30 تشرين1 2003
الدعاة الجدد..الرموز والخطاب والسياق : حوار مع الداعية اليمني الحبيب الجفري
باحث مصري في الحركات الإسلامية
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
أن يتاح لك الجلوس مع الحبيب الجفري وقتا يقارب الساعة والنصف فمن الصعب على النفس أن تشغله بأي عمل حتى ولو بحوار صحفي، لكن هذا ما حدث! ولا أعرف -على المستوى الشخصي- هل كان خطأ أن أنفق هذا الوقت كله مع الرجل في قضايا شائكة -بعضها كان محرجا لي وله- بدلا من أن أجلس مستمعا منصتا إلى حديثه العذب السلس الذي يعرف طريقه بدقة؛ إلى القلب مباشرة؟! وهل هي ضريبة أن تعمل صحافيا فتفصل بين عملك وبين مشاعرك وعواطفك وتصر على السؤال والبحث وربما المناكفة بما قد يضيع عليك فرصة أن تعيش لحظات من الروحانية الخالصة قد لا تجدها إلا عند أمثال هذا الرجل؟
أعترف أن هذا الحوار -وحده- ربما كان الوحيد الذي تمنيت أن لو أنفقت وقته في الجلوس إلى صاحبه مستمعا فقط؛ فالحبيب الجفري من هؤلاء القليلين الذين تسلم لهم بحديث من طرف واحد؛ تظل فيه مستمعا طوال الوقت دون أن تشعر بالملل أو يراودك خاطر باستبداد المتكلم وانفراده بك.. وهذا خطير في حد ذاته!
التقيت بالحبيب الجفري في مؤتمر التقريب بين المذاهب الإسلامية الذي عُقد بالبحرين نهاية الشهر الماضي (سبتمبر 2003)؛ وخارج قاعة المؤتمر وفي إحدى الزوايا بدأنا حوارنا، هو وأنا فقط؛ ولكن لم تمض سوى دقائق حتى فوجئت بأننا محاصرون بالعشرات من الموظفين والعمال والإعلاميين بل وضيوف من المؤتمر تركوا المحاضرة وتحلقوا حول الحبيب حتى كاد الحوار الخاص يتحول إلى درس أو لقاء عام!
وليس سرا أنني وطوال وقت الحوار كنت أراقب نفسي خوفا من أن أنساق وراء الرجل وأتجاوب مع روحانيته العالية وقدرته غير العادية على جذب المشاعر والقلوب فيضيع الحوار بل وربما أترك الصحافة وأصبح من مريديه!
وأعترف أيضًا أنه من الحوارات القليلة التي خرجت بعدها مقتنعا بآراء كنت أعارضها ومتأثرًا بأشياء كنت أرى نفسي أبعد الناس عن الوقوع فيها، ولكن هذا ما حدث... وهو ما أجد فيه عزاءً في ساعة ونصف الساعة قضيتها في عمل كنت أود لو قام به غيري.
في هذا الحوار يتحدث الحبيب الجفري عن دعوة وخطاب جيله ممن اصطلح على تسميتهم بالدعاة الجدد فأفاض ووضح كثيرا من القضايا الشائكة: هل هي ظاهرة أو موضة أم تجديد للخطاب الدعوي؟ وما سر نجاحها السريع لماذا تنتشر في أوساط النخب والشباب بالذات هل لأنها تعالج قضاياهم وتخاطب فيهم ما لم يلمسه غيرها؟ أم لأنها تقدم لهم تدينا بمواصفات خاصة؟! وهل تسد فراغا روحيا تعيشه الأمة أم تغرقها في روحانيات تبعد بها عن القضايا الحقيقية والمصيرية؟ وهل تظل على هذا الحال أم يمكن أن يتطور خطابها حسب الظروف والحاجة؟ وما علاقتها بالمؤسسات والمراجع الدينية الكبرى وهل تأخذ من رصيدها أم تضيف عليه؟ وهل تلتقي معها أم تحل بديلا عنها؟ وكيف يرى العلاقة بين جيله ومدرسته من الدعاة وبين وسائل الإعلام والفضائيات بخاصة وأيهما يستفيد من الآخر وما رأيه في ظاهرة الداعية/ النجم؟ وما رأيه في خطاب جماعات العنف وموقفها من الغرب؟ ويجيب حول تساؤل مهم: أي خطاب يحتاجه العالم في هذه اللحظة: خطاب الحبيب الجفري أم أسامة بن لادن؟
ما السر؟
حين قابلت الحبيب الجفري كان أهم ما أريد أن أعرف رأيه فيه هو السر وراء نجاح الدعوة التي يمثلها هو وجيله من الدعاة الشباب؟ لماذا صادفتْ نجاحا لم يحققه غيرهم و"اخترقت" أوساطا وطوائف كانت بعيدة دائما عن مرمى الدعاة فيما سبق؟ هل قصدت ذلك فأنتجت تدينا بمواصفات خاصة أغرى هؤلاء بالاستجابة لها أم أنها استجابت لحاجات ومشاعر طالما أصر الجميع على تجاهلها.. وحين بدأنا الحديث كانت هذه بداية الأسئلة:
* الحديث الآن يدور حول ما يسميه البعض بموجة التدين الجديدة في العالم الإسلامي خاصة في أوساط الشباب والنخبة، وهي التي برز بسببها عدد من الدعاة الشباب والجدد على الساحة بقوة وفي وقت سريع مثلك والأستاذ عمرو خالد، وأخذت شكلا معينا وانتشرت في بيئات بعينها، وأنتجت خطابا مختلفا وأثرت بشكل واسع في الحالة الإسلامية حتى اعتبرت ظاهرة ملفتة. فكيف ترى هذه الظاهرة وما تقييمك وتحليلك لها؟
- لا أدعي أنني ذو شأن ولكني خادم للدين لعل الله يقبلني.. وإن أذنت لي فلا يمكن أن نسمي الدعوة إلى الله ظاهرة بل هي الأصل يمكن أن يكون قد تراكم عليه غبار نتاج تفاعلات تدور في العالم الإسلامي في الـ50 عاما التي مضت بل ربما تصل إلى 800 عام مضت، تراكمت فيها طبقات من الغبار حالت بين الناس ليسلكوا المسلك الصحيح للدين كما دعاهم إليه الرسول، لذلك عندما وجه إليهم الخطاب الذي يجمع بين مخاطبة عقولهم التي لا ينبغي أن تحجر وبين مخاطبة قلوبهم العطشى إلى معاني القرب من الله والصلة به، ويذكرهم بالإرث العظيم الذي خلفه لهم النبي الكريم –صلى الله عليه وسلم- ويبين عظمة هذا الدين الذي ليس فقط صالحا لكل مكان وزمان بل ويُصلح كل مكان وزمان، والذي يوصل المتبع له إلى استقرار واتزان في عصر انعدم فيه الاستقرار والاتزان حتى في أعلى دول العالم تقدما، عصر شعر فيه الإنسان أنه غير إنسان وأنه فقد طمأنينته وسعادته التي من أجلها يجمع المال والجاه.. لذلك فبمجرد أن يتنبه هذا الإنسان لما ينبغي أن يقوم به نجده يجاهد نفسه فيما اقتنع به ويتحمل مرارة المكابدة للنفس.
* أنت ترفض وصف الظاهرة للدعوة لكنها ظاهرة فعلا على الأقل في نجاحها واتساع تأثيرها وعن هذا يمكن أن نتحدث؟
- الخلاف لفظي بيننا.. فيمكن -من الناحية الصورية- أن نسميها ظاهرة لأنها ظهرت بعد خفاء، أما أنها ظاهرة بمعنى أنها تظهر فجأة وسرعان ما تختفي أو تضمحل فلا يجوز أن نطلق عليها هذا، والسبب في ذلك أن الشيء الذي يبرز ثم ينتهي لا أساس له، أما الشيء الذي يبقى فلأنه غالبا ما يكون مبنيا على الأساس، والأساس هو المدخل لدراسة هذا الأمر، فالأساس أن الله خلق الإنسان لغاية هي العبادة ولمقصد هو الخلافة عنه في الأرض بالمعنى الواسع للخلافة الذي يفضل به الإنسان عن باقي المخلوقات في الأرض.. هذا المعنى العالي هو ما يبرر سرعة تهافت الشباب والشيوخ والأطفال والنساء، الأغنياء والفقراء.. ومحاولة جعل الدعوة مخصوصة بنخبة أو بصفوة، كلام يتحدث به بعض الناس بلا مسئولية ودون الشعور بالحاجة إلى أن يوثق كلامه لأن لا محاسب له ولا مناقش له في كلامه.. لكن في الحقيقة الإقبال من الكل: العرب والعجم؛ من الأغنياء الفقراء الأقوياء والضعفاء المثقفين والمبتدئين والعامة، الكل يشعر بأهمية الاستجابة بل يصح أن نقول إنها استجابة سريعة حتى لدى غير المسلمين في الغرب.. وهو ما وجدته حين زرت أمريكا وأوروبا لأن هذا نداء الفطرة بمجرد أن يخاطب به الإنسان يجد سرعة استجابة.
الأمر الثاني يتعلق بالظرف الذي يعيشه العالم وليس فقط العالم الإسلامي، فالعالم كله وصل للذروة من تمكنه من أسباب الحياة العصرية وتطور الحياة الخدمية فصار الإنسان يمل من كثرة ما يطلب.. كان يحلم أن يصل بسرعة فوصل إلى السيارة ثم الطيارة ثم الآن يسابق الصوت.. وكان يأمل في أن يصل بريده في أيام من إرساله والآن يصل في لحظات، كان يتمنى أن يخاطب ألفا، والآن يستطيع أن يخاطب الملايين.. كان يحلم أن ينام على سرير من الإسفنج والآن ينام على سرير من الماء وربما الهواء! حتى وصل الإنسان إلى طريق الانحراف؛ فقد كان يحلم بامرأة أو امرأتين والآن وصل إلى أن يجنن (يقنن) حتى الشذوذ.. لقد وصل إلى مرحلة من الإباحية والتهافت جعلته يبحث عن إنسانيته.. لقد بدأ الإنسان يتحول إلى خادم للخدمات التي يريدها أن تخدمه، فالإنسان كان فقيرا أو غنيا يعمل من الصباح إلى المساء؛ الفقير بمجهوده الجسدي والغني بكده الذهني، فهو يكد ويتعب طول الوقت ليوفر الخدمة التي يريدها، فتحولت الإنسانية إلى مجموعة عمال في مصنع كبير في نظر الناس وهو صغير في الحقيقة.. هذا المعنى الذي شعر الإنسان معه أنه سيفقده إنسانيته جعله يبحث عن البديل وجعله يستجيب للدعوة بسرعة.. كان عمر بن عبد العزيز رحمه الله عليه سئل كيف وصلت إلى ما وصلت إليه من زهد في الدنيا؟ كنت تشتري الثوب بـ400 درهم ثم تقول ما أحسنه لولا خشونة فيه؛ أي تتدلع كما يقولون، والآن أصبحت تشتري الثوب بـ4 دراهم، ثم تقول ما أحسنه لولا نعومة زائدة فيه: أي هذا ترف زائد؟! فقال كانت لي نفس تواقة ذواقة إذا ذاقت شيئا تاقت لما وراءه (وهذه فطرة في نفس الإنسان كانت تحتاج إلى من يخاطبها) فلما وجدت المال تاقت نفسي إلى الولاية ولما توليت المدينة تاقت نفسي إلى الملك ولما وصلت إلى الخلافة تاقت نفسي إلى ما هو أكثر من الخلافة فما وجدت شيئا أعلى في الدنيا من ذلك فاشتاقت نفسي للآخرة فتوجهت لله عز وجل.
هذه النظرة تسري في العالم الآن ولكن بنظرة شمولية بمعنى أنه لم توجد فترة منذ فترة الإسلام الأولى، العالم مهيأ فيها للإسلام، وبالذات الغرب وبالذات الولايات المتحدة، مثل التهيؤ الموجود الآن.. يبقى فقط أن نوجه الخطاب ولا يكون الخطاب خطاب لسان فقط بل لسان وكليات بمعنى أن تخاطب أحوالنا العالم.
* ألا تتفق معي أن هذه الاستجابة لهذا الخطاب الجديد كانت أكبر في طبقات معينة مثل الشباب والنخب؟
- النخب ليسوا هم المستجيبين الوحيدين وليسوا الأكثر فغيرهم أكثر استجابة للخطاب الذي يجريه الله على الألسن الآن، لكنها أول مرة يلاحظ ارتفاع نسبة استجابتهم لهذا الخطاب.. الذين يستمعون لهذه الخطابات من غير النخبة أكثر، ولكن نسبة النخب المستمعة زادت فأصبح الناس يقولون (علينا) دعاة نخبة.. مفكرو نخبة.. (وهذا غير صحيح) النخبة استجابت لأنها احتاجت أيضا فأبناء النخبة محتاجون إلى الله ورسوله والخير يوجد فيهم، فما استمعت لأحد منهم؛ إلا ووجدت فيه قابلية الخير لكن هو مسكين.. هو ضائع بين معتركين: بين من سيرفضه بالكلية ويتهمه بالفسق والفجور، وبين من يداهنه ويصوب حتى خطأه.. وهذا تستطيع أن تقوله على مجتمع المسئولين ورجال الإعلام والفنانين، فهم ينظر إليهم على أنهم ظَلموا، ولكن نحن ننظر إليهم نحن على أنهم ظُلموا؛ لأن معظم الخطابات الدينية إما شتما فيهم أو تعليقا عليهم.. الفنانة الفلانية تفعل كذا وكذا والحاكم الفلاني المجرم يفعل كذا وكذا!!... وهذا يستهوي العامة؛ لأن فيه شيئا من التعويض والاستجابة لردة الفعل الموجودة في أنفسهم تجاه هؤلاء.. فيرى العامة ذلك فيصفقون؛ يرحبون بهذا الخطاب ويمدحون المخاطب بأنه صريح لا تأخذه في الله لومة لائم!! العامة لا لوم عليهم لكن أهل النخبة بهم قابلية للخير، وإذا ما خوطب جانب الخير الذي فيهم استجابوا.. في السابق كنا نخاطب جانب الشر الذي فيهم؛ إما بإغوائهم: بالتصفيق له على الباطل، وإما بمعاداتهم: بالحكم عليهم بما لا ينبغي.. ولكن يستجيبون بمجرد أن يوجه إليهم الخطاب الحسن الذي به الرحمة وفيه العقلانية والإنصاف وأيضا الذي يجعل الإنسان أيا كان من النخبة أو العامة يبحث عن مرآة يرى فيها نفسه.. فالعالم اليوم والنخبة على وجه الخصوص يرغبون في أن يجدوا مرآة صافية إذا نظروا فيها رأوا أحوالهم وأنفسهم فهم في حاجة إلى ذلك لذلك تتسارع استجابتهم.. أيضا هناك سر من أسرار نجاح الدعوة تلقيناه عن مشايخنا رضي الله عنهم ومتعنا الله بهم.. ولا أجد في المتكلم أي ميزة إلا ميزة الجثو على الركب تحت أقدام هؤلاء المشايخ، وربما كان ما أجده من الفتح في الخطاب وشيء من الفهم وسريان النفع أشعر أنه من بركات شيوخي وحملي لنعل شيخي عندما كنت أمشي خلفه إذا جاء لمجلسه.. هؤلاء الشيوخ وجدت فيهم شيئا راسخا لا تكلف فيه وهو احترامهم لإنسانية الإنسان "ولقد كرمنا بني آدم"، فهذه أمام أعينهم نشهاهدها في معاملاتهم ومخاطباتهم مع الذين يحيطون بهم.
أيضا الأساس الثاني هو الرحمة "فما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" فصلة مشايخنا بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم -محبة له وتعظيما لقدره واتباعا لهديه- كان لها الأثر الكبير في سريان هذه الرحمة إلى من يحيطون بهم، أيضا التواضع غير المتكلف.. كنا نرى فيهم ذلك مع تعظيم الله مع بذل الكليات من الجهد، كل هذه المعاني تجعل الإنسان يحتقر نفسه مهما تكالب الناس عليه فهو لا يرى نفسه شيئا، وإن تكالب الناس عليه وإن مدحوه، هذه هي مفاتيح القلوب يجعل الله عز وجل لها القدرة على فتح قلوب الخلق وجلبهم إليه.
هل أغرق الحبيب الجفري وإخوانه الأمة في الروحانيات التي تشغلها عن أولوياتها، أم أنهم جاءوا في لحظة "جوع" من الروحانيات و"فقر" في المشاعر فوجد عندهم الناس -خاصة الشباب والمترفين- الملاذ؟.. يمكنك أن تتبنى أيا من هذين التفسيرين، وستجد ما يدعمك؛ لكن ما رأي الحبيب؟
* لو تكلمنا في مضمون هذه الدعوة، فالبعض يرى أنها ترفع عن هذه النخب الإحساس بالذنب دون أن تلزمهم بشيء يشق على النفس؛ أي تقدم لهم الدين بمواصفات خاصة، فما رأيك؟
- أن يبسط الخطاب الإسلامي بحيث يشعر كل إنسان -مهما كان بعده- أن الدين ليس بعيدا عنه، وهذا ليس بعيب في الخطاب. على أن دعوى أن هذا الخطاب يزيل عن كواهلهم الشعور بالمسئولية هي أيضا غير صحيحة.. لأننا نراهم يبكون ولكن يغيرون مسالكهم في تعاملاتهم مع الآخرين، فعلى سبيل المثال: رجل أعمال معروف في بعض الدول العربية حضر بعض المحاضرات وكان يبكي بحرقة وبألم وكان عنده شعور بالندم.. ثم حضر مجلسا حول الأدب والتواضع مع الخلق في التعامل وأن المؤمن يلقى أخاه فيصافحه.. وغيره.
وبعد أيام قابلته وقال: الله يسامحك يا شيخ، لأني سمعت كلامك ثم نزلت من مكتبي و(جيت على نفسي) وألقيت التحية على البواب -وهو ما لم أكن معتادا عليه- فبُهت البواب وتردد في رد السلام، ثم سمعته يضرب كفا على كف مستغربا، ثم يقول: لا اله إلا الله.. هو جرى لعقله حاجة!! .. (وحكى مواقف أخرى مشابهة)، ثم قال: إنكم دعوتمونا ببساطة فتقبلنا هذا، وبسرعة اقتنعنا به وشعرنا أنه هو الوضع المنطقي الصحيح الذي غاب عنا سنوات طويلة، ولكنا وجدنا عند تطبيقه صعوبة تحتاج إلى مجاهدة النفس.
إذن ليس هناك تسطيح للخطاب الإسلامي، ولكن هناك تبسيط بمعنى التجريب، فإذا أخذه الفرد شعر بمسئوليته أمام نفسه، بدليل أنك ترى في خطاب مثل خطاب الأستاذ عمرو خالد ثمرات واعدة .. أعداد من النساء تحجبن، وأعداد من الرجال تابوا عن الإساءة .. إذن هناك تغيير في حياة الإنسان، وليست المسألة تسطيحا، إلا إذا كان البعض يرى أنه ينبغي على الدعاة ألا يجربوا معنى الالتزام في نفوس الناس؛ فهذا مبحث آخر!!.
* البعض يرى أن هذا الخطاب ركز على جانب وأغفل جوانب أخرى، فركز على الروحانيات والجانب العاطفي في الدين وترك -بشكل صارخ- أشياء أخرى؛ فبدا كأنه ناقص؟
- قرأت هذا لأحد الصحفيين المرموقين وهو يهاجم هذا النوع من "تسطيح الخطاب الديني وشغل الناس بالبكاء والروحانيات كشيء من تغييب الناس عن واقعهم وأدوارهم والتنفيس عن مآسيهم المعاصرة.." هذا الكلام نحسن الظن في صاحبه، ولن نناقشه، ولكن نقول: جزاكم الله خيرا .. أنتم ربما لم تسمعوا بقية الخطابات.
أن يكون الإنسان "سوبرمان" يضع كل المقاصد الشرعية في خطاب واحد، هذا لا يعقل، لكن عندما تتكلم مع أناس في المرحلة الأولى من إقبالهم على الله فأنت لا شك في حاجة لإثارة عاطفتهم.. وإذا جلست مع أناس آخرين يغلب الجانب الفكري على طريقة تفكيرهم فلا بد أن تخاطب الفكر أولا.. وإذا جلست مع آخرين يغلب الجانب البحثي والعلمي على طريقة حياتهم فستطرح معهم الجوانب الفقهية والجوانب العلمية.. وهكذا.
والمقصود أن وجود خطاب يحمل صبغة معينة هو مدخل إلى من تغلب عليه هذه الصبغة.. ثم يدخل منه إلى بقية الخطابات الدينية، وليس من العيب أن يوجد من يخاطب في جزئية ويوجد غيره يخاطب في جزئية أخرى، أو من يخاطب هذا في جزئية ويخاطب غيره في جزئية أخري..
وأريدك أن توصل إلى من يقولون ذلك أن النقد سهل ولذيذ على النفس، لكنه لا يبني أمة.. والذي يبني أمة هو النقد الذي يقوّم.. ومن ينقد ليقوّم فأنا خادم له، عليه أن يشير بيده وأنا آتيه فأستمع له وأستفيد منه، بدلا من أن نجعل وسائل الإعلام مشغلة للأمة.. هذا النقد هو الذي يشغل الأمة الآن عن فهم واقعها وليس الخطاب الروحي.. فأقلامكم الرائعة وأساليبكم المؤثرة هذه إذا وجّهتموها إلى جهة ربط القلوب بالله وإعانة العقول على أن تقوم بدورها في الحياة لالتقينا نحن وإياكم على البناء.
* كثيرا ما يكون النقد للتصويب فالإغراق في الخطاب الروحي غالبا ما يكون على حساب قضايا الأمة؟
-هذا عجيب يا سيدي.. أين الإغراق؟ الأمة تعاني أزمة روحية كبرى.. الأمة لم تتحول إلى الرهبانية حتى أقول إني أغرقتها في الروحانية.. الأمة تعاني من ظلم المادية الذي طغى على إنسانية كثير من أفرادها.. تعيش تفكك الأسر وتعيش في الظلم والغش والكذب والافتئات والسرقة والجبروت في تعامل الناس مع بعضها، وتركها للصلاة وتركها للآداب.. يعيش الأفراد في جفوة لأقرب من يتعامل معهم من البشر حتى صرنا نسمع عن قضايا العقوق التي تصل إلى حد قتل الآباء والأمهات.. الأمة تحتاج إلى رقي روحي، فنحن لم نصل إلى حد التشبع الروحي الذي يتكلمون عنه حتى نغلق هذا الكلام ونتحدث في أشياء أخرى.
* هذا الخطاب يمكن أن يتغير وفق العصر؟
- لن يتغير، إنه لا منتهى له ولأن أمتنا في حاجة إليه في كل العصور.
* أقصد هل نبني عليه؟
- بالطبع.. فهذا الخطاب مقدمة تنبني عليها باقي الخطابات.. فمثلا من يرتكب كبيرة الزنا هل يجهل أنها حرام؟ بالطبع لا.. إذن لا تنقصه حيثية علم، وهو لا يغفل أن الزنا يمكن أن يسبب له مرضا خطيرا، ويعلم أنه قد يفضح وتنزل منزلته بين الناس و.. و..، إذن فهو لا ينقصه طرح عقلي، ولكن ينقصه طرح روحي إيماني.. إن في باطنه الخوف من الله عز وجل، وإذا وصل ذلك لإنسانٍ تحول من ضعيف إلى قوي، ووجه القوة أنه يملك زمام نفسه .. ولو تأملت جميع مصائب الأمم لوجدت أن القاسم المشترك بينها هو ضعف الكثير من أفراد هذه الأمم أمام نزغات أنفسهم، فإذا أعان الله الإنسان على أن يملك زمام نفسه فهو الإنسان القوي الذي بمجرد أن ترقيه عقلا أو علما أعطيته.
على أن القول بأن خطابنا روحي مجرد غير مسلم به لأننا نعطي دروسا في الفقه للمبتدئين في فقه العبادات مثلا.. نحن لا نفرد الخطاب الروحي، وإذا أفردناه فليس بعيب.
أخذ أم إضافة؟ وتكامل أم صراع؟
هذا ما أردت معرفته فيما يخص علاقة هذا التيار الدعوي الجديد بالمرجعيات والمؤسسات الإسلامية الكبيرة والمستقرة في العالم الإسلامي، خاصة أن البعض يرى أنها ربما حلت بديلا عنها، أو أخذت بعضا مما كان لها في نفوس الناس ووعيهم فما الحقيقة؟
* الملاحظ على رموز هذه الدعوة أنهم ليسوا من أبناء المؤسسات الدينية.. فهم مثلا ليسوا من خريجي الأزهر الشريف، ولا من القرويين، ولا غيرهما من المؤسسات والمعاهد الدينية، وبعضهم ليس متخصصا بالمرة في الأمور الشرعية؟
- هذا السؤال ذو شقين.. الأول يتعلق بالشخص المتكلم الفقير إلى الله .. أنا تتلمذت في مدرسة دينية وهى مدرسة حضرموت من أرض اليمن.. وهي المدرسة التي خرجت الكثير من الدعاة (الشوافع) السنيين الذين أحسنوا التعامل مع مختلف الطوائف والذين على أيديهم انتشر الإسلام في جنوب شرق أسيا وفى شرق إفريقيا.. (فهو) امتداد لدعوة لها ألف سنة تعمل بالأمة، والذين دخلوا الإسلام على أيدي أئمتها وعلمائها أكثر من الذين دخلوا الإسلام أيام الفتوحات والقتال في عهد الصحابة.. وإندونيسيا وحدها شاهدة على ذلك.. وأنا امتداد لهذه المدرسة وخادم للمشايخ والعلماء الذين تتلمذت عليهم.. هذا بالنسبة للذي يسأل.
أما الشق الثاني الخاص ببقية الإخوة الدعاة فلا يفترض في الداعية أن يكون عالما، ولكن يفترض في المفتي فقط أن يكون عالما.. وكل مسلم هو داعية إلى الله؛ لكن لا يتخصص في مسألة من المسائل الدينية التي يحتاج فيها إلى تأهيل علني إلا بعد أن يتأهل.. فإذا جاء إنسان -مثلا-ودخل مناظرة بين الأديان وهو لم يتأهل لذلك ولم يدرس كتب الأديان الأخرى وردود أهل الفقه عليهم، يكون قد أقحم نفسه في غير مكانه .. وهكذا. لكن الدعوة العامة بتقريب القلوب إلى الله هي واجب على كل مسلم.. فإذا ادعى من يقوم بالدعوة العامة ولم يعرف عنه العلم الشرعي أو انتمائه لمدرسة شرعية، أو إذا تدخل في الفتوى فلابد أن نقول له توقف.. مثلا: الأخ عمرو خالد قال: عندي ثوابت.. لا أفتي، لا أتكلم في السياسة ولا في الطائفية؛ فهذا الرجل رسم لنفسه منهجا، فإذا سمعناه أفتى نقول له في هذه الحالة: لقد أخطأت.. لكن إذا تخصص وأفتى أقول له بارك الله فيك.
* هل لك أن تعرفنا على المدرسة التي تنتمي إليها وتمثل امتدادا لها؟
- هي مدرسة أهل السنة والجماعة نشأت في حضرموت منذ ألف سنة تقريبا.. وبدأت في التأسيس عندما وصل الإمام أحمد بن عيسى المهاجر من علماء أهل البيت السنيين إلى وادي حضرموت ونشر فيه منهج أهل السنة والجماعة، وكان في كثير من قراها مناهج أخرى للحكمة والموعظة الحسنة، وبرز من تلاميذه وذريته الشافعية محدثون وعلماء ومربون مزكون للأنفس، ثم بعد ذلك انتقلوا من حضرموت اليمن إلى عدد من الدول الأخرى.. فدخل جنوب الهند على أيديهم في الإسلام؛ لذلك فجنوب الهند شافعية مستثناة من بقية أهل الهند الأحناف.. ودخل الإسلام على أيديهم إلى سيريلانكا وإندونيسيا وماليزيا وسنغافورة وإلى الصين وفى شرق أفريقيا.. ولم ينشغلوا بحاضرة الإسلام مثل مصر والعراق وسوريا والشام لكونها أماكن غنية فيها من يغنيها من العلماء.. لكنهم أقاموا علاقات وأواصر قوية مع علماء هذه المناطق توجد في أسانيدنا، فإذا رويت روايتي عن البخاري أو مسلم، أو في روايات بعض كتب الحديث أو الفقه، أجد في سندي أئمة أكابر من الأزهر ومن الشام والحجاز، وغيرها من حواضر الإسلام.
* البعض يرى أن جيلكم من الدعاة أخذ شيئا من ثقل وقوة المرجعيات الإسلامية والمؤسسات الدينية مثل الأزهر، وأصبح خطابه أكثر جاذبية وتأثيرا، وأنه تحول من دور الدعوة إلى تصدر الإفتاء والتوجيه، فما رأيك؟
- تصدر الإفتاء لم يحدث، وإذا حدث فينبغي أن يقوم.. أما نقل الفتوى فنعم.. نحن ننقل عن العلماء، لكن لا نستنبط ولا ندعي ذلك، وغير صحيح القول بضعف الصلات بيننا وبين المرجعيات في العالم الإسلامي؛ فهناك صلات قوية مع المرجعيات؛ فحين كنت في مصر تشرفت بزيارة شيخ الأزهر الذي رحب بي وأشاد بأسلوبي ومنهجي، ورحب بي وكيل الأزهر ورئيس جامعة الأزهر، وأيدوا الأسلوب الشيق الذي ألقي به، وزرت كبار علماء الشام الذين لا أصلح للجلوس عند أقدامهم، وأخجلوني من شدة فرحهم بي وترحيبهم بمن هو دون مرتبة الجلوس إليهم، وفى الحجاز تربطني صلات طيبة بعلمائهم وبمحدث الحجاز الشيخ محمد بن علوي بن عباس المالكي وكذلك في المملكة العربية السعودية .. وفي كل مكان وجدت الصلات بيننا قوية .. أما مسألة الإفتاء فحين كنت في مصر وصلتني أسئلة كثيرة من باب الفتوى أحلتها إلى أهل الفتوى، وفى الشام أحلتها إلى مفتي دمشق، فهناك تواصل أراه دائما مع علماء الأزهر والشام والحجاز؛ أزورهم ويزوروننا، فنحن لسنا نشازا ولا شذوذا على أهل العلم.
* وبرأيك: لماذا ضعفت الاستجابة لعلماء هذه المؤسسات في حين استجيب للدعاة الجدد والخطاب الجديد؟
- لا أرى أن هذه المقارنة صحيحة لأن الاستفادة من هذه المؤسسات تكون في ثلاث نقاط: مهمة مرجعية، ومهمة تعليم، ومهمة فتوى.
المرجعية لا يزال الرجوع إليها، وفي التعليم فإن أماكن التدريس بها من مدارس وجامعات مليئة لم تفرغ، أما الفتوى فلا يزال الناس تستفتيها.
أما ما يمكن أن يقال إنه صحيح من تهميش المرجعية، فينبغي ألا نوجه أصابع الاتهام إلى من انبثقوا من هذه المرجعية، فخطابنا انبثق منها ويرجع إليها.. أصابع الاتهام يجب أن توجه إلى الذين جعلوا وسائل الإعلام تسخر من العلماء وتحول عالم الأزهر الذي يرتدي الجبة والعمامة وسيلة للنكتة، وإلى الذين تعمدوا تجنيب أو عزل العلماء المؤثرين الذين إذا صعد أحدهم على منبر الأزهر هز هذا المنبر.. وإلى الذين أوجدوا انفصالا بين وسائل الإعلام وبين المؤثرين من هذه المؤسسات.. وإلى الذين أوصلوا الفرد المسلم -وأقولها بمرارة- إلى أن يستحل بدون خوف من الله عز وجل أن يتكلم على داعية أو على نص في كتاب أو سنة.
وليس هذا الكلام للتنصل من التقصير فالتقصير حاصل، ولكنه في طريقه إلى التمام.
أيهما يستفيد من الآخر "أو يستغله" الدعاة الجدد أم الفضائيات؟ فلم يعرف الدعاة الجدد إلا بالفضائيات التي حملتهم إلى كل بيت وقلب في عالم واسع فحازوا ما لم ينله أعلام الفقهاء والمجددين في عصور مضت بغير فضائيات فهل صنعتهم الفضائيات أم صنعوا نجاحها؟ وهل أوصلتهم للناس أم أوصلوها لقلوبهم وجيوبهم أيضا؟
* ألا ترى أن الحضور الإعلامي الكثيف للدعاة الجدد الآن صار معه الإعلام أقرب إلى أن يكون مرجعية لدى الناس؟ كما يحدث في فكرة الهاتف الإسلامي أن يحتاج الشخص إلى فتوى فيرفع السماعة ليجدها بعيدا عن أي علاقة بالعلم والعلماء؟
- هذا الكلام الذي تقوله صحيح وهذا يحتاج إلى إيجاد توازن بين الخطاب التربوي العام التجريبي وبين الخطاب المتعلق بالفتوى والتعليم.. السؤال كيف يقيّم العالم الذي يصعد لوسيلة الإعلام؟
لا يوجد لدينا منهجية إعلامية في العالم الإسلامي تحدد من يبرز في وسائل الإعلام كمرجعية.. لا توجد إلا في بعض الضوابط الأمنية!
كما أن بيت الفتوى يعاني من أزمة كبيرة في العالم الإسلامي، أزمة داخلية تتعلق بداخل بيت الفتوى وأزمة خارجية تتعلق بالمسلمين الذين يحيطون ببيت الفتوى في العالم الإسلامي.
أما الأزمة الداخلية فتتعلق بضوابط تصدي طالب العلم أو العالم للفتوى، كانت في السابق ترجع إلى الشيخ المفتي العالم الذي وصل من الاتساع في الفقه والمكنة والتحقيق إلى الحد الذي يتأهل به للفتوى ويؤهل من يليه.. فكان التأهيل بتلق وأخذ، وبارتباط وتحقيق، فأصبح الآن محالا إلى المنهجية الأكاديمية في تعليم الشريعة ..وهذه المنهجية ليست سيئة كرافد ولكنها غاية في السوء كبديل لمسألة التلقي والأخذ من المشايخ والسند المتصل. والمذهبية والاجتهاد أصابهما شيء من الاهتزاز بسبب الصراع الذي دار بين المتمردين على المذاهب وبين المتعصبين لها والمسلك الوسط إقامة المذهبية بضوابطها الصحيحة، وأيضا النظر إلى مستجدات العصر ومتطلباته ما بين مستجدات ومتغيرات لها أثر في الحكم، فالحكم لا يقوم على نص فقط ولكن على متغير في الواقع.. مستجدات أخرى لا تتعلق بها وهى إعادة النظر في أحكام صار الناس يطالبون بأن يعيدوا النظر في أحكامهم فنحن نسمع بمرجعيات كبيرة في العالم الإسلامي تصدر فتوى قبل 5 سنوات بتحريم أمر ثم لم يتغير شيء من معطيات تحريمه فإذا بها تصدر فتوى أخرى بإباحته! فما الذي حدث؟ وما الذي تغير في بيت الفتوى؟ هناك أيدي تحاول أن تطوع بيت الفتوى.
أيضا هناك أزمة خارجية في فهم المسلم -سواء أكان عاميا أو مثقفا؛ غنيا أو فقيرا ..الكل نظرتهم للفتوى لم تعد مثلما كانت. فقديما كنت آخذ الفتوى لأقيم بها وضعي والآن آخذ الفتوى لأبرر بها وضعي! فالمصيبة لا تقتصر على ناحية فقهية بل المصيبة هي عجز الأمة على أن تنتقد وضع الواقع الذي تعيشه.
* وكيف تقيم علاقة الإعلام بالدعاة الجدد؟
- هناك تقدم حسن في وسائل الإعلام.. فقد بدأت تعطي مساحة أكبر للطرح الديني وبدأنا نشعر بتجاوب الناس وبدأت تتسع دائرة الطرح الديني، والإشكال لا يتعلق بالجانب الدعوي في الإعلام ولكن في الجانب التشريعي في الإعلام؛ فلا أرضى أن أجلس مجلس فتوى في وسائل الإعلام.. وعرض عليّ ذلك فرفضت حتى وإن كنت درست في الفقه لكني لا أرى نفسي مفتيا أجلس على كرسي الإفتاء، إذن هناك جانبان في الإعلام: جانب دعوي تربوي وروحي وهو بدأ يشق طريقه وبإذن الله يتجاوز باقي العقبات. وجانب تشريعي وهو الذي يحتاج الإعلام إلى أن يتدارك نفسه فيه وأن يرجع إلى مرجعية صحيحة به وأن يرجع إلى من يفتي .. وقد شاهدت أستاذنا الشيخ علي جمعه أستاذ أصول الفقه في الأزهر الشريف بدأ يأخذ كرسيه في بعض وسائل الإعلام ليجيب على الفتاوى، هذا الشيخ نستمع إليه ونحن مطمئنون.. هو ليس معصوم ولكنه عالم ومتخصص.. كذلك د.أحمد بن عبد العزيز الحداد كبير مفتيين في أوقاف دبي رأيته يتصدر للدعوة في بعض وسائل الإعلام هذه خطوات إيجابية يجب أن تمنهج وتحول إلى مسلك بعد ذلك .
* لكن هناك من يرى أن وسائل الإعلام حولت هؤلاء الدعاة والمشايخ إلى "سوبر ستار" قيمتهم في قدرتهم على الجذب أكثر من العطاء؟
- هناك مشكلة أخرى كبيرة وصميمة، وهي فهمنا لعمل الإعلام؛ فليست وظيفته تلميع نجوم في أي مجال من المجالات وكون الإعلام جعل هذه وظيفته فهو فاشل وإن أبرز نجاحا في بعض مراحله.. ولكن واجبه تشكيل وبناء النفس الإنسانية فإذا ولي الإعلام من يراعي حق الأمانة كان سببا في اهتداء أمة.. وإذا ولي الإعلام من لا يراعي حق الأمانة فهنا تأتي الكارثة في الأمة .. فليست مهمة الإعلام إبراز نجوم حتى نجعل القضية هل أبرزت نجوما أم لا؟ أم حولت العلماء إلى نجوم أم لا؟ بل المهمة الرئيسة للإعلام هي تشكيل عقول وفكر الأمة وبناء النفوس فإذا اقتضى بناء الأمة إبراز من ينفع الأمة.. إبرازا وليس تلميعا، فالإبراز وضع الشيء في محله، وأستغرب أن أحدا لم يعلق بذلك على إبراز نجوم الغناء كالذي تقوله على علماء الدين، بالرغم من أن كثير منهم -وليس كلهم- لا يصلحون أن يكونوا فنانين حتى بالمقاييس الموسيقية!
* أقصد أن الفضائيات صارت تقدم الدعاة الجدد أشبه بنجوم الـ Talk show في الشكل وطريقة التقديم، فهل تعتبر ذلك نوعا من تحبيب الناس في هذا الداعي أم إنها تدخل ضمن صناعة الإعلام؟
- إن اجتذاب المشاهد في برامج لا تمس كرامة الإنسان ودينه فهذا ليس بخطأ، ولكن المهم في قلب الذي يتكلم أو الذي "يبرز" ألا يعيش حالة التفكير في كيفية اجتذاب الآخرين؛ لأن هذا ضعف في النفس البشرية يحوله لمشتغل بجذب الناس إليه، بدلا من أن يشتغل بجذب الناس إلى الله سبحانه وتعالى فيتحول دون أن يشعر من داعي لله إلى داعي لنفسه.. لا بد لمن يحاول أن يخدم في هذا الجانب أن يكون ذلك على نحو لا يمس احترام العالم أو توقير العلم أو الآداب والأحكام الإسلامية، فمثلا لا أعرض صورة لفتاة تبرز مفاتنها حتى أقول إني أستطيع أن أخاطب هذه الفتاة وأمثالها فهذا خطأ لأن الشريعة لا تقره.. وفي نفس الوقت ليس من العيب أن يكون في المجلس وفى طريقة طرحه ما يستطيع أن يخاطب أمثالها لأن هذه وسيلة رائجة في الدعوة المهم أن تكون منضبطة بضابط الشريعة .. وقد رأى أكثر من علم من أعلام الأمة أن عظمة منهجنا في أنه يستطيع أن يتعامل مع كل الوسائل والمتغيرات لكن لا يتأثر بها .. ميكافيلى يقول "الغاية تبرر الوسيلة" ولكن شيخي الحبيب أبو بكر بن علي المشهور يقول: "نحن لا نقول الغاية تبرر الوسيلة ولكن نقول الغاية تقرر الوسيلة" فإذا ارتضينا أن الغاية تقرر الوسيلة استطعنا أن نجمع بين أمرين، القضاء على الأثر الموروث التقليدي وبين الاستفادة من الوسائل التي أتاحها الله لأهل العصر وهى الوسيلة، فلا أرى أن الداعية يحتاج إلى أن يخلع جلبابه وعمامته حتى يؤثر، وكذلك لا يحرم عليه الدعوة بالبذلة لكن انشغال الناس بهذا الأمر هو المشكلة فنكون مثل جحا وولده وقصتهما مع الحمار؛ فإذا نظر الناس إلى الأخ عمرو خالد وغيره من الذين يلبسون البذلات والكرافتة ولا يرتدون الجبة والعمة يقولون: ما هذا؟! .. دعاة آخر زمن! دعاة talk show ! وإذا نظروا إلى المتكلم (الحبيب الجفري) بجبته وعمامته في الكلام قالوا: ما هذا التخلف؟! جاءنا من القرون الوسطى! يلبس هذه الثياب ليجذب أنظار الناس ليدجل عليهم! فما المطلوب؟!
إذا عشنا هذه العقلية في طريقة الدعوة وفى أداء مهمتنا فلن تقوم الأمة.. شق طريقك طالما أنك لم تقطع صلتك بالأصل؛ بسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام.. وطالما أن الشريعة تبيح لك فقم واعمل ولا تبالي بمن ينتقدون.. اشتغل واعمل ولن يوقفك أحد من هؤلاء المنتقدين.
*وكيف ترى الاستغلال الإعلامي لنجومية هؤلاء الدعاة؟ هناك الآن سوق إعلامي رائج يعتمد عليهم ، حتى إن قناة فضائية مسيحية تبث حلقات وبرامج لواحد من هؤلاء الدعاة لتحقق رواجا ؟
- أعجب ممن ينادى بالتعايش بين المسلمين والمسيحيين وممن يقول إنه ينبغي الاستفادة من هذه الوسائل ولا نقول إن الذي اخترعها كفار ثم يغضب بعد ذلك إذا رأى من يستخدمها لإيصال الدعوة إلى عقول وقلوب الشباب ، ولا أدرى ما الهدف من هذا النقد؟ فمثلا إذا ظهر الداعية في قناة مثل اقرأ قالوا ظهر في قناة متعجرفة ودينية فمن سيسمعه بعد أن حصر نفسه في هذه القناة! وإن ظهر في أخرى مسيحية أو شيعية أو.. أيا كانت قالوا: ما هذا؟! هذا ليس له مبدأ!.. ماذا تريدون؟... هي نفس قصة حمار جحا.. الأمر كما قلت لك الغاية تقرر الوسيلة فلينظر ما هي الغاية؟ هل هي إيصال الدين؟ وهل يجوز أن أوصله على منبر غير مسلم؟.. أقول: نعم إذا لم يتدخل في المنهج. فلم لا، طالما أنها تصل، فالرسول عليه الصلاة والسلام كان يدعو، بل ويصلي، في الكعبة بين الأصنام!
من بلد واحد يخرج الحبيب الجفري وأسامة بن لادن ويحمل كل منهما خطابا على النقيض من الآخر وإن كانا يشتركان في القدرة على التأثير عالميا وإن احتفظ كلاهما بخصوصية ونمط تأثيره.. فأيهما يحتاجه العالم؟ هذا ما ختمت به حوارنا...
* تحدثت كثيرا عن بلدك حضرموت.. أليس غريبا أن يخرج من هذه المنطقة خطابان متناقضان: خطاب الحبيب الجفري وخطاب أسامة بن لادن؟
- حضرموت لم تبرز خطاب أسامة بن لادن.. نعم أجداده من حضرموت ولكن حضرموت لم تبرز خطابه لأنه لا يرجع في مرجعيته العلمية إلى هذه المدرسة. أسامة بن لادن لا أمدحه ولا أذمه ولكن نحلل من أين جاء منهجه، والشيوخ الذين انتمى إليهم وتعلم منهم أو اتخذهم مستشارين معروفون، ولم يكن أحد منهم من مدرسة ولا من علماء حضرموت، فالرجل لم يدخل البلد إلا مرة واحدة ودرس على يد مشايخ في دولة أخرى. أما كون أبيه من حضرموت وأن اسمه حضرموتي فهذا شيء آخر، أما فكره فلم ينطلق من حضرموت. على أن حضرموت لها تاريخ ناصع في الجهاد الإسلامي، فالذين قادوا الجهاد الإسلامي في إندونيسيا ضد البرتغال والهولنديين وهزموا الأسطول البرتغالي في ساحل حضرموت هم علماء حضرموت، فهم ليسوا أهل الخنوع الذين لم يقوموا بواجب الجهاد، لكن أيضا لهم ضوابط في فهم حقيقة الجهاد.
* البعض يرى أنه ثمة انتقادات فيما يخص تغليبك الجانب الروحي بما دفع بدعوتك إلى مغالطات صوفية ينتقدها أهل السنة؟ يقصدون بدع التصوف كالتوسل مثلا؟
- أولا السواد الأعظم من علماء أهل السنة والجماعة يجيز التوسل، ومن لم يصدق فليستقرئ، وحتى الشيخ ابن تيمية الذي يرجع إليه من ينتقد التوسل ذكر أنها لا تجوز وذكر مرة أن أكثر العلماء أجازوها ومرة أنها ليست حراما ولا حلالا لأنها ليست في العقيدة.
لكن جعل التوسل مظهرا من مظاهر الخروج على أهل السنة والجماعة هذا هو البدعة، لأنك إن قرأت شرح ابن حجر العسقلاني للبخاري ومسلم وللأئمة الأربعة فالتوسل لديهم مسلك محمود. لكن أجرد لك مفهومي وماذا تقصد بالتصوف؟
هناك مفهومان: المفهوم الصحيح، وهو الذي كان يسير عليه الحافظ الذهبي في سير أعلام النبلاء، فحين يريد أن يمتدح أحدا من أهل العلم والنبلاء قال "الصوفي"، وهو أن التصوف علم من علوم الشرع الإسلامية يعنى بصلاح القلوب كما أن الفقه علم من العلوم الإسلامية يعنى بتبيين الحلال والحرام كما أن التوحيد علم من علوم الشريعة الإسلامية يعنى بشئون العقيدة.. إذا كان هذا هو المقصود فلا عاقل ينكره بل أسال الله أن أكون من هؤلاء.
وإذا كان المقصود هو الشائع اليوم في الأذهان من البدع والمغالطات والمخالفات القائمة وما يفعله بعض النساء والرجال والمخالطة بينهم بنحو لا يقره الشرع وبعض التصرفات الخاطئة التي عرضتها بعض وسائل الإعلام مثل المهزلة التي عرضها برنامج "قبل أن تحاسبوا" في حلقتي التصوف يقدمون مفهوما خاطئا عن التصوف والذي يشارك في وضعه بعض الدعاة جعل الناس تنظر إلى التصوف بهذه النظرة، أنا لا أستحيي أن أقول مشايخي لهم مسلك في الصوفية بل أدعو الله أن أسلك هذا المسلك، ولا توجد حركة فعالة إسلامية لها دور في البناء في العالم الإسلامي إلا والصوفية لها دور فيها؛ فالدعوة والتبليغ مؤسسوها من الصوفية، والإخوان المسلمون مؤسسها حسن البنا دعوته سنية صوفية، فلن تجد حركة إسلامية استطاعت أن تخلف أثرا في العصر الحديث إلا كان لها صلة بالصوفية. وحتى عهد قريب إلى حسن البنا وإلياس الكاندهلوي كان التصوف معناه إصلاح القلب وتصحيح المعاملة مع الله وضبط المعاملات الإنسانية بضابط الشريعة.. فكيف في فترة قصيرة وبوسائل الإعلام ولعبة سياسية صار ينظر لهذا الأمر على أنه منكر؟ الأمر يحتاج لإعادة النظر!
* إذا كانت هذه الدعوة ليست إلا دعوى دينية إصلاحية؛ فلماذا تتخوف منها الدول والأنظمة؟
- ما رأيت نظاما يتخوف منها، فحتى الذين طلبوا منا المغادرة في مصر قالوا: لا تحفظات عليك كمنهج، الدعوة ليست بها ما يخيف. أحيانا الظروف التي تمر بها الأمة والأولويات في نظر بعض الأنظمة في العالم الإسلامي بكثرة الأحداث وتتابعها، حتى فقد الكثير منها القدرة على استقصاء ما يدور، وجد بسببها هذا النوع من التصرفات، إلا إنني أتوقع أن المرحلة المقبلة ستنضج القرار في العالم الإسلامي والقرار الذي لا ينضج لن يكتب له البقاء.
* بعد الصدام الذي انتهجته وتسببت فيه بعض حركات الإسلام السياسي التي انتهجت نهج العنف مع الغرب، هل تعتقد أن الخطاب الجديد سوف يستطيع الحديث مع هذا الغرب؟
- هذا الخطاب هو الأصل فيمكن أن نسميه خطاب تجديد وليس بجديد فهو الأصل والأقرب للفطرة إلى سلامة الخطاب الإسلامي وتجد القلوب تنفتح له.. حدثت أحداث سبتمبر وأنا هناك، وفى نفس اليوم كنت في فرجينيا متوجها إلى نيويورك ومررت بالبنتاجون قبل أن يضرب بساعة إلا ربع؛ فلما وجدت المطارات أغلقت عدت ثانية إلى منزلي وشاهدت ذيل الطائرة وهو يحترق.
التوتر الذي حصل لم يحل بين المتكلم (الحبيب) وبين أن يوصل خطابه.. ففي اليوم الذي سافرت فيه جاءني شاب أمه بوذية وهو مسلم ومعه شاب من أصول فيتنامية وأخته كاثوليكية وصاحبته يهودية وهو متحير، والحمد لله بعد ساعتين من التحدث نطق الرجل الشهادتين.
العالم الآن متهيئ لخطاب إسلامي بألسنتنا وبأعمالنا؛ فمثلا أن يقوم مسلم بسرقة أموال من أمريكا قبل مغادرتها ويقول هذا مال كفار حلال.. هذا سلوك يتنافى مع الإسلام، نحن نحتاج بل يجب أن نخرج من مرحلة الانهزامية في الصراع، فنحن في مرحلة خنوع واستسلام أو عنف بغير ضوابط، لا بد أن نتحول من أرض تفاعل مع ما يحدث إلى فاعلين في أراضيهم لا بالقتل والدمار ولكن بأداء مهمتنا الأصلية وهي الدعوة إلى الله.