الفضائيات السلفية.. هل تقاوم السلفية علمنة الفضائيات للتدين؟
باحث مصري في الحركات الإسلامية
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
يمكن النظر إلى الفضائيات السلفية، والإعلام السلفي عموما، كجزء من موضوع أسلمة الحداثة؛ ليس عبر البوابة النظرية أو الفلسفية على النحو الذي انشغل به إسلاميو أسلمة المعرفة، وبشكل خاص تجربة المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ولكنه نوع من أسلمة الحداثة عبر توظيف منتجاتها في نشر الدعوة والفكرة الإسلامية..
وقد شهد الإعلام السلفي تطورا كبيرا وقياسيا في سرعة توظيف التقنيات الحديثة بدأ من أشرطة الكاسيت التي استخدمت على نطاق واسع وبجودة عالية، مرورا بتأسيس مواقع الإنترنت، وقد كان دعاة السلفية وشيوخها الأكثر توظيفا للشبكة وحضورا عليها، ثم انتهاء بالفضائيات التي حازت اهتماما من السلفية باعتبارها الأكثر قدرة على بناء علاقة مباشرة مع المتلقي؛ حيث تتفاعل الصورة مع اللغة بجانب قدر عال من التواصلية ما يسمح بتقديم رسالة إعلامية متكاملة.
وبعكس شبكة الإنترنت التي كان الحضور السلفي فيها كثيفا وواضحا ومباشرا في طبيعته وتمايزات خطاباته، كان الحضور السلفي في الفضائيات أقرب إلى حالة أو تيار أو طريقة تفكير أو حتى مزاج منه إلى بناء أيديولوجي متكامل فضلا عن أن يكون حضورا تنظيميا.
والسلفية في الفضائيات هي سلفية محتوى وخطاب ومنهجية تفكير أكثر منها توجه إيديولوجي محدد فضلا عن أن تكون ممثلة لتنظيمات أو حركات سلفية محددة، على الأقل بالنظر إلى طبيعة وسيط الفضائيات في المنطقة العربية، فكلها تبث عبر القمر الصناعي المصري نايل سات، ومن ثم يمكن أن نتكلم عن حزمة من التدابير القانونية والسياسية جعلت الدخول السلفي للفضائيات محكومًا باعتبارات وقيود كثيرة بعكس حالته على شبكة الإنترنت، وهو ما انتهى إلى اختزال الحضور السلفي في الفضائيات في تيار السلفية الوعظية دون غيرها من التيارات السلفية ذات الاهتمامات بالسياسة والشأن العام فضلا عن تيارات السلفية الجهادية بالطبع!.
لقد شهدت السنوات الثلاث الأخيرة توالدا سريعا للقنوات "السلفية" بما جعلها من معالم المشهد الإعلامي العربي الجديد، فصار لدينا قنوات مثل "المجد" و"الحكمة" و"الرحمة" و"الحافظ".. وقناة "الناس" التي يمكن اعتبارها التجربة الأقدم والأكثر أهمية وتأثيرًا فضلا عن كونها المفتاح الأهم في قراءة المشهد الفضائي السلفي.
غلبة الاستثماري على الدعوي!
برغم كثافة الطابع "الرسالي" للحضور السلفي على الفضائيات فإنه بإمكاننا أن نقرأ التجارب الفضائية السلفية من زاوية كونها مشروعا استثماريا تأسس لغرض الاستثمار في قطاعات جماهيرية واسعة سلفية أو آخذة في التوجه نحو السلفية، أكثر منها إطارا إعلاميا لنشر الأطروحة السلفية، إنها أقرب لمشروعات تستثمر في جماهير تحولت بالفعل نحو السلفية أو آخذة في التحول؛ أكثر من كونها تحمل رسالة دينية تريد تبليغها، وقناة "الناس" هي النموذج الأكثر دلالة.
يمتلك قناة "الناس" رجل الأعمال السعودي منصور بن كدسة، وهو صاحب استثمارات سابقة في هذا المجال، لم يكن استثمار الرجل في هذا المجال مختلفا كثيرا عن غيره ممن دخلوا مجال الاستثمار في الإعلام وفي الفضائيات بشكل خاص، فقد أطلق الأمير السعودي الوليد بن طلال قناة "الرسالة" الإسلامية ضمن باقة قنوات روتانا الفنية، وسبقه مواطنه رجل الأعمال صالح كامل في إطلاق قناة "اقرأ" الإسلامية أيضا كجزء من باقة قنوات راديو وتلفزيون العرب (أيه آر تي) المتنوعة، وكان منصور بن كدسة صاحب تجربة مماثلة.
بدأ بن كدسة استثماره في الفضائيات بقناة "الخليجية" والتي انطلق بثها، واستمرت سنوات كقناة فنية متخصصة في بث أغاني الفيديو كليب قبل أن تغير مسارها (أو تعلن توبتها!) عقب النجاح الكبير لشقيقتها الصغرى "الناس"، لقد كان نجاح "الناس" كفضائية سلفية مغريا لأن تتحول " الخليجية" هي الأخرى إلى التخصص في الوعظ الديني!
وفي بدايتها كانت "الناس" نفسها قد حددت وجهتها كقناة ترفيهية متنوعة تقدم برامج الغناء وتفسير الأحلام وعلاج الجن واكتشاف المواهب وبث حفلات الزفاف وطلبات الزواج والدعاية!، في تلك المرحلة كان شعارها (قناة الناس لكل الناس)، قبل أن تتحول بداية من يناير 2006 إلى قناة دينية سلفية بالكامل، وتنتقل إلى شعارها الجديد الذي يناسب المرحلة (قناة الناس..شاشة تأخذك للجنة)!
لم يكن تحول الفضائيات للوعظ السلفي منفصلاً عن قراءة بسيطة، ولكن واعية للخريطة الدينية على الأقل في بلد كبير مثل مصر، فثمة حالة سلفية صاعدة لا تخطئها العين وثمة جمهور سلفي كبير آخذ في التزايد لا يجد من يلبي طلبه الديني "السلفي"، فالخطاب السائد في الميديا لم يكن يمثله بالضرورة، والمشهد الديني الفضائي -كان إلى وقت قريب- تتقاسمه خطابات تتغذى من روافد تقليدية، سواء أكانت رسمية أزهرية أو حركية متأثرة بالأطروحة الإخوانية، قبل دخول رافد التدين الجديد والدعاة الجدد، ولطالما افتقد الجمهور السلفي لمنبر دعوي خارج المسجد وما يتصل به من وسائط (الكتاب والكاسيت) صارت لا تواكب الثورة الإعلامية التي صار معها بإمكان كل بيت في مصر مشاهدة الفضائيات إما عبر الأطباق اللاقطة أو عبر "الوصلات" التي لا تكلف إلا جنيهات قليلة.
ومن ناحية أخرى ثمة دعاة كبار لهم جمهورهم وجماهيريتهم ولا يجدون، برغم ذلك، فضاء للدعوة خارج الوعظ المسجدي الذي نجحوا فيه، وهم يمتلكون القدرة على جذب هذا الجمهور إلى قناة فضائية دون أن يكلفوها أعباء مالية كالتي يتطلبها نجوم الوعظ التلفزيوني المعروفين الذين عرفوا الطريق إلى حقوق الملكية الفكرية وصاروا يعتبرون "الدعوة" ملكية يجب أن ينالوا تعويضا عنها يقدر بحسب النجومية والقدرة على الجذب.
لقد وقعت قناة "الناس" على نجوم آخرين في الوعظ لديهم كل إمكانات نجوم الوعظ التلفزيوني، ولكن دون مطالب مالية! فأقصى مطالبهم -على الأقل في البداية- هو توفير منبر جديد للدعوة!، وكانت طبيعة هؤلاء الدعاة وجمهورهم لتسمح بالانطلاق في استثمار فضائي بأقل الإمكانيات والتجهيزات المادية، فالبساطة والاقتصاد واستدعاء أجواء الوعظ المسجدي الذي يخلو من الديكورات الفخمة وشتى مقتضيات الترف، كل ذلك كان من شأنه تعزيز فرصة نجاح هذه النوعية من الاستثمار.
ثم كانت الضمانة الأكثر أهمية في إمكانية تحييد السياسة والسياسي من هذا الوعظ تلافيا للمنع أو إثارة النظام؛ وهو ما أمكن تحقيقه عبر عدد من أبرز شيوخ الوعظ المباشر المعتزلين للسياسة من مثل محمد حسان وحسين يعقوب وأبو إسحاق الحويني ومحمود المصري وسالم أبو الفتوح وآخرين.
بأقل تكلفة مادية وبشرية؛ نجحت تجربة قناة "الناس" نجاحا معتبرا حتى صارت الأكثر مشاهدة بين القنوات الدينية، لقد أصبحت القناة عنوانا ليس فقط على تغير المشهد الديني لصالح السلفية بل وعلى انقلاب المعايير الحاكمة للفضاء الإعلامي في بلد كمصر تراجعت فيه نسبة مشاهدة التلفزيون الرسمي وقنواته المختلفة (وهو الذي يتوفر في مبناه الشهير على عدة آلاف من الخبراء والإعلاميين والموظفين والتقنيين) لمصلحة قناة لا يزيد مقرها عن شقة متواضعة في حي المهندسين، لقد صارت "الناس" عنوانا على (فضائيات بير السلم) التي يتجاوز تأثيرها إمكاناتها الفعلية، بل لقد انتقل تأثيرها إلى كثير من البلاد العربية، حتى صار البعض يتندر من أنها اكتسحت المشهد الديني بالجزائر بالقول إن الشيخ أبو إسحاق الحويني هو الوحيد القادر على منافسة عبد العزيز بوتفليقة، وإنه لو نافسه على رئاسة الجزائر لتفوق عليه!، هذا على الرغم من أنها اعتمدت بشكل كلي على رموز الوعظ السلفي المصريين.
تأثير الفضائيات على الخطاب السلفي
نجحت قناة "الناس" كنموذج للقنوات السلفية من حيث الانتشار والتأثير، ونجحت الأطروحة السلفية في تصدر المشهد الديني والتأثير في قطاعات واسعة من الجماهير التي بدا أنها وجدت في الوعظ السلفي ما كانت تفتقده في الوعظ السائد حتى الجديد منه ورموزه التي ملأت الفضاء الديني بعد تحريره منذ بداية الألفية الجديدة مع انتشار القنوات الفضائية الخاصة.
ولكن ما يستحق النقاش فعلا في التجربة السلفية على الفضائيات هو مدى تأثير وسيط الفضائيات على السلفية: هل تأثرت الأطروحة السلفية بانتقالها من وسيط المسجد إلى وسيط الفضائيات؟ وهل جرى تحول في الرسالة السلفية بعد انتقالها من المسجد والكاسيت وحتى الإنترنت إلى الفضائيات؟
ثمة أطروحة مهمة حول تأثير الوسيط في المضمون (أطروحة جون ماكلوهين) وأن الوسيط يصبح في النهاية هو الرسالة دليلا على التأثير الجوهري للوسيط في المضمون؛ فهل ينطبق الأمر نفسه على السلفية، وتشهد تغييرا جوهريا في صلب أطروحتها الدينية؟ أم يمكن أن نتحدث عن الاستثناء السلفي؟
أحدثت الفضائيات تأثيرًا جذريًّا في المشهد الديني، وكان تقديم الوعظ الديني والمعرفة الدينية عبر وسيط الفضائيات سببًا في تحولات دينية بالغة الأهمية كان من أهمها نشأة ما صار يعرف بظاهرة التدين الجديد التي يمكن النظر إليها كوليد لدخول وسائل الاتصال الحديثة (كالإنترنت والفضائيات) كوسيط لنقل المعرفة الدينية، لقد ساعدت ثورة الاتصالات الحديثة على ظهور نمط جديد ومختلف من التدين، فهو تدين فرداني، منفتح في مرجعياته، منزوع السياسة، غير معني بقضايا الهوية، ومسكون برغبة عارمة في الخروج على التقليد الديني.
لقد كانت الفضائيات "القابلة" التي أخرجت هذا الخطاب للعالم، كما قادته باتجاه نوع من العلمانية غير ذلك الذي طالما دار حوله الجدل في عالمنا الإسلامي.
لقد تحول الدين في التدين الجديد من الجماعية إلى الفردانية؛ حيث تتأسس علاقة فردية صرفة بين المشاهد والمعاني الدينية، فيقارن بينها ويختار، وأساس تفضيله دائما هو القناعة الفردية والقرار الذي يتحدد بشكل فرداني ويلبي طموحًا فرديًّا للتدين.
واعتمد التدين الجديد على ما يسمى بالديمقراطية الاتصالية التي تلعب فيها الميديا دورا في تسريع وتيرة النقاش الديني فيحول الدين إلى خيارات متعددة ويشرك المشاهد في بناء الخطاب الديني.
وكانت "الدنيوية" أساسًا لهذا النمط من التدين، حيث صارت الدنيا محور الثواب والعقاب، وعنوان القبول والرفض، في التدين الجديد يلتزم الفرد ويؤدي واجباته الدينية ويصبح مؤمنا صالحا؛ لأن في هذا سعادته وراحته.. تماما كما في الإعلان الشهير الذي تبثه قناة اقرأ (أقم صلاتك تنعم بحياتك)، فالثواب في الدنيا، والنعيم فيها أيضا، وهو الهدف من الصلاة، أو على الأقل هو وسيلة الإقناع.. في حين كانت الصلاة وغيرها من العبادات هي عمل للآخرة.
وفي التدين الجديد نلحظ تلك العلاقة الاستهلاكية بالدين؛ حيث نصبح بإزاء سوق عرض وطلب ديني يختار منه المشاهد اختياره الديني (أو وجبته الدينية!) بنفسه، تماما كما يفعل المشاهد أمام الستالايت، يبحث ويختار، واختياره الديني يتحدد وفق مبدأين: الراحة، والاستهلاكية...أو الاستهلاك لما فيه الراحة.
والدعوة في التدين تخضع لمنطق السوق؛ فللدعاة أجور وأحيانا أجور خيالية، وثمة حقوق للملكية الفكرية يحمي بها الداعية وعظياته وتحتكرها شركات نشر وقنوات بث، وهو تحول جديد تماما في التعامل مع دروس الوعظ التي كانت فيما قبل واجبا دينيا، وأخيرا برزت في سوق الدعوة ظاهرة الداعية "النجم"، وكذلك الماركة التجارية الدينية!
تأثرات بمنطق الميديا
في تأثير وسيط الفضائيات على الأطروحة السلفية يمكن أن نقف عند بعض التأثيرات المشابهة لتلك التي رأيناها في التدين الجديد أيضا؛ هناك الطابع الاستهلاكي الفج للقناة السلفية الأشهر "الناس"، والتي صارت أشبه بسوبر ماركت؛ حيث لا يتوقف سيل الإعلانات التي تستحضر- بسبب من غياب المهنية- منطق السوق الشعبية، ثم الرسائل الاجتماعية والإنسانية والعاطفية أحيانا التي تملأ الشاشة وتكلف صاحبها مقابلا يذهب للقناة، وكذلك الأولوية المطلقة للإعلان وتقديمه على المادة الدعوية إلى حد تخصيص فقرات طويلة بالساعات.
ثم هناك منطق الابتعاد عن السياسة، فالخطاب السلفي الوعظي الذي تقدمه القناة يتجنب القضايا السياسة بما فيها القضايا التي صارت تعرف بقضايا الأمة مثل فلسطين والعراق (وإن كان الوضع تغير استثنائيا ومؤقتا أثناء حرب غزة)، فما زال هناك إصرار واضح على عدم حضور السياسة ولا أهلها ولو كانوا سلفيين!.
وهناك أيضا ابتعاد عن قضايا الهوية مثل قضايا التنصير والخلاف الفقهي والصراع المذهبي؛ على الرغم من أنها قضايا مركزية في الخطاب السلفي بعيدا عن وسيط الفضائيات.
ومقاومة الخطاب السلفي
لكن برغم ما يمكن أن يكون وسيط الفضائيات قد أحدثه من تغيير في الخطاب السلفي؛ فإن طبيعة هذا التغيير وحدوده تختلف تمامًا عنها في حالة الدعاة الجدد.
فالاستهلاكية في الحضور السلفي على الفضائيات ربما لها صلة بتحول الإعلام إلى صناعة تفرض منطقها، وعلى إدارة القناة بشكل خاص، أكثر منها تعبيرًا عن تحولا في بنية الخطاب نفسه، بل وكثيرا ما شهدنا محاولات لكبح جماح تلك الاستهلاكية، فكثير من الشيوخ والدعاة السلفيين رفضوا فكرة الإعلان في برامجهم، ودار نقاش حول فكرة الراعي كحل في تدبير التمويل بدلا من ابتذال الإعلان، كما رفض كثير منهم فكرة الفواصل الإعلانية التي تقطع برامجهم، مثلما رفضوا كذلك فكرة توظيف رنّات الموبايل بأصواتهم إعلانيا على نحو ما فعلت إدارة القناة بإدخال كلمات أو أدعية بصوت هؤلاء الدعاة وعرضها للتحميل بمقابل مادي وقدمت لها تسويقًا مبتذلا باعتبارها: "رنة هتدخلك الجنة!"
نعم حضرت الاستهلاكية وبقوة في الفضائيات السلفية كما هو الحال في قناة "الناس"، وتوسلت بالتغطية والدعم الديني للإعلان حتى لو كان عن "بطاطين وأطقم سرير وأدوات منزلية"، لكن ما زال الخطاب السلفي نفسه بعيدا عن منطقها، ولربما كان في بعض جوانبه ضدها عبر الحديث المستمر عن الزهد.
أما الابتعاد عن السياسة فيبدو له صلة بقرار مبدئي بالكف عنها أو المنع منها على الشاشة لضرورة الحفاظ على استمرارية التواجد، ومن ثم تبليغ الدعوة، وليس لكون الخطاب نفسه منزوع السياسة كما في حالة خطاب الدعاة الجدد منزوع السياسة حتى وهو يتحدث في قضاياها الكبرى، كما كان الحال في غزو العراق أو حرب غزة التي كان خطاب التدين الجديد خطابا مدنيا لا يقترب من مفردات السياسة، فلا يتكلم مثلا عن المقاومة فضلا عن الجهاد ولو بشروطه الشرعية.
إن الخطاب السلفي في الفضائيات قد يبتعد عن السياسة لكنه يضمرها، وهو قد يبدو غير مسيس لكنه يحمل بداخله إمكانات سياسية كامنة، يظهر ذلك جليا في-على سبيل المثال- في حالة الشيخ حازم صلاح أبو إسماعيل، فالرجل له وما زال تجربة سياسية ترشح فيها في البرلمان ومارس العمل العام وما زال، لكنه يوائم في حضوره على شاشة القناة فلا يقترب من السياسة..
وبرغم أننا نلاحظ بالفعل ابتعادا من الوعظ السلفي في الفضائيات عن قضايا الهوية مثل التنصير والصراع المذهبي فإن هذا لا يعني غيابها في عمق الخطاب الذي يستبطن الحجاج العقائدي وخاصة مع مخالفي أهل السنة والجماعة، ربما لا تسمح طبيعة الوسيط بظهور قضايا الهوية كاملة، ولكنها حاضرة بشكل عام لدى رموز الوعظ السلفي خارج وسيط الفضائيات، وحضور في هذا الوسيط رهن بتقديره لحجم هذا التهديد ومن ثم ضرورة التصدي له.
ظهرت قضايا الهوية في الخلاف الشهير بين رموز الوعظ السلفية وبين إدارة قناة "الناس" حين بدأت في استضافة عمرو خالد أبرز رموز التدين الجديد والداعية الصوفي أحمد عبده عوض، لقد احتدم الأمر بالتهديد بمقاطعة القناة إذا استمرت في السماح لهؤلاء بالدعوة على شاشتها، وتطور الأمر إلى انسحاب الشيخ محمد حسان نهائيا ومشاركته في تأسيس قناة الرحمة، وقد اضطرت القناة للاستجابة ولو جزئيا لمطالبهم فأوقفت برنامج الداعية الصوفي وكفت عن استضافة عمرو خالد!
عودة الأيدولوجيا
الحق أن السلفية في الفضائيات ما زالت تقاوم تأثير الوسيط على الخطاب، وما زالت تسعى لتكثيف حضورها على الفضائيات والاستفادة منها كمنبر واسع الانتشار، ولكن دون أن تخسر كثيرًا من أطروحاتها أو تضطر للتعديل في جوهرها.
ما زال رموز الوعظ السلفي يقاومون منطق الميديا، لقد فرضوا منطقهم على إدارة القناة فمنعت الموسيقى تماما بالقناة واستعاضت عنها بمؤثرات صوتية، وأوقفت ظهور المرأة على شاشتها بل وعملها بالقناة، وبدأ النقاش جادا حول تشكيل لجنة شرعية لإدارة القناة تعطي الأولوية للشرعي على مقتضيات السوق، ثمة خلافات حول هذا مع إدارة القناة، لكن تبقى دلالته مهمة في فهم بعض من أبعاد الحضور السلفي في الفضائيات.
ثم هناك رفض لعلمنة الخطاب على النحو الذي ذكرناه من العلمنة؛ فما زال الخطاب السلفي في الفضائيات يصنعه الشيخ وليس الجمهور الذي لم يتجاوز حضوره أو تفاعله أبعد من طرح الأسئلة والتعبير عن مشاعر الامتنان والتقدير دون التدخل في بناء الإجابة الدينية، ويبدو الشيوخ السلفيون واعين بهذا ومحافظين على مبدأ أن موقع الجمهور هو التلقي وليس المشاركة.
وما زال الخطاب السلفي يصاغ وفق رؤية مؤسسية، فثمة مدرسة دعوية ينتمي إليها الواعظ السلفي يؤصل وعظه عبرها ولا يخرج عنها، ما زال الواعظ السلفي يعتمد الإحالة إلى المصدر وإلى المراجع الدينية المعتبرة لديه، وما زال الوعظ السلفي الفضائي مستندا لمراجع على الأرض ولم ينفصل أو يستقل عنها.
والأهم من ذلك كله أن الخطاب السلفي ما زال مشدودا إلى الآخرة؛ ولم تصبح الدنيا في وعظه محل الثواب والعقاب، ما زال التخويف بعقاب الآخرة حاضرا، وهو إن غاب فلجهة الترغيب في ثوابها، ولم يدخل بعد في الدنيوية، حتى الإعلان التسويقي عن تنزيل النغمات ما زال يربط شراءها بالثواب الأخروي (رنة هتدخل بها الجنة)؛ وعلى ما في هذا الإعلان من توظيف ديني فج ومسف فإن منطق أصحابه أن الجنة وثواب الآخرة هو المقصد.
إن الجمهور في الوعظ السلفي الفضائي حاضر وموجود، وهو الذي يختار الخطاب السلفي (شعار القناة: شاشتنا يصنعها الناس)، لكن اختياره لا يؤسس له الحق في التدخل في المضمون أو تعديله، ولا يتحول أبدا إلى جزء من صناعة الخطاب.
إن علاقة السلفية بالجمهور في الفضائيات تؤكد لنا أن إقبال الجمهور عليها هو في جزء منه بحث عن المحافظة ضد تحولات عميقة تجتاح المشهد الديني في مقدمتها خطاب التدين الجديد الذي يكسر المحافظة بشكل ممنهج ومتعمد.
إن الإقبال على الخطاب السلفي في الفضائيات هو سعي لاستعادة أطروحة المحافظة التي انتهكها خطاب التدين الجديد، سواء في كسره للتقليد الديني سواء في طريقة قراءة النصوص الشرعية أو منهجية تفسيرها أو لغة الخطاب، أو في كسره للهوية الدينية التي تتعرض للانتهاك بدءا من شكل الداعية وملابسه وليس انتهاء بأجندة القضايا التي يطرحها والتي تتنوع بين التنمية وإدارة الذات والحوار مع الآخر والتعايش.. وتكاد تخلو من موضوعات الوعظ الديني التقليدية.
نكاد نلمس لدى جمهور الفضائيات السلفية حنينا لشكل الشيخ التقليدي وطريقة وعظه، وحنينا لتقليد ديني تعرض للانتهاك على يد مجموعة شباب، أو "شوية عيال" بالتعبير الشعبي، تحولت الدعوة على أيديهم إلى "مسخرة"، كما يذهب كثير من المتدينين التقليديين!
ثمة علاقة وثيقة بين الوسيلة الإعلامية ومستعملها، من ناحيتهم يتوافق الدعاة الجدد وخاصة أشهرهم عمرو خالد مع وسيلة الفضائيات؛ ومن ثم يستثمرون فيها من حيث الحرص على الوجاهة، وتوظيفها في الدعاية للبرامج والمشروعات، ومن حيث تحولها لوسيط اتصال بينهم وبين العالم.
لكن السلفية لا تستثمر كاملا في وسيط الميديا، ولا تميل لذلك، فقط تحتفظ بهذا الوسيط وتستفيد منه كناقل للخطاب السلفي وليس مؤثرا في مضمونه.
في الأغلب يقف السلفيون من الوسيلة الإعلامية ويقفون بها عند حدها الأدنى؛ حيث المظهر الطبيعي، والاتصال المتحكم به مع الجمهور، والسيطرة على تدفق المعلومة باتجاه واحد.
ليبقي الخطاب السلفي أو ما زال أقرب لاستثناء في مقاومة تغيير مضمونه وجوهره بتأثر من الفضائيات وثورة الاتصالات الحديثة.