هل تهدد حماس الأمن القومي العربي؟
باحث في الحركات الاسلامية
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
منذ أن بسطت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) سيطرتها على قطاع غزة، وأنهت هيمنة الأجهزة الأمنية التابعة في حركة فتح، والتحذيرات لا تتوقف من خطر تأسيس إمارة حماس الإسلامية أو قيام سلطة على نمط حركة طالبان على حدود مصر.
وقد تصاعدت موجة الخوف من حماس أو التخويف منها -إذا أردنا الدقة- حتى تحدّث بعضهم عن سيناريو التحالف بين حماس وجماعة الإخوان المعارضة في مصر لتهديد الأمن القومي المصري. وتعدّت حالة الفوبيا -أو الخوف المرضي- من حماس إلى حد أن يصل الأمر برئيس السلطة الفلسطينية إلى اتهام حماس بالتنسيق مع تنظيم القاعدة والترتيب لحضوره في قطاع غزة!
اختلطت الدعايات الحزبية بمعطيات تبدو واقعية في شأن "دولة حماس" المزعومة، والتقى سوء الفهم لطبيعة الحركة مع سوء النية تجاهها؛ فسالت عشرات التحليلات لتصب في اتجاه يحذر أصحابه من أن حماس صارت خطراً يهدد الأمن القومي المصري والعربي.. فما حقيقة هذه الدعوى؟ وكيف يمكن فهم التأثيرات المحتملة لصعود حماس وهيمنتها الكاملة على قطاع غزة في بلد كمصر عُرف بحساسيته تجاه كل ما يتصل بقضية الأمن القومي؟.
استقلالية حماس عن الجماعة الأم
لمقاربة هذه القضية، فإن أول ما يجب التوقف عنده هو طبيعة حركة حماس وخصوصيتها في الحالة الإسلامية عامة وفي حالة التنظيمات القطرية الإخوانية خاصة، فعلى الرغم من أن حماس هي حركة إسلامية نشأت كامتداد لحركة الإخوان المسلمين العالمية، مثلما يؤكد ميثاق تأسيسها، فإنها ومنذ تأسيسها لجناحها العسكري (كتائب الشهيد عز الدين القسّام) وتحولها للعمل الجهادي المسلح ضد العدو الصهيوني عرفت حالة من الاستقلالية عن الحركة الأم وقيادتها الدولية ممثلة في التنظيم الدولي للإخوان تكاد تقترب في بعض الأحيان من الاستقلال التام الذي يتيح لقيادتها الوطنية حرية اتخاذ القرار كاملاً على الأرض، وفق ما تراه من مصلحتها ومصلحة قضية التحرر الفلسطيني.
والمتتبِّع لتطور العلاقة تاريخيًّا بين حماس والجماعة الأم يصل إلى قناعة تتأكد يومًا فيومًا، وهي أن حماس صارت مستقلة تمامًا في إدارة شأنها الداخلي وقضية التحرر الوطني الفلسطيني تمامًا عن قيادة الإخوان، سواء قيادة التنظيم الدولي أو قيادة الجماعة في مصر، وأن العلاقة مع الخارج لا تجاوز قضية الدعم المادي والمعنوي بمختلف صوره والذي تقدمه جماعة الإخوان المسلمين في مصر ومؤسساتها وتنظيماتها القطرية في العالم، دون أن يؤسس هذا الدعم لحق أو دور في إدارة القرار داخل حماس والذي يبقي فلسطينيًّا خالصًا.
وهذه حالة تكاد تنطبق ليس على حماس فقط، وإنما على كل تنظيمات الإخوان القُطرية المنضوية في التنظيم الدولي للإخوان المسلمين، وإن كانت أسبق وأكثر وضوحًا في حالة تنظيم حماس بصفته التنظيم الإخواني الوحيد الذي كان يمارس العمل الجهادي المسلح، وهو ما عجّل بهذه الاستقلالية بل وفرضها فرضًا في ضوء التزام جماعة الإخوان في مجملها بالعمل السلمي.
ويجوز القول إن استقلالية حماس تجاوزت الواقع الميداني إلى المجال الرمزي والمعنوي الذي ظل دوماً عصيًّا على الاستقلال منذ فترة ليست بالقصيرة، فحماس وصلت في ذلك إلى حد نعت مؤسسها الشهيد أحمد ياسين بمرشد الإخوان المسلمين في فلسطين، وهو اللقب الذي لم يُطلق من قبل على غير المرشد العام للإخوان في مصر.
وأقصى ما يمكن أن يُقال عن علاقة حماس بالإخوان المسلمين في مصر إنها كانت علاقة امتداد فكري، وانتهت إلى علاقة دعم مادي ومعنوي غير مشروط من الإخوان لحماس، ولا يمكن أن يؤثر هذا الدعم في الأجندة الحمساوية من قليل أو كثير؛ لذا فقرار الحسم العسكري في غزة لم تستشر فيه قيادة حماس الإخوان، بل لم تستمع فيه لرسائل ودعوات التهدئة والحوار التي أطلقها مرشد الإخوان في مصر، وحين طلب الرئيس أبو مازن وساطته لوقف الحسم لم يكن لهذه الوساطة أن تؤدي إلى تغيير في سلوك حماس، فعلى الرغم من المقام المقدر والمعتبر للإخوان المسلمين ومرشدهم فقد كان وسيظل من الصعب أن يترجم إلى مراجعات أو تغييرات في السياسة أو الفعل الميداني لحماس والمحكوم بمصالح الحركة ورؤيتها لما تقتضيه مصلحة القضية الفلسطينية.
ثم إن الدعم الإخواني لحماس قضية مفروغ منها دون أن ينتظر الإخوان المسلمون في مصر منها دورًا لهم في تحديد وجهة الحركة، ففلسطين قضية مركزية للإخوان المسلمين منذ نشأتها، ولا يمكن أن يخرجوا منها أو يقرروا -يومًا- أن دعمها مرتبط بمشاركة في القرار.
حماس ومصر.. لا تأثر بالحالة الإخوانية
إن هذا التطور في العلاقة بين حركة حماس وجماعة الإخوان في مصر أو خارجها يبدو مهماً في فهم أن هناك استقلالية تامة في صياغة حماس لأجندتها الوطنية، لا علاقة له من قريب أو بعيد بالوضع الداخلي لمصر وموقع جماعة الإخوان فيه، فأجندة حماس فلسطينية خالصة تتصل بمصلحة حماس بالدرجة الأولى، وبمصلحة مشروع التحرر الفلسطيني كما تتصوره هي، وأي حديث عن تأثير متبادل بين حماس وإخوان مصر في هذا الصدد يبدو غير دقيق بالمرة؛ يخالفه ما أسلفناه من توضيح لطبيعة العلاقة بينهما، وتكذبه ممارسات حماس على الأرض.
فالواقع يقول إن الحركة استطاعت أن تقيم علاقات وثيقة تصل إلى حد التحالف الإستراتيجي مع النظام السوري، ولم تتأثر بطبيعة علاقة هذا النظام بالإخوان السوريين، والتي وصلت تاريخيًّا إلى المواجهة الدموية، وما زالت تقف في مربع القطيعة، وبسبب ذلك صارت دمشق قبلة الحركة وملجأ قادتها في الخارج، في حين أن هناك قانونًا سوريًّا ما زال يقضي بالإعدام على من يثبت انتماؤه للإخوان المسلمين!
ولم يؤثر انتماء حماس للإخوان على مرونتها في التعامل مع نظام كالنظام السوري طالما تحققت مصالحها ومصالح المشروع الوطني الفلسطيني، كما تراه، وهو ما يمكن أن ينطبق -وإن بشكل أقل وضوحًا- على علاقتها بالنظام المصري، فلقد راعت حماس في خطابها وممارساتها الالتزام بمقتضيات الحفاظ على علاقة وثيقة باللاعب العربي الأول والأهم في الملف الفلسطيني، ولم تكن الجذور الإخوانية للحركة يومًا واحدة من موضوعات الخلاف بينها وبين النظام أو كانت سببًا فيه، فالحركة تلتزم حدود ما يحقق مصلحتها الوطنية حتى في علاقتها بإخوان مصر قادة حركة الإخوان العالمية، وزيارات قادة حماس تكون بعلم وتنسيق وترتيب بل وضيافة أجهزة المخابرات أو الأمن القومي في مصر، واتصالاتها بالإخوان تكون بتوافق واتفاق مسبق يراعي خصوصية العلاقة مع الجماعة، ولكن لا يستفز النظام كما لا يقفز على المعادلة السياسية الداخلية.
ويستطيع الباحث القول بأن حماس في علاقتها بالنظام المصري على استعداد إلى إعادة تجربتها مع النظام السوري بحيث لا تتأثر هذه العلاقة بالحالة الإخوانية المحلية وطبيعة العلاقة بين إخوان مصر والنظام الحاكم فيها، هذا إذا ما توافقت حماس مع النظام المصري على الخطوط الأساسية في الملف الفلسطيني. بل يمكن القول في هذا الصدد إن علاقات حماس بالإخوان في مصر ربما لن تبعد -ساعتها- كثيرًا عن علاقاتها بقوى وطنية وقومية وإسلامية أخرى في مصر تقدم الدعم لحماس، وترى فيها رأس حربة في مواجهة المشروع الصهيوني خاصة بعد تراجع فتح وتورّطها في مشروع أوسلو.
والجميع يذكر كيف سعت قيادة حماس إلى زيارة روسيا والتنسيق معها متغاضية عن الانتقادات التي وجهتها لها المقاومة الإسلامية في الشيشان، وذلك من أجل كسر الحصار السياسي الدولي الذي ضربته عليها الولايات المتحدة. لقد كانت حماس تتحرك وفق ما يحقق لها مصلحة مشروعها الفلسطيني، فتوفَّرَ لها قدرٌ من البراجماتية السياسية بسبب إدراكها لتعقيدات القضية الفلسطينية التي تقتضي أن يستقل النضال الفلسطيني عن مشروعات المقاومة الإسلامية الأخرى.
حماس.. إخوانية غير عالمية
وينقلنا ما سبق إلى خصوصية حماس عن غيرها من الحركات الإسلامية الأخرى الأقرب إلى الطبيعة الأممية؛ فقد نشأت حماس وتطورت كحركة وطنية فلسطينية اختصرت مشروعها في إنجاز التحرر الوطني الفلسطيني، وحددت ميدان نضالها بأرض فلسطين التاريخية، بل وحددت جبهتها في العدو الصهيوني المحتل للأرض فقط، فلم تكن حماس يوماً -على الرغم من جذورها الإخوانية- حركة عالمية، ولم تفتح جبهة الصراع بطول العالم وعرضه، كما فعل تنظيم القاعدة، ولم يكن من عقيدتها القتالية فكرة الجهاد العالمي الذي لا تحدّه أرض كما نجدها في جماعات السلفية الجهادية.
وسيلاحظ المتابعون لحركة حماس أنها رفضت فكرة تدويل المعركة لتضم الولايات المتحدة الداعم الأول للمشروع الصهيوني، فأكّد قادتها في غير مرة أن عمليات حماس لن تُوجّه إلى الأمريكيين، على الرغم من دورهم في الصراع، بل إن الحركة ميزت في مواجهتها بين الصهاينة وبين بعض يهود العالم الذين ارتبطت معهم الحركة بعلاقات طيبة، وكل ذلك حتى تكون راية جهادها واضحة وغير ملتبسة كما في مشروعات جهادية أخرى.
لذلك فعلى عكس معظم الحركات الفلسطينية لم تمارس حماس العمل النضالي الجهادي خارج الأراضي الفلسطينية؛ فلم تعرف في عملياتها خطف الطائرات أو اقتحام المؤسسات الأجنبية، ولم تقم بعمليات خطف الأسرى الأجانب، ولم تتورط يوماً في عمليات التفجير والقتل في الخارج؛ ومن ثم فليس في سجلها الجهادي ما يحرجها مع الأنظمة والحكومات العربية والإسلامية، فقد اقتصر فعلها الجهادي على أرض فلسطين التاريخية فقط، ومن ثم فلم تُسبّب، ولم تتعدّ يومًا على السيادة العربية أو غير العربية، وهو ما دفع بالمراقبين للذهاب إلى كيدية الاتهامات التي وجهها النظام الأردني للحركة بالتخطيط لأعمال تخريبية على أرضه، وأنها تدخل في باب التشهير ومعارك الحرب بالوكالة ضد الحركة.
كما -وعلى عكس فصائل فلسطينية أخرى اشتغلت على الصراعات العربية البينية- نأت حماس بنفسها دومًا عن أن تُوظَّف في صراعات عربية عربية، بل كانت دائماً تحاول تلمّس طريق تحقيق مصالحها ومصلحة المشروع الوطني الفلسطيني كما تتصوره هي دون أن يتم تجييرها لمصلحة دولة عربية على أخرى.
وحتى التقارب الكبير لحماس في السنوات الأخيرة مع المحور السوري الإيراني لا ينبغي فهمه على أنه تحول في إستراتيجية الحياد، وعدم التورط في صراعات إقليمية بقدر ما يجب قراءته في سياق التحول الذي طرأ على المنطقة إجمالاً، فالحال أن المحاور الأخرى وخاصة المحور المصري الأردني، صارت من الضعف والارتباك بحيث أصبحت أكثر قابلية للتراجع أمام ضغوط المشروع الأمريكي وأفقه في تسوية القضية الفلسطينية، وهو ما جعله أكثر ضيقاً بحماس ومشروعها، وأقل قابلية للتعاطي معه، وكانت سياسات هذا المحور مسئولة إلى حد كبير عن انسداد الطريق أمام حماس بحيث لم تجد أمامها إلاّ الاقتراب من المحور السوري الإيراني بعدما وجدت أنها يمكن أن تظل معه وحده متمسكة بثوابت مشروع التحرر الفلسطيني.
إن الذين ينعون على حماس ارتباطها مع المحور الإيراني السوري هم من تسببوا في ذلك، حين أغلقوا أمامها كل الأبواب، وفرضوا عليها شروطهم المتعسفة والتي لا تترك أمامها أي فرصة إلا أن تلتحق بمشروع للتسوية لا يلبي متطلبات الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية، ولا يضمن المروجون له حتى تطبيقه.
استعادة حماس لصلب المشروع العربي
بقي ما يخص شكل الدولة التي يمكن أن تؤسسها حماس على حدود مصر أو "إمارة حماسستان" التي حذر البعض من أنها ستستعيد إنتاج النموذج الطالباني المتطرف والخارج عن التاريخ!، والحق أن مثل هذا الكلام ينكره كل من له أدنى معرفة بطبيعة حماس وتكوينها الثقافي والفكري أو إلمام بممارستها السياسية والاجتماعية، فحماس هي أبعد ما تكون عن النمط الطالباني في التفكير أو النظرة للمجتمعات وطريقة إدارتها، حماس حركة إسلامية حداثية بامتياز؛ فمعظم قادتها وقواعدها من خريجي المدارس والجامعات المدنية، وتركيبة القيادة فيها تميل إلى التكوين المدني التحديثي، ويكاد يندر فيها المشايخ وأبناء التعليم الديني، وبرامجها أقرب إلى برامج الأحزاب السياسية منها إلى الحركة الدينية الشمولية.
إن رؤية حماس للعالم وخبرتها في التعامل معه تقول إنها حركة برجماتية أبعد ما تكون عن الدوجمائية والانغلاق؛ فهي لا ترى العالم ككتلة واحدة مصمتة، وتستطيع اللعب على تنوعاته وتناقضاته من أجل مصلحتها، وبإمكانها الاحتفاظ بعلاقات وثيقة مع قوى تبدو متناقضة طالما كان ذلك يخدم مشروعها.
لكن بدلاً من أن تنظر المحاور العربية إلى حماس على أساس أنها ورقة جديدة يمكن أن تحسّن موقفهم التفاوضي مع الأمريكيين ووكلائهم بعد تغير معادلة القوى على الأرض الفلسطينية، أغلق الجميع أبوابه في وجه قادة حماس وحكومتها الشرعية المنتخبة التي لم تجد من يستقبل وزراءها سوى دمشق وطهران، اعتبرت القيادة المصرية حركة حماس، كما لو كانت تنظيما للمافيا، وملفاً أمنيًّا صرفًا لا تقاربه إلا عبر وفودها الأمنية، ولم تتعامل معها كحركة تحرر وطني تمثل رقمًا له وزنه على الأرض ينبغي أن يتم التعاطي معها عبر البوابات السياسية، أما الأردن فبلغ بها الأمر أن وضعت إسقاط حكومة حماس على رأس أجندتها حتى أخذت تتهمها بعمليات عسكرية ملفقة، وكانت قد طردت من قبل كل قادتها من أرضها، وجردت من يحمل الجنسية الأردنية من هذه الجنسية!
لقد كان دفع حماس باتجاه المحور السوري الإيراني الخطيئة الكبرى لمن له أدنى هم بالأمن القومي العربي، ولا يساويها في كارثيتها إلا ضياع سوريا من قبل في استلحاق وليس في تحالف إستراتيجي مع إيران.
من هنا، فإن قضية الأمن القومي المصري والعربي أبعد من أن تقارب عبر معارك أيديولوجية يهدف فيها كل طرف إلى شيطنة خصمه، لكنها قضية صارت بحاجة إلى تطوير ومرونة يسمحان باستيعاب القوى الإسلامية المعتدلة مثل حماس، فهذه القوى متجذرة في الوعي والثقافة العربية.
إن إستراتيجية عربية في التعامل مع حماس تستحضر المصالح العربية العليا وتستعلي على الخلافات الحزبية الضيقة يمكن أن تجعل من حماس قيمة مضافة للأمن القومي العربي، وليس تهديدًا له كما يدعي البعض، ويمكن أن تستعيد حماس إلى صلب المشروع العربي بعدما انتقلت إلى تخومه.