الفضائيّات الدينيّة والدعاة الجدد… و«علمنة» التديّن!
باحث مصري في الحركات الإسلامية
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
لعبت الفضائيات الإسلامية دوراً بالغ الأثر في المشهد الإسلامي، فهي الوسيط الذي صنع ظاهرة الدعاة الجدد أهم الظواهر الدينية في العقد الأخير، كما أحدثت تغييرات جذرية في نمط التدين السائد واتجاهاته.
يؤرخ بالنصف الثاني لعقد التسعينيات من القرن المنصرم لظهور ما صار يعرف لاحقا بـ"الدعاة الجدد"، وهي الظاهرة التي تزامنت مع ما عرفته الساحة الإسلامية من تراجع ما يمكن تسميته بـ"الإسلام المؤسسي" الذي كان مسيطرا على الحالة الإسلامية سواء بصيغته الرسمية كما في المؤسسات الدينية الرسمية (كالأزهر الشريف، ووزارة الأوقاف، ومؤسساتها، ودار الإفتاء)، أو في صيغته الحركية التنظيمية كما في الجماعات الإسلامية السلمي المعتدل منها (الإخوان المسلمون) أو الثوري المتشدد (الجماعة الإسلامية والجهاد).
لقد عرفت هذه الفترة استكمال الدولة المصرية سيطرتها على الأزهر الشريف وبقية المؤسسات الدينية حيث كانت أداتها في المواجهة مع معارضيها الإسلاميين وكانت تقوم بشرعنة موقف الدولة في هذه المواجهات وهو ما أفقدها كثيرا من مصداقيتها واحترامها لدي الجماهير بعدما صار ينظر إليها باعتبارها "تابعة" للسلطة وغير مستقلة. ولم يكن وضع الإسلام الحركي بأفضل حالا؛ فالمعتدل منه مثل الإخوان المسلمين دخل في صدام مع النظام أدى إلى تغييبه عن النشاط في المجال العام طوال نحو عقد كامل، فيما أعلنت تنظيمات الإسلام الحركي المسلح نهايتها مع أكبر عملية مسلحة شهدتها البلاد وهي مذبحة الأقصر الشهيرة 1997 والتي توقف بعدها العنف تماما وبدأت مراجعاته فيما رحل بقية من يؤمن به خارج البلاد ليلتحق بتنظيم القاعدة!. لقد مهدت هذه الأجواء تماما لظهور نمط جديد للدعوة وللتدين يختلف عن السائد فكانت ظاهرة الدعاة الجدد.
تجلت ظاهرة الدعاة الجدد في عدد من الدعاة حديثي السن نسبيا وغير التقليديين؛ من مثل عمرو خالد، خالد الجندي، خالد عبد الله، صفوت حجازي.. ومصطفي حسني ومعز مسعود لاحقا.. تجمع بينهم سمات مشتركة؛ فالأغلب أنهم تلقوا تعليما مدنيا بالأساس وليس تعليما دينيا لكنهم بنوا لأنفسهم ثقافة دينية عصامية، ومعظمهم ينتمي لشرائح وطبقات اجتماعية مندمجة بل ومتميزة، وكلهم تقريبا خارج عما يسمي بـ"الإسلام المؤسسي" فلا صلة لهم تنظيميا أو وظيفيا بمؤسساته وتنظيماته وإذا وجدت فهي تاريخية تم تجاوزها أو هامشية التأثير، وكلهم يمزج في خطابه بين المرجعيات الدينية والمرجعيات غير الدينية دون أي شعور بالحرج أو التناقض بين هذه المرجعيات.
وتمثل هذه الظاهرة نمطا جديدا من التدين لم يكن معروفا من قبل في المجتمعات الإسلامية يتسم بكونه تدينا فردانيًّا يقوم على "الفردنة" ويعلي من قيمها مثل الرفاهية والاستهلاك والمتعة، وهو تدين ذو نزعة عصرية تجعل أصحابه أكثر انفتاحا على العالم بمراجعه وأفكاره وثقافاته، وهو تدين أخلاقي يهدف بشكل أساس إلى رفع أخلاقيات الناس دون الاهتمام بالجدل العقائدي، وهو تدين ذو طبيعة متعايشة غير ثورية لا يرى أبعد من الواقع مع مزيد من التحسينات. إنه أقرب إلى "وجبة" دينية تلبي الحاجات والأشواق الدينية للطبقات الاجتماعية التي يمثلها وهي الشرائح العليا من الطبقة الوسطى والصاعدة والطبقة العليا، وهو تدين خارج السياسة ليس له مشروع سياسي مختلف كما ليس من مصلحته تغيير سياسي جذري، كما أنه لا يعود بتكاليف أو تبعات اجتماعية على أصحابه الذين لا تتغير مواقعهم ولا واجباتهم ولا مواقفهم الاجتماعية كثيرا.
وعلى عكس الوسيط التقليدي للدعاة (وهو وسيط المسجد) كانت وسائل الاتصال الحديثة هي الوسيط الأساسي الذي حمل هؤلاء الدعاة الجدد ودعوتهم فقدمهم إلى الجمهور وصنع لهم جمهورهم الخاص، فكانت الإنترنت والقنوات الفضائية هي الوسيط الأهم للدعاة الجدد وليس المسجد وما يتصل به من وسائل تقليدية مثل خطبة الجمعة وحلقة الوعظ ودرس الفتوى وما تعارف عليه الناس من وسائط تقليدية للدعوة كان أحدثها شريط الكاسيت الذي تسجل عليه المحاضرة أو الخطبة.
الفضائيات و"صناعة" الدعاة الجدد
في البداية كان حضور هؤلاء الدعاة الجدد عبر برامج دينية خاصة في قنوات التلفزة الوطنية أو القنوات الفضائيات التي سعت إلى تجديد برامجها الدينية -أو إحيائها في الواقع- بهؤلاء الدعاة الجدد الذين كانوا يقدمون الدرس أو الموعظة الدينية بطريقة غير تقليدية سرعان ما جددت لهذه البرامج حيويتها واستقطبت لها جمهورا واسعا وشرائح من المشاهدين لم تكن تتعاطى تقليديا هذا النوع من البرامج. لقد كانت هناك رغبة عامة بالتغيير والتجديد في شكل الوعظ المقدم في البرامج الدينية ومضمونه، وهو ما وصل -ولو جزئيا- إلى قنوات التلفزة الحكومية نفسها التي سعت للبحث عن وجوه جديدة تؤدي هذه المهمة، وسنلحظ في هذا الصدد أن التلفزيون المصري كان من استضاف عمرو خالد في بداية ظهوره ضمن برامجه الدينية قبل أن يصبح لاحقا أهم نجوم الوعظ الديني بالفضائيات.
"كرت المسبحة" وسرعان ما زاد الطلب على هؤلاء الدعاة وما يقدمونه من وعظ ديني غير تقليدي فاتسعت مساحة ما يتاح لهم من برامج في قنوات ينظر إليها تقليديا كقنوات "إسلامية" مثلما هو الحال في قناة اقرأ التي يمتلكها رجل الأعمال السعودي صالح كامل صاحب باقة قنوات "إيه آر تي"، بل واستضافت قناة إل بي سي المسيحية المارونية المحسوبة على الكتائب اللبنانية عمرو خالد في برنامج ديني خاص به!.
فيما بعد سيتطور الأمر باتجاهين؛ الأول بزيادة جرعة هذا النوع من برامج الوعظ الديني في القنوات الفضائية العربية حتى صارت موضة هذه القنوات وهو ما يظهر في قنوات مثل قناة المحور وقناة دريم.. بشكل خاص، والثاني بظهور قنوات فضائية دينية متخصصة وهو ما يجعل حضور هؤلاء الدعاة في صلب عملها مثلما هو الحال في قنوات: الرسالة والناس والحكمة والرحمة وقنوات أخرى مختلفة تحمل صفة "الإسلامية" ناهز عددها خمسا وعشرين قناة "إسلامية"!.
ثمة تلازم وثيق لا تنفصل فيه ظاهرة الدعاة الجدد عن ظاهرة انتشار الفضائيات الدينية وتعاظم حضورها وتأثيرها في الفضاء الديني، وهو تلازم يمكن رصده وتتبعه عبر مستويات عدة تتبادل فيها المواقع أحيانا ويقف الاثنان على قدم المساواة فيها أحيانا أخرى وكلها تتضافر -وهذه هي المفارقة- على الاتجاه بالفضاء الديني نحو مزيد من العلمنة!.
تأثر الظاهرة الدينية بتحولات العولمة
أتصور أنه ومهما تكلمنا عن خصوصية الإسلام كدين فإن أي دراسة جادة لمسار الظاهرة الدينية الإسلامية وتحولاتها لا يمكن أن تتم بمعزل عن الظاهرة الدينية في العالم عموما وما نال من حالة التدين من تغيرات وتحولات تبدو كونية في كثير من مظاهرها، بل إن الصعود الديني الأخير وما صاحبه من تعاظم حضور الدين في الفضاء العام، كما يبدو جليا في ظاهرتي الفضائيات الدينية والدعاة الجدد، لا ينبغي فصله عما جرى في العالم في العقود الأخيرة من تحولات كونية كان من أهمها ما صار يعرف بنهاية الأيدلوجيا وسقوط الروايات الكبرى وما تبع ذلك أو ترتب عليه من تعاظم حضور الدين في الفضاء العام الذي كان قد صار علمانيا صرفا مع تأسيس الدولة الحديثة.
لقد أدى سقوط الأيدلوجيات الكبرى التي كانت تلهم العالم رؤاه وأفكاره ومشروعاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية إلى تصاعد الطلب على الدين كمصدر رئيس (صار لاحقا مصدرا وحيدا) للمعاني والرموز والطقوس التي يحتاجها الفضاء العام ومجالاته المختلفة مما لم يكن حاضرا فيه من قبل في العصر الحديث، ومن تصاعد الطلب على الدين ليس في السياسة والاقتصاد فقط بل وفي وسائل الإعلام التي بدت أكثر حساسية وتأثرا بهذا التحول كما كانت الأكثر قدرة على تلبية هذا الطلب الديني المتعاظم خاصة مع احتدام الجدل الدائر والمتصاعد حول الدين وسؤال الهوية وموقع الدين فيها وهو جدل يدور معظمه عبر الفضائيات أو البرامج الدينية ويشارك فيه الدعاة الجدد بقسط وافر.
الفضائيات و"علمنة" التدين
ولم تقف التحولات الكونية عند حدود علاقة الدين بالفضاء العام؛ رموزه وطقوسه ومعانيه بل امتدت أيضا وفي العمق لتنال من الدين نفسه مفهوما وممارسة لتسير باتجاه مزيد من "علمنة" التدين وهو ما تشارك فيه ظواهر مثل الفضائيات الدينية والدعاة الجدد بامتياز.
تتم "علمنة" التدين عبر تحويله من رؤية مؤسسية إلى أخرى فردانية تتأسس فيها علاقة فردية صرفة بين الإنسان وبين المعاني الدينية وتأخذ هذه العلاقة الفردانية شرعية وقبولا اجتماعيا يؤدي في النهاية إلى القطع مع المؤسسية الدينية أو الرؤية المؤسسية للدين، وهذا عين ما تقوم به الفضائيات الدينية بعد أن صنعت نجومها من الدعاة الجدد. فعلاقة المشاهد ( جمهور الفضائيات) بالمعاني الدينية تتحول إلى علاقة اختيار ومن ثم مقارنة وتفضيل أساسها القناعة والقرار الفردي، كما يتعامل المشاهد مع التدفق الديني من دروس ومواعظ على هذه الفضائيات بمنطق فرداني بحت، فيما ينفصل ما يقدمه الدعاة الجدد المستقلون تدريجيا عن أي رؤية مؤسسية بحيث تقوم علاقة عرض وطلب بينهم وبين الجمهور يقدمون فيه عرضا دينيا يناسب ويلاءم ويلبي الطلب الديني للجمهور ونوعيته!
ومرة أخرى تتم "علمنة" التدين عبر نقل النقاش حول الدين إلى الفضاء العام وليس إلى دوائر العلماء والمختصين، والفضاء العام هو عادة فضاء علماني بامتياز يقوم على الحوار والنقاش فيما يسمي بالديمقراطية الاتصالية التي تلعب فيها الميديا دورا محوريا.. حيث تسرع الميديا -وفق منطق المنافسة- وتيرة النقاشات الدينية على أساس من الحوار والاختلاف وتزايد الخيارات الفردية.. وشيئا فشيئا تتلاشي فكرة الحفاظ على رؤية أو تفسير ثابت أو وحيد أو حتى متفق عليه للنص الديني وهذا هو جوهر علمنة الدين.
إدخال الدعوة في منطق السوق
بتعدد المراجع الدينية الذي تساهم في خلقه الفضائيات الدينية ودعاتها الجدد تتعدد بدورها الفتوى الدينية بعدما تحول الدين إلى المجال الفرداني غير الجماعي (الذي هو أصل الإسلام)، وتدار تلك التعددية وفق منطق الاختيار والعرض والطلب الذي هو منطق السوق.
إن قراءة معمقة لظواهر مثل الفضائيات الدينية والدعاة الجدد لا يمكن أن تبعد بهما عن كونهما نتاجا لمنطق السوق سواء في تعامله مع الدين من خلال تعددية تفرض منطق الاختيار ومن ثم العرض والطلب كما أسلفنا، أو من خلال كونهما يقومان على إدخال "الدعوة" نفسها ضمن منطق السوق من حيث قوانين العرض والطلب وما يتبعها من مفردات أهمها ما صار يعرف – ربما لأول مرة في تاريخ الإسلام- بحقوق الملكية الفكرية للدعاة!. وهي حقوق توفر لصاحبها/الداعية حجية ملاحقة كل من لا يقر له بالملكية الفكرية للمنتج الدعوي ويؤدي له مقابلا ماديا عنه! كما صار يفعل داعية مثل عمرو خالد الذي طالب في آخر قضاياه بشأن حقوقه الفكرية بتعويض قيمته المليون جنيه!.
كما يمكن أن نرصد في هذا الصدد أنماطا من علاقة "السوق" بين هؤلاء الدعاة وبين أرباب هذه القنوات من توظيف واحتكار وتنافس؛ حيث يوقع الداعية مع القناة حق احتكار حصري يمنع بموجبه من تقديم دروس الوعظ الديني (الدعوة!) في أي قناة أخرى (منافس آخر!)، وهو نمط من العلاقات يؤثر في جوهر المضمون الديني المقدم خاصة في بعض القضايا المتعلقة بطبيعة عمل هذه القنوات واستثماراتها، وفي هذا يمكن التوقف كثيرا عند علاقة الداعية عمرو خالد بالمستثمر ورجل الأعمال السعودي صالح كامل صاحب قناة اقرأ (التي كانت تبث برامج عمرو) وباقة قنوات الإيه آر تي التي تعمل بنظام الشفرة ويؤدي عنها اشتراكات مالية. ففي ضوء هذا النمط من علاقة "السوق" أفتي عمرو خالد ( رغم أنه دائم التأكيد على أنه داعية وليس مفتيا!) بحرمة وصلات الستالايت التي انتشرت في معظم البلاد العربية الفقيرة للتحايل على المنع الذي يتيح لمشتركي هذه القنوات المشاهدة الحصرية لبعض البرامج والمباريات التي احتكرت القناة حق بثها حصريا!
علاقة استهلاكية بالدين!
إذن؛ تؤسس الفضائيات الدينية ونجومها من الدعاة الجدد لما يمكن اعتباره علاقة استهلاكية بالدين وفق تسمية الفيلسوف الفرنسي باتريك ميشيل، وهي علاقة يتعامل فيها المشاهد مع الدين بشكل استهلاكي فيختار منه العرض الديني المناسب له من خلال مقاييسه الخاصة بحيث يختار من الدين المساحة أو الفضاء والحيز المريح وغير الإجباري بعيدا عن أي نظام قيمي يحمل في طياته الإجبار، ووفق هذه العلاقة الاستهلاكية بالدين سيكون للفرد / المشاهد إمكانية رفض هذا العرض الديني في حال عدم قبوله ليبحث (لدى داعية آخر في فضائية أخرى) عن عرض ديني أكثر قبولا!..إن علاقة المشاهد بالفضائية الدينية لن تختلف كثيرا عن علاقته بقائمة الفضائيات التي يوفرها لها نوع القمر الفضائي الذي يشترك به، بل إن علاقته بالداعية الفضائي لن تبعد كثيرا عن علاقته بمغني الفيديو كليب الذي يمكن أن يختاره من بين آخرين كثر تكتظ بهم القنوات الفضائية. فالمعيار واحد: استهلاك لما فيه راحة الفرد!.
الداعية النجم أو الماركة التجارية الدينية
تصنع الفضائيات دعاتها الذين يكونون على شاكلتها يتشابهون فيما بينهم حد التنميط حتى يصح القول أن ما يجمع بين الدعاة التلفزيونيين عبر العالم أكثر مما يفرقهم أيا كانت دياناتهم، ومن ثم فلم يكن غريبا هذا التشابه الكبير بين الدعاة الجدد في العالم الإسلامي وخاصة عمرو خالد وبين نظرائهم الإنجيليين في الولايات المتحدة الذين كانوا الأسبق ظهورا، على أن التيمة الأساس التي تجمع بينهم هي تيمة "النجم": الداعية النجم أو النجم الداعية وما تقوم عليه من منطق دعائي تسويقي أساسه صناعة النجم الذي يتأيقن ويصير أيقونة تحمل قيمتها في ذاتها، ليتحول لاحقا إلى ماركة تجارية!.
لم تكن فكرة الداعية " النجم " يوما أصيلة في فضاء الدعوة الإسلامية، بل هي وليدة منطق السوق وزمن الدعوة في الفضائيات، وقد أشاعها الدعاة الجدد في الحقل الدعوي رغم أنه "يفترض" أن يختلف تقليديا حد التناقض مع فكرة النجومية، فـ(الحق لا يعرف بالرجال ولكن يعرف الرجال بالحق واعرف الحق تعرف أهله) وحيث ثقافة راسخة في رفض الشهرة والحذر منها والتحذير من عواقبها.
قدمت هذه الورقة في ندوة علمية عن "الفضائيات الإسلامية" أقامها مركز دراسات الإسلام والعالم المعاصر بالخرطوم – مايو 2008.