لماذا لا يستفيد الفلسطينيون من خبرة حركة التحرر الوطني الجزائرية؟ : لقاء مع عبد الحميد مهري الرئيس السابق لجبهة التحرير الوطني الجزائرية
باحث مصري في الحركات الإسلامية
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
وقعت هذه الحادثة في أثناء حرب التحرير الجزائرية؛ إذ كانت ثمة قرية صغيرة وفقيرة لا تكاد تملك من أسباب الحياة إلا النذر اليسير، ورغم ذلك كانت كلما توفر لها قطعة سلاح أو بعض طلقات البارود هاجمت قوات الاستعمار الفرنسي الرابضة علي مداخلها..وفي كل مرة تفعل ذلك كانت تعاقب بحملة تأديب وحشية تقتل فيها قوات الاستعمار من يقع في أيديها من المقاومين وتخرب بيوت القرية وتفسد زرعها وتقتل ماشيتها نكاية وتنكيلا بها ..ورغم ذلك لم تتوقف القرية عن هذه العادة؛ مهاجمة القوات الاستعمارية كلما تيسر لها سلاح وبارود ولو كان قليلا وبدائيا.
استدعي قائد القوات الاستعمارية شيوخ ووجهاء القرية وأخذ يحاول إقناعهم بعدم جدوى ما يفعلون، وشرح لهم كيف أن موازين القوى ليست لصالحهم ومن ثم فلا فائدة من هجماتهم، وكيف أن قواته من القوة بمكان لا تفلح معه طلقات البارود البدائية، وذكرهم بأن القرية طوال سنوات الهجوم البدائي هذه لم تتمكن ولو من قتل جندي واحد من قواته المستعمرة، وأن العقاب الذي تناله القرية والتنكيل الذي يقع بأهلها يحتم عليهم التفكير في جدوى هذا العبث!
أمام منطقية كلام القائد الفرنسي وقوة حجته لم يستطع وجهاء القرية سوى أن يطلبوا منه أن يمهلهم يوما أو يومين في الرد، وبعدها جاءوا إليه مسلمين بحجته مقرين بمنطقه؛ لكنهم رغم ذلك اعتذروا عن أنه ليس باستطاعتهم أن يوقفوا عادتهم في قتال الفرنسيين بكل بندقية قديمة يحصلون عليها أو بعضا من طلقات البارود تتوفر لهم..سألهم القائد الاستعماري عن السبب متعجبا: فقالوا نخشى إن أوقفنا قتالكم أن تفسد تربية أبنائنا!!
روى لي تفاصيل هذه الواقعة الزعيم والمجاهد الجزائري الكبير السيد عبد الحميد مهري الأمين العام السابق لجبهة التحرير وأحد أبرز قادة حرب التحرير الجزائرية. كنّت قد التقيت به في مؤتمر دولي عن الأمة في قرن نظمته مؤسسة خالد الحسن للدارسات والأبحاث في العاصمة المغربية الرباط، وكان من أقدار الله الطيبة أن يعرج حديثنا إلى خبرة حركة التحرر الجزائرية وأسباب عدم تدوينها ودراستها وما إذا كان من الممكن أن تستفيد منها الأمة في الوقت الراهن خاصة في قضية فلسطين التي افترق فيها المفاوضون عن المقاومين حتى وقع الصدام داخل حركة التحرر الوطني لشعب واحد.
عودة للواقعة التي رواها السيد عبد الحميد مهري؛ فوجهاء القرية رغم إقرارهم بغياب أي توازن للقوى وقناعتهم باستحالة تأثير أسلحتهم البدائية في ترسانة السلاح الفرنسي اعتبروا أنه لا مفر من الاستمرار في القتال والمقاومة لأن القضية أبعد من التأثير علي الأرض أو تغيير موازين القوي؛ بل هي تتمثل في أن التسليم بالأمر الواقع وما فيه من اختلال يتطلب تغييرا في منظومة القيم التي تربى ونشأ عليها الشعب الجزائري العربي المسلم؛ فهو يعني إسقاط فكرة المقاومة ومن ثم الإقرار بالهزيمة والانكسار وما يترتب عليه من قبول بالتبعية والذيلية والإقرار بمنطق الاستعمار وهو ما سيجر فسادا كبيرا علي الأبناء والأجيال الجديدة التي إن قبلت بالتعايش مع الاحتلال فستفقد نخوتها وما تربت عليه من أخلاق وشيم ترفض الخضوع.
الحق أن السيد عبد الحميد مهري فتح عيني على أبعد من ذلك وهو ما يتصل بالانقطاع الذي جرى في تجربة النضال والتحرر العربي والذي أدى بحركة تحرر –مثل فتح- لها وزنها ودورها التاريخي إلي أن تفقد البوصلة وتضرب صفحا عن خبرات الآخرين فتدخل في تيه المفاوضات ولا تخرج منه بعد أن غرقت وأغرقت في بحر أوسلو وما جره ذلك من نكبة علي النضال الفلسطيني.
لن أذكر نص حديثي مع السيد عبد الحميد مهري إذ كان أقرب إلي دردشة لم تسجل نظرا لطبيعة جلستنا التي كانت على مقهى في الرباط نتابع منه مسيرة شعبية خرجت تساند أهل غزة ..ولكنني سأنقل هنا الأفكار الأساسية التي طرحها المجاهد الكبير وأراها تستحق من الزملاء الجزائريين أن يعودوا إليها مع الرجل بشيء من التفصيل والتوسع إضافة إلي أنها تنبه إلى أهمية العودة إلي خبرة حركة التحرير الجزائرية تدوينا ودرسا واستخلاصا للدروس.
في معرض ذكرياته التي رواها لي كان عبد الحميد مهري يقارن بين تجربتي النضال الجزائري والفلسطيني فيتوقف كثيرا عند ضرورة فهم العلاقة بين السلاح والسياسة في فعل التحرر ومن ثم التوافق بين المقاومة والمفاوضة . فمن أهم مكتسبات الخبرة الجزائرية أن الجزائريين ظلوا قادرين علي إدارة علاقة تكامل بين المقاومة والمفاوضة دون أن يحدث تعارض بينهما أو تناقض ومن ثم مواجهة كما جرى في الحالة الفلسطينية التي انتهت إلي معادلة صفرية لابد أن يزول فيها أحد طرفي المعادلة: المقاومة أو المفاوضة!
مع تصاعد الثورة واضطرار دولة الاستعمار الفرنسية إلي التفاوض مع قادتها، حسم قادة الثورة الجزائرية موقفهم سريعا وتلخص في رفض ربط المفاوضات بوقف القتال معتبرين أن السلاح هو ورقة من أوراق الضغط في التفاوض لا يجوز التخلي عنها بل هي أهم أوراق التفاوض فعلا إذ لم يضطر العدو للتفاوض إلا تحت تأثيره ولن يقدم أي تنازلات إلا تحت وطأته.
روي لي السيد مهري أن الحكومة الفرنسية أرسلت لقادة حركة التحرر بتصورها للتفاوض معها وكان يتمثل في ثلاث مطالب أو شروط هي بالترتيب: وقف القتال، ثم إجراء انتخابات بين الشعب الجزائري، ثم بدء التفاوض مع من يختارهم الشعب..وقد قبل المقاومون بهذه المطالب لكن مع إعادة ترتيبها بحيث تكون: بدء المفاوضات مع قادة المقاومة، ثم إجراء الانتخابات لاختيار ممثلي الشعب الجزائري، والانتهاء بإيقاف القتال وفق اتفاقات محددة.
لقد رأت قيادة حركة المقاومة أن إيقاف القتال ليس فقط تضييعا لأقوي أوراقها في التفاوض بل وبداية لنقل المعركة داخل الصف الجزائري، فالقتال حق للشعب طالما وجد جندي مستعمر واحد على أرضه، والتنازل عن ذلك هو لصالح العدو، والأخطر -وهو الخطوة التالية- أن يطلب من قادة المفاوضات التحكم في السلاح وضبطه باعتبار أنه لا يصح أن يتفاوضوا إلا بعد وقف القتال، ثم الانتقال إلي ضرورة إلزام الجميع بوقفه لإتاحة فرصة للتفاوض ( تقريبا هو ما جرى مع الفلسطينيين! ).
مباشرة حسم الجزائريون موقفهم: التفاوض يكون منفصلا عن القتال، ووقف القتال هو رهن بتحقق مطالب المفاوضين، ودون ذلك لا التزام من المفاوضين بوقف القتال فضلا عن إلزام غير المفاوضين به.
قال الجزائريون وقتها أن الالتزام بوقف القتال أوالسعي لإلزام بقية الشعب به هو من مهام الدولة المستقلة وليس من مهام حركات التحرر، وطالما لم يقبل المحتل بالدولة الجزائرية ولم يقر بسيادتها على أرضها فليس من حقه أن يطلب شيئا هو من مهام الدول ومما يطلب منها، وعليه فليس على الحركة ( جبهة التحرير ) أي مسئوليات تجاه المستعمر خاصة إذا كان ينظر إليها كحركة إرهابية!
وقرر قادة الثورة وقتها أنه من العبث أن تلزم حركة مقاومة نفسها بما تلتزم به الدول فتقدم ضمانات وتقوم بمهام هي من صميم مهام الدولة دون أن يكون لها صلاحيات هذه الدولة، وكان الدفع الذي يطرحونه في وجه مطالب سلطات الاحتلال الفرنسي: أننا مازلنا حركة مقاومة ولسنا دولة حتى تلزمونا بتفاهمات واتفاقات لا تقع إلا بين الدول، خاصة وأنكم مازلتم تنظرون إلينا كحركة إرهابية..اعترفوا بنا واعطونا الاستقلال ثم لنعقد اتفاقيات ملتزمة بيننا كدولتين يمكن أن نرعى فيها مصالحكم السياسية والاقتصادية بل والثقافية في الجزائر ولكن جزائر ما بعد الاستقلال!
حاول الرئيس الفرنسي وقتها- شارل ديجول- التلاعب بالمقاومين فأعلن قبيل المفاوضات عن هدنة من جانب واحد التزمت فرنسا فيها بوقف القتال وأطلقت سراح عشر آلاف أسير جزائري ونقلت قادة المقاومة من السجون إلي إقامات جبرية..كل ذلك لدفع المقاومة الجزائرية لتبني فكرة وقف القتال لكنها أصرت على موقفها فرفضت الهدنة من جانب واحد واعتبرتها كأن لم تكن بل وصعدّت في وتيرة القتال لتوصل رسالة أن التفاوض مسار منفصل تماما عن القتال وليس بديلا عنه
وتوقف السيد عبد الحميد مهري في حديثه معي عند درس بالغ الأهمية في التجربة الجزائرية مفاده أن التفاوض هو آلية من آليات إنجاح المشروع الوطني وليس مقصدا في ذاته، ومن ثم فلابد من مرجعية نهائية للمفاوضات والتي يجب أن تتمثل في الدولة المستقلة. فقد حرص قادة الثورة الجزائرية قبل دخول المفاوضات على إعداد وثيقة استراتيجية شاملة تؤكد أن المرجعية النهائية لهذه المفاوضات هو الدولة المستقلة وليس مجرد التفاوض.
فالتفاوض لمجرد التفاوض والتفاوض علي أي شيء وكل شيء والتفاوض في كل خطوة وحول كل جزئية هو عبث وتضييع لمشروع التحرر، ولابد أن تتحدد المرجعية النهائية وهي الدولة المستقلة ذات السيادة ويكون التفاوض علي التفاصيل، وهو ما أصر عليه الجزائريون فنجوا من الضياع في متاهات التفاوض العبثي اللا نهائي.
ومن دروس حركة التحرر الجزائرية التي حدثنا عنها السيد عبد الحميد مهري خطأ مقولة أننا كلما كنا معتدلين كلما قبل بنا الخصم ( العدو) فتيسرت سبل حل الأزمة. رفض قادة الثورة الجزائري هذه المقولة بل وعملوا علي الضد منها، ورفض فريق التفاوض تقديم نفسه كتيار معتدل في إزاء تيارات أخرى متشددة يسعى إلى تحييدها وحصارها، ورفض فكرة المظهر المعتدل حتى علي المستوي الرمزي حتى يحكي السيد مهري أن فريق المفاوضين ظل طيلة ستة أشهر من المفاوضات يرفض مجرد السلام أو التصافح مع ممثلي الاستعمار الفرنسي علي طاولة المفاوضات!.
من يتأمل خبرة حركة التحرر الجزائرية خاصة حين يرويها مجاهد بوزن السيد عبد الحميد مهري وتأثيره ومصداقيته يتعجب من هذا الانقطاع العجيب الذي وقع بين حركة التحرير الوطني الفلسطينية وبين مثيلتها الجزائرية علي الرغم من أن الجزائر احتضنتها حينا من الدهر ومن أرضها أعلن ياسر عرفات قيام الدولة الفلسطينية!.
لقد اختطت قيادة فتح مسارا بدا فيه أنه أهدرت تماما كل هذا التراث التحرري أو كأنها ما سمعت به أو عايشت من قاموا به زمنا.
مباشرة تعلق الثوار الفلسطينيون بالتفاوض واعتبروه في ذاته نصرا يجب الحفاظ عليه، وضيّعوا من أجله ورقة المقاومة، بل واعتبروا أن التفاوض والقتال ضدان لا يجتمعان، فتحركوا بكل قوة لوقف المقاومة وتجريد المقاومين ورفاق السلاح السابقين من أي شرعية حتى وقع المحذور وتواجه المقاومون والمفاوضون أبناء المشروع التحرري الواحد!
لقد آمن ثوار فتح السابقين بالتفاوض طريقا وحيدا لنصرة قضيتهم؛ التفاوض على كل شيء وأي شيء وفي كل خطوة بل والتفاوض علي التفاوض ومن أجل التفاوض! دون مرجعية نهائية..حتى خيار الدولة استبدل به سلطة حكم ذاتي ليس لها من الدولة إلا أعباءها ومهامها وعصا غليظة تقطع بها ظهور أبناء وطنها دون أن تملك من أمرها شيئا!
ولأنها وضعت التفاوض في مواجهة المقاومة فقد تحولت التفاوض من آلية غير مسلحة للمقاومة ( الحرب بطرق دبلوماسية ) إلي أداة لضرب المقاومة وسحب غطاء الشرعية من المقاومين، خاصة بعدما أعلن المفاوضون أنفسهم وكيلا حصريا لحركة التحرر الفلسطيني!
ثم وجدنا حالة "الاعتدال" المجاني؛ سيل من القبلات والمجاملات والقفشات والصور التذكارية مع "العدو" حتى بدا المفاوض الفلسطيني كأنما هو مقاول يفاوض على شراء قطعة أرض وليس مناضل يجاهد لاسترداد أرضه من مغتصب!
من يـتأمل ما جرى في مسلسل التفاوض الصهيوني الفلسطيني سيشعر أن قادة إسرائيل ربما كانوا أكثر وعيا بخبرة حركة التحرير الجزائرية من قادة حركة التحرير الفلسطينية.
ذكرت للسيد مهري ما قد يكون من تحفظ علي المقارنة بين تجربة الاستعمار في كل من الجزائر وفلسطين فرفضه بشدة وأكد أن طبيعة المشروع الاستعماري واحد في كل منهما فالاستعمار الفرنسي – بعكس مثيله في تونس والمغرب مثلا- كان شاملا إحلاليا يرى أن الجزائر ليست مستعمرة وإنما هي أراض فرنسية وراء البحار، ومن ثم فقد قام بتفكيك هياكل الدولة في الجزائر تماما خاصة بعد فشل ثورة الأمير عبد القادر ( 1830-1847) وأعاد بنائها كجزء من الدولة الفرنسية، وهو ما ما كان من الصعب بل والمستحيل تكراره لاحقا فكان أن أبقى الاستعمار الفرنسي علي هياكل الدولة في تونس واكتفي بإخضاعها للإدارة الفرنسية أما في المغرب فقد أبقى حتى على هياكل المجتمع نفسه وتنظيماته مكتفيا بالسيطرة عليها من خارجها
..ثم إن الاستعمار الفرنسي في الجزائر لم يكن مجرد حامية عسكرية بل زادت قواته عن 600 ألف جندي وكان له وضع قانوني دولي يقر بالجزائر كأرض فرنسية وكان له غطاء عسكري دولي من خلال حلف الناتو الذي تعامل مع الجزائر كأرض فرنسية.
أي أن حركة التحرير الجزائرية أعادت بناء الدولة من الصفر والمجتمع الجزائري تعرف علي فكرة الدولة من جديد إذ لم يجد لديه دولة من الأساس.
في عام 1930 احتفلت فرنسا بمئوية احتلالها للجزائر؛ أرض فرنسا فيما وراء البحار، كانت ثورات التحرير قد توقفت تماما لما يقرب من ربع قرن قضت فيها قوات الاستعمار علي كل بؤر المقاومة الفاعلة والمحتملة..لكن بعد ربع قرن آخر وفي عام 1954 كانت الأجيال التي فتحت عيونها علي العيد المئوي لاحتلال بلادها هي نفسها التي قادت ثورة التحرير الجزائرية ونالت الاستقلال.