسوقي من خلال كتابه ''أشراط الساعة'' وهو عمل تجاوز ثمان مجلدات، ويعد مادة خصبة للدراسة في هذا الموضوع. فكرة الكتاب هو جمع كل النصوص التي تتحدث عن أشراط الساعة، وقد ركز في هذا الكتاب عن النصوص التي يرى مؤلفها أنها تتنبأ بحرب العراق مع الأمريكيين، وأن أكثر من ثلاثين فريقا سيجتمعون على المسلمين عند النهرين، ومضى في تحليل مسهب يتحدث عن تفاصيل المعركة ويقارن الوقائع الجارية على الأرض بالنصوص. والأكثر طرافة أيضا أنه لما سقطت بغداد صار الاحتلال الأمريكي واقعا لم يتوقف الرجل المولع بالاشتغال بالنبوءة وتسخيرها في التحليل السياسي عن إنتاج التأويلات والسيناريوهات ليثبت صحة نبوءته أو علي الأقل قابليتها للصدق خاصة وأنه وهو أستاذ فلسفة كبير وحاصل علي جائزة الملك فيصل العالمية قد بني جهده الفكري طوال أكثر من عشرة سنوات علي هذه النبوءة.
المشكل والميزة في النبؤءة حين تدخل في حقل السياسة أنها لا يتوقف مفعولها عند عدم تحققها أو عند تحقق خلافها، فالذي يوظف مفهوم النبوءة في حقل التفسير السياسي، يشغل دائما إلى جانبها دائما آلية أخرى أكثر قوة وأكثر قدرة على إعطاء أجوبة جديدة. إنها آلية التأويل. إن الذي ينطلق من النبوءة لا يعدم أن يجد تأويلات أخرى تعيد إنتاج النبوءة من جديد، وهكذا يبقى العقل مرتهنا تماما بالنبوءة وتفاصيلها التي لا تنتهي. خذ مثلا حالة الدكتور فاروق الدسوقي، لما أعلن عن القبض عن صدام حسين، أعاد تشغيل النبوءة بنحو مختلف. وطبعا الوقائع طيعة أمامه، وتفتح له إمكانات عديدة للتوظيف، فلم يعدم أن يجد عنصر المقاومة العراقية لإعادة إنتاج نبوءته الجديدة على ضوء الوقائع حتى تكون مقبولة لدى الجماهير.
وربما كان هذا ما أدركته جماعة العدل والإحسان التي شغلت النبوءة في الحقل الحركي الإسلامي بنحو فعال في شكل منامات وبشارات يتم تأويلها وتوظيفها داخل الحراك الاجتماعي والسياسي، وأحيانا تعطي المشروعية لفئة، وتنزعها من فئة أخرى.
وفي حالة العدل والإحسان لا يمكن قراءة هذا التوظيف للنبوءة بعيدا عن تاريخ المغرب السياسي، أقصد تاريخ تعاقب الدول التي حكمت المغرب تاريخيا وهو لا ينفك عن توظيف المنامات والكرامات والبشارات كأدوات لنزع المشروعية السياسية، وفي نفس الوقت لإثباتها، وكذلك يجب قراءته في ضوء الطبيعة الصوفية العرفانية للجماعة كخطاب وكفكر دائما يجنح إلى إعادة الاعتبار للغيب ضمن معادلة الفكر الإسلامي، وأحيانا تغليب عنصر الغيب وإقالة العقل.
حديث العدل والإحسان عن المنامات والرؤى يأتي في سياق تمكين عنصر الغيب من لعب أدوار في اللعبة السياسية، وقد يكون القصد خلخلة الخريطة السياسية. فنبوءة 2006 يمكن النظر إليها من زوايا مختلفة، وحسب نقاشات بيني وبين بعض قيادات الجماعة ، لا أحد يقول بأن عام 2006 سيكون سنة إقامة الخلافة، أو سنة القومة، بتعبير عبد السلام ياسين، ومعنى هذا أن الرجل حين يتحدث عن الحدث العظيم، فإنه يحقق مقصدين: فهو يريد بذلك أن لا يخرج عن الإطار التصوري والفكري الذي تندرج فيه الرؤية والبشارة. فالحدث العظيم مفتوح على كل الاحتمالات، وعلاقة الجماعة به غير مطردة، وليس هناك ما يدعو إلى تغيير في تدبير الجماعة وتخطيطها استعدادا لهذا الحدث. وهو ما يعني أن الرؤية هي متروكة للتداول والنقاش، والكل يناقشها بمنظوره ويؤولها بالنظر إلى طبيعة التحولات التي يعيشها المغرب، أو بالمآزق الاقتصادية والسياسية، أو بالنظر إلى موقع الجماعة وقدرتها على لعب أدوار في هذا الاتجاه. معنى هذا أن الجماعة دفعت بالرؤيا لتجعل منها موضوعا للتداول والتفكير وطرح السؤال، وفي نفس الوقت إثبات حضور الجماعة من خلال كل ذلك.
ثم هو يقوم بالتوظيف السياسي للرؤية على عدة واجهات، أولها طمأنة أفراد التنظيم بأن خيارات العدل والإحسان لم تتغير، وأن أجواء الانكفاء التي تمر بها الجماعة لا تعني عدم فاعلية تصوراتها، وتعني من جهة أخرى جس نبض النظام السياسي ولفت انتباهه لقوة الجماعة وقدرتها على لعب أدوار قد تربك الساحة السياسية وتعيد صياغتها من جديد.
قد نجد تمثلات مختلفة لهذه "الرؤية" تسعي لتحديد هذا الحدث لكن يبدو الأمر مقصودا، فالرؤية مفتوحة، والكل له الحق في تفسيرها وتأويلها، وإذا كان بعض أفراد الجماعة قد أولوها بنحو يشحذون فيه قوة الجماعة سياسيا فهذا مقصود أيضا، لكن مصداقية المرشد لن تمس إذا لم تتحقق القومة، فالرجل إنما تحدث عن حدث عظيم. وهنا تكمن خطورة التوظيف للنبوءة في الحقل السياسي.
بعض الكتاب هاجموا عبد السلام ياسين وجماعته وتحدثوا عن أنه بنهاية العام ستفقد الجماعة مصداقيتها غير أن الرؤية- في نظري- وإن كانت مرهونة بالتحقق، فهي قبل ذلك تحتاج إلى تفسير، فإذا تحقق تفسير الرؤية على الأرض تمتلك بذلك مصداقية كبيرة، ويمتلك صاحبها قدرة أكبر على سحر الجماهير. ولكنها إن الرؤية إن لم تحقق، فليس أمام صاحبها إلا أن يؤولها من جديد، وأن يعيد إنتاجها بشكل يجعلها مقبولة للناس، فينتظرون تحققها بإخراجها الجديد.
عبد السلام ياسين رجل ليس ساذجا أو غرا حتى يلقي بجماعته في هذا الاختبار بل هو رجل يتمتع بكثير من الذكاء، فهو يوظف الرؤية في حقل السياسة بنحو دقيق، لا يسمح فيه بالمغامرة بمصداقيته. إنه ينتفع بالدور الاستراتيجي الذي يمكن أن تلعبه، خاصة داخل مجتمع تكثر فيه نسبة الأمية، وتشيع فيه الأفكار الطرقية بشكل مبالغ فيه، وفي نفس الوقت لا يعطي للرؤية تفصيلا يرتهن به، إنه يجعلها مفتوحة يسهل تأويلها بأي حدث عظيم. وبالطبع، فلن نعدم وجود حدث عظيم نفسر به الرؤية في سنة 2006 !!
الرجل يعتقد أن الذهنية المعرفية للشعب المغربـي لا تتفاعل بشـكل مؤثـر مع الخطابات السننية، ولذلك فهو يسعى لتحريك الجماهير من قناة مؤثرة. فهو بهذا الاعتبار منسجم تمامـا مع توجهـه الفكري وميولاته الصوفية، وفي نفس الوقت يمارس السياسة من حيث كونها استثمارا لكل شيء من أجل الوصول بالخطاب إلى أوسع قدر ممكن من الناس، وجعلهم في عمق مشروعه التغييري. وغير خاف عبر تاريخ المغرب الحضور القوي للرؤيا كأحد الأركان الأساسية في الخطـاب السياسي.
نعم الرؤية من الغيب، غير أن دخولها معترك السياسة والقدرة على استثمارها وتوجيهها لتحقيق مكاسب سياسية ربما كان ذكاء سياسيا من الرجل في العمل السياسي. إدخال عنصر الغيب داخل المعادلة السياسية يحمل أكثر من معنى، فهو يحيل إلى تميز الفاعل السياسي الإسلامي، الذي لن يكتفي بالجانب السنني، وإنما سيثري تجربته وتصوره بهذا الغيب، ثم إنه محاولة لإرباك الساحة السياسية من خلال اعتماد مفاهيم لا يستوعبها الفاعل العلماني، ولا يستطيع التعامل مع منطقها.
والخوف من الاتهام بالخرافة حاصل وهو ما جري فعلا بحق الجماعة لكن الفاعل السياسي الذي يهمه استثمار الرؤى في الحقل السياسي، يهمه أيضا استثمار الحراك الفكري الذي يحدثه خطابه ومبادرته. فكلما كثر النقاش عن جماعة العدل والإحسان، وعن أسلوبها في العمل، وكلما صار موضوع الرؤى ومضمونها متداولا في الحقل السياسي كلما حققت الجماعة قدرا من أهدافها السياسية. فهي بهذا الاعتبار تلفت الانتباه إلى حضورها القوي بدليل أن كل الفرقاء يتحدثون عنها وينتقدونها. ومثل هذا التداول الواسع قد يحقق قصدا آخر يمكن أن نصطلح عليه إعادة التوازن الفكري والنفسي لأنصار الجماعة. فهم ينظرون إلى جماعتهم وإلى مرشدهم باعتباره محور جذب واستقطاب فكري وسياسي. فالكل يتحدث عن الجماعة وفي ذلك دليل على حضورها وقوتها.