قضية الفقه الجديد..الاجتهاد الفردي تحت ضغط الواقع
باحث وكاتب مصري
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
عنوان الكتاب: قضية الفقه الجديد
المؤلف: جمال البنا
الناشر: دار الشروق
سنة النشر: 2009
لا تنحصر صعوبة هذا الكتاب، ومن ثم قراءته وتقديمه، في طبيعة قضيته بالغة الأهمية ( هدم الفقه القديم وبناء آخر جديد) التي لا يتردد المؤلف في اقتحامها مع اعترافه بصعوبة تصدي شخص واحد بمفرده لها، ولا في تنوع موضوعاته التي تعالج تقريبا كل موضوعات العلوم الإسلامية وقضاياها الشائكة، بقدر ما تكمن المشكلة في طبيعة هذا النوع من الدعوات والمفكرين الذي يكاد يعلن، وهو أعلن ذلك، أن الأمة الإسلامية طوال عمرها الذي جاوز أربعة عشر قرنا سلكت طريقا لم يكن الأفضل وتبنت خيارات لم تكن تصلحها ولا تصلح لها، ومن ثم فعليها أن تبدأ من جديد، بطريقة: نقطة ومن أول السطر..بل بفتح صفحة جديدة في حياتها وربما تغيير الكرّاس!
يخالف هذا الكتاب في منهجه منهجية الفقه الإسلامي في التجديد والاجتهاد والتي تقوم على أن الجديد يغزل من القديم ولا يتنكر له بل يأتي دائما منه فيكمل عليه ويسد عجزه وينقله للأمام، تماما كما كان يفعل المجددون الذين ما كانوا يفضلون تدوين اجتهاداتهم الجديدة في كتب مستقلة وسجلوها شروحا أو حواشي على رسائل شيوخهم إعلانا عن الاستمرارية وتواصل النسب العلمي، رغم أن الشروح والحواشي كانت في كثير من الأحيان أكثر أهمية من المتون كما يلمح بذكاء المفكر الأمريكي صاحب الجذور الإسلامية للرأسمالية.
مشروع ثوري
يجسد هذا الكتاب مشروع "عمر" صاحبه الكاتب والمفكر الأستاذ جمال البنا، وهو عمر قارب التسعين عاما قضى شطرا منها في قضايا العمال والنقابات والعمل الاجتماعي قبل أن يتفرغ تماما لثورته الفكرية الدينية التي تروم تغيير العقل المسلم جذريا. من يعرف جمال البنا ونبله ودماثة خلقه ونزاهته وزهده سيكتشف مع هذا الكتاب جانبا ثوريا حتى بالمعني السياسي لا يترجمه الرجل في العمل العام!
الكتاب هو اختصار مبسط لكتابه الأكبر"نحو فقه جديد" الذي صدر كاملا في ثلاثة أجزاء قبل عشر سنوات من هذه الطبعة ( 1999-2009) وكان يمثل مشروع صاحبه الأساس الذي انصرف إليه وتفرغ له تماما ولو على حساب مشروعات بها قدر من الأصالة والريادة كان لجمال البنا فيها فضل السبق وأعني به جهده وعطائه المشهود في المسألة النقابية والعمالية ومحاولة تقديم مقاربة إسلامية فريدة وأصيلة لها.
و الأصل الذي يختصره هذا الكتاب هو نفسه خلاصة كتابات سابقة لجمال البنا في مراحل زمنية مختلفة كان كل منها يمثل معالجة لقضية من قضايا الكتاب منها "الأصلان العظيمان الكتاب والسنة" (1982) و"كلا لفقهاء التقليد وكلا لأدعياء التنوير"(1994) و"الإيمان بالله في القرآن الكريم ولدى السلف والمعتزلة والمعاصرين"(1993) و"قضية تطبيق الشريعة والعودة إلى القرآن"(1998) و"الأصول الفكرية للدولة الإسلامية" (1979) و"المرأة المسلمة بين تحرير القرآن وتقييد الفقهاء" (1999).
تعريف مفصل
ينقسم الكتاب لثلاثة أبواب رئيسية يمثل كل منها كتابا من الأجزاء الثلاثة لكتابه "نحو فقه جديد" فيقدم الأول "منطلقات ومفاهيم فهم الخطاب القرآني"، ويتناول الثاني "السنة ودورها في الفقه الجديد"، فيما يتضمن الأخير قراءة في الفقه القائم ومحاولة لإعادة ترتيب وتعيين أصول الشريعة.
يضم الجزء الأول بابين يطرح الكاتب في الأول منهما عددا من المفاهيم والمنطلقات الأساسية لفهم مشروعه؛ أولها "البراءة الأصلية" والتي تعني افتراض براءة الإنسان وأن الأصل في الأشياء الإباحة وهو يدعو إلى جعلها أصلا من أصول الفقه، ويكمله بوسيلة "المقاصة" (من قوله تعالى: إن الحسنات يذهبن السيئات) التي يراها الأقرب لروح القرآن من مبدأ سد الذرائع عند الفقهاء.
ثم يدعو إلى "التمييز بين العقيدة والشريعة" باعتبار أن الأولى تتصل بكل ما يتعلق بالله تعالى واليوم الآخر، وهي الأساس في الإسلام، وطبيعتها الإيمان القلبي، وهدفها الهداية الإلهية، ووسيلتها الحكمة والتدبر أما الثانية فهي ما يتعلق بالتعامل في الحياة، وطبيعتها عقلية عملية، وهدفها العدل، ووسيلتها القوانين المنظمة، ثم يأتي العمل كحصيلة لهما ومعيار مصداقيتهما. ويقترح بناء على ذلك تعديلات جوهرية في العلوم الإسلامية المختلفة وعلاقاتها بعضها ببعض.
ثم يقدم في الباب نفسه مراجع نقدية للنشأة التاريخية ل "ظهور وتضخم فقه العبادات" باعتباره نتيجة لهروب الفقهاء من فقه السياسة والحياة إلى فقه العبادات، وهو ما جعله يتضخم ويأخذ طابعا شكليا منفصلا عن جوهر الشخصية المسلمة ما أدى في النهاية لتشوهها وانفصالها عن طبيعة الرسالة الإسلامية.
ثم يختم الباب بالدعوة إلى إطلاق كل طاقات "الاجتهاد" المطلق بلا قيد، مفضلا أن يتجاوز الطابع الفردي إلى الجماعية عبر المجامع الفقهية.
ويتناول في الباب الثاني " فهم الخطاب القرآني" فيميز بين ثلاث مراحل تاريخية أولها مرحلة الرسول صلى الله عليه وسلم الذي كان الخطاب القرآني فيه يؤدي دوره الإيماني بمجرد سماعه دون حاجة إلى شرح أو إيضاح أو تفسير ، وثانيها مرحلة ما بعد النبوة إلى زمننا المعاصر والتي امتلأت ب"تلال" من الشروح والتفاسير حجبت القرآن عن المسلمين، ومعظمها تأثر بالثقافات الوافدة والمناهج الغريبة أو الأساطير والإسرائيليات
ويتوقف عند جيل الإصلاحيين من أمثال محمد عبده والمراغي والقاسمي وبن باديس ورشيد رضا مثمنا لجهودهم في محاولة إعادة اكتشاف القرآن من بين "ركام" التفاسير، كما يقدم قراءة نقدية محاولات معاصرة وحداثية قام بها محمد شحرور ومحمد أركون ونصر حامد أبو زيد.
ثم يطرح رؤيته في "فهم الخطاب القرآني كما يجب أن يكون" الذي يعود للقرآن صافيا قبل التفاسير لأجل اكتشاف منظومة قيمه ومبادئه الحاكمة دون افتيات عليه أو محاولة لتفكيكه.
وفي الجزء الثاني من الكتاب " السنة ودورها في الفقه الجديد" يتناول المؤلف في الباب الأول السنة في الفقه السلفي منتقدا تحولها من "سنة" فعلية وعملية إلى "حديث" يتصل بالقول والرواية صار يهيمن فعليا على القرآن ويكون مادة الفقه. كما يبين موقع "السنة بين المتحفظين عليها والمسلمين لها" والاختلاف بشأنها "من التشدد إلى الترخص" منتقدا منهج السلف في الحكم على صحة الأحاديث مقترحا منهجا آخر يمكن أن يضع السنة في مكانتها في مشروعه للفقه الجديد.
وفي الباب الثاني " السنة في الفقه الجديد" يميز بين سنة عبادية وأخرى حياتية، وثالثة سياسية ناعيا على السلف أنهم لم يعطوا المكانة اللازمة للسنة الحياتية والسياسية، فتضخم لديهم العبادات وفتحوا الباب للوضع والتشويه والتزييف على سنة الرسول.
ويطرح المؤلف ضرورة وضع ضابط منهجي وموضوعي لضبط السنة بهو العرض على القرآن الكريم"، وفي ضوء ذلك يستبعد فئات من الأحاديث (المغيبات، وتفسير المبهمات، ونسخ القرآن، وما يخالف الأصول القرآنية مثل العدل، ومعجزات الرسول، وما لم يأت به القرآن، وطاعة الحكام) ويرى فئات أخرى غير ملزمة (ما جاء عن الأكل والشرب والزي..وغيره مما يتصل بشئون الحياة الدنيا)
وينقسم الجزء الثالث من الكتاب لبابين يناقش الأول كيف يختلف النظر لعدد من القضايا المهمة (الإيمان، حرية الاعتقاد، العدل، المرأة، الرقيق..) حين نقاربه بمرجعية القرآن أو بمرجعية السنة عنه بمرجعية الفقه التقليدي السلفي منتهيا إلى اختلاف الأخير بسبب عيوب في مكونات هذا الفقه أهمها التجزيئية واللغة والمنطق، والتي بالفقه عن روح القرآن التكاملية المنفتحة والحيوية.
وفي الباب الثاني الذي يختم به الجزء والكتاب يطرح المؤلف أصولا جديدة للشريعة يحددها بأربعة هي العقل، ومنظومة القيم الحاكمة في القرآن،(وأهمها الحق والعدل) ثم السنة، كما انتهى إليها وأخيرا العرف الذي هو صوت الواقع بما فيها من تطور وتغير، ويقدمه بديلا عن الإجماع الذي لم ولن يتحقق.
ملاحظات على المنهج
لسنا بحاجة إلى القول أن الكتاب يثير وأثار بالفعل جدلا كبيرا، خاصة لدى الأزهر الشريف والمؤسسات الدينية والتيارات الإسلامية، فهو مثل ثورة تتجاوز الفقه إلى مجمل منظومة المعرفة الإسلامية، ثورة أعطاها جديتها أخلاق الرجل ومناقبيته المشهود بها، وكونه شقيق حسن البنا الأب والمؤسس لحركة الإسلام السياسي، وأيضا لكونه مختلفا عن نمط كتاب " علمانيين" طرحوا قريبا من أفكاره؛ فهو يطرح رؤيته على أساس كونه إسلامي رغم أنه قد لا يبعد عن نمط من العلمانية أشبه بالعلمانية المؤمنة.
الكتاب هو ثورة على المؤسسة في الإسلام، أو على أسس الإسلام السني الذي ظل غالبا على عموم الأمة، وهو عند التدقيق ثورة بالمعني السياسي، وانقلاب على الرؤية السياسية عند أهل السنة، حيث يجعل من الثورة علي الحكام الظالمين معلما رئيسيا من معالم السياسة القرآنية بل ويرى أنها تتلاقى مع توحيد الله والقضاء على الأرباب.
ثمة إضافات مهمة لن يختلف معها أكثر خصوم جمال البنا، مثل فكرة البراءة الأصلية التي رغم أنها لم تكن مجهولة عن الفقهاء القدامى إلا أنه أعطاها روحا ومعنى جعلها أقرب للقرآن، وربما كان فيه حل شاف لظاهرة إدارة حياة الناس بتفاصيلها وجزئيياتها المختلفة عبر الفتوى وتحول كثير من الفقهاء إلى ما يشبه جيوش الخبراء القانونيين.
كذلك بيانه الفارق المهم بين التحريم من خلال النص ( قرأنا وسنة) واعتمادا عليه وبين التحريم من خلال اجتهاد فقهي، وخطورة المساواة بين النوعين، وهو ما قد يساوي بين اجتهاد الفقهاء الذي هو نسبي وقابل للنظر مهما كان وبين قطعيات النص المطلقة وغير القابلة للنقاش.
وهناك أيضا نظرته لمقاصد الشريعة ليس لجهة إعادة النظر فيها أو إلغاء بعضها كما طرح بل لجهة توسعتها وإعطائها بعدا عصريا شاملا مثل حديثه عن مقصد حفظ العقل وكيف يمكن أن يكون أصلا في مواجهة كل ما يضر العقل ويمنع عمله من مسكرات أو مخدرات بل وكذلك الأمية والجهل وبناء أمة العلم والمعرفة، وكذلك حديثه في مقصد حفظ المال ومحاولته تعميقها لأجل الكشف عن الوظيفة الاجتماعية للمال في الإسلام...وغيره
كذلك نقده لكثير من محاولات التفسير الحديث أو الحداثي إذ يبدو أكثر أصالة واتصالا بالقرآن وانتماءا له كنص منزل وموحى به، وهو حريص على تمييز نفسه عن هذا التيار نصر أبو زيد وأركون والذي يتعامل مع القرآن كمنتج ثقافي أو أسطورة أو كأي نص يمكن التجريب معه بأدوات المناهج الغربية الحديثة.
كثيرا ما يشعر قارئ الكتاب أن الرغبة في الثورة على القديم هي ما يسيطر على الكاتب فيجعله يبدو غير قانع إلا بهدم كل قديم رغم أننا لو دققنا سنجد أن كثيرا من نقده قائم على سوء فهم لما قاله الفقهاء قبله مثل فهمه لقاعدة ( لا اجتهاد مع النص)، كما أن معظم نقده على ما يسميه "الفقه القديم" سبقه إليه "فقهاء قدماء" استفاد هو بنظراتهم النقدية، غير أنه ضع كل ذلك في إطار مختلف يقوم على "النقض" التام لأسس هذا الفقه، وهو نفسه الإطار الذي يضع فيها ما يوافق عليه من آراء المجتهدين القدامى يبدو مختلفا مع منهجهم الكلي.
وقراءته للخبرة التاريخية في العلاقة بين الفقه والفقهاء والدولة أو السلطة كثيرا ما تبدو بسيطة وتفتقد للعمق مثل ذهابه إلى أن الفقهاء اشتغلوا بالعبادات هربا من مواجهة السلطان معتمدا على أن معظم مجامع الحديث كان حجم المرويات في العبادات أكثر من غيره، وهو ينسى مثلا أن الإمام أحمد بن حنبل الذي ضرب بمسنده مثلا هو أقوى من واجه الخلفاء وناله منهم العنت والعذاب في فتنة خلق القرآن، وأن ما من ثورة إلا وكان الفقهاء عمادا لها أو سندا سواء ضد بني أمية أو بني العباس. لا يدرك المؤلف أن انفصال جمهور الفقهاء عن الاشتباك المباشر مع السلطة ربما كان له صلة أوثق بطبيعة السلطة وقتها وما يمكن أن تحدثه معارضتها أو الخروج عليها في المجتمع، كما له صلة أوثق بالحرص على استقلالية المجال الديني عن السلطة باعتبار أن السلطة والسياسة عموما موضوع خلاف ونزاع وتغير مستمر، وأنه يمكن التسليم للسلطة بشأنها ما تركت المجال الديني مستقلا وله ولايته على المجتمع.
كذلك فإن مقترحه لإعادة تقسيم علوم الإسلام يفتقد الوعي بالخلفيات الكامنة وراء التقسيم مثل اقتراحه نقل باب الإمامة من علم الكلام إلى الفقه، فهو مقطوع الصلة بالخلاف العقائدي الكبير حول طبيعة السلطة والسياسة وهل هي توقيفية كما تقول الشيعة مثلا أم متروكة للأمة كما يعتقد أهل السنة وعموم المسلمين..فالأمر أبعد من بساطة ما يطرحه المؤلف.
يصعب قراءة هذا العمل الضخم بكلمات، لكن مفتاح القراءة الأول هو فهم طبيعة شخصية مؤلفه والروح المسيطرة عليه في مشروعه لبناء فقه جديد؛ إنها روح المصلح الاجتماعي الذي لا ترتفع عينه عن الواقع وتسارعه وتجدد قضاياه وتعقد مشكلاته، أكثر منه المجدد الديني يهتم ببناء أسس مشروعه التجديدي على الأصول الثابتة للدين، ومن ثم نلاحظ دوما أن الرغبة العارمة في القفز بواقع المجتمع الإسلامي للإمام وإقالة العقل المسلم من عثراته تغلب على قدرته أو حتى رغبته في إحكام مشروعه.
وأخيرا فإن مما قد يهدد جدية هذا المشروع ويقلل مما بذله صاحبه أن جملة الآراء الفقهية التطبيقية له كان فيها من الإثارة والخفة بما قد ينعكس على النظرة للمشروع نفسه؛ وأتصور أنه من الظلم، وهو ما قد يتحمله جمال البنا نفسه، تجسيد هذا الجهد بفتاوى من مثل إباحة الزواج العرفي، وعد التدخين غير مفطر في رمضان، واعتبار القبلات بين الشباب والفتيات من اللم المتجاوز عنه وغيره مما راج في وسائل الإعلام باعتباره فقها جديدا!.