الإسلاميون الأتراك..الانقسام علي المشروع
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
صحفي وباحث في شئون الحركات الإسلامية
حين وقع الخلاف داخل الحركة الإسلامية التركية وانقسم حزبها ( الفضيلة وراث حزب الرفاة المنحل ) إلي حزبين منفصلين هما " السعادة " و"العدالة والتنمية" اختلط الأمر علي كثير من المراقبين بل وأبناء الحركة الإسلامية خارج تركيا نفسها الذين حسب غالبيتهم أن ما جري هو مجرد خلاف في وجهات النظر في التعامل مع النظام العلماني أو ربما تنزيلا لمشروع الحركة الإسلامية في أكثر من كيان تنظيمي..بل ذهب الكثيرون من أبناء الحركة أو تمنوا أنه ربما كان تكتيكا متفقا عليه بين قيادات الحركة للهروب من العلمانيين والعسكر الذين كانوا قد قاموا بانقلاب علي زعيم الحركة الإسلامية نجم الدين أربكان أسقطه من رئاسة الوزراء وحل حزبه ومنعه من ممارسة السياسة.
لم يكن الالتباس حالة الجماهير بل تعداها إلي قيادات الحركة الإسلامية في العالم الذين لم يستطع معظمهم اتخاذ قرار حاسم في تحديد أي الحزبين والمجموعتين يمثل الحركة الإسلامية أو الأقرب إليها..كان الحسم صعبا؛ فحزب السعادة يحظي برعاية ودعم نجم الدين أربكان الأب الروحي للحركة الإسلامية التركية فيما يضم العدالة والتنمية أبرز رموز جيل الشباب الذين قادوا الحركة حينا من الدهر وفي مقدمتهم رجب طيب أردوغان وعبد الله جول..وزاد من صعوبة الأمر أن التلامذة نجحوا في الوصول إلي السلطة بعدما أحرزوا انتصارا تاريخيا غير مسبوق وشكلوا الحكومة منفردين ومن دون أي منافسة حقيقية. فصارت لهم شرعية إنجاز لا تقل أهمية عن شرعية التاريخ التي لجماعة أربكان.
لم أكن ممن تفاءلوا بأن الموضوع برمته نوع من المراوغة التي يجيدها الإسلاميون الأتراك، ولكن أعترف أنني وقعت في خطأ التهوين من قدر الانقسام الذي حدث فظننت أنه ربما نتيجة لخلافات تنظيمية سببها الاختلاف بين طبائع الشباب والشيوخ أو تباين وجهات النظر في منهجية التعاطي مع حصار العلمانيين للحركة..أو حتى الاحتجاج علي أسلوب القيادة الأبوية المهيمنة للزعيم أربكان صاحب الكاريزما الاستثنائية. وكنت أحسب أنه خلاف يسعه المشروع الواحد وأن الإخوة الأتراك قرروا ألا يدخلوا السياسة من باب واحد وإنما من أبواب متعددة، لكن اقترابا أكثر وزيارات متعددة ولقاءات مباشرة مع الأطراف المختلفة أكدت بما لا يدع للشك مجالا أن الذي جري فراق من غير رجعة وأن الخلاف في أصل المشروع.
للوقوف علي أصل الخلاف يجب العودة إلي المشروع الأساس للحركة الإسلامية التركية الذي وضعه المهندس نجم الدين أربكان زعيم حركة الإسلام السياسي في تركيا ( مواليد أكتوبر 1926) ومؤسس أهم حركاتها: حركة الرأي الوطني ( مللي جورش ) عام 1969. وهو المشروع الذي يسميه أربكان " النظام العادل".
لم يكن نجم الدين أربكان مجرد زعيم إسلامي يبحث عن تطبيق حرفي لنصوص الشريعة وقواعد الأخلاق فهو يمكن أن ينظر إليه - بحق- كحبة في عقد أوشك أن ينقرض من زعامات حركة الاستقلال الوطني في بلدانهم وإن كانت خلفيته الإسلامية أوضح من أن تخفي في معقل العلمانية الكمالية ذات الحساسية المفرطة لأي شكل من أشكال الإسلامية,
كان أربكان – وهو في طريق يلتقي مع الماليزي مهاتير محمد- صاحب مشروع كبير يطمح ليناء دولة تتجاوز في الدور والمشروع حدودها وتلتقي مع مجالها الجيوستراتيجي الحقيقي حيث ملتقي البحرين؛ بحر التاريخ والجغرافيا وبحور أخري ترفد من حاجز أوربي يقيم سدا عنيدا أمام الأتراك دون غيرهم ولا يعدم في ذلك الذرائع. وأحيانا من إستراتيجية عالمية تعمل علي أن تظل المنقطة في مرمي النيران الإستراتيجية للقوي العالمية المهيمنة فلا يأتي اليوم الذي تخرج فيه من فلكها.
كان مشروع أربكان يعتمد أساسا فكرة بناء قاعدة صناعية ضخمة تجعل تركيا دولة صناعية كبري تقف علي قدم المساواة مع الكبار و تعلو بها علي أن تلعب دور الاقتصاد الخادم الذي يقتات فقط من المنح والعطايا أو البقشيش – التيبس- الذي تحصله من صناعة السياحة والخدمات وهي صناعات هشة ومتقلبة! كان بهذا التصور يسعى لفك هيمنة الرأسمالية العالمية علي بلاده، في الوقت الذي بلور مشروعا سياسيا مكملا يقوم علي أن توجه تركيا الذي ينبغي أن تسير فيه لتصبح دولة عظمي مستقلة يجب أن يكون ناحية الشرق وليس الغرب الذي تعلق عليه النخبة التركية الآمال.
بداية المشروع الأربكاني كانت مع شرخ شبابه فأربكان الحاصل علي الدكتوراه من جامعة أخن الألمانية في هندسة المحركات عام 1956 عمل أثناء دراسته في ألمانيا رئيسا لمهندسي الأبحاث في مصانع محركات "كلوفز - هومبولدت - دويتز" بمدينة كولونيا. وقد توصل أثناء عمله إلى ابتكارات جديدة لتطوير صناعة محركات الدبابات التي تعمل بكل أنواع الوقود..وحين عاد إلي بلاده كان أول ما عمله ولم يزل في عامه الثلاثين تأسيس مصنع "المحرك الفضي" هو ونحو ثلاثمائة من زملائه.. وقد تخصص هذا المصنع في تصنيع محركات الديزل، وبدأت إنتاجها الفعلي عام 1960، ولا تزال هذه الشركة تعمل حتى الآن، وتنتج نحو ثلاثين ألف محرك ديزل سنويا.
لقد كان لدي أربكان وعي مبكر بأهمية بناء اقتصاد وطني قوي ومستقل ..واهتم مبكرا بالأنشطة التجارية والاقتصادية حتى نظر إليه في عقد الستينيات وقبل أن يدخل حلبة السياسة باعتباره أحد أعمدة الاقتصاد التركي...وقد كان من أوائل من تبنوا مبدأ ضرورة تواجد الإسلاميين في النشاط الاقتصادي حتى لا يقتصر علي العلمانيين والماسون فلم ينته عقد الستينيات حتى تكونت كتلة قوية من رجال الأعمال المسلمين تنافس بقوة في المجال الاقتصادي الذي كان يهيمن عليه رجال الأعمال الماسون والعلمانيين.
شهدت حقبة السبعينيات التي شهدت دورا ملموسا من مهندس المحركات أربكان لتشجيع الصناعة الوطنية حين كان وزيرا ونائبا لرئيس الحكومة بولنت أجاويد..واستكمله بعدد من المشروعات أسسها أو احتضن أصحابها مثلما فعل مع مجموعة الشباب الذين أسسوا اتحاد رجال الأعمال والصناعيين المستقلين ( موصياد ) عام 1990 كاتحاد مقابل للتجمع العلماني الممثل في جمعية رجال الأعمال( توصياد).
وحين تولي رئاسة الوزراء عام بعد فوز حزبه الرفاه في الانتخابات البرلمانية عام 1996، اعتبرها نجم الدين أربكان الفرصة السانحة لقطع المسافة الأكبر في تحقيق مشروعه خاصة في جانبه السياسي من خلال الإسراع في وتيرة التوجه شرقا علي كل المستويات وتبنيه لفكرة تأسيس مجموعة الثمانية الإسلامية الكبار التي تضم أكبر ثمان دول إسلامية يراها بداية تحالف اقتصادي إسلامي عملاق يمكن أن يغير الوضع العالمي ويخرج بالعالم الإسلامي من أسر الهيمنة العالمية.
لكن ما حدث أن مشروع أربكان كان رغم أهميته قفزة تفوق كثيرا طاقته بل وطاقة بلاده السياسية كما كان من الخطر بما لم تكن لتسكت عليه دوائر النفوذ والهيمنة العالمية...فحدث الانقلاب العسكري الصامت وأسقطت وزارة نجم الدين أربكان في يونيو 1997 ثم صدر قرار المحكمة الدستورية في نوفمبر من العام نفسه بحل حزبه – الرفاة- ومنعه من العمل السياسي.
في زيارة أخيرة لتركيا التقيت نجم الدين أربكان ضمن تجمع من المثقفين والمهتمين بالتجربة التركية ودار بيننا نقاش طويل أتبعته بمقابلة خاصة شرح فيها الرجل رؤيته لمشروع " النظام العادل" الذي يبشر به.
يميز نجم الدين اربكان بين ما يسميه بالنظرة الإسلامية وبين النظرة الغربية للعالم ويري أن هناك فروق كبيرة تجعلهما نقيضان لا يلتقيان، ويعتقد أن أهم ما يجب علي تركيا فعله هو ترك التبعية للغرب والعودة مجددا للعالم الإسلامي الذي يمكن أن تتولي قيادته فيما ستبقي تابعة وذليلة إذا ما أصرت علي أن تبقي متوجهة للغرب.
لدي أربكان موقف عدائي للصهيونية العالمية التي يراها مسئولة عن كل مصائب العالم وكوارثه وتقترب رؤيته لليهود مما ورد في بروتوكولات حكماء صهيون..إذا يري أن الصهاينة وأعوانهم مسئولون عن إفساد العالم عبر ثلاث وسائل: الحروب ( ويري ان 11 سبتمبر عمل صهيوني لخدمة إسرائيل ) والأفكار المرذولة ( مثل أفلام هوليود ) والأنظمة السياسية والاقتصادية الدولية التي تسيطر عليها ( الأمم المتحدة- صندوق النقد- البنك الدولي ).
ويؤمن أربكان بأن هناك تحالف وثيق بين الصهيونية والرأسمالية العالمية الفاسدة أدي إلي حصار عالمي علي المسلمين بحيث يتم التحكم في كل تعاملات العالم الإسلامي لتصب – في النهاية- في مصلحة إسرائيل.
يري أربكان أنه ليس بإمكان تركيا أن تقيم منفردة تجربة نهضة بل لابد من أن تكون ضمن مشروع عالمي شامل يعتمد علي الإسلام ولابد أن يؤثر في شكل العالم ليصبح أكثر عدلا..يدعو الرجل إلي ما يسميه مؤتمر يالتا الثاني الذي يجب أن يؤسس لعالم جديد يتجاوز الظلم الذي تسبب فيه تحالف الصهيونية مع الرأسمالية.
يبدأ مشروع النظام العادل الذي تبناه أربكان بتأسيس اتحاد بين الدول الثمانية الإسلامية الكبار ( تركيا- مصر- ايران- نيجيريا- باكستان- اندونيسيا- بنجلاديش- ماليزيا )، وهو ما وضع بذرته حين تولي رئاسة الوزراء بتأسيس قمة الثمانية الكبار، علي أن يتحول هذا تكون نواة لتجمع الستين دولة الإسلامية في منظمة واحدة تضمها يمكن أن تسمي بمنظمة الأمم المتحدة للدول الإسلامية.
وامتدادا لذلك فمن المفترض أن يتبني المشروع تأسيس منظمة للتعاون الدفاعي المشترك بين الدول الإسلامية علي غرار حلف الأطلسي ( الناتو)، ومنظمة لسوق إسلامية مشتركة علي غرار الاتحاد الأوربي، والاتفاق علي وحدة نقد مشتركة ( الدينار الإسلامي ) بدلا من التعامل بالدولار، وتأسيس منظمة للتعاون الثقافي للدول الإسلامية علي غرار اليونيسكو.
بالرغم من اليوتوبيا التي يقوم عليها مشروعه فإن أربكان ليس هو الثائر الحالم الذي يجري وراء عواطفه من دون حساب. كما أنه ليس الانفعالي الذي قد يضطر إلي العنف .فالرجل طوال عمره لم تلجئوه التضييق والاضطهاد إلي العنف أو الخروج علي النظام. وقد يصح النظر إلي أربكان كصاحب مشروع انقلابي ولكن علي الهيمنة الغربية الرأسمالية علي العالم.
حين استسفرت عما إذا كان انقلابيا جديدا .قال أربكان إن مقاومته سلمية مثل غاندي..وهي تقوم علي مقاطعة النظام الاقتصادي الظالم الذي تتحكم فيه الرأسمالية الغربية المتوحشة، وهو متأثر جدا بنموذج غاندي الذي انتصر علي بريطانيا بماعز واحدة؛ شرب لبنها ولبس صوفها مدة ستة أشهر إذ كان هذا دلالة علي قدرته علي الاستغناء عن الغرب وفي الأخير اضطرت بريطانيا إلي القبول بمطالبه..إنها مشروع للتخلص من أسر الاستهلاكية الغربية لإنجاز تحرر حقيقي...هو يري أن العنف لا يجدي.وأن الرصاص الحقيقي الذي يؤثر في الغرب هو التحرر من قبضته وإقامة "النظام العادل"
سعي أربكان لتطبيق هذا المشروع في كل مراحل حياته ولما وصل إلي السلطة كان لابد أن يخرج منها إذ لم تكن تحتمله المعادلة السياسية ليس فقط في تركيا بل – وهذه هو الأهم- في العالم الذي تتحكم به توازنات دولية لم تكن لتسمح لأربكان ونظامه العادل بالاستمرار
أسقطت حكومة أربكان وحل حزبه ومنع من العمل السياسي ثم بدأت الحكومات التالية عليه في إلغاء كل ما قام به طوال فترة وزارته وخاصة مجموعة الثمانية الإسلامية التي تواطئ الجميع علي تجميدها ثم إفراغها من مضمونها.
***
مع انقلاب العسكر في نوفمبر 1997 بدأ الخلاف ومن ثم الانقسام داخل الحركة الإسلامية التركية ( مللي جورش ) حيث ثار التساؤل: هل نبقي علي مشروع النظام العادل أو الأربكانية الذي تسبب في الانقلاب؟ أم نبدأ تفاهما مع القوي الكبري الأمريكية والغربية التي بيدها كل أوراق اللعبة بالمفهوم الساداتي؟( هل هناك وجه شبه بين التجربة الأربكانية والتجربة الناصرية؟!)
لقد دخلت الحركة طريقا طويلا للمراجعات تمايز فيه تياران: الأول يمثله المقربون من أربكان والقادة التاريخيين للحركة والثاني يمثله الجيل الأصغر سنا والأكثر برجماتية والذي واجهه أربكان بشدة ظهرت بانحيازه السافر لرجله المقرب رجائي قوطان ضد عبد الله جول في المنافسة علي رئاسة حزب الفضيلة ( فاز قوطان بصعوبة وبدعم من أربكان ).. استمر الخلاف أربع سنوات تقريبا وحين جري حل حزبها الجديد الرابع ( الفضيلة ) خرج الخلاف إلي العلن وانفصل التيار الثاني ( الشباب البرجماتيين ) وأسسوا حزبا مستقلا ( العدالة والتنمية ) فيما أسس القادة التاريخيون ي حزب ( السعادة ) الوارث الحقيقي للمشروع الأربكاني؛ مشروع النظام العادل.
***
لن نتوقف طويلا عند ملابسات تأسيس حزب العدالة والتنمية وما أحاط به من اتهامات قاسية من قبل القادة التاريخيين للحركة الإسلامية والتي وصلت إلي حد الاتهام بالعمالة لأمريكا وإسرائيل والادعاء بأن الورقة التأسيسية للحزب قدمت للسفارات الأمريكية والإسرائيلية والبريطانية قبل أن تقدم للدولة التركية..مثل هذه الاتهامات تبدو علي قسوتها متوقعة في الحركات الأيديولوجية التي كثيرا ما تعمد إلي تخوين مخالفيها والخارجين عليها.
لكننا سنتوقف عند معالم المشروع الذي يطرحه حزب " العدالة والتنمية " والذي سيظهر- عند التحقيق- علي النقيض تماما من مشروع الحركة الإسلامية الأم في نسختها الأربكانية.
مباشرة وقبل أن يحصل الحزب علي وضعه القانوني أكد قادة العدالة والتنمية أنهم خلعوا عباءة الحركة الإسلامية ( مللي جورش: الراي الوطني ) وأن حزبهم هو حزب يميني محافظ لا صلة له من قريب أو من بعيد ب " الإسلامية"..ولم يتوقف الأمر عند التصريحات التي يمكن أن تكون موضوعا للشك أو المرواغة فقد اتبع الحزب سياسة مخالفة تماما ليس لما كانت عليه الحركة بل ولأي حزب يمكن أن يكون له من " الإسلامية " نصيب.
في المجال الديني الذي كان دائما نقطة الضعف قدّم العدالة والتنمية تنازلات مؤثرة هربا من تهمة " الإسلامية " التي تلاحقه فأبقي علي الحظر المفروض علي طلاب مدارس الأئمة والخطباء من دخول الكليات العلمية والنظرية، وأبقي علي الحظر المفروض علي دخول المحجبات في الجامعات وكان أقصي ما فعله رئيس الحزب رجب طيب أردوغان أن أرسل بابنتيه للدراسة في أمريكا. بل إن الحزب أرسل في تقريره للمفوضية الأوربية لحقوق الإنسان نفيا قاطعا لأن تكون قضية الحجاب موضوعا لانتهاك حقوق الإنسان..وصرح نائب رئيس الوزراء بأنها لا تمثل مشكلة إلا عند 1.5% من الشعب التركي !
ووافقت حكومة العدالة والتنمية علي مطالب الاتحاد الأوربي بإسقاط العقوبات القانونية في حق الزنا حيث كان فعلا مجرما بنص القانون التركي..أكثر من هذا فقد صدرت ترجمات للقرآن الكريم أسقطت فيها الآيات التي تتحدث عن الجهاد أو اليهود والنصاري...إن مسلسل التنازلات يلخصه ما قاله عبد الله جول الرجل الثاني في حزب العدالة والتنمية: لقد انهارت حضارتنا الإسلامية ولابد من تغيير قيمنا تبعا للواقع الجديد!
أما في الملف الاقتصادي الذي قال الحزب أنه سيكون محور تركيزه بعيدا عن الجدل الديني..سنلاحظ أن الحزب تبني سياسة اقتصادية تقوم علي الإدماج التام لتركيا في الاقتصاد العالمي وربطها بقوي الرأسمالية الغربية الكبري دون أي مساحة للاستقلال أو حتى المناورة ..ربما نجح الحزب في رفع معدل النمو الاقتصادي وتثبيت سعر صرف العملة الوطنية ( الليرة ) التي كانت في انهيار مستمر..وربما أعاد للاقتصاد التركي بعضا من الاحترام الذي أهدرته الحكومات السابقة فأفقدت العالم الثقة فيه.. لكن الثمن كان غاليا.
لقد ربطت حكومة العدالة والتنمية تركيا وإلي غير رجعة بمراكز الهيمنة الغربية التي أنعشت الاقتصاد التركي ولكن جعلته هشا خاضعا بالكلية لدوائر النفوذ والمال في الغرب..تقول المؤشرات إن 65 مليار دولار من حجم تعاملات البورصة لمستثمرين غربيين وكلها أوراق مالية لا صلة لها بالاستثمار الحقيقي، وهو ما يهدد الاقتصاد التركي بتكرار تجربة جنوب شرق آسيا أو انهيار النمور الآسيوية في حال رغبة بعض كبار المستثمرين في فعل ذلك.
كما أن 70% من ودائع البنوك التركية هي ودائع غربية تدفع عليها البنوك التركية فوائد هي الأكبر من نوعها في أوربا ( تصل 15 % )..ولن نتوقف طويلا عند قضية الفوائد من الناحية الشرعية بعدما أكد طيب أردوغان أنه لا مفر من الفوائد لبناء الاقتصاد..وقد أدي ذلك إلي ارتفاع حجم ديون البلاد من 221 مليارا قبل خمس سنوات إلي 383 مليارا.
ورغم ارتفاع معدلات النمو في الاقتصاد التركي في فترة حكم العدالة والتنمية والتي انعكست علي شعور المواطن التركي معها بالاستقرار إلا أنها لم تعكس تحسنا في وضع هذا المواطن بقدر ما ذهبت ضحية سوء توزيع الدخل بسبب هيمنة رجال الأعمال الذين امتصوا هذا النمو وهو ما يمكن أن نفهمه من الإحصاءات الأخيرة التي نشرتها مجلة فوربس عن أغني أغنياء العالم حيث ارتفع عدد المليارديرات الأتراك في السنوات الخمس الأخيرة إلي 24 مليارديرا بدلا من 6 فقط قبل حكم العدالة والتنمية.
أما في السياسة فقد تراجع رجب طيب أردوغان عن خط التوجه شرقا ( جوهر مشروع أربكان ) بدعوى أنه يسبب الاستقطاب الدولي فجمّد مشروع الثمانية الإسلاميين الكبار وأدخل تركيا في أوثق تحالف لها مع الولايات المتحدة بهدف دعمه في مشروعه البديل: اللحاق بقطار الاتحاد الأوربي.
لقد قبل أردوغان مشروع الشرق الأوسط الكبير بكل تفاصيله بل أعلن دعمه الكامل له وسعيه لتنفيذه حتى صار يعرف بعرّاب مشروع الشرق الأوسط الكبير، وصار يتحرك في المنطقة لدعم المشروع بحيث صار أحد أهم الوسطاء لترويج السياسة الأمريكية في المنطقة. لقد تبرعت حكومة العدالة والتنمية بعرض توصيل مياه نهري دجلة والفرات إلي إسرائيل وليس دول الجوار فقط ( سوريا والعراق وإيران )، كما سمح بفتح موانئي تركيا وشواطئها لقبرص الجنوبية نزولا علي إرادة الاتحاد الأوربي.
حتى والبرلمان التركي يعلن رفضه عبور الطائرات الأمريكية الأجواء التركية لضرب العراق عام 2003 كانت حكومة حزب العدالة والتنمية صاحبة الأغلبية فيه تسمح فعليا للقوات الأمريكية بضرب العراق سواء من قاعدة أنجرليك أو ميناء الأسكندرونة.
حين تناقشت مع بعض الصحفيين والباحثين الأتراك ومنهم أعضاء في حزب العدالة والتنمية أو مؤيدين له في هذا التحول في المشروع وسردت عليهم هذه الوقائع والأرقام..لم يتقبلها البعض ولكن اتفق الجميع علي أنه لا يصح قراءتها بل وقراءة التجربة كلها إلا في ضوء تعقيدات الوضع التركي والعالمي.
فليس بإمكان حكومة العدالة والتنمية الدخول في صدام قانوني ودستوري مع القوي العلمانية من أجل قضايا المحجبات أو طلاب مدارس الأئمة والخطباء..ومن الأفضل إنجاز تعديلات عامة في قضايا الحريات يمكن أن تؤدي في النهاية إلي مناخ مناسب مستقبلا لطرح القضايا المتعلقة بالحريات الدينية.
ثم إن بلدا مثل تركيا ليس باستطاعتها تبني سياسة الاستقلال عن النظام الاقتصادي العالمي سواء فيما يتصل بالعلاقة مع المراكز والمؤسسات الاقتصادية العالمية كصندوق النقد الدولي أو الشركات العالمية أو فيما يتصل بأسس التعاون الاقتصادي العالمي..كما أن الحكومة تبنت بالفعل سياسة الانفتاح الاقتصادي علي العالم العربي وآسيا وأفريقيا ولكن من دون أن تربط هذا الانفتاح بخطاب سياسي أو بشعارات دينية أو قومية، بل بالمصلحة الاقتصادية البحتة.
كما أن المعادلة الدولية الحالية تجعل من المستحيل علي تركيا أو غيرها تبني سياسة مستقلة عن الولايات المتحدة فضلا عن أن تكون معارضة لها أو ساعية لعمل تحالفات ضدها..وحتى الدول التي تبني أربكان التعاون معها ( الثمانية الإسلامية الكبار ) هي دولة غير مستقلة في إرادتها السياسية وتكاد تكون خاضعة تماما للولايات المتحدة. والأفضل فهم التحركات الدبلوماسية التي تقوم بها حكومة العدالة والتنمية باعتبارها تهدف إلي إعادة هيبة تركيا وثقلها في المعادلة الإقليمية والدولية حتى لو بدت لاعبا محسوبا علي الإدارة الأمريكية. وأنها مع التزامها التحالف الأمريكي إلا أنها تسعي لتحسين شروط هذا التحالف بما يحقق المصلحة الوطنية التركية.
هذه صورة للمشهد الإسلامي التركي عن قرب، قد تبدو فيها كثير من الغموض لكن الشيء المؤكد فيها أننا بإزاء رؤيتين مختلفتين بل وربما متناقضتين أيا ما كانت المبررات أو السياقات التي تحكم تجربة كل فريق..فالخلاف بين الأربكانية والأردوغانية يتجاوز التعددية في المشروع الواحد إلي الانقسام من دون رجعة.