الإسلام الحضاري.. الرأسمالية المسلمة في دولة أقليات
باحث و صحفي مختص في الحركات الإسلامية
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
لم أكن من الذين تفاعلوا مبكرا مع مشروع " الإسلام الحضاري " الذي طرحه رئيس الوزراء الماليزي عبد الله بدوي في بداية هذا العام، ولم اكترث بالمشروع في ظل ارتفاع أسهم المشروعات التي تتمسح ب" الإسلامية " في بورصة الإصلاح التي نصبتها الولايات المتحدة في منطقتنا، وفي ظل قناعة خاصة تقول أن السؤال الحقيقي في قضية الإصلاح هو " من " سيقوم بالإصلاح وليس " كيف " سيتم الإصلاح، فالمشروعات تكاد تتشابه والفروقات لا تكاد تتجاوز التغييرات الطفيفة في التعبيرات والدعايات ولم يعد هناك انقسام أيدلوجي صارخ بين فرقاء المشهد السياسي وبل والفكري في عالمنا العربي؛ جلهم ينتظم السير في ركاب المشروع الرأسمالي العولمي!.
وأعترف أن موقفي تغير تماما حين زرت ماليزيا واقتربت مباشرة من ملف مشروع الإسلام الحضاري ، سواء باللقاء مع العقول التي أطلقت المشروع أو التعرف علي تطبيقاته الواقعية، أو بالاستماع لأطراف الجدل الدائر حوله، فقد اكتشفت أن من الظلم البين أن نقرأ المشروع بنفس منهج وآليات النظر للقضايا والأفكار والمشروعات في عالمنا العربي .
أول ما سيكتشفه الزائر لماليزيا أن هناك شيئا ما حقيقيا يتناقش فيه الناس ويختلفون حوله وينقسمون عليه، وأن العناوين المطروحة للنقاش تعبر عن موضوعات وقضايا حقيقية وليست مجرد عناوين للاستهلاك كما هو الحال في المشهد العربي!
في البداية كنت أتصور أن مشروع الإسلام الحضاري مجرد دعوة أطلقها رئيس الوزراء عبد الله بدوي في احتفال أو مناسبة دينية أو وطنية ، وأنها لا تجاوز خطابا دعائيا إنشائيا أجاد محرره اللعب علي المشاعر الدينية والرغبة المحمومة في كسر طوق التخلف الذي يمسك بخناق العالم الإسلامي، وهو نوع من الخطابات اعتدنا سماعه حتي فقد معناه وقدرته في التأثير، غير أن الواقع كان شيئا آخر.
مشروع دولة
لقد اكتشفت أننا أمام مشروع حقيقي – ايا كان تقييمنا له – ينطلق من أسئلة واقعية ويمثل استجابة لتحديات حقيقية تواجه ماليزيا، وأن هناك فرق عمل وجهدا مبذولا يتجاوز جهد الصياغة وبلاغة الإنشاء، فصاحب المشروع والداعي له كان رأس السلطة ؛ رئيس الوزراء السابق مهاتير محمد الذي يمكن النظر إليه كآخر قادة التحرر الوطني الكبار في هذا العالم الثالث، قبل أن يتركه – بإرادته وبتخطيط منه - لخليفته عبد الله بدوي ليبدء به قيادته للبلاد، كما أن الذين وضعوا أسس المشروع وقاموا علي صياغته عدد كبير من المستشارين الدينيين والتكنوقراط علي السواء، استغرق عملهم عاما كاملا من المناقشات التي كانت نتائجها تصل تباعا لرئيس الوزراء حتي انتهي مشروعا متكاملا يمكن للدولة ومؤسساتها تطبيقه وليس طرحا للنقاش النظري .
فوجئت – مثلا – وأنا أبحث عن المعلومات المتعلقة بالمشروع أن الحديث عن الإسلام الحضاري والتعريف به يدار بشكل منظم بل وبالغ التعقيد، وأن إدارته أقرب إلي طريقة إدارة الملفات السيادية للدولة.
فبعد الانتهاء من الأساس النظري للمشروع اختارت الدولة 250 شخصا فقط من القيادات والكوادر وأخضعتهم لبرامج تكوين وتدريب قبل أن تعطيهم – بعدها - الحق الحصري للحديث باسم المشروع وتخولهم مهام شرحه وتقديمه للشعب ولهيئات الدولة الأخري عبر دورات وتدريبات نظمت أوقاتها وأماكنها في كل أنحاء البلاد، كما أنشئت وخصصت عدة مؤسسات بعينها للقيام علي أمر هذا المشروع صياغة وتعريفا وتطويرا وتطبيقا بحيث تحوله من طرح نظري إلي مشروع للشعب الماليزي كله.
فإلي جانب وزارة الأوقاف والشئون الدينية التي اطلعت- بحكم تخصصها- بالجانب الأكبر من المشروع هناك المؤسسات والإدارات التالية:
1- إدارة تطوير الإسلام في ماليزيا JAKIM وهي موجهة لنشر المشروع بين موظفي الحكومة .
2- مؤسسة الدعوة الإسلامية بماليزيا YADIM وهي موجهة للمنظمات غير الحكومية.
3- إدارة الشئون الخاصة بوزارة الإعلام JASA وهي موجهة للسياسيين.
4- رئاسة الشئون الدينية في رئاسة الوزراء وهي معنية بإدارة التدريب والدورات الخاصة بالإسلام الحضاري
5- إدارة التعليم الإسلامي في وزارة التعليم JAPIM
6- إدارة الشئون الإسلامية في الجيش KAJAT
وتجتمع كل هذه الادارات شهريا للتنسيق بينها ومتابعة آخر ما انتهي إليه المشروع .
ومن مهام هذه المؤسسات والهيئات أن تشرف علي إعداد الوزارات والهيئات الرسمية لبرامج تطبيقية يمكن من خلالها تنفيذ المشروع في حقل عملها، فوزارة الزراعة – مثلا – لابد أن تصوغ برنامجا تطبيقيا يستهلم هذا المشروع وتقدم تصورها بهذا الأمر ومتابعات دورية بشأن تنفيذه...وهو ما ينطبق علي كل الوزارات الأخري كالتعليم والصناعة ..وغيرها.
وتماشيا مع ميل الماليزيين الشديد للرمزية اختارت كل وزارة عنوانا لبرنامجها في تطبيق المشروع علي مجال عملها كما اقتبست آية من القرآن الكريم تلخص هدفها من المشروع.. فجاء عنوان وزارة التعليم ( جي قاف ) أو JQAF
ويرمز كل حرف أحد ركن من أركان المشروع . فيهدف الركن الأول إلي إحياء التراث والتاريخ الإسلامي المكتوب بلغة الجاوي j.ويرمز الحرف الثاني "Q" إلى الاهتمام بتعليم القرآن الكريم ، بينما يرمز الحرف "A" إلى الاهتمام باللغة العربية في حين يرمز الحرف "F" إلى اهتمام البرنامج بفروض العين التي يتعين على المسلمين القيام بها على أكمل وجه.
وعلي هذا المنوال تسير بقية البرامج..واختارت وزراة الزراعة قوله تعالي " أطعمهم من جوع" كشعار لبرنامجها الذي يهدف للاكتفاء الذاتي من الغذاء، في حين اختارت وزارة الدفاع آية " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة " شعارا لبرنامجها التسليحي..وهكذا.
مصالحة الدين مع الدنيا
وثيقة المشروع التي أصدرتها مصلحة الشئون الإسلامية تفيد كثيرا في فهم المشروع؛ إذ عرفت بالإسلام الحضاري وأفاضت في شرح فكرته ومفهومه، ورسالته وهدفه والتطلع المنتظر منه، وفصلت في شرح مبادئه وأسسه، ولكنني أتصور أن قراءة الأفكار والرؤي لن يفيد إذا ما كان معزولا عن معرفة السياق الذي تطرح فيه وهو ما يحاوله هذا المقال.
ولكن إذا جاز لنا أن نلخص مشروع الإسلام الحضاري بكلمات من خلال مضمونه فيمكننا القول بأنه مشروع يقدم المشروعية والدافعية الدينية لعملية بناء دولة رأسمالية تلعب فيها الأقليات الدينية دورا فاعلا مع الاحتفاظ للأغلبية المسلمة بالدور المركزي في إدارة وتوجيه هذه الدولة.
الإسلام الحضاري يقدم رؤية للدين تستحضر وتكثف كل المعاني والقيم والتعاليم الإسلامية التي من شأنها أن تجعل الإنسان فاعلا في الحياة، قادرا علي البناء والنماء والصمود في حلبة التنافس مع الآخرين، وتنمي لديه ملكات الإبداع والابتكار والاعتماد علي النفس، وهي القيم والتعاليم التي وصفتها وثيقة المشروع بأنها " تهتم بجوانب الحياة المختلفة من أجل رفع مستوى معيشة المجتمع المتمدن، ومن ثم إعداد أبنائه لمواجهة مختلف تحديات العصر الحديث عصر ثورة الاتصالات والمعلومات والعولمة، والاقتصاد العالمي".
الإسلام الحضاري يوصل رسالة للفرد بأن ميدان المنافسة والتحقق هو الدنيا نفسها، وأنه لا يجوز أن ينصرف عنها أو يقلل من شأنها، وأن نجاحه فيها هو طريق النجاح في الآخرة ، غير أنه يسعي بأن يحكم هذه المنافسة بشروط وتعاليم الآخرة، ولذلك فهو يؤكد صراحة أن رسالته الأخيرة هي " تنفيذ الخطط التنموية للدولة والشعب من منطلق مفاهيم العالمية والتقدم والحضارة والتسامح والتوازن في الإسلام "...
وبتركيزه علي الدنيا وعمارتها يختلف طرح الإسلام الحضاري إلي حد كبير عن طرح الإسلام الصوفي الذي يضع نصب عينيه الدار الآخرة فقط ويري أن عمارتها أهم من عمارة الدنيا ، وبإعلانه أن رسالته هي التنمية يختلف كذلك عن طرح حركات الإسلام السياسي التي تركز دائما علي مشروع الدولة الإسلامية وحاكمية الشريعة وعلي الرسالة العقيدية للدولة والتي تسعي إلي تعبيد الناس لله.
وبشكل عام يبدو طرح الإسلام الحضاري أكثر اقترابا واستيعابا لمفهوم الدولة الوطنية الحديثة فهو يراعي التعدد والتنوع داخل الدولة ويقرر المواطنة أساسا لبنائها ، ويبدي تفهما تاما لقضايا الحريات الأساسية وحقوق الأقليات الدينية والعرقية ودورها الفاعل في بناء الدولة، وتبدو فيه النزعة الإنسانية حاضرة بقوة كما تسيطر عليها الأخلاقية عوضا عن العقائدية التي غلبت علي الإسلام السياسي، وهو ما حدا بالحزب الإسلامي إلي نعته بأنه "دين جديد" وذلك في سياق حملته علي المشروع.
هذه قراءة عامة للمشروع الذي لا يمكن قراءته بدقة إلا من خلال فهم السياق الذي ظهر فيه والملابسات التي أحاطت به.
السياق الذي أفرز المشروع
لفهم مشروع الإسلام الحضاري لابد من ربطه بمسألة التركيبة العرقية والتوازنات الداخلية بين الملايو
المسلمين – سكان البلاد الأصليين- وبين الأقليات الصينية والهندية التي أتي بها الاستعمار الإنجليزي وقام علي توطينها وتمكينها قبل رحيله، فماليزيا الآن علي وشك مراجعة لأهم قواعد العلاقة المعقدة التي تحكم هذه التركيبة وتدير التوازن الداخلي،.
فمنذ أكثر من ثلاثة عقود استقرت استراتيجية الدولة الماليزية التي يسيطر الملايو عليها – من خلال حزب أمنو الحاكم- إلي إقرار سياسية التمييز الإيجابي لمصلحتهم علي حساب المهاجرين الصينيين والهنود بدعوي تعويض السكان الأصليين عن التمييز الذي أتاحه الاستعمار لهؤلاء المهاجرين علي حسابهم، وقد سمحت هذه السياسة التفضيلية للملايو بالسيطرة علي الجهاز الإداري للدولة والحصول علي امتيازات كبيرة في فرص التعليم والتدريب والتوظيف والاستثمار ..وقبل الصينيون ذلك معتمدين علي سيطرتهم الفعلية والمتنامية علي الاقتصاد، في حين رضي الهنود بالمتاح والمتبقي من فتات القوتين العظميتين اللتين تحتكران السياسة والاقتصاد.
لقد صار استمرار هذه القاعدة الحاكمة موضع شك لأسباب عدة منها أن درجة الوعي لدي أبناء الأقليات الصينية والهندية ارتفعت وإحساس أبنائها بحقوقهم كمواطنين لهم كل الحقوق تنامي وتأكد خاصة لدي الأجيال الجديدة التي ولدت في ماليزيا وتحدرت من أسر ماليزية الميلاد وانقطعت كل صلاتها بأوطانها الأصلية، فلم يعد هناك مهاجر بالمعني الذي كان مقصودا عشية الاستقلال أو ووقت إقرار سياسية التمييز الإيجابي لمصلحة السكان الأصليين من الملايو، وهو ما من شأنه أن يعجل بإعادة النظر في هذه الامتيازات خاصة مع انفتاح ماليزيا علي العالم.
تدرك قيادة الملايو ذلك جيدا وتدرك أيضا أن سياسة التمييز الإيجابي جاءت بنتائج عكسية كان أهمها ضعف القدرة التنافسية لأبناء الملايو أمام الأقلية الصينية اعتمادا علي السياسة التفضيلية، وهو ما تنبه له مبكرا مهاتير محمد صاحب كتاب "معضلة الملايو" والذي لا يكف عن انتقاد الملايو وينعي كسلهم وضعف قدراتهم أمام الأقليات الأخري خاصة الصينية ، ويعترف بخطأ سياسة التدليل التي اتبعها معهم، وهو ما تؤكد صحته الأرقام التي تقول أن مساهمة الملايو في الناتج الاقتصادي لم تكن تجاوز قبل أربعة أعوام 20% تراجعت إلي 17% في السنة الأخيرة.
ومن المتصور أن تبني الإدارة الماليزية لمشروع الإسلام الحضاري يأتي في سياق العمل علي رفع كفاءة عنصر الملايو ودعم قدراته التنافسية وقيم العمل والإنجاز عنده بما يسمح بإلغاء آمن للامتيازات الممنوحة له دون أن تؤدي إلي سقوطه النهائي من حلبة المنافسة.
كما يمكن فهم المشروع في إطار استراتيجية الدولة الماليزية للعب دور يتجاوز حدودها الجغرافية كفاعل رئيسي في منطقة شرق آسيا وفي العالم الإسلامي أيضا، وهو توجه بدأه مهاتير محمد وظهرت بوادره في أواخر حكمه ثم تأكد بعد نهايته، ويمكن تلمسه ليس فقط في الحديث الماليزي المتوجه دائما – خاصة في حديث النهضة- إلي العالم الإسلامي، بما يشعر بالإيمان بدور ماليزي محوري في هذه القضية، وإنما في السياسات الماليزية المعلن عنها بدأ بالانفتاح علي الدول الإسلامية والزيارات المكثفة والاتفاقات الكثيرة انتهاءا بالمشروع الذي تقدمت به الخارجية الماليزية لإصلاح وإعادة هيكلة منظمة المؤتمر الإسلامي بما يجعلها أكثر فاعلية.
ومن محاور هذه الاستراتيجية أن تتحول ماليزيا إلي منطقة جذب ليس للاستثمارات الإسلامية فحسب وإنما للعقول والخبرات البشرية الإسلامية وخاصة المهاجرة، والتي تسعي الإدارة الماليزية إلي تعظيم الاستفادة منها، ويأتي مشروع الإسلام الحضاري ليؤكد هذا التوجه ويثمنه ويعطيه أبعادا دينية تظهر معه ماليزيا كقبلة للخبرات وقوي الإنتاج الإسلامية التي أحسن الغرب توظيفها والاستفادة منها لمصلحته دون أن يفيد العالم الإسلامي منها بشيء.
ولفهم مشروع الإسلام الحضاري أيضا لابد من التعرف علي الهاجس الديموغرافي الذي يعيشه مسلمو ماليزيا الملايو، فالتنامي السريع للاقليات الصينية والهندية والمد الديموغرافي الهائل للصينين والهنود الذي يصل حد الاكتساح لبلدان منطقة شرق آسيا أثار قلق شعوبها من الذوبان في طوفان بشري لا حدود له ( تعداد الصين زاد عن 1.2 مليار نسمة والهند تقارب المليار نسمة من أصل 6 مليار هم تعداد البشر!) وهو ما كان دافعا وراء تعظيم التوجه الماليزي نحو دعم القومية المالايوية وتوثيق أواصر الصلة بها خارج ماليزيا؛ في إندونيسيا خاصة وفي منطقة شرق آسيا التي يتناثر الملايو في عدد من بلدانها ( مثل سنغافورة، الفلبين، تايلاند..)، ويأتي مشروع الإسلام الحضاري ليدعم هذا التوجه وهو ما يظهر جليا في برنامج " جي قاف " الذي تبنته وزارة التعليم الماليزية لتطبيق الإسلام الحضاري فهو يتبني – مثلا- الدعوة إلى ربط الماليزيين بتراثهم من خلال العودة إلى كتابة اللغة الملايوية "بهاسا ملايو" بالحرف العربي والمعروف بـ"الجاوي" نسبة إلى مملكة "جاوا" الإسلامية في أرخبيل الملايو وهو ما يعني النظر إلي المنطقة وقومية الملايو باعتبارها غير منفصلة علي الأقل ثقافيا وحضاريا.
وهناك اهتمام واضح من الحكومة الماليزية بإندونيسيا ودعم لمشروعات التنمية بها والانفتاح عليها باعتبارها الدولة التي تضم أكبر كتلة من شعب الملايو، وهو ما توازيه سياسة متشددة بإزاء الصين والهند، الدولتين الوحيدتين في العالم اللتين يشترط علي مواطنيها الحصول علي تأشيرة دخول لزيارة ماليزيا.
وإضافة للسياق الاقتصادي هناك السياق السياسي المتعلق بالصراع مع قوي الإسلامي السياسي – الحزب الإسلامي ( باس ) – علي الشارع ، إذ يسعي مشروع الإسلام الحضاري إلي تأكيد شرعية النظام الحاكم لدي الأغلبية الملايوية المسلمة التي لا تنفصل عندها القومية عن الدين ( ملايو تعني مسلم بالضرورة ) وركوب موجة الأسلمة التي اجتاحت المجتمع الماليزي وعدم ترك الساحة الإسلامية للمعارضة خاصة مع تجذر المشاعر والوعي الإسلامي لدي الملايو، ولكن دون أن تثير غضب أو حساسية الأقليات الدينية الأخري – من الصينيين والهنود- إذ أن المشروع يبتعد عن الجدل العقائدي مع غير المسلمين أو تعميم التشريعات الإسلامية عليهم ( كما يدعو حزب باس مثلا ) ويتجنب الحديث عن المعطي العقائدي والدعوي للإسلام، ويسعي للتأكيد علي الأبعاد الحضارية للدين فقط وهي الأرضية التي يمكن أن يدور النقاش عليها دون أن يخل بالتوزان والتعايش مع أبناء الأديان الأخري.
وقد ظهرت أولي ثمار هذا في تراجع الحزب الإسلامي في الانتخابات الأخيرة التي جرت قبل شهور أمام الحزب الحاكم وخسارته لولاية من ولايتين كانتا تخضعان لإدارته، بعدما استطاعت دعاية الحزب الحاكم أن تسحب جزءا من الشرعية الإسلامية التي كان يصعب عليها من قبل منازعة الحزب الإسلامي فيها.
أول ما سيفعله الزائر الجديد – مثلي - لماليزيا بعد أن تنتهي زيارته هو أن يعيد النظر في مبدأ اعتماده علي وسائل الإعلام العربية مصدرا لبناء الصورة الذهنية عن أي بلد أو أي شيء! وهذا ما خرجت به من رحلتي إلي ماليزيا التي سافرت إليها لحضور مؤتمر دولي يناقش قضية الإسلام والعمل والعمال وقضيت فيها عشرة أيام غيرت تماما من الصورة النمطية الطوباوية التي ترسخت في الأذهان بفعل الإجماع والتكرار الذي هو زن علي الدماغ وأمر من السحر!
الفروق بين ماليزيا التي رأيتها وتلك التي صنعتها لنا وسائل الإعلام العربية كثيرة، وتحتاج إلي حديث مستقل، ولكن أهم هذه الفروق أن الحكومة فيه تسبق الشعب بكثير، وأن خيال النخبة السياسية فيها -علي العكس من حالتنا- أكثر تألقا وتجددا من خيال الشعب، وأن خطوة الممسكين بزمام الأمور فيها أوسع وأسرع من طاقة هذا الشعب وقدرته علي السير..لقد داعبتني مشاعر الغبطة والحسد ولولا الملام لقلت إن النخبة الماليزية خسارة في هذا الشعب.