الإخوان الديمقراطيون.. الأفكار ، خريطة الانتشار، والعقبات
باحث في شئون الحركات الإسلامية
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
هل يمكن أن يندرج التيار الإسلامي في العملية الديمقراطية؟ أو بمعنى آخر هل يمكن أن نتحدث عن إمكانية ميلاد تيار إسلامي تتجاوز علاقته بالديمقراطية النظر إليها كآليات ضرورية لممارسة العمل السياسي إلي أن تصبح جزءً من بنيتها الثقافية والأيدلوجية ؟ وهل يمكن أن نتحدث عن إمكانية تكرار حزب تجربة العدالة والتنمية التركي في بلد كمصر التي انطلقت منها شرارة الحركات الإسلامية في العالم؟
طرح هذه الأسئلة يبدو ضروريا في هذه المرحلة بحيث يظل الحديث عن إصلاح سياسي شامل محل شك طالما قام على استبعاد فصيل وطني من الإصلاح أيا كانت آراؤنا فيه. ومحاولة الإجابة عنها يتحتم أن تبعد بالنقاش عن حروب الشارع السياسي المصري ذات النعرات والرطانات الأيدلوجية وصيحات الثأر والتشفي التي يقدم فيها الإسلاميون أنفسهم كضحايا لسوء فهم الآخرين لهم وكيف أنهم عند البحث الحقيقي هم ملائكة الديمقراطية الذين يبشرون بها متوافقة مع خصوصية مجتمعاتنا بيضاء لا شية فيها وتسر الناظرين! أو يتحولون لدى خصومهم من التيارات الأخرى إلي زبانية القهر وجرثومة الاستبداد باعتبارهم كائنات منزوعة الديمقراطية لم ولن تشم رائحتها حتى يلج الجمل في سم الخياط!
لأهمية هذه الأسئلة في مرحلة مفصلية بالغة الدقة كالتي نعيشها ولأهمية حدوث مثل هذا التطور خاصة إذا كان في جماعة بقوة وتأثير الإخوان في الحركة الإسلامية وفي العمل السياسي جملة التقيت في حوار/ لقاء خاص مع القطب الإخواني الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح الذي برزت تصريحات ومواقف له في الفترة الأخيرة تجعله الأقرب إلي قيادة أو تمثيل تيار ديمقراطي في الجماعة التي طالما اعتبرها خصومها العقبة الأكبر أمام إرساء تجربة ديمقراطية في البلاد. وسعيت-عبر ما يقرب من ساعتين من النقاش- إلي تبين معالم التغيير والتطور في الخطاب الإخواني في المسألة الديمقراطية والتأكد مما إذا كان حقيقيا يعكس تطورا وتغيرا في القناعات فرضته الممارسة والتجربة أم هو أقرب إلي بالونات الدعاية التي يختلط فيها الدعائي بمتطلبات المراوغة ولعبة الكر والفر وحصار الخصم والالتفاف عليه التي صارت من لوازم "السيرك" السياسي في مصر والمنطقة العربية أيضا!
وإذا كان لي أن ألخص خطوطًا أساسية لما يمكن أن نسميه الخطاب الإخواني الجديد فهي على النحو التالي ، وما بين القوسين اقتباسات وإحالات إلي كلام أبو الفتوح:
* يقبل هذا الخطاب بالديمقراطية قبولا نهائيا (كآلية لاتخاذ القرار في كل مراحل العملية السياسية ومناصبها ومؤسساتها) ويثمنها باعتبارها (تجربة وتراث إنسانية فريد يعبر عما وصلت إليه البشرية من تطور) وهو يعني الديمقراطية مطلقا ولا يتحدث كما كان سابقا عن خصوصيات للديمقراطية باستثناء ما يطمح إليه من (مزاج أو روح خاصة للديمقراطية في بلادنا العربية والإسلامية) وهو لا يقصد الخصوصية بالمعنى الاستثنائي الذي اعتاد كثير من الإسلاميين الحديث عنه مدخلا للتحايل على الديمقراطية! بل يعطيها- فقط- نفسا ثقافيا واجتماعيا (مثلما هو الحال في الديمقراطية الهندية).
ولا ينحو أبو الفتوح في نظرته للديمقراطية إلى مقولات دينية من بعيد أو من قريب؛ فهو يتجاوز إشكالية التمييز بين الديمقراطية والشورى التي طالما تعمد الإسلاميون طرحها للحديث عن شيء مغاير للديمقراطية، فيؤكد أبو الفتوح على أنه لا خلاف ولا تعارض بين الديمقراطية والشورى لأن (الشورى خلق ديني لا ينحصر بالضرورة في السياسة، كما أن الديمقراطية هي آلية لضبط المشاركة والعملية السياسية) ولا يرى داعيا للخلط بما يشعر بمجرد احتمال التناقض أو حتى الاختلاف..يتجاوز أبو الفتوح (الخلاف المفتعل) ويتجاوز معه أيضا ولكن بلباقة ودون صدام تراث مؤسس الجماعة- الإمام حسن البنا- الذي كان يرى الشورى معلمة وليست ملزمة ليؤكد على إلزامية الشورى وأن الأمر اختلط على أتباع الإمام في فهم رأيه بسبب طبيعة علاقتهم به التي كانت أقرب إلي علاقة المريدين بشيخهم!.
* وأساس الديمقراطية عند أبي الفتوح هو الاحتكام للشعب؛ وهو يتحدث عن حكم الشعب دون ذكر لأي مقولات دينية ملازمة لهذا الاحتكام فلا يتحدث عن "حكم الشعب بشرع الله" مثلما كانت تردد الأدبيات الإسلامية، بل هو( مطلق الاحتكام للشعب أيا كانت توجهات أو ديانة مواطنيه، وأيا كان اختياره حتى ولو كان من الشعب غير مسلمين، وحتى لو كان الاختيار مخالفا للإسلام بل رافضا له من الأساس) وليس خارجا عن بعض تعاليمه فقط. ولا عبرة بالرفض القديم الذي يحتج أصحابه بعدم جواز تحكيم الشعب في أمر الله، فهو يرى أن (الشريعة لا تحكم إلا إذا أرادها الشعب ولو رفضها فليست لها أي حجية ولا يجوز فرضها عليه بدون إرادته لأن النص القرآني يقول" فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" و القرار للأغلبية دون أي اعتبارات دينية) بل هو يجعل العودة إلي الشعب مطلقة ويحرم أي تحايل أو التفاف على حرية إبداء الشعب لرأيه أو التحايل على القبول بقرار واختيار الشعب حتى ولو عبر "التربيطات" السرية!.
* وفي تطور لا يقل أهمية ينزع أبو الفتوح عن العملية السياسية بمجملها أي غطاء ديني كانت تيارات الإسلام السياسي- بما فيها الإخوان- تحرص على أن تسربلها بها، وعليه فإن (الخلافة مسألة سياسية لا علاقة لها بنصوص دينية وهي في الحال المعاصرة ليست تبعد كثيرا عن أشكال الوحدة السياسية المعاصرة بما فيها الاتحاد الأوروبي)! ولا حديث عن أي غطاء ديني للسلطة أو شرعية تستمدها من خارج حكم واختيار الشعب، ومن ثم فإن (ممارسة الإخوان المسلمين السياسية لا تحميها أي شرعية أو غطاء ديني وما يحكمها هو حكم وتقييم الشعب) لها سلبا أو إيجابا ومن حق الشعب بل واجبه التقييم.
*وأهل الحل والعقد في الخطاب الجديد مصطلح تراثي لا وجود له بالمعنى التقليدي بقدر ما هو تعبير عن صيغة سياسية لممثلي الشعب وهي تاريخية كانت في مرحلة سابقة (والشكل الحديث لها هو من يختارهم الشعب لتمثيله نيابيا، ومن يختاره الشعب فهو من أهل الحل والعقد أيا كان دينه أو وظيفته أو نوعه، ومن ثم فليس بالضرورة أن يكون من العلماء والفقهاء).
* ويؤكد الخطاب الإخواني الجديد الذي يدشنه أبو الفتوح القبول التام بمبدأ المواطنة وحفظ حقوقها لكل من يحمل جنسية البلد وتنطبق عليه صفة المواطن ويتمتع بهذا الحق كل المواطنين بمن فيه الأقباط وغير المسلمين عامة. فهو (يقبل بمبدأ توليتهم كل المناصب بما فيها منصب رئيس الجمهورية ما لم ينص الدستور- الذي أقره الشعب- على شروط فيمن يتولاه كما هو الحال في الولايات المتحدة مثلا، وتكون هذه الشروط من اختيار الشعب وليس وفق آراء دينية، ومعنى هذا أنه إذا نص الدستور على أن يكون الرئيس مسلما فالحجة هنا باختيار الشعب وليس لنص ديني يحتم ذلك أو يمنع غيره. ويتبع ذلك أيضا إقرار حق المرأة أيضا في العمل السياسي وتولي كل المناصب بما فيها منصب الرئاسة ما لم يقيده الدستور باختيار شعبي لا بنص ديني، أي أن الحكم في المسألة هو قرار الشعب وليس النص الديني.
* من النقاط الخلافية التي يتجاوزها أبو الفتوح القبول بمبدأ الحق والحرية المطلقة في تكوين الأحزاب لكل التيارات على اختلافها، بحيث تتكون الأحزاب تلقائيا دون انتظار موافقات الجهات الإدارية، وتتكون وفق توجهات وقناعات أصحابها دون مصادرة لتيار أو اتجاه بما فيها الاتجاهات العلمانية أو الشيوعية بل ويؤكد على حق تكوين أحزاب دينية غير إسلامية على أن ينظم المسألة السلطة القضائية وحدها وهي بطبيعتها لها سيادة واستقلال تام عن الجهات الإدارية والسلطة التنفيذية، وهي وحدها التي تقرر إذا ما كان تشكيل حزب من جهة أو مجموعة من الشعب فيه ضرر على البلاد، وتحدد ما إذا كان هذا الحزب أو ذاك خارج عن الدستور الذي أقره وقبل به الشعب، ومن ثم فلا مصادرة مبدئية على حق تكوين الأحزاب لأي تيار ولا مصادرة لاحقة من الجهات الإدارية والسلطات التنفيذية، والفيصل النهائي هو السلطة القضائية المستقلة، وعليه فهو – أبو الفتوح- يرفض تماما قانون الأحزاب المصري بصيغته الحالية.
* هناك نقطة خلاف أخري يحررها أبو الفتوح تتعلق بالقبول بحق ومبدأ تداول السلطة والتسليم باختيار الشعب مهما كانت نتائجه إذ ( لا مانع أن يسلم الإسلاميون السلطة لغيرهم طالما انتخبه الشعب حتى لو كان غير مسلم)، وهو على ثقة من أن اختيار الشعب سيكون الإسلام لكنه يسلم بحق الشعب في رفض الإسلام واختيار ما يشاء.وربما كانت هناك فتوى سابقة للشيخ يوسف القرضاوي تجاوزت هذه المسألة منذ سنوات لكن الجديد أن تعتمدها قيادة سياسية كبيرة في الجماعة بوزن أبو الفتوح وترحب بها.
* ووفق هذه الرؤية يقبل تيار الوسط الذي يقود العملية السياسية داخل الجماعة ويمثله أبو الفتوح بالعمل داخل القوانين والأطر واللوائح التي تنظم العملية السياسية في مصر ويطلب قبوله بها وفق الشروط التي تتطلبها معلنا رفضه لمبدأ القطيعة مع العملية السياسية أو الدعوة للخروج على النظام وآلياته وقوانينه بالتحول إلى حزب سياسي بكل متطلبات هذا التحول وشروطه من حيث:
- تصفية الجماعة بشكلها وهيكلها الحالي وإعلان التحول إلى حزب سياسي علني تخضع علاقات أفراده وتصرفاتهم لما يحكم علاقات وسلوك المندرجين في الأحزاب السياسية. ويخضع الحزب الجديد لرقابة مالية وقانونية كاملة.
- إنهاء العمل السري ورفض كل ممارساته وإخضاع كل تنظيمات وحركة الحزب/ الجماعة سابقا إلى رقابة الرأي العام.
- إنهاء أي ارتباطات خارج القطر بحيث تتحول الجماعة المصرية لحزب مصري ليس له أي امتداد خارج البلاد بما يعني إنهاء التنظيم الدولي الذي ينسق بين التنظيمات الإخوانية في الأقطار المختلفة وتحويل هذا التنظيم إلى ملتقى فكري ثقافي للتواصل بين كالأحزاب والتنظيمات التي تحمل الفكر الإخواني على غرار المؤتمر القومي العربي الذي يجمع الأحزاب والتنظيمات القومية أو منتدى الاشتراكية الدولية الذي آلت إليه تنظيمات الشيوعية .
وأهمية هذا الكلام لا تأتي من حيث جدته فقط بل تأتي أيضا من جهة إعلانه وأقصد بها عبد المنعم أبو الفتوح فهو ليس عضو هيئة الإرشاد أعلى سلطة في الجماعة فحسب بل هو أحد أهم قيادات جيل الوسط بالجماعة وأكثرهم قدرة على الاستجابة ليس لمتطلبات التجديد والتطوير فحسب بل وفرض مسارات واتجاهات هذا التطوير في بنية الجماعة وهياكلها الداخلية نظرا لطبيعة وضعه التنظيمي وحجم دوره التاريخي في إعادة بناء الجماعة، فتاريخيا يمكن أن ينسب عبأ هذا البناء لشخصين من جيلين مختلفين: المرشد الراحل مصطفي مشهور من جيل التأسيس وعبد المنعم أبو الفتوح من جيل الوسط؛ إذ مثلما كان دور مشهور فاعلا في جمع شتات التنظيم المشرذمة بعد عهد من التصفية قام بها النظام الناصري؛ فإن قرار أبي الفتوح أمير الجماعة الإسلامية بجامعة القاهرة في السبعينيات بالموافقة على انضمام الجماعة لتنظيم الإخوان كان حاسما في عودة الإخوان ثانية للساحة وضخ دماء جديدة بالجماعة العجوز لم تكن لتستمر دونها؛ إذ تبع قرار أبو الفتوح موافقة بقية قيادات الجماعة الإسلامية على الانضمام للإخوان بعد رفض وممانعة ( وهو ما أكده لي أبو العلا ماضي وكيل مؤسسي حزب الوسط- تحت التأسيس- في لقاء سابق).
يؤكد أبو الفتوح على أن مسار الجماعة في السنوات الأخيرة يحمل كثيرا من دلائل هذا التوجه، كما أن الأدبيات الحديثة للجماعة( آخرها البرنامج الانتخابي لمرشحي الإخوان سنة 2000 الذي أعادت إعلانه تحت ما يسمي بمبادرة الإصلاح السياسي!!) تؤكد على هذه التحولات، لكنه يربط إمكانية حدوث ذلك بحدوث متغيرات حقيقية لا باعتبارها شرطا يضعه والتيار بقدر ما هو بيئة لازمة لإعلان هذا التوجه كاملا ونهائيا بحيث تتقبله القيادة العامة والقواعد داخل الجماعة، وأهم المتغيرات اللازمة.
- انفتاح سياسي يسمح بوجود قانوني للجماعة، وأهم مؤشراته إلغاء قانون الأحزاب بصيغته الحالية.
- تخفيف القبضة الأمنية وإفساح المجال للحريات السياسية بما يسمح بالتواصل بين قيادات هذا التيار وكوادر الجماعة ويضمن انتقال الأفكار والقناعات بشكل طبيعي.
يحمل أبو الفتوح السلطة والقوى السياسية الأخرى جزءً من المسئولية عن تعثر التطور الديمقراطي داخل الجماعة وتراجع احتمالات إدماجها في العملية الديمقراطية لعدم تفاعلها مع هذه التطورات بتثمينها وتنميتها بإزاء تيارات أخرى داخل الجماعة هي في منطلقاتها مناقضة للديمقراطية (فكل الضربات الأمنية الكبرى جاءت لإجهاض التطور الديمقراطي الداخلي مثلما حدث بعد أكبر انتخابات داخلية شهدتها الجماعة في نهاية 1994، كما أن الاعتقالات والمحاكمات تطال القيادات المطالبة والمرشحة لقيادة عملية التحول الديمقراطي فيما بدا وكأنه تحالف بين تياري التشدد ومعارضة التحول الديمقراطي في السلطة وفي الإخوان).
ما سبق كانت ملامح للأفكار والتوجهات الديمقراطية كما قدمتها في جيل الوسط داخل الجماعة ( تمييزا عن من هم خارجها وعلى رأسهم المهندس أبو العلا ماضي وكيل مؤسسي حزب الوسط) وهو الجيل الذي قاد فاعليات واتجاه العمل العام منذ بداية العمل السياسي في الجامعات المصرية في عقد السبعينيات، وأتصور أنها قد تكون ضامرة – وربما غائبة ِ- لدى قيادات الحرس القديم في الجماعة وإن كانت تتواجد بنسب متفاوتة في الأجيال التالية لجيل الوسط.
كما أنها تتركز بشكل أساسي في لجان العمل العام داخل الجماعة (اللجنة السياسية والإعلامية..) وتقل بدرجات متفاوتة في القسم الرئيسي بالجماعة المسئول عن البناء التربوي لكوادرها (قسم التربية).
وهي تتزايد بشكل واضح في الكوادر التي تعرضت للاحتكاك كثيرا بتيارات وفاعليات سياسية مختلفة معها والتي تمتعت بأجواء من حرية الممارسة السياسية ولم تتعرض لملاحقات أمنية عنيفة أو يطالها أحكام بالسجن أو الاعتقال الطويل. وتقل كثيرا عند من طالهم ذلك حتى أن بعضهم تغيرت قناعته وصارت أكثر تشدد بعد السجن العسكري في حين كانوا قبله مرشحين لتطوير أفكارهم نحو الاعتدال والمقرطة.
ورغم أن هذه الأفكار قد لا تلقى معارضة رسمية صريحة من القيادة العام للجماعة التي كثيرا ما تجد فيها صورة جذابة ووجها مقبولا لدى الرأي العام، إلا أنها لا تأخذ بالضرورة مجراها داخل قواعد الجماعة ومؤسساتها إذ أن الذي يصنع ويؤسس الرؤية الفكرية للكوادر في الغالب تيار الوعظ والتوجيه والتربية الذي يفتقد للممارسة وربما للثقافة السياسية ولا يرى دورا له في العملية السياسية سوى الحشد والتعبئة، بل وربما نظر إلى مثل هذه الأفكار نظرة ريب أو سكت عنها لأنه لا يملك القدرة على تأسيس رفضه لها ومن ثم فالقول بتعميمها داخل الصف الإخواني فيه مبالغة، غير أن احتمالات قبولها كبير إذا توفرت بيئة مناسبة للتثقيف والممارسة السياسية بعيدا عن قبضة تيار الوعظ وسيطرة قسم التربية في الجماعة.
كما يمكن أن نلاحظ أن كثيرا من الآراء الرافضة أو المعارضة لهذه الرؤية والتي تصدر عن قيادات إخوانية كبيرة لا تعني بالضرورة رفضها بقدر ما هي جزء من الدعاية أو الخطاب الموجه للجماهير العامة والتيارات الدينية والمحافظة القريبة من الجماعة والتي تمثل رافدا رئيسيا لها خاصة في الحشد السياسي (الأزهر، الجمعية الشرعية، أنصار السنة، المتدينين عموما..) حيث تحرص هذه القيادات على الإبقاء على مفردات خطاب سياسي قديم متصادم مع الديمقراطية ( مثل الحديث عن أهل الذمة، رفض ولاية المرأة وغير المسلم، الدولة المسلمة، الخلافة العالمية...) لكنه يفوز ويكتسح جماهيريا وهم يفعلون ذلك بوعي أحيانا ومن دون وعي غالبا، وليسوا على استعداد لمواجهة الجماهير بهذه الأفكار.(مثل تسريب أخبار عن رفض قيادات الجماعة لتصريحات أبو الفتوح حول القبول برئيس غير مسلم والحديث عن تحويله للتحقيق الداخلي).
وأخيرا أتصور أن أفكار ونوايا قيادات هذا التيار "الديمقراطي" داخل الجماعة لا يتم إعلانها كاملة أو كشفها دفعة واحدة لأنها تنال من مصداقيتهم في الصف الإخواني وربما قضت على أصحابها سياسيا إذ في ظل جملة من الدفاعات الدينية والسياسية والتاريخية الراسخة فإن القول بتصفية هياكل الجماعة وأطرها نهائيا والتحول لحزب سياسي بما يحمله الحزب من دلالات سياسية ونفسية غير جيدة يكون انتحارا سياسيا لأي قائد للإصلاح والتغيير .
ما سبق ينقلنا من التساؤل حول إمكانية بلورة خطاب إخواني ديمقراطي إلي تساؤل لا يقل أهمية ويتعلق بالعقبات التي تقف في وجه ما يمكن أن نسميه بالتيار الديمقراطي داخل الجماعة.
وإذا كان لا أن نحدد- بشيء من العمومية- هذه العقبات فيمكن أن نجملها فيما يأتي:
* ندرة وربما غياب أي تأسيس للقبول بالديمقراطية في ثقافة التنظيم حيث تكاد تخلو المقررات الثقافية والتربوية المعتمدة داخل الجماعة من أي كتاب أو مقرر يؤسس لها في ثقافة كوادرها أو يعالج إشكالاتها لديهم وما زالت الرؤية الإخوانية على مستوى القواعد غائمة أو غائبة بل ويكاد يكون الشائع والمستقر من مقررات ومناهج تربوية وتثقيفية تصب في الاتجاه المعاكس؛ فتعلو قيم الوحدة والتجمع ونبذ الخلاف والفرقة ( التي قد تعني اختلاف وجهات النظر ) على قيم أخرى يحتاجها التطور الديمقراطي مثل قبول الآخر واحترام وجهات النظر المخالفة ونسبية الاجتهادات والممارسات السياسية .. ويلاحظ أنه وبجانب خلو المنهج الثقافي والتربوي الإخواني من كتاب واحد يرسخ القيم الديمقراطية توجد كتب كثيرة تؤصل لرفض الاختلاف والتعدد حتي داخل الفكرة الإخوانية نفسها على النحو الذي نجده في رسائل المرشد الخامس الراحل الشيخ مصطفي مشهور؛ مثل كتابه طريق الدعوة بين الأصالة والانحراف الذي ينظر لأي اختلاف أو تعدد في الطرح الفكري نظرة اتهام حتي داخل الصف الإخواني بحيث يصبح ذلك جيبا فكريا يجب تصفيته!
* الميراث التاريخي الذي تحمله الجماعة ولا تريد أو تستطيع التخلص منه والذي يصعب معه تجاوز أو تعديل مقولات ومواقف مركزية في تاريخ الجماعة حكمت علاقتها بالديمقراطية مثل رفض الإمام المؤسس الشيخ حسن البنا للحزبية وتعدد الأحزاب رغم أنه رفض لم يؤسس على أسس شرعية. فقد أخذت مقولات المؤسس ومواقفه مركزية في بناء الوعي الإخواني لم تتزحزح رغم تجاوزها أحيانا على مستوى الممارسة ورسخ ذلك ميراث من العلاقة غير الطيبة مع الأحزاب إضافة إلي الصورة الكاريكاتورية التي ارتسمت في الأذهان عنها والتي لا تبعد كثيرا عن الواقع. وتشيع هذه النظرة عموما بين معظم كوادر الجماعة لكنها تترسخ أكثر في القواعد ذات الثقافة التقليدية مثل أبنائها المتحدرين من الأزهر والجمعية الشرعية والذين التحقوا بالجماعة بعد تجارب دينية أخرى، كما تشيع أيضا بين أبناء التنظيم الخاص ثم امتداده في تنظيم 1965 المتأثرين بأفكار الشهيد سيد قطب ولكن الحق يقتضي ربط ذلك بثقافة سياسية سائدة عموما في مصر قد يكون لها ما يبررها في ظل ما يعرف بموت السياسة والأحزاب.
* تأسيس العملية السياسية داخل الجماعة (على مستوى الممارسة أو المفاهيم) على أسس شرعية بحتة تشبه فيها المنافسة السياسية- إلي حد بعيد – التنافس بين قوى الإيمان والكفر ومعسكري الحق والباطل وليس صراعا بين أطروحات سياسية وفي هذه الحالة لا تتجاوز الثقافة السياسية لدى القطاع الأكبر في الجماعة الحشد والتجنيد والقدرة على إدارة العمليات الانتخابية دون أن تتأصل مفاهيم سياسية بالضرورة مثل المشاركة التي تظل مرتبطة بقرار فوقي ينفذ- في الأغلب- طاعة للقيادة واحتسابا عند الله. ويلاحظ أن خطاب الحشد والتجييش الذي تقدمه قيادة الجماعة قبل وأثناء الانتخابات وخطاب التهنئة أو التعزية بعدها يقوم بالكامل على استلهام معان دينية صرفة، وعلى هذا الأساس يمكن فهم ما حدث في مدينة الاسكندرية في الانتخابات البرلمانية المعادة التي خاضتها مرشحة الجماعة في مواجهة مرشح الحزب الوطني الحاكم حيث ظهرت على غير العادة فرق ردع إخوانية تقترب إلي حد كبير مما شهدته حركات العنف الإسلامية بسبب المبالغة في الخطاب الحشدي الذي يستلهم معاني التضحية والفداء والشهادة!!
* عدم القدرة أو الرغبة في حسم صورة الإخوان عن أنفسهم والصورة التي يفترض بهم أن يكونوا عليها :حزب سياسي أم جمعية أهلية؟ والاستمرار في صورة الجماعة الشاملة ولهذا أسباب فكرية تتعلق برؤيتهم لشمولية الإسلام التي انعكست في شمولية التنظيم، وأخرى سياسية ترتبط بعدم الثقة في العملية السياسية برمتها وثالثة تكتيتكية حيث يمنحها هذا الوضع امتيازات كثيرة لا تتمتع بها الكيانات الأخرى ( الأحزاب والجمعيات) ويعطيها القدرة على إنتاج شعارات ومقولات دعائية جذابة ومؤثرة في الشارع ويعطيها وضع الهيئة الشاملة التي تقف ما فوق الحزب ودون الدولة وهو ما يتجلي في وجود شعور متنام يعززه خطاب داخل الصف بالتعالي على كل الكيانات والأطر الأخرى السياسية أو حتى الدعوية التي تفتقد جميعها لقوة ودقة وكفاءة هذا الكيان.
* غياب وحدة فكرية شاملة داخل الجماعة التي تضم تحت مظلتها خطابات وأفكارًا مختلفة إلي حد التناقض من أقصى اليمين إلي أقصى اليسار تتفاوت رؤيتها السياسية ما بين الاندراج في حزب سياسي قطري يدعم دولة عصرية بالمقاييس المعروفة للدولة القطرية الحديثة وما بين أفكار تدعو لإنشاء الخلافة الإسلامية العالمية ، وتتجاور فيها مقولات أهل الذمة مع المواطنة دون حسم أو تمييز حيث يصعب تحقيق الفرز وتنعدم الرغبة فيه مع تمسك الجماعة بتقديم نفسها كعباءة تتسع لكل العاملين بالإسلام مع تحديد سقف واسع يحكم الجميع وهو مبدأ السمع والطاعة لقيادتها مع نبذ العنف منهجا. لذا نجد بين كوادر التنظيم أزهريون وأنصار سنة وجمعية شرعية وتيار سلفي وجهاديون سابقون وسياسيون بدأوا في أحزاب سياسية أخرى وقطاعات من العمال والفلاحين ليس لها أي خبرة سياسية سابقة ولا تتعاطى السياسة إلا لارتباطها بالجماعة وبأوامر من قيادتها دون أن يعني ذلك وجود قناعة بها.
* التمدد الضخم لجسم التنظيم أفقيا ورأسيا دون الفصل بين السياسي والدعوي بداخله وهو ما جعل التطور السياسي والحركة السياسية رهينة بحركة الدعوي والقاعدة الإخوانية برمتها التي يتكون خطابها على ثقافة تقليدية بعيدة تماما عن أي تطورات لحقت بالخطاب الإسلامي فيما يخص المسألة الديمقراطية مع حرص على الإبقاء بالقواعد بعيدة عن أي تطوير فيما يخص الديمقراطية لضمان السيطرة عليها باعتبار أن مبرر وضمانة الربط بينها هي ضمانة دينية بالأساس وهو ما دفع قيادات كبيرة في الجماعة لرفض تعميم بيان معتمد من الجماعة بين القواعد ينفي ما نسب من تصريحات للمرحوم مصطفي مشهور عن الأقباط ومعاملتهم معاملة أهل الذمة لأسباب بعضها يرجع لعدم قناعتهم بتغيير موقف الجماعة أو لما لمثل هذه المقولات من حضور وتأثير في القاعدة- خاصة ذات الثقافة التقليدية- يجب عدم الاصطدام معها مباشرة.
* ضآلة النخبة السياسية داخل الجماعة مقارنة بحجم الجماعة اتساع حركتها السياسية كما أن تفصيلات العملية لسياسية برمتها تنزل إلي القاعدة الإخوانية بصرف النظر عن مستواها ونضجها السياسي والعلمي والثقافي بما فيها تفصيلات وتكتيكات سياسية معقدة ( مثل تداول أخبار تتعلق بلقاءات من المفترض أن تكون سرية بين قادة الجماعة ومسئولين أمنيين أو تفاصيل تحالفات سياسية..) فيحدث أن تظل حركة النخبة السياسية أسيرة لوعي حركة القاعدة المحدودة واحتمالات سوء الفهم والمزايدة وليس العكس ويحدث أن تظل عين السياسي على القاعدة ومدى تفهمها وترحيبها باجتهاده وليس العكس وهو ما يجعل كل المجددين أو الراغبين في نشر الثقافة الديمقراطية عرضة للاحتراق إذا نزلت مقولاتهم للشارع وناقشتها القاعدة مثلما حدث مع عبد المنعم أبو الفتوح الذي تعرض رصيده الجماهير للتآكل داخل الصف الإخواني بسبب رؤيته المتقدمة عن الديمقراطية
* خصوصية وضع الجماعة في مصر كقائد ورائد لكل التنظيمات الإخوانية الأخرى في العالم وهو ما يقلص فرص التأطير على أساس قطري أو القبول بالتحول لحزب سياسي داخل البلاد فقط ويزيد من صعوبة التفكير به فضلا عن القبول بمبدئه فيظل الحفاظ على التنظيم العالمي العابر للأقطار مطلبا ملحا وتتعزز فرص أنصاره على حساب الداعين لتجاوزه والاقتصار على الداخل المصري وهو ما يحدث فعلا لكن يصعب قبوله نظريا ويتفرع عن ذلك إشكاليات أخرى لم تحسم بسبب ذلك الوضع التاريخي مثل شكل الجماعة والعلاقة بين الجماعة والحزب التي تم حسمها في معظم البلاد الأخرى تقريبا ( في الأردن انفصل الحزب تماما عن الجماعة وفي اليمن توحدا وفي قطر حلت الجماعة نفسها..إلخ)
* المنافسة مع القوى والتيارات الإسلامية الأخرى على كسب الشارع المصري وهو ما يحول دون الإعلان عن مواقف أكثر تقدمية في المسألة الديمقراطية خشية انتقادات القوى الإسلامية الأخرى خاصة وأن رؤية هذه القوي- الأكثر راديكالية وتقليدية- لها امتداد في الشارع بل وداخل المؤسسة الدينية الرسمية بحيث يمكن أن تشوش على الإخوان الذين يفضلون التحرك وفق قدرة المجتمع على تقبل أفكارهم مثلما فعل تنظيم إخوان الكويت الذي وقف مع القبائل والقوى الدينية المتشددة ضد منح المرأة حق الانتخاب والترشيح رغم أن الموقف الإخواني الرسمي على العكس من ذلك.