أي مستقبل للتقارب بين التيارين القومي الإسلامي : حوار مع المفكر الفلسطيني منير شفيق
صحفي وباحث مصري
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
حين انتهت أعمال الدورة السادسة للمؤتمر القومي الإسلامي التي عقدت مؤخرا في الدوحة باختيار الأستاذ والمفكر الفلسطيني الكبير منير شفيق منسقا عاما للمؤتمر كتبت أن هذا في حد ذاته مكسب لهذه الدورة إن لم ين أهم مكاسبها، وأن المؤتمر قد وفق إلي هذا الاختيار بما يفتح باب التفاؤل في مستقبل مشروعه الذي يعوّل علي أن يجمع بين أهم تيارين في الشارع العربي لقيادة الأمة في مواجهة تحدياتها الراهنة..بل وذهبت – ومازلت- إلي أن ما اجتمع للأستاذ منير شفيق جدير بأن يقود دفة هذا المؤتمر في لحظة تحد مصيرية له ولمشروعه وللأمة.
فالأستاذ منير شفيق هو من القلائل الذين يجمعون بين الفكر والحركة وله في كل ميدان منهما قدم راسخة، فقد بدأ وهو المولود سنة 1936 لأسرة مسيحية العمل السياسي ولم يزل ابن خمسة عشر عاما فالتحق مبكرا بالحزب الشيوعي الأردني الذي استمر فيه حتى عام 1965 ثم التحق بحركة فتح التي عمل مسئولا في إدارة الإعلام والعلاقات الخارجية فيها في الفترة من عام 1968 إلي عام 1971 ثم عمل في مركز التخطيط الفلسطيني التابع لمنظمة التحرير التي أصبح مديرا عاما له من عام 1978 إلي نهاية 1992 قبل أن يتفرغ للبحث والكتابة والتأليف.
ومثلما كان له قدم السبق في العمل السياسي والحركي كانت له إسهامات فكرية بالغة الأهمية دائما ما جاءت مواكبة لعمله السياسي والحركي، فكتب في فترة انتمائه الماركسي كتبه: الماركسية اللينينية والثورة الملحة، الماركسية اللينينية ونظرية الحزب الثوري، في علم الحرب..كما كتب: الوحدة العربية والتجزئة، وفي تناقضات الوضع العربي العام والفلسطينية بين النقد والتحطيم..ثم مر الأستاذ منير بتجربة الاهتداء للإسلام هوية وعقيدة وهي التي رصد جوانب كبيرة منها في كتابه" شهداء ومسيرة" الذي عرض فيه لتحولاته وعدد من أبناء جيله للإسلام..وفي هذه المرحلة أنتج الأستاذ منير أهم كتاباته ومنها : الإسلام في معركة الحضارة، والإسلام وتحديات الانحطاط المعاصر، ردود علي طروحات علمانية، بين النهوض والسقوط، قضايا التنمية والاستقلال، في نظريات التغيير، النظام الدولي الجديد وخيار المواجهة، شهداء ومسيرة، تجربة محمد علي الكبير وكان قد أهداني ونحن في المغرب قبل نحو العامين كتابه القيم ( تنمية إنسانية أم عولمة ) الذي شرّح فيه تقرير التنمية الإنسانية في العالم العربي منهجا وتطبيقا ..وأحسب أنه آخر ما صدر له من كتب.
ومثلما جمع بين الفكر والحركة يجمع منير شفيق في تكوينه ووعيه الفكري بين الفكرتين القومية والإسلامية دون أن ينازع أحد التيارين الرجل أو يحسبه علي تيار دون الآخر؛ فهو مجمع بحري العروبية والإسلامية ممسكا بناصيتيهما فلا يبارح أحدهما إلي الآخر، فالفكرة العروبية لدي المفكر الإسلامي منير شفيق حاضرة لكنها كمعطي ثقافي خال من شوائب العنصرية ، وهي أساس في وعيه بالمستقبل الذي لابد أن يتجاوز التجزئة القطرية التي تمزق عالمنا العربي إلي دولة الوحدة التي لن تكون هناك نهضة إلا بها.
إن اجتماع الفكر مع الحركة والعروبة مع الإسلام في شخص هذا الرجل جدير بأن يتجاوز بالمؤتمر القومي الإسلامي مشكلات ما برح يعانيها في أدائه وحركته التي كثيرا ما تتنازعها الرغبة في التوفيق بين التيارين أو حتى في نهاية كل دورة حين تتحول عملية انتخاب المنسق العام إلي ما يشبه قسمة غنائم الحرب أو توزيع التركات بين أنصار التيارين وممثليهما.فالرجل أكبر من أن يحتويه تيار منهما وهو مستقل تنظيميا بما يدفع عنه ليس شبهة الانحياز فحسب بل واحتمال أن تتداخل في شخصه موقعه التنظيمي مع وضعه في قيادة المؤتمر.
ومنذ انتهاء المؤتمر ( عقد 20-22 ديسمبر 2006) وأنا أحاول الوصول إلي لأطرح عليه بعضا من التساؤلات التي تشغل بالي وكثيرين مهتمين بقضية التقارب بين تياري العروبة والإسلام ومعنيين بنجاح تجربة المؤتمر القومي الإسلامي في هذا الصدد...ولما كان الرجل يصل الليل بالنهار ويجوب الأقطار من أجل إنجاح مهمته فقد تعذر لقاؤنا رغم التخطيط لذلك بل وتعذر حتى مجرد تواصلنا هاتفيا..فكتبت إليه بالبريد الشخصي ثم في مقالة نشرتها بعض الصحف ومواقع الإنترنت أطرح تساؤلاتي علي الرجل باعتباره المعني الأول بأن يقدم لنا تقييمه كشخص وتقييم المؤتمر لموضوعة التقارب العروبي الإسلامي منذ انطلاق المؤتمر القومي الإسلامي:
هل نجح المؤتمر في تحقيق ما تأسس من أجله؟ وإذا كانت الإجابة بنعم فما مظاهر هذا النجاح؟ وهل يمكن أن نقول أنه خط طريقا جديدا في طبيعة العلاقة بين التيارات الفكرية والسياسية الأساس في عالمنا العربي؟ هل يمكن القول بأن فكرة الحوار والتقارب القومي الإسلامي أوجدت لها تأثيرا داخل البناء الفكري والأيدلوجي داخل التيارين بحيث صرنا أو نوشك أن نصير بإزاء تيار ثالث يلتقي علي مجمع بحري القومية والإسلامية أم ما زالت أقرب إلي المظلة التنسيقية والمنتدي الحواري التفاهمي ؟
ثم هل أثرت عودة سؤال الاستقلال للواجهة مرة أخري بفعل الهجمة الاستعمارية الجديدة علي الوعي بالحاجة إلي تفعيل التقارب القومي الإسلامي باعتباره السؤال المركزي لدي التيار القومي ومعظم التيار الإسلامي؟ ولماذا كان اللقاء بين التيارين القومي والإسلامي وليس الإسلامي والليبرالي مثلا رغم أن سؤال الديمقراطية صار ملحا الآن لدي شعوب المنطقة كما لم يكن من قبل؟ وهل يفهم من ذلك أن حساسية عالمنا العربي تجاه مسألة الاستقلال أكثر بكثير منها تجاه الديمقراطية ومقاومة الاستبداد؟
ثم إذا عدنا إلي سؤال الديمقراطية وتصاعد المطالب الشعبية بها: هل تتوقع أن تتسع خارطة اهتمام المؤتمر القومي الإسلامي لتشمل قضاياها ؟ أم يمكن أن تتسع مظلته مستقبلا لتشمل من يمكن أن نعتبرهم القلب الوطني في التيار الليبرالي؟
وبما أن الرجل يقف لي ملتقي التيارين ويمسك في تكوينه الفكري وتاريخه النضالي بناصيتهما: فكيف يري تأثير الصعود الإسلامي علي معادلة التلاقي والتوافق القومي الإسلامي؟ هل سيؤدي إلي حساسية في التمثيل وتصور الأدوار وتقسيمها؟ وكيف كان أثره لدي كل تيار إيجابا وسلبا؟
وفيما يخص بنية المؤتمر نفسه فلن نتعب في تبين ضعف البنية والهيكلية ؛ فهل من خطط أو مشروعات لدعم هيكيلة المؤتمر ومأسستها ؟ أم أن الإمكانات لا تسمح؟ وكيف يمكن التغلب علي هذا التحدي؟
لقد بدا في الدورة الأخيرة أن ثمة اضطراب واضح في المقاربة التي يمكن أن يتبناها المؤتمر في القضايا التي يلتقي فيها الصراعات السياسية الداخلية مع مشروعات إقليمية ودولية كما هو الحال في العراق وأخيرا في لبنان..كيف يمكن أن يقارب المؤتمر مثل هذه الحالات التي يتداخل فيها الخاص بالعام والداخلي بالخارجي دون أن يفوت المؤتمر علي تفصيلات وقناعات يفترض أن تترك لأهل مكة الذين هم أدري بشعابها؟ وللتوضيح أعيد التمثيل بالحالة اللبنانية: فإذا كان التعاطف والتضامن مع حزب الله أثناء المواجهة مع الكيان الصهيوني فرض عين تمليه فكرة نصرة المقاومة فهل يمكن أن يستمر الموقف علي حاله بعدما فات الحزب في تفصيلات الداخل اللبناني وكاد يخرق حالة التوافق الطائفي فيها؟ ألا يؤدي ذلك إلي الإضرار بفكرة المقاومة نفسها حين تجير لمصلحة فريق يمكن أن يوظفها في حسابات سياسية ضيقة؟ وكيف يمكن التوفيق في هذه الحالة؟
وأسئلة أخري طرحتها علي الرجل فإذا به يهتم مشكورا وينتشل نفسه من دوامة انشغالاته ويرسل إلي بثلاث رسائل رقيقة ومهذبة تحمل اعتذارا وإجابات مفصلة عن كل ما تساءلت عنه وزيادة فكان هذا الحوار الذي أعاد فيه الرجل ترتيب الأسئلة وأجاب عنها كما في السطور التالية التي تحمل إجاباته بعد استبعاد الشخصي منها .
الرسالة الأولي: المؤتمر- النشأة والرسالة والهيكلة
الرسالة الثانية: لماذا التقارب القومي وليس الليبرالي الإسلامي
الرسالة الثالثة: التقارب القومي الإسلامي وخطر الاستقطاب والتوظيف
الرسالة الأولي: المؤتمر- النشأة والرسالة والهيكلة
سألتني: هل نجح المؤتمر القومي الإسلامي في تحقيق ما تأسس من أجله؟ وإذا كانت إجابتي- كما تتوقع – بنعم؛ فما مظاهر هذا النجاح؟
وللإجابة سأقول لك: انطلقت فكرة تأسيس المؤتمر القومي – الإسلامي من تقويم لمرحلة النصف الثاني من القرن العشرين في ما يتعلق بعلاقة التباين القومي والإسلامي وقد اتسمت بدرجة عالية من الصراع على المستويين الايديولوجي – النظري والسياسي – العملي .
فمن الناحية الإيديولوجية – النظرية غلبت على الفكر القومي العربي المرجعية العلمانية التي تفصل الدين عن الدولة، وإقامة البناء القومي المنشود وفقا لنموذج القوميات في الغرب أو الدولة – الأمة الموحدة ، وكان التأثر بالمرجعيات الفلسفية والمنهجية الماركسية والليبرالية والاشتراكية إلي جانب التأثر بالنموذج الهندي هو الغالب أيضا في الفكر القومي العربي, وكان الإسلام باعتباره هوية للأمة العربية وجزءاً من تعريفها أو باعتباره مرجعية نظرية، مستبعداً سواء كان في منهجه ونظرياته حول العدالة الاجتماعية أو الإنسان، أو الأخلاق والقيم ، أو الاقتصاد أو القوانين (السنن) الحاكمة لحركة المادة والطبيعة والكون، ولكن دون أن يصل الأمر لدى كثير من الاتجاهات القومية ، لا سيما الناصرية منها ، إلي مجافاة التدين ، وإن لم يصل البعض الآخر إلي حد الإلحاد، أو الأخذ بالفلسفة المادية في النظر إلي الإنسان والكون، وكان هناك من فعل ذلك .
وهذا بالطبع كان سببا لصراع أيدلوجي ونظري ومنهجي حاد جداً بين التيارين وقد تغذي، في الجهة المقابلة لدى الغالب في الفكر الإسلامي، من موقف ناقد عدائي لفكرة القومية والقفز إلي تجاهل العروبة والأمة العربية تحت دعوى الوحدة الإسلامية والهوية الإسلامية، والأمة الإسلامية فرفضت القومية العربية – العروبة من حيث أتي خصوصاً مع ما اتخذته من كسوة علمانية ومرجعيات غربية نظرية وفلسفية واقتصادية واجتماعية هذا ولم يلحظ بالعمق الكافي إشكالية الأمة العربية من زاوية التجزئة وتبعاتها المدمرة مما يجعل الوحدة العربية قضية إسلامية كما هي قضية قومية .
يجب أن ينوه هذا باب المواقف الإسلامي من العروبة أو القومية في مرحلة المنتصف الثاني من الخمسينات وفيما بعد لم يكن مطابقا لأطروحات الإمام حسن البنا في الثلاثينات والأربعينات وكان بعيدا من تقاليد رجال النهضة الذين ألفوا بين الإسلام والعروبة أيضا.
لقد دفعت الأبعاد الأيديولوجية والفلسفية والمنهجية في الخلاف بين التيارين القومي والإسلامي إلي حدودها القصوى تحت وطأة الصراع السياسي الذي انطلق من مصر بين النظام القومي الناصري والأخوان المسلمين والذي امتد ليأخذ صراعاً حاداً في كل من سوريا والعراق مع تسلم البعثيين والقوميين للسلطة .
بغض النظر عن أسباب هذا الصراع السياسي الذي أخذ شكل بين سلطة ضد قوى معارضة، وذلك بكل ما تملكه السلطة من قدرة ووسائل قمع وإقصاء إلي جانب البعد العربي في الإنقسام إلي ما سمي بالمحور التقدمي والمحور الرجعي وأبعادهما الدولية في صراعات الحرب الباردة، فإن معركة التنافي انتقلت من السياسة إلي المرجعية والنظرية فأصبح التعاون بين التيارين مرفوضاً من حيث المبدأ بغض النظر عن الخلاف السياسي أو الالتقاء السياسي .
وبالطبع لقد خسرت قوة التحرر العربي التي تضم داخلها القوى الوطنية والقومية والإسلامية واليسارية قدراً مهماً من قوتها وزخمها بسبب ما نشب من صراع سياسي – إيديولوجي بين التيارين واتخاذه شكل التنافي الإلغائي الاقصائي .
لو اقتصر الصراع على بعده السياسي لكانت معالجته في السياسة ولكن حين راح يتأسس على أسس عقدية وفلسفية ونظرية وإيديولوجية متنافية أصبح أعمق وغدا من الضروري أن يعالج عبر تلك الأسس أيضاً طبعاً يجب عدم التقليل من ذكريات استخدام السلطة للقهر ، وما يولده من جرامات لا يسهل لملمتها لأنها ستحمل في طياتها الشهداء والتعذيب وقضاء عشرات السنين في السجون .
مع نهاية الثمانينات كانت عدة متغيرات قد حدثت في الساحة العربية لا سيما مع وفاة الرئيس القومي جمال عبد الناصر ، والإطاحة بنهجه الوحدوي التحرري من قبل النظام الساداتي ، ثم انهيار الاتحاد السوفياتي الذي كان يشكل ركيزة للأنظمة القومية أما من الجهة الأخرى فقد أخذت صحوة إسلامية تتصاعد مع المنتصف الثاني لعقد السبعينات وقد دفعها بقوة إلي إمام في الثمانينات انتصار الثورة الإسلامية في إيران وانطلاق الجهاد في أفغانستان إلي جانب إرهاصات جهادية إسلامية في فلسطين .
هذه التغيرات أوجدت توازناً جديداً على مستوى القوى الشعبية بين التيارين من جهة ولكنها جاءت مصحوبة أيضاً بهجمة أميركية – إسرائيلية شرسة على البلاد العربية استهدفت القضاء على كل الإرث التحرري التاريخي للقومية العربية وللتيار الإسلامي من خلال نشر نظريات العولمة والاستسلام لواقع الهيمنة الأميركية المنفردة " على العالم " وسيادة التوحد نحو عقد الصلح والسلام مع الدولة العبرية ضمن الشروط الإسرائيلية الأمر الذي اشعر كلاً من التيارين القومي والإسلامي بالخطر عليهما وعلى الأمة العربة وقضيتها المركزية فلسطين .
ومن هنا تعززت الجهود التي بدأت بوادرها الأولى مع أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات بلقاءات استهدفت تصحيح العلاقات بين التيارين وقد ترجمت بندوة عقدت بإشراف مركز دراسات الوحدة العربية في القاهرة لبحث العلاقات بين التيارين فالهجمة الأمريكية الإسرائيلية على البلاد العربية ، بالخصوص في ظل الأجواء الانهزامية والاستسلامية التي سادت مع انهيار المعسكر الاشتراكي وانتهاء الحرب الباردة ، عجلت في ضرورة التقاء التيارين لمواجهتها والتصدي لها . وقد أسهم ذلك في تخطي جراحات الماضي ، وما حمله كل تيار إزاء الآخر من نقد سياسي وتحامل فكري نظري وإيديولوجي .
وهكذا ولد مشروع المؤتمر القومي – الإسلامي بروحية تضميد جراحات الماضي بعد مصارحة غلب عليها نهج النقد الذاتي من قبل المشاركين ولم يعد هناك من تحفظ مبدئي أو نظري أو إيديولوجي على التعاون والتنسيق والعمل المشترك وتوحيد الموقف السياسي إزاء التحديات أو إزاء تحديات مواجهة الاستبداد والفساد من دون وضعها على قدم المساواة ..وهكذا انعقد اتفاق ثابت في الموقف السياسي على دعم المقاومة والممانعة في الأمة ورفض التسويات المطروحة ومناهضة التطبيع مع العدد الصهيوني والمطالبة بإلغاء المعاهدات الموقعة أو التي يمكن أن توقع معه ، وذلك إلي جانب مناهضة العولمة والهيمنة والخصخصة المروضة من البنك الدولي وتأييد التنمية المستقلة ضمن إطار السوق العربية المشترك والتعاون والتكامل العربيين .
وباختصار : استهدف انطلاق المؤتمر القومي – الإسلامي إلي إسقاط كل تحفظ عن التعاون والتلاقي والتنسيق بين التيارين وهذا تحقق بالتأكيد ما عدا في حالات قليلة من داخل التيارين لا تمثل انجاز الأغلبية فيها . وسمتها رفض الإسلامي بسبب مرجعيته أو رفض القوى بسبب مرجعيته .
أما على المستوى السياسي فالاتفاق كان واسعاً جداً على أغلب القضايا السياسية والتحديات المطروحة بما في ذلك الخيار الديمقراطي وهو ما تعكسه قرارات المؤتمرات الستة التي عقدت حتى الآن وهذا تحقق أيضا وما زال قائما مما سيشكل قاعدة لإجماع وطني لنمط النظام التعددي الانتخابي في المستقبل وفقا لواقع كل قطر .
أما مستوى التعاون للمواجهة فقد تحكمت فيه عوامل تتعلق بخصوصية العلاقة بين الأحزاب والشخصيات السياسية في كل قطر . وعندما كان يتدنى أو ينعدم فلم يكن مرجع ذلك تحفظاً على مبدأ التعاون حتى البعد مدى ممكن ، وإنما لأسباب تخص التنافس الحزبي كما هو الحال داخل التيار الواحد . ولعل تجربة اليمن هي المثلى في هذا الصدد على المستوى القطري ، بالرغم من أن التنسيق بين التيارين على المستوى القطري يختلف الأقطار لم ينعدم لا سيما عند مواجهة القضايا العامة التي تواجه الأمة ككل مثل قضية فلسطين وقضايا المقاومة ومواجهة العدوان العسكري . صحيح أن الطموح ما زال أعلى مما تحقق على مستوى التعاون بين التيارين في القضايا القطرية كالانتخابات النيابية أو النقابية أو النشاطات الثقافية إلا أن ما تحقق عموماً لا سيما في النشاطات الثقافية والسياسية العامة حقق خطى إلي الأمام ، ولعل هذا ما يستحق أن يركز عليه في المرحلة القادمة من اجل تعميق عرى اللحمة بين التيارين كما أوصت المؤتمرات القومية – الإسلامية كافة وأخرها مؤتمر الدوحة .
أما كيف سيتحقق هذا وكيف يمكن تجسيد الثوابت والمنطلقات التي قام عليها المؤتمر القومي الإسلامي خصوصاً لدى الطلبة والشباب من الأجيال الصاعدة ، وكيف يمكن تحقيق الأهداف التي هي في جوهرها أهداف الأمة ؟ فهذه مسألة لا تحلها المؤسسة وحدها وإنما تتطلب مشاركة كل الأعضاء : أولاً ، في إبداء اقتراحاتهم ، وبصورة عملية ، قابلة للتنفيذ ، ثم ثانيا ، فيما يمكن أن تبذله المؤسسة المشكلة من المؤتمر ولجنة المتابعة واللجنة الإدارية والمنسق العام من جهد دؤوب لكن هذا يتطلب الاجابة عن السؤال إزاء كل هدف يراد تحقيقه ما العمل وكيف ومن أين نبدأ ومن يتولى المسئولية ؟
عندما تتأمل في مجموعة القرارات والتوصيات الصادرة عن المؤتمرات القومية الإسلامية الست تجد أمامك أهدافا ومهمات ومتطلبات لا يمكن تلبيتها إلا عبر جهود جماعية تتشكل على المستويين القطري والعربي ، ولا يمكن أن تتحقق عبر المنسق العام واللجنة الإدارية المتابعين للعمل اليومي أو اللجنة المتابعة التي تجتمع وفقا للنظام الداخلي وبسبب ضعف الإمكانات المالية مرة في السنة فقط . فلجنة المتابعة صاحبة الصلاحيات الأوسع الموكلة إليها من النظام الداخلي . فلجنة المتابعة صاحبة الصلاحيات الأوسع الموكلة إليها من النظام الداخلي يجب أن تجتمع مرة كل ثلاثة أو أربعة أشهر في الأقل إذا كانت ستتولى القيادة فعلاً بين المؤتمرين . واللجنة الإدارية يجب أن تجتمع مرة كل شهر في الأقل مع التواصل الدائم عبر الهاتف والانترنت واللقاءات الثنائية إذا أريد لها أن تقوم بدورها الموكول إليها من النظام الداخلي للمؤتمر . وعلى النسق العام أن يعمل مع فريق متسع أبداً من أعضاء المؤتمر إلي جانب لجنة المتابعة واللجنة الإدارية .
ولكي يتطور عمل المؤتمر القومي – الإسلامي تدريجيا وبخطي حثيثة ثابتة منتظمة ومواظبة لا بد من تطوير وسائط الاتصال والتفاعل بين أعضاء المؤتمر والمنسق العام واللجنة الإدارية وذلك من خلال التوسع في استخدام الانترنت والفاكس وتبادل الرسائل والاتصالات المباشرة ما أمكن سواء أكان في ما بين الأعضاء على مستوى القطر الواحد . وهنا لا بد من أن يلعب منسقو الساحات دوراً فاعلاً في ذلك حيث يمكن بلورة اقتراحات عملية على المستوى العربي تتولي لجنة من القطر مسؤولية متابعتها بالتعاون مع اللجنة الإدارية والمنسق العام
إن الفكرة وراء ما تقدم هي الانطلاق من أن جميع أعضاء المؤتمر من القيادات المجربة والتاريخية في ميادين الفكر والسياسة والنضال والعمل التنظيمي مما يسمح بتوزيع المهام على لجان قطرية وعلى المستوى العربي باستمرار بمشاركة أعضاء من لجنة المتابعة والتعاون مع اللجنة الإدارية والمنسق العام . وهذه اللجان القطرية تتولي مهام ذات طابع عربي بعيداً من همومها الخاصة القطرية تماماً لحال اللجنة المتابعة واللجنة الإدارية وإذا ووفق من قبل اللجنة الإدارية على هذه المحاولة ونالت نصيبا من النجاح أدخلت في النظام الداخلي وأصبحت جزءاً من تقاليد توزيع المهام والاقتراحات الصادرة عن المؤتمر قبل انفضاضه .
الرسالة الثانية: لماذا التقارب القومي- وليس الليبرالي- الإسلامي
سألتني هل يمكن القول أن فكرة الحوار والتقارب القومي الإسلامي أوجدت لها تأثيراً داخل البناء الفكري والإيديولوجي داخل التيارين بحيث صرنا أو نوشك بإزاء تيار ثالث يلتقي على مجمع بحري القومية والإسلامية؟ أما أنها ما زالت أقرب إلي المظلة التنسيقية والمنتدى الحواري التفاهمي ؟
وسأقول لك: إذا كان التقاء التيارين القومي والإسلامي قد أزال الكثير من العوائق أمام نظرة الإسلامي إلي القومي والقومي إلي الإسلامي كما إزال عدد من الحواجز من زاوية الموقف القومي من الإسلام هوية ومرجعية وعلاقة بالأمة العربية . والأمر كذلك من زاوية الموقف الإسلامي إزاء العروبة والقومية العربية والأمة العربية بلا تعارض مع الرؤية الإسلامية للأمة الإسلامية ، والأخوة الإسلامية بين الشعوب الإسلامية والمسلمين بعامة . وإذا كان كل من التيار القومي والتيار الإسلامي حافظاً في نفسه على خصوصية كل منهما ، ونظرته المتميزة إلي عدد من القضايا من بينها الحداثة والأصالة أو علاقة الدين بالدولة ، أو علاقة الدولة بالمجتمع أو الموقف من الفلسفات وأنماط الأنظمة السياسية والاجتماعية المختلفة ، أو الموقف من المرأة وقوانين الأحوال الشخصية أو قراءة التاريخ العربي الإسلامي أو التعاطي مع النص الإسلامي..
إذا كان الأمر كذلك فإنه سيظل قائما إلي أمد بعيد ، ولا ينتظر وما يجب أن يذوب تيار في الآخر ، أو يصبحا تياراً واحداً من كل الزوايا ، وان كان عملياً يمثلان تياراً واحداً في حدود ما اتفقا عليه من ثوابت ومواقف سياسية تحددت في ما صدر عن ا لمؤتمر القومي الإسلامي الأول من بيان تأسيس ومهام مرحلية ونظام داخلي فهما من هذه الزاوية تيار متعدد يجمع التيارين القومي والإسلامي ، أما أن يتشكل تيار إسلامي قومي أو قومي إسلامي من دون وضع " الشرطة " بين القومى والإسلامي كما هي مثبتة في كتابة الاسم : المؤتمر القومي – الإسلامي للدلالة على أنه مؤتمر يجمع تيارين متمايزين احدهما قومي والآخر إسلامي فهذا أمر ليس من أهداف المؤتمر ولا يقع على أجندته القريبة أو البعيدة ولكنه ممكن التشكل من داخله عبر أفراد قد يصوغون نظرية متماسكة حول تأسيس تيار إسلامي قومي ( إسلامي عروبي ) أو تأسيس تيار قومي إسلامي (قومي بمرجعية إسلامية) وإذا ما حدث ذلك فد يكون إضافة جديدة لتعزيز المؤتمر القومي الإسلامي وربما النضال النهضوي العربي بعامة , وذلك إذا قدر له أن يصبح تياراً شعبياً جماهيرياً عربيا ، أو تياراً فكريا مؤثراً في ميادين الفكر والثقافة والأدب والفن والمعرفة .
على كل أن اتساع رقعة الوطن العربي وتنامي أمة العرب والقبس في دول التجرئة والتأثر في هبوب الرياح الفكرية والايديولوجيه والمعرفة من جهات الكرة الأرضية الأربع فضلا عما تدرسه قوى الهيمنة العالية من نفوذ وتحكم في النظام العالمي وتدخل في الشؤون الداخلية ، وذلك في ظل اختلال موازين قوى في مصلحة الدول الغربية عسكريا وسياسيا واقتصاديا ، وعلى المستويين العالمي والإقليمي العربي – الإسلامي ، يجعل (كل ما تقدم) طريق النهضة متعرجا متعدداً يعج بالتيارات الفكرية والسياسية والمحاولات المختلفة .
الأمر الذي يرجع أن تأتي النهضة العربية كما النهضة الإسلامية بعامة محصلة لتضافر جهود كثيرة متناسقة ومتنافرة وربما متضاربة أو متقاطعة أو متقطعة ، وذلك عبر عملية تاريخية قد تستغرق اجيالا قادمة كما استغرقت اجيالاً سابقة منذ طرحت قضايا النهضة والنهوض والتحرر والوحدة ، وجسر الفجوة بيننا وبين الغرب بإبعادها المختلفة وميادينها المتنوعة .
وهذا ما يفترض من جيلنا الراهن والأجيال الناشئة اللاحقة بنا ، أن ننمي الروح الجهودية لكي نجمع المتعددين من التيارات التي تستهدف الدفاع عن الأمة في وجه ما تتعرض له من عدوان وتمزيق وإعادة هيمنة عليها وعلى مقدارتها ومستقبلها ، إلي جانب القوى التي تستهدف أن تضع كتفا لحمل أعباء النهوض المتدرجة .
هذه النظرة الإستراتيجية إلي كبرى إشكاليات نهضة أمة العرب كما نهضة الأمة الإسلامية (محتوى كلمة أمة ليس واحداً في الاستخدامين) فهم من خلالها طبيعة العلاقة الضرورية بين التيارين القومي – والإسلامي في هذه المرحلة من تاريخنا .
واحسب أن المعارك والمواجهات وألوان المقاومات والممانعات على طول البلاد العربية وعرضها ولا سيما المناطق التي تخوض مقاومات مسلحة ضد احتلال عسكري أو عدوان عسكري كما هو الحال في فلسطين ولبنان والعراق ، أو الممانعات كما هو الحال في كل البلاد العربية ضد فرض الشرق أوسطية الأميركية – الإسرائيلية – تنخرط جميعاً في عملية نهوض الأمة وتشكل مرحلة من مراحل مسيرتها أو سيرورتها التاريخية .
أما سؤالك لماذا كان اللقاء بين التيارين القومي والإسلامي وليس الإسلامي والليبرالي مثلا رغم أن سؤال الديمقراطية أصبح ملحاً الآن لدى شعوب المنطقة كما لم يكن من قبل ، وهل يفهم من ذلك أن حساسية عالمنا العربي تجاه مسألة الاستقلال أكثر بكثير منها تجاه الديمقراطية ومقاومة الاستبداد؟
فإجابتي أن اللقاء بين التيارين القومي والإسلامي كان باعتبارها التيارين الرئيسيين المنضالين من أجل تحرير الأمة العربية ووحدتها ونهضتها وقد جاء المؤتمر القومي – الإسلامي الأول في تعداده لنقاط التلاقي بين التيارين في تحديد الأهداف والمهام المرحلية مجيباً عن القسم الأول من السؤال .
أما القسم الثاني المتعلق بما اعتبره السؤال التيار الليبرالي رابطا بينه وبين الديمقراطية فيما الربط الرئيسي هو بينه وبين العولمة والموقف المتنامي نظرياً مع الهيمنة الأمريكية ودعوته للتسوية للقضية الفلسطينية ضمن حدود الرؤية الغربية ، فضلاً تبنيه لأطروحات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي فيما يتعلق بالخوصصة ( أو الخصصة) وأطروحاتهما الوهمية حول "الحكم الصالح" و"الشفافية "والإصلاح" ثم أن التيار الليبرالي اتخذ موقفا سلبيا أن لم يكون معاديا للمقاومات في فلسطين ولبنان واليوم في العراق الأمر الذي يتناقض مع كل من التيارين القومي والإسلامي .
أما موضوع الديمقراطية فمن الظلم اعتباره الداعي لها أكثر من التيارات القومية والإسلامية . وقد تثبت هذا الجانب محاربة الفساد والاستبداد والدعوة والنضال من اجل الديمقراطية في ثوابت المؤتمر القومي الإسلامي ويكفي أن نلاحظ غربة الخط الليبرالي اتخذ موقفا سلبيا أن لم يكن معاديا للمقاومات في فلسطين ولبنان واليوم في العراق . الأمر الذي يتناقض مع كل من التيارين القومي والإسلامي .
ويكفي أن نلاحظ غربة الخط الليبرالي (يصعب أن اسميه تياراً في الأمة لأنه أن جازت تسمية تيار فهو تيار على الأمة من خارجها أو في ظلال مستبدليها) أو في الأصح غياب وجوده في كل انتخابات أو شبه انتخابات حصلت في التجربة القطرية العربية ، فيها أثبتت التجارب الانتخابية أن التيار القومي-والإسلامي (وإن من خلال التنظيمات المحلية الإسلامية) هو صاحب المصلحة الأكبر في الديمقراطية ومن ثم هو الداعية الأشد والأكثر جدية في زرعها على الأرض العربية طبعا يستثني لبنان إذا ما حسب تيار يعتمد الطائفية ليبراليا علما أن الطائفية إلغاء لليبرالية.
السبب الذي اعدم وجود تأثير للتيار الليبرالي أو فشله في أحداث اختراق في المجتمع العربي يرجع إلي لا وطنيته ولا قوميته ولا إسلاميته ، مما جعله نبتاً غربيا عن الأمة ، فيما التيار الليبرالي في الغرب كان وطنياً ومقاوماً في مواجهة الاحتلال منذ الإطاحة بالاستعمار البريطاني في الولايات المتحدة أو مواجهة الاحتلال النازي، أو في الدفاع عن سيادة دولته وهيمنتها ومن ثم إذا كان للفكر الليبرالي أن يجد له مكانا لائقا تحت شمس الأمة العربية فيجب أن يكون وطنيا يدافع عن استقلال دولته وسيادتها ضد الهيمنة الأمريكية ، وأن يكون معاديا للصهيونية ، وإن يكون قوميا من دعاة وحدة العرب وتضامنهم وسوقهم المشتركة ، وأن يكون ضد الهجمة الأمريكية – الإسرائيلية – الشرق أوسطية ، وإلا فعلي أي أساس يسوغ وجوده ، أو يثبت أقدامه ، ويجد لغة خطاب مع شعبه ومجتمعه اللذين يريد اختراقهما بليبراليته .
وإذا كان لي أن افرق بين الليبراليين في الغرب والليبرالية في بلادنا أجد الفرق في وطنية الأولى ولا وطنية الثانية وبالمناسبة عندما لا يرفع الليبراليون في الغرب شعار القومية والتركيز على قوميتهم كما تفعل التيارات اليمينية فذلك لاطمئنانهم إلي سيادة دولهم وتأكدهم في أن الانفتاح لا يجرها إلي التبعية وضياع استغلالها وثرواتها فاللا قومية هنا هي في خدمة الهيمنة الغربية وليست ضدها .
أما القسم الأخير من سؤالك حول حساسية عالمنا الغربي تجاه مسألة الاستقلال أكبر بكثير منها تجاه الديمقراطية ومقاومة الاستبداد .
فأقول لك: بداية ، أن غالبية الشعوب وضعت تحررها واستقلالها أولاً وإلا فكيف تقوم الديمقراطية في بلد بلا سيادة أو استقلال لاسيما إذا كان امة كبيرة وعريقة كالأمة العربية .
وإذا استطاع شعب كبير (شبة قارة) أن يحقق الديمقراطية بعد انجاز الاستقلال (الهند) فقد كان الاستثناء في زمن الحرب الباردة ، فقد كانت الديمقراطية شعاراً غالباً في بلدان العالم الثالث الأخرى، في ظل الحرب الباردة فأميركا والغرب أطاحا بالعديد من الدول المستقلة والمتحررة ليقيما دكتاتوريات عسكرية مكانها كما لم تكن الديمقراطية من نمط " ويست منستر " البريطاني غير واردة في النمط الاشتراكي – السوفياتي. وعندما جاءت الديمقراطية بالسلفادور الليندى في تشيلي أطيح به عسكريا ، وقتل في قصره بدعم زعيم العالم الحر الديمقراطي " الولايات المتحدة " فكانت دكتاتورية دموية لا مثيل لها في ذلك العصر ربما لأنها جاءت بعد ديمقراطية هربت في ظرف استثنائي.
من يراجع أدبيات الحزب الوطني القديم في مصر (حزب مصطفى كامل و محمد فريد) يجد برنامجه قد اعتبر الاستقلال والديمقراطية توأمين لا ينفصلان . لكن ظروف الحرب الباردة وإقامة الدولة العبرية على أرض فلسطين أطاحا بالمشروع الديمقراطي الذي لازم بين الاستقلال والديمقراطية في مرحلة المعاهدات الاستعمارية أو الاستعمار المباشر فالفشل في مواجهة اغتصاب فلسطين أسقط تلك الأنظمة سياسيا في حينه فالانفصام النكد الذي ورثناه عن مرحلة الحرب البادرة وتداعيات قيام الدولة العبرية هو الذي أعطى المسوغ لهذا السؤال. ومع ذلك فإن اشتداد الاستبداد وعنفه في كثير من بلادنا العربية لا يدل إلا على اتساع ومناهضته ومقاومته وليس العكس .
أما لماذا لم تستطع هذا المناهضة أن تطيح بالاستبداد فلهذا أسبابه المتعلقة بشروط التغيير ومتى تتوفر؛ ثم هنالك حالة تضعنا أمام إعطاء الأولوية للاستقلال من دون أن يسلم بالاستبداد وهي حين تكون ثمة ممانعة ضد تدخل خارجي ومشاريع استعمارية أو مواجهة لعدوان ، فعندئذ لا يمكن تغليب الديمقراطية . لأنه يقود إلي ما قاد بعض المعارضة إليه حين امتطت الدبابة الأمريكية وهي تغزو بلادها وتفرض عليها احتلال حدد وجود العراق وهويته ووحدته الداخلية وانتسابه لأمته العربية والإسلامية .
فالمفاضلة هنا ليست كمن يفاضل بين حلوى وحلوى أمام منضدة الحلويات وإنما هي الانخراط في رد العدوان عن الوطن كل الوطن ، ولا مانع إذا " أجلت " المعركة مع استبداد ممانع ولو ضمن حدود فهي مؤجلة بطبيعتها إلا إذا كان الغزو يستعجل بها ، ومن ثم اتهمت مواجهته بتأجيل " معركة الديمقراطية " المفترضة في تلك اللحظة .
وهؤلاء الذين يفترضونها في تلك اللحظة لا بد من أن يكونوا في واد وشعبهم في واد آخر منشغل في معركة رد العدوان والحيلولة دون احتلال وطنه.
ومع ذلك فإن وثائق المؤتمر القومي الإسلامي تثبت موقفا حازماً ضد الاستبداد وأن لم تجعله اشد خطرا على الأمة من الأمركة المؤشر له والصهاينة والساعية إلي تجزئي المجزأ فحسب وإنما أيضا بلا هوية عربية وإسلامية وبلا مستقبل
الرسالة الثالثة: التقارب القومي الإسلامي وخطر الاستقطاب والتوظيف
سألتني عن تأثير الصعود الإسلامي على معادلة التلاقي والتوافق القومي الإسلامي؛ هل سيؤدي إلي حساسية في التمثيل وتصور الأدوار وتقسيمها ؟ وكيف كان أثره لدى كل تيار إيجابيا وسلبا؟
وأقول لك: أن أهم ما حققه المؤتمر القومي – الإسلامي كما مر ذكره هو إزالة الجفوة وإحداث التقارب والتلاقي فقد اسقط أي تحفظ مبدئي قبلي على التعاون والتنسيق والعمل الجمهوري من جانب التيارين ثم حقق إحكام استمرارية المؤتمر وانعقاده والاتفاق على جملة أساسية من القضايا الملتهبة والتحديات الكبرى الراهنة في مقدمها دعم المقاومات في فلسطين ولبنان والعراق .
وهنا يمكن أن نضيف أن التفاوت في القوة الشعبية في ما بين التيارين أمكن استبعاد سلبياته إلي حد ما ، فمن جهة خفف من المخاوف التي تنجم من القوة الشعبية لحركة سياسية لدى القوى السياسية الأخرى، وهذه الإشكالية تجدها داخل التيار الواحد بسبب الطبيعة الحزبية أو التنافسية ولعلها تكون أشد نسبياً بين تقع بين التيارين ولكن ليس بالضرورة دائماً
أما من الجهة الأخرى فقد تخففت النظرة العليائية التي قد تستولى على حركة سياسية حين تكون شعبيتها أكبر وقدرتها على الحشد أعلى، بصورة بارزة . وهذه آفة تدخل في سنن التدافع والكل معرض للوقوع في سلبيتها ما لم يتحصن في هذه النزعة المدمرة للذات. فغرور القوي أو المنتصر يهدد قوته وانتصاره إذا لم يهذبه ويصار إلى التواضع وعدم الاستهتار بقوة الآخرين وأهميتهم المعنوية والسياسية والاجتماعية حتى لو كان المعني فرداً لا تنظيم له، ولا شعبية مقدرة وراءه ولا يقع الإخفاق في توحيد الشعب كله، بل الأمة أن المحظور الذي يتضمنه السؤال ضروري أن ينتبه له التيار الإسلامي مهما السحت شعبيته، أو تمكن في السلطة من خلال صناديق الاقتراع. فمن جهة عليه أن يقتنع قناعة راسخة بأنه بحاجة إلى أوسع جبهة تتعاون مع لاسيما من التيار القوي والتيارات الوطنية واليسارية الوطنية عموماً. وأن هذه الجبهة إذا انفضت عنه بسبب أخرى من دون تسويغ له سيصبح ضعيفاً امام أعداء الأمة .
أن شرط عدم تصديع العلاقة بين التيارين هي التحلي بحكمة وعدم الأثرة من جانب الطرف الأقوى سواء أكان من هذا التيار أم ذاك فكلما قاسم الآخرين في حصته كان أكثر أهليه للقيادة. وكان أقرب إلى التقوى وبعد النظر، أو الحكمة والمنهج السليم والحرص على وحدة الأمة ومصالحها العليا.
سألتني: هل أثرت عودة سؤال الاستقلال للواجهة مرة أخرى بفعل الهجمة الاستعمارية الجديدة على الوعي بالحاجة الي تفعيل التقارب القومي الإسلامي باعتبار السؤال المركزي لدى التيار القومي ومعظم التيار الإسلامي؟
وقد تعرضت لإجابة هذا السؤال جزئيا من قبل غير أني أحب أن أضيف إلي ذلك أن الهجمة الأمريكية الاسرائيلية على المنطقة عموماً والبلاء العربية خصوصاً لا سيما بعد انتهاء الحرب الباردة شكلت تهديداً متعدد الابعاد للأمة العربية. فقد استهدفت تصفية القضية الفلسطينية وفقاً للرؤية الإسرائيلية، وسعت إلى محو الهوية العربية- الإسلامية للبلاد العربية وتحويل الرابط بينها إلى الرابط الجغرافي وهذا هو المقصود بالشرق أوسطية (مخترعه وخاطئة من ناحية جغرافية العالم)
تمهيداً لإعادة تقسيمها (تجزئ المجزأ) إلى قطع فبفائية على أسس طائفية واثنيه وجهودية ودينية ومذهبية الأمر الذي يسمح للدولة العبرية هذا الكيان الغريب و المغتصب لفلسطين، أن تصبح جزءاً طبيعياً في منطقة جغرافية لا هوية لها ولا روابط أو مصالح تجمعها، ولا تاريخ مشرك لها. وبهاذ يمكن أن تهيمن عليها بالشراكة مع أميركا المتصهينة.
هذا التحدي تعدي استفزاز سؤال الاستقلال ليطرح سؤال الوجود والهوية والمصالح العليا والمستقبل. أفلا يكفي هذا كله أن يدفع إلى لقاء كل التيارات المعارضة لهذه الهجمة وفي مقدمتها بالطبع كل من التيارين القومي.
ثم سألت: هل تتوقع أن تتسع خريطة اهتمام المؤتمر القومي الإسلامي لتشمل قضايا الديمقراطية واهتمام الجماهير؟ أو يمكن أن تتسع مظلته مستقبلاً لتشمل من يمكن أن تعتبرهم القلب الوطني في التيار الليبرالي؟
وأجيبك: أن ليس هناك من مشكل من حيث المبدأ بين الأهداف والمهمات التي يتطلع أعضاء المؤتمر القومي من خلاله ومن خارجه (في المواقع القطرية ) إلى تحقيقها من جهة وبين مناهضة الاستبداد ومكافحة الفساد والاتفاق على نمط من الآليات الديمقراطية- أو إذا شئت الديمقراطية من جهة أخرى وهذا مثبت في البيان التأسيس للمؤتمر والمهمات المرحلية التي صدرت في المؤتمر القومي- الإسلامي الأول.
طبعاً عندما تتعرض الأمة إلى العدوان والهجمة التي تستهدف وجودها تصبح الأولوية بالضرورة مواجهة العدوان والهجمة. أما عندما يقفز الموضوع الديمقراطي موضوعياً إلى الصدارة ويصبح حركة جماهيرية تملأ الشوارع فوق بغرض نفسه بالضرورة ويجد القطر الذي يواجه هذه الوضعية نفسه مؤيداً من غالبية الأمة. واحسب أن نضوج هذه الحالة لا يكون إلا عندما يتناهى الاستبداد والفساد والخيانة الوطنية أو عن التماهي بالمشروع الأمريكي الصهيوني كلياً (التماهي هو الدرجة العليا في علاقات التحالف حيث تزول الهوامش الفارقة في السياسة)
على أية حال هذه مسألة مرهونة بشروط نضوج التغيير في الداخل. وهذا النضوج غني في حالاته التي يفرزها الواقع الإنساني- التاريخي الشديد التنويع.
بقي سؤالك الأخير المتعلق بالمقاربة التي يجب أن يتمثلها المؤتمر في مواجهة القضايا التي تلتقي فيها الصراعات السياسية الداخلية مع مشروعات إقليمية ودولية (العراق، لبنان، فلسطين ..) بحيث لا يحسب علي فريق دون آخر ولا توظف قضية المقاومة في صراعات داخلية خاصة وأن أهل مكة أدري بشعابها
وفيه أقول : ثمة قاعدة منهجية يمكن لفت الانتباه إليها (اختبرتها في كثير من الحالات السابقة في السبعينات والثمانينات- والتسعينات وحتى قبل ذلك ) تتمثل بالتالي: عند مواجهة حالة معقدة مركبة من عدة أوجه ولا سيما في الصراعات الداخلية أو المواجهات العربية – العربية، والإسلامية- الإسلامية، يجب الابتعاد عن التفاصيل وما يتطاير من شرر من هنا وهناك ويعاد قراءة الوضع بالعودة إلى المبادئ والثوابت. وإذا ما أرسى الموقف المبدئي مثلاُ، مبدأ تغليب الصراع مع العدد الرئيسي الخارجي ومخططاته وإبقاء البوصلة في الاتجاه الصحيح تصبح معالجة التناقضات الداخلية مهما تطاير شرها خاضعة لهذا المبدأ. فتعالج من خلال عن الانحراف عنه ومن ثم الحذر من التفاصيل التي تحرف عن العدد الرئيسي وتجعل المرء يغرق في الإشكال الداخلي كما لو أصبح القطر جزيرة نائية قائمة بذاتها بعيدة عن الأمة ككل ولم يعد أمامه غير صراعاته الداخلية. ومثل آخر يواجهنا في الآونة الأخيرة تمثل بتحريض مركز للسنة ضد السنة فالمعالجة يجب أن تنطلق من المبدأ الذي يقتضى وجدة المسلمين ووحدة أبناء الأمة العربية ووحدة أبناء القطر العراقي .
كما اعتماد المبدأ أو الثابت الموازي والمكمل وهو أن التنازع أو التفرق و التقاتل يذهب بريح الجميع ولا يخدم إلا أعداء الأمة إذا يفت من عضدها.
إذا ما ثبت هذا المبدأ يمكن أن يعالج الموضوع والدخول الحذر في التفاصيل علماً أن المؤتمر القومي الإسلامي يستحسن به ألا يخوض في تفاصيل صراعات داخلية قطرية، وإنما يمسك بالمبادئ العامة في توجيه الصراع ضد العدد الأمريكي الصهيوني مثلما عبر عنه خلال الست سنوات الماضية على سبيل المثال، كما التأسيس على الوحدة وعدم القبول بالذهاب إلى الفرقة والتنازع، طبعاً لا يستطيع المرء مهما ركز على العدو الخارجي أو ضد المشروع الشرق أوسطي أن يتجاهل وجود تناقضات داخل صفوف الشعب أو انحياز البعض إلى استقرار بالقوي الخارجية هذا ولا يمكن للمرء من أن يقفز فوق الصراعات العربية- العربية أو الإسلامية- الإسلامية في ما بين الدول والمحاور ولكن حتى مع هذه فإن تجنب الزلل والوقوع في اتخاذ مواقف سياسية خاطئة لا يكون إلا ببغاء الخطوط العريضة المبدئية حاكمة في تقو الموقف والوضع واقتراح لعلاج وتحديد الموقف.
أما التفاصيل المتعلقة ببعض جوانب السؤال فلا مجان لمناقشتها في هذه الإجابة التي تركز على العام والمبادئ والثوابت ما دمنا نتحدث في إطار المؤتمر القومي الإسلامي.
أما العلاقة بين العام والخاص أو القومي والقطري فأرى أن العام هو المبدأ و الثابت أما الخاص فأمامه منهجان أما تجاهل العام أو اعتبار الخاص أولاً وأما يربط خاصة بالعام وإلا شرد عن المجموع وأصبح أسهل افتراساً من قبل الذئاب.
وبالمناسبة نظرية أهل مكة أدرى بشعابها "أخذت تستخدم لخدمة الإفلات من المبدأ العام ولتسويق سياسات عليها أحيانا ً ألف علامة سؤال مثلاً التعاون مع الاحتلال أو عدم أخذ موقف حازم من عدوان من الاستواء بالخارج على الداخل. ثم إن فرضية القائل أنه يمثل أهل مكة فهي فرضية وهمية لأن أهل مكة لا يتجاهل البلد المعنى ليسوا متفقين على ما يدعيه بأن أدري بشعابها فمخالفوه يعرفون شعاب كذلك وربما أفضل منه. لأنهم هم من أهلها مثل فالإجماع هنا داخلياً من المحال. ولهذا فأداء أي طرف أنه أدري بشعاب مكة أنما هو أدعا، فحرج ولا يقيم حجة معتبرة، ألا في الشعاب جغرافيا بل يجب استعباد الاختباء وراء هذه النظرية فهي حجة من لا علاقة له بالعصر وكيف أصبحت شعاب كل المدى تحت الصورة المتحركة بيتاً بيتاً. ثم إذا كان شرط معرفي كل بلد وتشخيص أزمنة أو إشكالية أو علاقته بالخارج مرهوناً بأن تكون بن أبنائه فقد امتنعت المعرفة والعلم. فالإنسان قد يخطئ في معرفة أهل بيته من زوج وأبناء معرفة صائبة