«الإسلاميّون الجدد» والتجديد الإسلامي
كاتب وصحفي مصري
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
كان الباحث الأميركي ريموند بيكر أول من أطلق هذا المصطلح (كتابه «إسلام بلا خوف ـــــ الإسلاميون الجدد في مصر» الصادر 2003)، قاصداً به مجموعة من أهم المفكرين الإسلاميين الذين عرفتهم مصر والوطن العربي في العقود الثلاثة الأخيرة.
تضم مجموعة «الإسلاميون الجدد» الشيخ الداعية محمد الغزالي رحمه الله، والشيخ الفقيه يوسف القرضاوي، والقاضي والمؤرخ والمفكر طارق البشري، والمفكر والمحامي وأستاذ القانون محمد سليم العوا، والمفكر والمحكّم الدولي وأستاذ القانون الدستوري والوزير السابق أحمد كمال أبو المجد، والكاتب والصحافي فهمي هويدي، كمجموعة واحدة متجانسة فكرياً ومتصلة بصلات شخصية مباشرة رغم استقلاليتها.
وثمة تشابه، وربما اقتباس مع ما سبق أن طرحه الباحث القدير نبيل عبد الفتاح مبكراً في تقريره الرائد عن الحالة الدينية، بشأن ظاهرة «الإسلاميون المستقلون» التي تضم المجموعة نفسها، عدا الشيخين الغزالي والقرضاوي.
ويمثل بيان «رؤية إسلامية معاصرة» الذي صاغه كمال أبو المجد في نهاية الثمانينيات وصدر عام 1991، مانفيستو «الإسلاميون الجدد»، فيما تمثل المناظرة الشهيرة بين الشيخ محمد الغزالي والكاتب العلماني فرج فودة (1992) نقطة التدشين والانطلاق. فيما كان الجدل السياسي والفكري الاجتماعي وقضاياه الملتهبة في الثمانينيّات والتسعينيات المادة الثرية لخطاب قدم أصحابه أنفسهم كممثلين لمدرسة الوسطية التي تتموقع دائماً كوسط بين تطرفين: الإسلامي والعلماني، والنظام الحاكم والخارجين عليه. و«الإسلاميون الجدد»، كما يراهم بيكر، هم النموذج الأمثل للتجديد الإسلامي في العقود الأخيرة، وهم يمثلون قدرة الإسلاميين على التفاعل إيجابياً مع القضايا المستجدة وأسئلة العالم، وهم عنوان على أن لدى الإسلاميين ـــــ حين يمارسون التجديد ويلتزمون الوسطية ـــــ ما يقدمونه إلى مجتمعاتهم والعالم.
وموقع «الإسلاميون الجدد» هو موقع المستقل عن كل الكيانات والأطر التنظيمية والحركية الإسلامية، وكذلك التي تتبع الدولة. لكن هذا لا يمنع من وجود علاقات وثيقة بالحركة الإسلامية تسمح لها بالتأثير الفاعل فيها، والتأثر الواعي بها، بجانب علاقة متميزة مع الدولة ومؤسساتها الدينية تتجاوز التوظيف ولا تجرح الاستقلالية، وتجعلهم لا يترددون أحياناً في التموقع ضمن المعارضة.
ومشروع «الإسلاميون الجدد» هو بناء مجتمع إسلامي جامع ومفتوح ومنفتح على العالم لا مغلق أو إقصائي أو معادٍ للعالم، على النحو الذي يبدو في مشروع الإسلام السياسي بتجلياته سواء العنيفة منها (الجماعة الإسلامية أو الجهاد) أو السلمية (مثل الإخوان المسلمين). وهم لا يراهنون على أن الطريق لذلك يمر عبر ترشيد الصحوة الإسلامية كطاقة تغيير إيجابية في بناء المجتمع. ومن ثم، فالأولوية عندهم في التغيير الثقافي والاجتماعي على السياسي، وحركتهم هي لأجل الإصلاح العام لا التغيير السياسي على نحو ما نجده في الإخوان المسلمين. ورغم أنهم يتمتعون بالاحترام في أوساط الحركة الإسلامية، ويمثلون مرجعية «خارجية» للحركة، فإنهم لا يتردّدون في نقد الحركة، وفي رفض وصاية الجماعات والتنظيمات الإسلامية على المجتمع أو احتكار تمثيل الإسلام، ولا يتوانون عن تفكيك ديناميات الخطاب والحركة الإسلامية الثورية التي تخاصم المجتمع والدولة والعالم.
وأتصور أن بيكر، على أهمية جهده، التبس عليه الأمر في تقديم هؤلاء الأعلام كممثلين حصريين لمدرسة الوسطية دون تقديم السيرة الفكرية التي تكشف الطريقة التي تكوّن بها هؤلاء، وانتموا إلى تلك المدرسة، بل دون إدراك فكرة المدرسة الفكرية أصلاً، التي هي أكثر شمولاً واتساعاً زمنياً وجغرافياً وعددياً بطبيعة الحال.
مثلاً، لم يفلح في اكتشاف صلة هؤلاء الأعلام بمدارس أخرى كانوا جزءاً منها، بل ربما نشأ بعضهم فكرياً في رحابها، كمجلة «المسلم المعاصر» التي بدأت في 1974، وجميع الأعلام الذين ذكرهم إما كانوا ضمن مؤسسيها أو هيئتها الاستشارية أو بدأوا الكتابة فيها أو تعرّفوا إلى المشروع الوسطي التجديدي من خلالها، كما في حالة الأستاذ البشري. وهي نفسها جزء من حركة التجديد الفكري التي بدأت عام 1948 باسم «جماعة المشروع»... وهو ما لا يجعلهم إسلاميّين جدداً بالمعنى الذي يطرحه بيكر. وثمة مدارس أخرى ترتبط بمسار هؤلاء وعطائهم مثل مدرسة «المعهد العالمي للفكر الإسلامي». كما لم يدرك بيكر أنّ الصلات الفكرية لهؤلاء الأعلام بشخصيات أدّت دوراً مهماً في تيار التجديد والوسطية، واستفادوا منها في القضايا التي يبحثها الكتاب. نذكر كمثال عبد الحليم أبو شقة في قضايا المرأة (وهو صاحب موسوعة «تحرير المرأة في عصر الرسالة»)، وأحمد العسال (تطوير التعليم الديني)، ومحمد عمارة (الجدل الإسلامي العلماني)، وسيد دسوقي (التنمية) وعبد الوهاب المسيري (فهم الغرب)، وجمال الدين عطية (الاقتصاد الإسلامي وتجاربه البنكية)... وللأخير دور بالغ الأهمية في هذه المدرسة.
كما قصّر بيكر في تتبّع امتدادات الإسلاميّين الجدد وتأثيراتهم التي تجلّت في تيارات وأفراد ومؤسسات. لا يمكن مثلاً أن تغيب هذه التأثيرات في قسم العلوم السياسية بجامعة القاهرة ومجموعة ناديا مصطفى وسيف الدين عبد الفتاح وأصحاب حولية «أمتي في العالم»، أو شبكة «إسلام أون لاين» التي تمثل امتداداً صريحاً لهذه المدرسة في العقد الأخير، كما لدى كثير من الأجيال الشابة التي سعت إلى تنزيل رؤية هذه المدرسة، وخاصة في القضايا الاجتماعية والتنموية. وأتصور أن الباحث الأميركي لم يستفد كثيراً من المحاولات التي سبقته في قراءة خطاب التجديد والوسطية الإسلامية، وخاصة أستاذنا الراحل عبد الوهاب المسيري، الذي كان أقرب إلى فهم منطق المدرسة الفكرية الإسلامية في مقالته «معالم الخطاب الإسلامي الجديد». كتب المسيري عن الخطاب الإسلامي بطريقة أكثر وعياً بفكرة المدرسة التي لا تقوم على حصر عددي لأسماء، بل على اكتشاف قواسم فكرية ومنهجية مشتركة يمكن أن تمثّلها شخصيات ومجموعات تزيد أو تقل... لكن لا تحصر بطريقة بيكر التي اتّبعها في كتابه. في مقالته القصيرة لكن البالغة الأهمية، يميز المسيري بين خطابين إسلاميين بحسب الموقف من قضية الحداثة الغربية. ويقترح المسيري مجموعة سمات للخطاب الإسلامي الجديد أهمها: رفض المركزية الغربية، الرؤية المتكاملة والانفتاح النقدي يصدر عن رؤية معرفية شاملة، القدرة على الاستفادة من الحداثة الغربية، القدرة على إدراك أبعاد إنسانية جديدة، القدرة على اكتشاف الإمكانات الخلّاقة للمنظومة الإسلامية، أسلمة المعرفة الإنسانية، تأسيس معجم حضاري متكامل ومستقل، التمييز والفصل بين إنجازات الغرب وبين رؤيته القيمية، إدراك المكون والبعد الحضاري للظواهر والأشياء المستحدثة، تأسيس رؤية إسلامية مستقلة في التنمية، طرح النسبية الإسلامية بديلاً عن النسبية المطلقة في الغرب، الإيمان بالحركة والتدافع كأساس للحياة، خطاب جذري توليدي استكشافي، إدراك مشكلات ما بعد الحداثة، تجاوز الإطلاقات المتناقضة والسماح بالفراغات والتعددية، القدرة على الرؤية المتكاملة للشريعة وإنزالها على الواقع المعاصر، القدرة على صياغة نموذج معرفي إسلامي والاحتكام إليه، الاهتمام بالأمة بديلاً عن الدولة المركزية، محاولة تطوير رؤية إسلامية شاملة للفنون، تجاوز المنظور الغربي في قراءة التاريخ.
وبعدما حدد المسيري هذه السمات، حاول أن يقدم نماذج لشخصيات تمثل هذا الخطاب، ولم يقتصر على جيل الأساتذة بل ضم أسماءً لشباب في عقدهم الرابع، كما لم يقتصر على مصر بل شمل العالمين العربي والإسلامي، بل والمقيمين في الغرب. لم يلتفت الباحث إلى هذه المقالة المهمة رغم أنها صدرت قبل أن ينتهي من كتابه بنحو عامين، كما لم يتوقف عند المقالة الأخرى التي كتبها جمال الدين عطية تفاعلاً مع مقالة المسيري، وهي لا تقل أهمية عنها، وقد وضع حركة التجديد الإسلامي الحديثة في مسارها التاريخي المتصل، من الأفغاني ومحمد عبده حتى نهاية القرن العشرين، ومن شبه القارة الهندية حتى الولايات المتحدة، وقدم فيها سرداً لأهم الشخصيات والمؤسسات والأفكار التي انتظمت في حركة التجديد وسارت بها.
وحين نشر بيكر أطروحته بالإنكليزية عام 2003، كان العالم كله قد دخل رغباً ورهباً في حرب ثقافية قادها بوش ضد الإسلام بعد تفجيرات أيلول / سبتمبر وما تلاها من غزو أفغانستان والعراق، وهو ما لم يتمكن بيكر من الإحاطة به وبتفاعلات «الإسلاميون الجدد» معه، فجاءت معالجته ضعيفة ومرتبكة. أما حين ترجمت إلى العربية (نهاية 2008)، فقد كانت مياه كثيرة قد جرت في الحالة الإسلامية في مصر، غيّرت الخريطة الإسلامية جذرياً حتى كادت تتجاوز الفكرة، بحيث لم تعد لها الأهمية نفسها كمفتاح لفهم الحالة الإسلامية في مصر كما كان من قبل.
فلم تعد حالة الاستقطاب الإسلامي العلماني كما كانت عليه قبل عقدين، ولم يعد الصراع على قضايا كلية وبطريقة الحرب الشاملة، بل صار على تفاصيل وقضايا جزئية، كثيراً ما يُعاد تكوين معسكري المواجهة، وكثيراً ما يلتقي الخصوم الأيديولوجيون تحت راية واحدة في معارك اليوم، كما نرى في قضايا الإصلاح السياسي والعلاقة بالخارج والحسبة والموقف من التوريث... وتبدو «كفاية» نموذجاً معبّراً عمّا جرى، حيث يلتقي إسلاميون ويساريون وناصريون وقوميون وليبراليون على قضية واحدة. وحدثت تغيّرات جذرية في خريطة الحالة الإسلامية، لم يعد معها «الإسلاميون الجدد» في صدارة المشهد كما كان الأمر. تعاظم صعود الحالة السلفية التي نشأت بعيداً عن تأثير هؤلاء وربما بالضد منه. ملأ السلفيون المشهد الإسلامي وصار له وسطية سلفية، وسلفيون جدد يؤدّون الدور الذي كان يؤدّيه الإسلاميون الجدد (هذا ما يفعله سلمان بن فهد العودة وعائض القرني مثلاً)، وحدثت ثورة اتصال وإعلام صنعت ظاهرة التدين الجديد ونجوم الدعاة الجدد الذين على سطحيتهم وقلة بضاعتهم (هم في الحقيقة مقدمو برامج دينية لا أكثر)، ملأوا الساحة الإسلامية وشغلوا قلوب الجماهير التي لا يعرف معظمها هؤلاء الأعلام الكبار الذين كانوا يوماً ما «جدداً»! كما ظهرت تحديات جديدة يبدو أن استجابة «الإسلاميون الجدد» لها لم تكن بالاستجابة نفسها لسابقتها. فلم يعد الإصلاح السياسي شأناً داخلياً يدور بين سكان جدران الوطن الواحد، وظهر سؤال الإصلاح من الداخل أم الخارج، وتغيرت قضية الإسلام الحضاري ورؤيته البسيطة لغير المسلمين في مجتمع المسلمين بعد صيحة أقباط المهجر وعولمة قضايا الأقليات الدينية. حتى وحدة الأمة نفسها صارت محل نظر بعد موجة المد الشيعي الذي وصل إلى حد الحرب المذهبية واجتياح المدن طائفياً. أيضاً لم يعد الغرب مكاناً جغرافيا أو نموذجاً حضارياً نواجهه، فقد حضر الغرب إلينا بنفسه (غزو أفغانستان والعراق) بعدما نجح «القاعدة» في جره إلى ما أراد، ولم يعد الحوار الديني مع الغرب (الحوار الإسلامي المسيحي) حول قضايا لاهوتية أو سياسية، بل تفجرت قضايا من نوع مختلف بعد
محاولة التنميط والتوحيد القسري لنسق قيمي واحد لحرية التعبير والإبداع.
لقد كانت الأسئلة كبيرة ومتسارعة بأكبر من طاقة الحالة الإسلامية على الاستيعاب، ولم تكن استجابة «الإسلاميون الجدد» بما يملأ الفراغ بل بدت أحياناً غير متوقعة أو متسقة مع المستقر والمنتظر منهم. بدا «الحكيم» البشري أكثر الناس تشدداً في التعامل مع الملف القبطي الذي كثيراً ما رعى حماه، بعدما رأى انتهاك فكرة الدولة والجماعة الوطنية نفسها في قضية وفاء قسطنطين، وأوقف «العوا» الحوار مع الفاتيكان، وهو ممن وضعوا لبناته الأولى، بعدما فاضت الكأس بخطأ لا يغتفر من رأس الفاتيكان، وصار «هويدي» في مربع أكثر خصوم النظام السياسي تشدداً، أما «القرضاوي»، زعيم مدرسة الوسطية والاعتدال، فقد فتح الجرح الطائفي الذي لم يكن يحتمل عنده المزيد من السكوت بعدما صارت تطارده أنباء التشيّع الممنهج والمموّل.
كانت استجابة هذه المجموعة الفريدة ملتبسة مرة، وصادمة مرة أخرى (مثل فتواهم الجماعية بجواز قتال المسلم الأميركي الذي يخدم في جيش بلاده في أفغانستان)، وغيرت أحياناً من موقع المجموعة في مربع الوسطية بعدما صارت الوسطية نفسها موضوع تنافس من مشروعات سياسية مختلفة، أصبحت تزايد على هؤلاء الأعلام وترى فيهم خروجاً على الوسطية (أقله وفق المفهوم الأميركي عشية الحرب على الإرهاب).
الاخبار اللبنانية