أغاني الإخوان ..من ثوريات سيد قطب إلي رومانسيات سيد درويش
باحث و صحفي مختص في الظاهرة الإسلامية
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
يبعد كثيرا عن الصواب من يحاول التعرف على علاقة الإخوان المسلمين ـ والإسلاميين عموما ـ بالفن مقتصرا على قراءة وتحليل إنتاجهم الفقهي والفكري في قضايا الفن وإشكالياته، إذ غالبا ما سينتهي إلي حكم غير الواقع أو نقيضه ربما. فعلى غير طبائع الأشياء كانت علاقة الإخوان المسلمين بالفن، فالبدايات المبكرة والمنفتحة على الفن والمتفهمة لطبيعة وأهمية دوره لم تكن تنبئ بهذا الموقف الملتبس والقلق والمتوجس من الفن الذي وصلت إليه الجماعة في مراحل تالية بعدها بنصف قرن!
كما وقف الضعف والالتباس الذي وسم رؤيتها الفكرية واجتهادها الفقهي على النقيض تماما مما حدث في الممارسة والتطبيق؛ الذي يقول الواقع إنه كان أسبق كثيرا من التنظير وإنه إن لم يكن أكثر نضجا فقد كان أكثر جرأة في القفز على الإشكالات التي وقف أمامها فقهاء الإخوان ودعاتهم ومفكروهم.
حين أسس الشيخ حسن البنا جماعته ـ الإخوان المسلمين ـ عام 1928 كان الفن أحد أهم المساحات التي حددها لحركة جماعته ذات الطابع الإصلاحي الشامل، واجتمعت للبنا جملة من السمات والأفكار والظروف سمحت بوجود محوري للفن في دائرة تصوره وحركته كان أهمها نشأته الصوفية التي وسعت في آفاق فكره وفقهه السني السلفي إلي أقصى حدوده، وطبيعة مشروعه الإصلاحي الشمولي الذي قدم الإسلام ـ على غير صورته التقليدية التي كان يمثلها علماء الدين ـ كمنهج شامل للحياة ومن ثم فلم يكن ليغيب عنه جانب المتعة والترفيه، إضافة إلي خصوصية هذه المرحلة التي عاشت فيها مصر حقبة من الليبرالية الحقيقية أنعشت فيها ـ رغم قسوة الاحتلال البريطاني- روح الحرية والحركة وهو ما انعكس على أفكار وممارسات كل تياراته الفكرية والسياسية بما فيها الإسلامية.
لم يترك البنا وقتا في كسر الصورة الذهنية السلبية التي تكونت في أذهان المتدينين عن الفن، وتجاوز الجانب التنظيري تماما مفضلا أن يقدم الفن بالصورة التي يرى أنها الأمثل: الفن الهادف المفيد! وهو فن للمتعة فيه رسالة وليست هدفا في ذاتها.
أدخل البنا في برامج تكوين جماعته ـ التي كانت قانونية وقتها ـ عددا من الأشكال الفنية بدأت بالنشيد الديني والاسكتش الذي يقدم في الرحلات والحفلات بل ولقاءات الجماعة الدينية الخاصة..وقد تطور النشيد الديني باتجاه النشيد السياسي مع توغل الجماعة وانغماسها في السياسة وما صاحب نمو الجماعة وانتشارها بعدما وصل عدد أعضائها قبل وفاته (1949) إلي نصف المليون من تعداد مصر البالغ 17 مليون نسمة وقتها (بحسب ما كتبه إحسان عبد القدوس في روزاليوسف وقتها)، وكان نشيد (يا معشر الإخوان) الذي كتبه الشيخ أحمد حسن الباقوري من أشهر أناشيد هذه الفترة وكان أقرب إلي النشيد الحماسي الديني الذي يبث الحماسة ويساعد في حشد القواعد وتعبئتها على إيقاع ثوري تتردد بين كلماته فاصلة جذابة تقول: « يا معشر الإخوان لا تترددوا
عن حوضكم حيث الرسول محمد
نادتكم الفردوس فامضوا نحوها
في دعوة الإسلام عزوا واسعدوا».
وكان أهم تطور شهدته هذه الفترة في علاقة الإخوان بالفن تأسيس عبد الرحمن شقيق الشيخ حسن البنا لأول مسرح إسلامي عرف باسم (مسرح الإخوان المسلمين) الذي بدأ ـ وهذه المفاجأة ـ بتقديم أعمال عاطفية ورومانسية أولها مسرحية "جميل بثينة" التي تتناول إحدى أشهر القصص الغرامية في التاريخ العربي!
والملاحظة الجديرة بالانتباه أن مسرح الإخوان لم يتوقف عند الأسئلة التقليدية التي تطرح حتي الآن بين الإسلاميين وجماهير المتدينين عموما وتتمحور حول الفن وأهمها سؤال المرأة: مبدأ وحدود مشاركتها في الأعمال الفنية وما يتفرع عنه من إشكالات فقهية وفكرية. إذ شارك في هذا المسرح نساء بينهن أكبر نجمات المسرح المصري في ذلك الوقت وعلى رأسهن فاطمة رشدي، وكانت عروضه تقدم في المسارح المعروفة بما فيها مسرح الأوبرا ويشترك في إدارته عناصر من خارج الإخوان بل وغير مسلمين أيضا فكان المسئول عن الدعاية من خارج تنظيم الإخوان وكان مسيحيا!
حقق مسرح الإخوان نجاحا كبيرا بمعايير وقته، فقد كان أقرب للمسرح الجماهيري الشعبي يجول أنحاء البلاد ويعتمد على شبكة التنظيم المتغلغلة في كل مدن وقرى مصر ولم يكن مسرحا للنخبة بالعاصمة ـ القاهرة ـ فقط،كما كان محضنا تخرج منه عدد من أبرز أعلام المسرح العربي مثل محمد السبع وعبد البديع العربي ومحمود المليجي وسراج منير وإبراهيم الشامي وعبد المنعم مدبولي الذي صار علما لواحدة من اشهر مدارس الكوميديا العربية عرفت باسمه (المدبوليزم)!
وهناك حديث في الأدبيات الإخوانية غير المكتوبة عن محاولات لحسن البنا نفسه لدخول مجال السينما بمساعدة بعض نجوم هذه الفترة الذين عرفوا بميولهم الدينية مثل الفنان حسين صدقي الذي اعتزل الفن في آخر حياته ووقف منه موقفا سلبيا انتهى بإحراق نيجاتيف عدد من أفلامه، وتردد القول بأنه تأثر في موقفه الأخير بعلاقته الفكرية والشخصية بالمرحوم سيد قطب. ولكن علاقة البنا بصدقي ـ غير المؤكدة تاريخيا ـ لم تثمر شيئا.
وبنجاح ثورة الضباط الأحرار في يوليو1952 بدأ عصر جديد للإخوان انتهي بالصدام الكبير مع الإخوان (1954)، وكانت نتيجته تصفية شاملة للجماعة انتهت بحلها قانونيا لتسلك طريقا مختلفا أثر على الحالة الإسلامية عموما طوال عقدي الخمسينيات والستينيات، ففي أجواء السجن والاعتقالات بدأ طريق العمل السري، وتحت الأرض لم يكن ممكنا الحديث عن مسرح أو فنون إلا ما كان يقدمه المساجين الإخوان من فقرات واسكتشات ترفيهية، ونشأ وتغذى اتجاه للتشدد والتحريم كان أول ما طاله الفن باعتباره الحلقة الأضعف في منظومة الاجتهاد الإسلامي.
وفي السبعينيات تغذى تيار التشدد والتحريم من تيار الوهابية التي تمددت مع المد السعودي بالمنطقة عقب ارتفاع أسعار النفط، وصار الفن في أذهان الجيل الجديد من الإسلاميين أقرب إلي الحرام إن لم يكن حراما قطعيا، وساعد على تفشي هذه النظرة ما اشتهر به الوسط الفني ـ لدى العوام ـ من انحلال وتهتك وفساد وفضائح أخلاقية وكان أهم أسبابها انتشار السينما التجارية طوال عقد السبعينيات وما أنتجته من أعمال فنية رديئة.
ظلت الحركة الإسلامية الناشئة عفوية وبسيطة ومفتقدة للإطار الفكري المحدد طيلة هذا العقد ـ السبعينيات ـ، ولكن مع سيطرة الإخوان على مسارها وربطها من جديد بالمسار العام للحركة الإسلامية الأم ـ التي تقوم على مشروع سياسي شمولي ـ استعاد الفن وجوده بين الإسلاميين لكن بتعديلات جديدة فرضتها التغيرات، فقد صار فنا "نظيفا"، كما عاد من بوابة وحيدة هي البوابة الجهادية الحماسية وليست فيها مساحات أخري " الرومانسية مثلا" كالسابق.
فقد نشأ النشيد الحماسي الذي يدعو إلي الجهاد والبذل والتضحية والصبر على الأذى من أجل الإسلام، وانتشر في كل المناسبات: التظاهرات السياسية والمؤتمرات والرحلات والحفلات بما فيها أعراس الزواج التي لم تخل كثير من حفلاتها من نشيد يهدر فيه المنشد متأثرا:
تدلت الحبال لتشنق الرجال!!
لقد سيطرت الروح النضالية التطهرية التضحانية على أناشيد هذه الفترة حتي صار نشيد (لبيك إسلام البطولة) أقرب إلي النشيد القومي للإسلاميين في هذا الوقت يحفظونه عن ظهر قلب و يرددونه بحماسة وتأثر خاصة عجز بيته الأول الذي يقول:
لبيك واجعل من جماجمنا لعزك سلما!
وتطور الحال مع استلهام مآسي الإخوان وعذابات السجون في الحقبة الناصرية "البائدة" والتي أثمر اجترارها تيارا من المقالات والكتب والمذكرات... والإبداعات لا يجمع بينها إلا كونها غارقة في المأساوية والطوباوية ويكفي دلالة على ذلك أن أشهر سلاسلها كان يحمل اسم "أدب الغرباء" وأشهر أناشيدها ذلك الذي صاغه وافتتحه الأديب "الشهيد" سيد قطب بقوله:
«أخي أنت حر وراء السدود
أخي أنت حر بتلك القيود»
والمفارقة ليست فقط في أن مثل هذه الأناشيد كان لها فعل السحر في جذب الآلاف من أبناء الصحوة إلي الحركة الإسلامية بل في كونها كانت مصدر متعتهم وتربيتهم الدينية في آن واحد ولأنها كانت تربية شبه عسكرية فقد كان أحد كلاسيكياتها نشيدها الثوري الجهادي الذي يدعو أتباعها إلي الاستعداد لجولة جيش الحق مع قوي البغي في معركة المصير:
هو الحق يحشد أجناده ويعتد للموقف الفاصل
فصفوا الكتائب آساده ودكوا به دولة الباطل
***
ومع عقدي الثمانينيات والتسعينيات تغير الحال بعد التوسع الإخواني الكبير في العمل العام والنشاط السياسي، وهو التوسع الذي فرض عليهم اقترابهم من الشارع المصري ومزاجه وروحه، وكان من متطلبات هذا الاقتراب ونتائجه في آن واحد تغير المزاج الإخواني والانحسار التدريجي للروح الوهابية التي كانت قد غلبت على الجماعة وسرت في معظم كوادرها التي انضمت إليها في عقد السبعينيات بل وانسحبت على أجيال سابقة عليه، وكان الفن المرايا التي عكست هذه التغيرات بوضوح.
شهدت نهاية عقد الثمانينيات تأسيس عدد محدود من الفرق الإسلامية للإنشاد لملاحقة فورة العمل الإسلامي ومده المكتسح في شتى مناشط الحياة:المساجد واتحادات الطلاب والنقابات المهنية والمجالس النيابية بما فيها البرلمان، وفي التسعينيات تغير الوضع كما وكيفا فزاد عدد هذه الفرق وتمددت المساحة التي تغطيها بعد أن انتقلت من التطوع والمجانية إلي عالم الاحتراف، وهو عالم جوهره التطور الدائم وتحكمه اقتصاديات السوق.
فكان أن تخلت هذه الفرق تدريجيا عن مقاطعة الآلات الموسيقية حتى صارت الآن تستخدمها جميعا من دون منع، بل واستعانت في هذا المجال بموسيقيين محترفين ممن يعملون مع كبار الفنانين (مثل الموزع الموسيقي حسن إش إش) وأدخلت بعض الفرق ألحانا وجملا موسيقية لأغان لا علاقة لها بالإسلامية، فاستعانت إحدى الفرق الإسلامية بلحن أغنية للمطربة اللبنانية المسيحية جوليا بطرس، واقتبست فرقة أخرى أغنية عمرو دياب "من كم سنة وأنا ميال ميال وفي حبك أنا مشغول البال" فسارت على وزنها ولحنها في أغنية خاصة بها تقول: "من كم سنة وأنا ديني الإسلام وشريعتي أنا سنة وقرآن"!.
واستدعى مسار الاحتراف الاستعانة بمؤلفين محترفين لوضع كلمات أغانيها (مثل مؤلف الأغاني المعروف باهر الحريري) إذ تطلب الحال أن تتناسب كلمات الأغاني مع السياق والتغيرات الاجتماعية الجديدة فكان أن ظهرت أغان خاصة تتناسب والأفراح والأعراس والمناسبات السعيدة التي لم يعد مقبولا ولا مناسبا لها الأغاني الثورية الجهادية التي سادت من قبل، فبدأنا نسمع بأغان مثل "جوزناه وخلصنا منه" و"يا طيور غردي" و"تاني أحلى زفة" بل إن إحدى فرق الغناء الإسلامية النسائية حين أصدرت أول ألبوماتها اختارت له اسم "زي البنات" وهو اسم الأغنية التي كتبها المغني والموسيقار الشهير سيد درويش وغنتها فنانة الإغراء مها صبري في ثلاثية نجيب محفوظ التي قامت فيها بدور راقصة!!
لقد تغير الأمر حتي استلزم المزاج الإسلامي الجديد إعادة توزيع وغناء الأغاني الكلاسيكية الثورية مرة أخري لتناسب جيلا جديدا من الإسلاميين أكثر إقبالا على الحياة وإقداما على المتعة من دون شعور بالذنب، وتكفي مقارنة سريعة بين الإصدار السبعيني القديم وبين التوزيع الجديد لأغنية مثل "ثوار" لنعلم كيف خفت نبرة ونغمة الجهادية الثورية حتي في كلاسيكيات النشيد الإسلامي الذي تقلصت فيه مساحة الثوري الجهادي إلي أدنى حدودها لتفسح المجال واسعا أمام الأغنية "الإسلامية" ذات الطابع الترفيهي وربما الساخر. لقد تغير " إسلام البطولة" وصار هناك إسلام آخر"جميل" كالذي يتحدث عنه الزميل الصحفي الإخواني الكبير محمد إحسان عبد القدوس وهو الإسلام الذي تغنت به إحدى الفرق الإسلامية قائلة : "إسلامنا ده حلو جميل"!
والآن تزيد عدد فرق الغناء الإسلامي المرخصة في مصر عن خمسين فرقة بينها خمس للنساء والفتيات (غير عشرات أخرى غير مرخصة وغير محترفة ) وتزداد لديها مساحة الاجتماعي والحياتي عن مساحة الجهادي والثوري ولكن تبقى المظلة الأساسية هي مظلة "المتعة النظيفة" فهو فن بعيد عن الاختلاط بين الجنسين وخال من كل عناصر الإثارة وهو فن منزوع منه العنصر النسائي بالأساس!
الكتب وجهات نظر
عدد فبراير 2005