15 شباط 2005
تحولات الجماعات المتشددة..الحج بعد عودة الحجيج
باحث مصري مختص في شئون الحركات الإسلامية
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
الكتاب: الجماعات الإسلامية المصرية المتشددة في آتون 11 سبتمبر : مفارقات النشأة ومجازفات التحول
المؤلف: ممدوح الشيخ
الناشر : مكتبة مدبولي
سنة النشر: 2005
قبل أسبوعين فقط صدر هذا الكتاب، ودعاني مؤلفه الأستاذ ممدوح الشيخ لمناقشته مع الاساتذة عبد العال الباقوري وعمار علي حسن وأحمد عبد الحفيظ في ندوة خاصة ضمن برامج المقهي الثقافي في معرض الكتاب، وأظنه أول ما صدر في العام الجديد عن حركات الإسلام السياسي.
قصر المؤلف كتابه علي الجماعات المتشددة والعنيفة فقط من دون بقية جماعات الإسلام السياسي وفضل لأسباب معرفية استخدام تعبير "الجماعات الإسلامية المتشددة" لكونه أدق تعبيرا عن الظاهرة من مصطلح "الأصولية" الشائع بين المهتمين بالظاهرة، وحاول ربط دراسته لتحولاتها بتداعيات أحداث سبتمبر إقليميا وعالميا. غير أنه ربط أي محاولة لتقييم هذه التحولات بضرورة القراءة الدقيقة لنشأة هذه الجماعات وأفكارها الرئيسة والمنعطفات الأكثر أهمية في مسيرتها، وهو ما فعله بجدارة حين رسم خريطة هذه الحركات وتقسيماتها المختلفة وطرح عدد من مفارقات نشأتها.
ويعلن الكاتب من أول صفحة أنه لم تكن له أية علاقة تنظيمية مباشرة تتيح له الاقتراب المباشر منها بوصفه: "شاهد عيان" رغم أنه يهدي كتابه إلي أخيه المعتقل في صفوف هذه الجماعات، ويقدم نفسه باعتباره أحد المهتمين المتابعين للظاهرة، فضلا عن كونه أحد الذين حاولوا المشاركة بجهد متواضع في تسليط الأضواء على تجربة المراجعة الفكرية التي شهدتها الجماعة مؤخرا.
يبدأ الكاتب برسم خارطة شاملة للحركة الإسلامية أو "تلك الجماعات التي تشترك معاً في اعتبار أحد جوانب الإسلام أو تفسيراته الإطار المرجعي لها سواء فيما يخص وجودها أو أهدافها وتنشط بطرق مختلفة من أجل تطبيق الصورة التي تراها للإسلام في المجتمعات والدول والمجالات التي توجد بها".
ورغم وجود بعض المعايير الأخرى التي يمكن أن يستند إليها في تصنيف تلك الحركات، كأصولها الاجتماعية أو تصوراتها السياسية أو أساليبها الحركية، فإنه يعتبر أن الأساس الفكري يظل القاعدة الأكثر صلابة لهذا التصنيف.، حيث يمثل بالنسبة للبعض نصاً دينياً "مقدساً" تسعى لتطبيقه دون اجتهاد أو تعديل، بينما هو بالنسبة للبعض الآخر مرجعية رئيسة لها الأولوية على أي مرجعيات أخرى. ويمتد التأثير الحاسم للأساس الفكري إلى مختلف جوانب الحركات الإسلامية بدءاً من أسمائها ومروراً بمصطلحاتها ورموزها وأشكالها التنظيمية وانتهاءً باستراتيجياتها وأساليبها الحركية.
ووفقاً لمحورية الأساس الفكري في تصنيف الحركات الإسلامية فقد قسمها إلى فئتين رئيستين، وهما: الحركات الإسلامية الدينية والحركات السياسية - الاجتماعية ذات البرنامج الإسلامي .وقد أحسن في تصنيفه الذي جاء بسيطا وواضحا بما يساعد غير المختص علي الإلمام بهذه الحركات ولم يقلل من جهده أنه اعتمد في كثير من تقسيمه علي دراسة لضياء رشوان الباحث المختص في هذه الجماعات وهو ما نبه عليه.
ويقرر الباحث في حديثه عن مفارقات النشأة صعوبة التأريخ لنشأة الجماعات الإسلامية المتشددة المصرية بسبب الطبيعة السرية لهذه الجماعات وما يترتب عليها من غموض أحاط، وما زال يحيط، بتشكيلها وهياكلها التنظيمية، وهي حقيقة عززتها بقوة المواجهة المسلحة بينها وبين النظام المصري. والتداخل التنظيمي الذي حدث عدة مرات في تاريخ هذه الجماعات، وعمليات الانتقال منها وإليها من صفوف الفصائل الإسلامية الأخرى غير المتشددة، وبخاصة أن أكبر جماعتين منها (الجماعة الإسلامية وتنظيم الجهاد) تقاربتا وتباعدتا وتبادل بعض أعضائها المواقع بين الجماعتين. كما أن حالة المطاردة المستمرة التي كانت هدفا لها منذ نشأتها تقريبا أدت إلى نتائج عديدة منها أنها لم تمكن رموزها من تدوين تفاصيل بداياتها بدقة، بل إن بعض البدايات كانت من السذاجة بحيث لم يتصور أعضاؤها أن تكون ثمة أهمية لتدوين تجاربهم وأدوارهم فيها. كما أدت حالة المطاردة إلى إحساس مبالغ فيه بضرورة التكتم حتى تكاد فصول كثيرة من قصة هذه الجماعات تضيع للأبد.
ومن أهم ما يرصده الباحث وأهمه هو شكل علاقة الجماعات المتشددة بجماعة الإخوان المسلمين على المستوى الفكري ،حيث يري أنها نشأت كنوع من الاحتجاج الصامت على فكر جماعة الإخوان المسلمين، وهو احتجاج سرعان ما تحول إلى موقف معلن تخللته معارك تفاوتت حدتها وغذته أدبيات مكتوبة بعضها اعتبر جماعة الإخوان المسلمين من "أعداء الإسلام"، فإن كثيرا ممن كتبوا عن هذه الجماعات مدعيا التأريخ أو التحليل ابتدأ من مقولة غير صحيحة هي أن هذه الجماعات استمرار لجماعة "الإخوان المسلمين".وقد أشرت في معرض مناقشة الكتاب إلي أن الباحث لم يفصل في هذه العلاقة التي تأسست في كثير من الأحيان خاصة ما يتعلق بصراع شرعية الواقع التي تمثلها مع شرعية التاريخ التي احتكرها الإخوان، ومن ثم فقد كان من الممكن دراستها من المدخل النفسي في ظل السعي الدائم لقيادات الجماعة الإسلامية في الجامعة لتأكيد استقلالية جماعتهم الناشئة في مواجهة محاولات الإخوان السيطرة علي التنظيم الوليد واستعادة قيادتها للتيار الإسلامي بعد خروج قياداتها من المعتقل.وهو الصراع الذي اقتضي وأفرز تنظيرات فكرية وحركية كثيرة لا يفهم أغلبها إلا بالتفسير النفسي.
ثم يقدم الكاتب عرضا تاريخيا لنشأة الجماعات العنيفة ويطرح آراء جديدة في تاريخ النشأة أهمها علي الإطلاق رأي الدكتور محمد مورو الذي يرجع بنشأة جماعة الجهاد إلي عام 1958 بشكل مستقل تماما عن جماعة الإخوان المسلمين وعلى يد شاب مصري يدعى نبيل البرعي الذي كان يبلغ من العمر آنذاك 22 عاما. ويرصد الرافد الفلسطيني لفاعل مهم هو سالم الرحال وهو فلسطيني/ أردني لا يعرف الكثير عن حياته، ويقدم وثيقة جديدة نشرها موقع علي شبكة الإنترنت لإحدي جماعات العنف تروي قصة سالم الرحال الذي لم نكن نعرف عنه إلا قصة مجيئه لمصر ليتعلم في الأزهر وقام بدور تاريخي في تنظيم الجهاد. ثم ترحيله من أجهزة الأمنية إلى الأردن لخطورته. وتكشف الوثيقة عن تفاصيل حياته بعد ترحيله حيث أصيب بانفصام عقلي واحتجز في مصحة للعلاج النفسي بالأردن وما زال بها رغم عودته للوعي. ثم يستمر الباحث في رصد مراحل النشأة فيفرد فصلا لميلاد الجماعة الإسلامية ويتثير إشكالات كثيرة منها علاقة النشأة بسياسات السادات وعلاقاته باليسار.
بعد ذلك يتوقف عند عمليات العنف ومحطاته الكبري ويقدم رصدا دقيقا لعملياته التي راح ضحيتها أكثر من ألف وثلاثمائة من الشرطة والمواطنين والسياح وأفراد هذه الجماعات يقدم بهم ثبتا في نهاية الكتاب. إلي أن توقفت عملياته وأعلنت قيادات العنف مبادرات وقف العنف ثم التحولات الكبري نحو العمل السلمي وموسم تأسيس الأحزاب الإسلامية مثل الشريعة والإصلاح.
يبدا الكاتب عند بوادر هذه التحولات من أول المراجعات التي أعقبت اغتيال السادات والتي لم تمتد إلى المبادئ الرئيسة لفكر الجماعتين بشان العمل المسلح سواء كان وسيلة للتغيير أو للدفع وإنما طرحت فكرة جدوي العنف ، ويرصد في هذا السياق دور بعض كوادر هذه الجماعات مثل كمال حبيب الذي لعب دورا في إعادة تشكيل ثقافة هذه الجماعات ونشر وعي جديد بين قياداتها بهدف إكساب الحركة الإسلامية الوعي السياسي اللازم لإدارة الصراع، وتقنين تصورات الإسلام السياسي.
ثم يتوقف عند مبادرة وقف العنف وما دفع إليها ويشرح كثيرا مما جري في كواليسها ويناقش سلسلة كتب المراجعات التي عرفت بسلسلة تصحيح المفاهيم والتي خاطبت فيها قيادات هذه التنظيمات -لأول مرة- أتباعها وليس المجتمع في سياق واحد هو سياق النقد . ويسجل الكاتب عدة ملاحظات مهمة بعضها يتعلق برؤية هذه الجماعات لوقف العنف إذ بدءا من غلاف الكتاب الأول (الأكثر أهمية) تبدو المسافة بين رؤية الدولة والجماعة للتحولات، فعلى الغلاف الأمامي للكتاب يأتي اسمه: "مبادرة وقف العنف .. رؤية واقعية ونظرة شرعية" بينما الغلاف الخلفي يضم كلمة عامة عن السلسلة وفيها يأتي اسم الكتاب مختلفا: "مبادرة إنهاء العنف .. رؤية شرعية ونظرة واقعية"، والاختلاف الذي يبدو للوهلة الأولى بسيطا ليس ذلك في حقيقته ، فوقف العنف يختلف كثيرا عن إنهائه، والتقديم والتأخير بين الشرعي والواقعي ليس مجرد ترتيب شكلي والمسافة بين الرؤية والنظرة مسافة كبيرة جدا.
ويسعي الكاتب إلي ربط سؤال مستقبل هذه الحركات بسياق التحولات التي تجري في العالم كله والذي يشهد حالتين عابرتين للقارات من الإحياء القومي والديني أدت في النهاية إلي بروز سؤال الهوية ليصبح الأكثر إلحاحا على النخب في معظم أنحاء العالم، بدلا من سؤال الحداثة أو التقدم، فقد أصبح التمايز يشبع حاجات الناس النفسية أكثر من الاقتراب من نسق نظري أو نمط حياة ذي صبغة عالمية. فسقوط الشيوعية لم يؤد إلى ظهور "المواطن العالمي" بل إلى بروز سؤال الهوية والحدود بين الداخل والخارج والأنا والآخر لم تعد مرشحة لا للاختفاء بل لمزيد من الحضور .
وفي سياق تحليله لتيار المراجعة يتوقف كثيرا عند دور القيادي الجهادي السابق كمال حبيب وما نشره من أوراق تحمل مراجعات لسلوك وأفكار هذه الحركات.
وقد طرح الكاتب في نهاية الكتاب مجموعة من الإشكاليات والقضايا التي تطرحها عملية المراجعة تستحق أن تكون مثار نقاش في الأفق المنظور منها : قضية مشروعية السلطة ، إشكالية قبول الآخر، مبدئية الموقف من الحريات، الحاجة لعقد اجتماعي، إشكالية العلاقة مع الغرب ، إشكالية إعادة بناء التصورات، جدل الدعوي والسياسي.
ورغم الجهد الذي بذله الكاتب خاصة في محاولاته ربط تحولات الجماعات المتشددة بتحولات عالمية أوسع وأشمل، إلا أن الكتاب لم يقارب معطيات أخري تتعلق بتحولات الظاهرة الإسلامية عموما والتي طالت كل حركة الأسلمة وفي مقدمتها الإسلام السياسي. إذ أن كثيرا من الدراسات سبق وأن رصدت تحولات جذرية في هذا المسار تنتهي بنهاية حركات الإسلام السياسي وتجاوز الظاهرة الإسلامية لها. وهو ما يعني أن مراجعات وتحولات جماعات العنف المتشددة جاءت – علي أهميتها- بعد الأوان، وبعدما تراجعت حركات الإسلام السياسي وانتهي دورها؛ كما لو أنها ذهبت للحج بعدما بدأ الحجيج عودتهم!