الإخوان والصوفية..ماض غير مستعاد
باحث مصري في الحركات الإسلامية
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
تقارب هذه الورقة قضية العلاقة بين الحركات الإسلامية والتصوف تاريخيا، وتمثل بحالة الشيخ حسن البنا ومشروعه في بناء جماعة الإخوان المسلمين، كما ترصد كيف كان تراجع الحضور الصوفي سببا في أخطاء تاريخية للحركة مع المجتمع والدين، وتطرح في الأخير ضرورة استعادة الحركات الإسلامية للمكون الصوفي التربوي الذي كان عاصما لها من تغول السياسية وتحكم منطقها وأخلاقها.
نشأ الشيخ حسن البنا نشأة صوفية خالصة، فتأثر منذ طفولته بدروس شيوخ الصوفية التي كانت تعقد في المسجد الصغير ببلدته المحمودية بين المغرب والعشاء، واجتذبته مبكرا " حلقة الذكر بأصواتها المنسقة ونشيدها الجميل وروحانيتها الفياضة، وسماحة هؤلاء الذاكرين من شيوخ فضلاء وشباب صالحين، وتواضعهم لهؤلاء الصبية الصغار الذين اقتحموا عليهم مجلسهم ليشاركوهم ذكر الله تبارك وتعالى"، وانتمي في مطلع شبابه للطريقة الحصافية الشاذلية وواظب على الوظيفة الزرّوقية وهي الوظيفة التي زكاها والده الشيخ عبد الرحمن البنا الشهير بالساعاتي صاحب كتاب الفتح الرباني في ترتيب مسند الإمام أحمد الشيباني، والذي كتب عنها أيضا رسالة خاصة أسماها ( تنوير الأفئدة الزكية بأدلة أذكار الزروقية) أكد فيها موافقتها للكتاب والسنة.
أخذ الشاب حسن البنا العهد على شيخ الطريقة الحصافية الشيخ عبد الوهاب الحصافي وظيفة ووردا، وشارك في الطريقة أورادا ووظيفة واحتفالات، وتطورت علاقته بها فانتقل من محب إلى تابع مبايع، وظل مؤمنا بأن لا حرج في اتباع الوظائف والأوراد لكنه وضع شروطا لسلامتها أجملها في ثلاثة: البعد عن الأعجمية، والبعد عن الفلسفية والبعد عن الشطحات.
ورغم أن الشيخ حسن البنا حسم بوضوح انتماءه للصوفية ولكنه ظل يأخذ على المتصوفة أمرين لخصهما في: المبالغة في الصمت والجوع والسهر والعزلة رغم أن لها أصول في الدين، وكذا خلط التصوف بالمواجيد والفلسفة.
ورغم ذلك فقد أقر للتصوف بالفضل في نشر الإسلام في بدان وجهات كانت نائية عنه خاصة في أفريقيا وآسيا، كما أقر بفضل التصوف في ناحية التربية والسلوك لما له من "الأثر القوي في النفوس والقلوب ولكلام الصوفية في هذا الباب من صولة ليست لكلام غيرهمّ.
لقد تكونت لدي الشيخ حسن البنا قناعة أكيدة بأهمية التصوف؛ فليس أفضل من الصوفي لتقوم عليه نهضة الأمة إذ الصوفي عنده " متخفف يجب عليه أن يقطع علائقه بكل ما سوى الله، وأن يجاهد فى هذه السبيل ما أمكنه من ذلك " ولكن ظل قادرا على وضع يديه على ما رأي أنه مواطن خلل وضعف تحول دون قيام التصوف بما يمكن أن يعول عليه في نهضة الأمة من عثرتها.
لقد كان الشيخ البنا على ثقة كاملة بقدرة الصوفية على قيادة الجماهير إذا ما خرجت من عزلتها وتفاعلت مع مؤسسات الأمة خاصة مؤسسة الأزهر الشريف بقوتها العلمية والجماعات الإسلامية العملية، ومن ثم فهو سعي إلى أن يكمل ما بدأه مصلحو الصوفية من أمثال الشيخ توفيق البكري والشيخ عبد الله عفيفي من إصلاح التصوف منهجيا لتأهيله لقيادة الأمة.
ويبدو أن حسن البنا عاني في بداية حياته الدعوية ترددا حول أي الطرق يسلك في طريقه إلى الله؛ وكان يقارن بين طريقين أولهما التصوف الصادق الذي يتلخص في الإخلاص والعمل وصرف القلوب عن الاشتغال بالخلق خيرهم وشرهم وهو أقرب وأسلم، وثانيهما طريق التعليم والإرشاد، الذي يجتمع مع الأول في الإخلاص والعمل، ويفارقه في الاختلاط بالناس، ودرس أحوالهم وغشيان مجامعهم ووصف العلاج الناجح لعللهم. وهذا أشرف عند الله وأعظم.
كما تكشف نقاشاته المطولة مع شيوخ الصوفية الذين عرفهم مثل الشيخ عبد الوهاب الدندراوي والشيخ حسن عبد الله المسلمي والشيخ عبود الشاذلي والسيد محمد الحافظ التيجاني أنه كانت لديه ميول حركية مبكرة لكن من دون رفض للتصوف أو خروج عليه التصوف بل رفض لأسلوب الطرقية أو نشر الدعوة على أنها طريق خاص ، وكان يرد على الشيخ عبد الرحمن سعد أحد خلفاء شيخه الحصافي لما كان يناقشه في جدوى أسلوب الطريقة: "إنني لا أريد الدخول في خصومة مع أبناء الطرق الأخرى، وإنني لا أريد أن تكون محصورة في نفر من المسلمين، ولا في ناحية من نواحي الإصلاح الإسلامي، ولكنى حاولت جاهداً أن تكون دعوة عامة قوامها العلم والتربية والجهاد، وهى أركان الدعوة الإسلامية الجامعة، ومن أراد بعد ذلك تربية خاصة فهو وما يختار لنفسه".
وحين بدأ العمل تردد الشيخ حسن البنا كما يبدو في سيرته الذاتية كثيرا بين التصوف والتنظيم الحركي، وكان إيمانه بأهمية التصوف وفاعليته مع رفض أسلوب الطرقية المغلق سببا فيما انتهي إليه من نموذج جديد للعمل الإسلامي هو ما يمكن أن نسميه بالصوفية الحركية العسكرية.
لقد بدأ الشاب حسن البنا بتأسيس جمعية إصلاحية ( جمعية الحصافية الخيرية ) وانتخب سكرتيرا لها ولم يزل طالبا لم يغادر بلدته بعد، ثم ما إن استقر في مدينة الإسماعيلية للعمل مدرسا بها حتى أسس جمعية الإخوان المسلمين الخيرية التي بدأت على غرار الجمعيات الصوفية قبل أن تتطور سريعا لتظهر فيها الروح الحركية الجديدة.
حين أسس البنا جمعيته الجديدة كان يتجاوز التكوين الطرقي المغلق على أبناء الطريقة ليؤسس لتنظيمه الحركي الأكثر انفتاحا على الأمة ولكن دون أن يغادر روح التصوف، لقد تحول حسن البنا إلى الدعوة العامة بدلا عن الدعوة الطرقية، وحدد قوام دعوته بـ: العلم والتنظيم والرقابة
لقد صاغ حسن البنا جماعته لتكون جماعة إسلامية شاملة فهي " دعوة سلفية وطريقة سنية وحقيقة صوفية وهيئة سياسية وجماعة رياضية ورابطة علمية ثقافية وشركة اقتصادية وفكرة اجتماعية" ولكنه كان واعيا أن نظامها كجماعة يقوم على قوامين أساسيين هما الصوفية والعسكرية، وقد قال هذا نصا حين أراد وصف أهم جوانب دعوة الإخوان: " ونظام الدعوة في هذا الطور صوفيُّ بحت من الناحية الروحية وعسكري بحت من الناحية العملية ".
حين أسس حسن البنا الجماعة الإسلامية الأولى في العصر الحديث كان يؤسس لما يمكن أن يسمى بالحركية الصوفية العسكرية، وهي حركية استحضر فيها روح التصوف ولكن من دون أطره الطرقية المغلقة، ويمكن القول أن البنا في بنائه لجماعته استفاد من التصوف على ثلاث مستويات: البناء التنظيمي، التأطير الثقافي، والتكوين التربوي العملي.
- البناء التنظيمي
لقد أسس الشيخ حسن البنا جماعته شمولية جاءت مزيجا يجمع ما بين شكل التنظيمات السياسية الفابية والشيوعية التي كانت قد انتشرت في تلك الفترة ( الثلث الثاني من القرن العشرين) وبين الفضاء الصوفي الذي نشأ في ظله، ويظهر الأثر الصوفي واضحا لا تخطئه العين في عدد من المكونات التنظيمية في جماعته.
فهناك " الأسرة" التي هي أصغر وحدة تنظيمية تتأسس منه الجماعة، وهي يمكن أن ينظر إليها كتطوير لـ " الخلية" الشيوعية ولكن باتجاه صوفي، فقد اختار البنا اسم "الأسرة" بدلا من الخلية تعبيرا عن أنماط العلاقات التي تقوم أو ينبغي أن تكون بين أفرادها، هي تحيل بالضرورة إلى معاني التكافل والتراحم والارتباط الوثيق الذي يماثل رابطة الدم في حين تحيل "الخلية" إلى نمط من علاقات الإنتاج المنضبطة ولكن دونما إشارة إلى الجانب العاطفي والإنساني.
إن وحدة الأسرة في البناء التنظيم لجماعة الإخوان صارت تحيل إلى نمط من العلاقات التنظيمية ولكن في إطار روحاني وفي ظل افتراض علاقات إنسانية خاصة تكاد تقترب مما بين إخوة الدم، فهي تطوير للإطار الشيوعي" الخلية" في انضباطه وفاعليته ولكن من بعد بثه مضمونا وروحا صوفية يفتقدها.
ترتبط أعضاء الأسرة الواحدة برباط صوفي تربوي محض قبل أن يكون رباط سياسي تنظيمي، فهناك الأوراد اليومية الجماعية ( مثل الوظيفة الكبرى والوظيفة الصغرى) والأذكار ( مثل أذكار الصباح والمساء ) وحفظ القرآن الكريم وفق مقررات ثابتة ومتصاعدة، وزيارة القبور وقيام الليل وعيادة المرضي وجلسات التفكر..وكثير من الممارسات والطقوس التي هي إما ذات جذر صوفي أو متأثرة بروح التصوف فلا تخلو من لمحاته.
ثم هناك " الكتيبة" وهي لقاء تنظيمي شهري يجمع عددا من الأسر دون أن يفترض تدريبا أو عملا عسكريا بالضرورة، وهى كما تبدو مقتبسة من فضاء العسكرية الذي لم يكن غريبا عن التنظيمات السياسية التي تأسست وقتها والتي كان لها أذرع أو أجنحة عسكرية في غالبيتها خاصة إذا استحضرنا ظرفية الاحتلال الانجليزي للبلاد وأجواء ما بين الحربين العالميتين.
ورغم ظلالها العسكرية فقد أعطي حسن البنا لـ " الكتيبة " حمولة معنوية مختلفة ولم يدخلها في آليات بناء تنظيمه إلا بعدما أعطاها بعدا صوفيا واضحا فصار الصيام جزءا منها حيث يكون اجتماع أعضاء التنظيم على إفطار متواضع بل وبالغ التقشف، وتكون هناك صلاة قيام الليل لفترات طويلة، أو السير مع الذكر عدة كيلو مترات، أو صعود الجبال في الليال القمرية للجمع ما بين مشقة التدريب البدني وسنة التفكر والتدبر في خلق الله.
وهنا يجب أن نتوقف أمام حقيقة أن البنا أعطي للمضمون الصوفي في تنظيمه بعدا جهاديا أو استعاده من جديد بعدما غاب في الممارسات الطرقية التي تغلب عليها الطقوسية.
لقد جاءت " الكتيبة " في بعض تجلياتها تطويرا للحضرة العامة المعروفة عند المتصوفة، ولكن بعدما انتقلت من الممارسات الطقوسية إلى الممارسات الجهادية التعبدية.
ومن بيئة التصوف اقتبس الشيخ حسن البنا أيضا لقب " المرشد " وهو اللقب الذي اختاره لنفسه واتبعه فيه كل أسلافه، وهو لقب ينتمي للفضاء الصوفي بامتياز والذي عرف ما يسمي ب" المرشد الكامل" على نحو ما يؤكد الأستاذ سعيد حوّى.
لقد فضل البنا أن يبتعد بتنظيمه وجماعته عن الألقاب التي يمتلأ بها فضاء التنظيمات السياسية الأخرى (الرئيس والمدير والزعيم..) وآثر أن يلجأ للفضاء الصوفي تمييزا لجماعته وإبعادا لها عن الدلالات والظلال السلبية لمثل هذه التسميات التي تحيل إلى حالة سياسية صرفة غير ما أرداه.
وقد كان للقب المرشد أهمية قصوى أيضا في قدرته على بسط سيطرته على أعضاء التنظيم الذين صارت علاقتهم به تجمع بين الانضباط التنظيمي من جهة والخضوع لسلطته الروحية من جهة أخرى ومن ثم فلم تشهد الجماعة صراعات سياسية على هذا المنصب كالتي وجدت في التنظيمات السياسية الأخرى، وما يمكن أن يكون وقع فيها ساهمت الدلالة الروحية للقب في الحد من آثاره وحصره في حدود ضيقة.
وفي تحديده لمراتب العضوية في جماعته وتعيينه لمعاييرها استفاد حسن البنا مما ألفه وتعرف عليه في طبيعة العضوية ودرجاتها في الطرق الصوفية، فالبنا الذي بدأ في الطريقة الحصافية محبا ثم أصبح تابعا مبايعا استفاد من هذه التراتبية فقسم مراتب العضوية في جماعته على غرار ما وجده في الطرق الصوفية فصارت تبدأ من الأخ المحب فالمتعاطف فالمبتدئ فالمنتسب فالعامل فالمجاهد، كما اعتمد البنا في جزء كبير من آليات ومبررات الصعود داخل التنظيم على نفس المعايير التي يعرفها الفضاء الصوفي والتي تتدرج حسب درجة الالتزام بواجبات الجانب الروحي من أداء الصلاة وقيام الليل والإكثار من صيام النوافل..وغير ذلك.
- 2. التأطير الثقافي
استحضر حسن البنا خلفيته الصوفية وما تفتحت عليه عيناه من تراث التصوف وأدبياته وهو يبني جماعته التي نشأت كحركة تغيير ثقافي ومجتمعي قبل أن تكون حركة سياسية.
تجلى ذلك في الوزن الكبير الذي احتله التصوف في المقررات الثقافية للجماعة، فقد أدخل فيها مبكرا عيون كتب التصوف مثل شرح حكم ابن عطاء الله السكندري، ورسالة المسترشدين للحارث المحاسبي، والمواهب اللدنية للقسطلاني، والأنوار المحمدية للنبهاني ، والرسالة القشيرية، وإحياء علوم الدين للإمام أبي حامد الغزالي ومختصر منهاج القاصدين لابن قدامة المقدسي..ولكنه حرص على التزام ما يتناسب مع التنظيمات العامة وتجنب ما تختص به الطرقية أو يقتصر على مريديها فقط.
كما عمد حسن البنا إلى تراث التصوف للاستفادة منه في صياغة زاد روحي لحركته الوليدة كان يمتاح فيه من بحر التصوف المفتوح دون التعريج على طرقه الوعرة؛ حيث وضع للحركة رسائل بالمأثورات والأوراد ( الوظيفة الكبرى والوظيفة الصغرى)، كما كانت له رسالة صوفية ( مناجاة) لم يقدر لها الانتشار ولكنها تكشف عن متصوف كبير له في علوم التصوف ومسالكه قدم راسخة..وقد تحرى البنا في هذا الزاد ألا يخرج على السنة والمأثور سواء في الأدعية أو الأوراد.
- التكوين التربوي والعملي
استدعى حسن البنا خبرة الطرق الصوفية ووظفها كأبلغ ما تكون في التكوين العملي والتربوي لجماعته. فقد اهتم بالأحفال الصوفية مثل المولد النبوي وعمل على توظيفها في عمل التنظيم فحرص على الاحتفال بالمولد النبوي، ويروي الحاج عباس السيسي من الرعيل الأول الذي حضر فترة التأسيس فيقول: " دعا الإخوان المسلمون بالإسكندرية إلى الاحتفال بذكرى مولد الرسول صلى الله عليه وسلم في حفل يحضره فضيلة المرشد العام حسن البنا بمسجد نبي الله دانيال ... وبدا الأستاذ المرشد حسن البنا محاضرته ، ثم دخل في الموضوع الذكرى ، فقال : نحيي ذكرى مولد الرسول صلى الله عليه وسلم ، ومن حق الناس جميعاُ مسلمين وغير مسلمين أن يحتفلوا بهذه الذكرى المباركة ، فرسولنا عليه الصلاة والسلام لم يأت للمسلمين فقط "
كما يروي الأستاذ محمود عبد الحليم أحد أعضاء الهيئة التأسيسية للإخوان شيئا قريبا من هذا فيقول: " كنا نذهب جميعا كل ليلة إلى مسجد السيدة زينب فنؤدي صلاة العشاء ، ثم نخرج من المسجد ، ونصطف صفوفاً ، يتقدمنا الأستاذ المرشد حسن البنا ، ينشد نشيداً من أناشيد المولد النبوي ، ونحن نردده من بعده بصوت جهوري جماعي يلفت النظر"
كما سعي حسن البنا إلى أن تكون الأذكار والأوراد وسيلة لجمع التنظيم، بل وجعل الاجتماع اليومي على الذكر جزءا من أدب الأخ المسلم ، وهو لهذا الغرض وضع للتنظيم مجموعة الأوراد اليومية الخاصة التي يجتمع عليها وهي ورد الوظيفة الكبرى الذي اختصره في الوظيفة الصغرى ليلتزم به الأخ المسلم في حال عدم تمكنه من إتمام الأول.
وحرص البنا على الاستفادة من التراث الصوفي في ضبط بنية تنظيمه والارتقاء بها روحيا فوضع له ورد المحاسبة في اليوم والليلة ليكون أداة تضبط مدي التزام الفرد بواجباته سواء في العبادات أو الدعوة، كما لجأ إلى الترقية الروحية بممارسات وطرائق صوفية، فقد كان كتاب " التوهم " للحارث المحاسبي من المقررات التربوية الأساسية في الجماعة واستمر حينا من الدهر يدرس في الأسر ويطبق في الليالي التعبدية في لقاءات الكتائب وهو كتاب صاغ الأحاديث وما تدل عليه الآيات من مواقف يوم القيامة بأسلوب يجعل القلب يحضر وكأنه يشاهد هذه الوقائع عيانا فتحدث المعايشة ويحدث التأثر.
أسس الشيخ حسن البنا جماعته الإخوان المسلمين عام 1928 كجمعية خيرية على غرار الجمعيات الخيرية ذات التوجه الصوفي المعروفة وقتها، ولكن ما إن مرت عشر سنوات حتى بدت الغلبة للجانب السياسي منها وساعدها على ذلك الطبيعة الحركية التي أعطتها دينامية كبيرة أكبر مما تحتمله الجمعيات الخيرية ذات النفع العام، كما كان الظرف التاريخي سببا جوهريا في تحولها الكبير نحو العمل السياسي إذ لم يكن من السهل الاحتفاظ بها مجرد جمعية خيرية في ظروف الاحتلال العسكري وسعي المصريين لنيل الاستقلال. وحين حضرت السياسة بشكلها التنافسي المباشر القريب إلى الحزبية كان ذلك إيذانا بغياب التصوف ببعده الروحي والتربوي.
لقد كان الحضور السياسي الكثيف خاصة بعدما تحول إلى عمل عسكري يمارسه النظام الخاص سببا في تراجع الحضور الصوفي داخل الجماعة إلا من ممارسات صوفية انقطعت عن أصلها وصارت أقرب إلى تمهيد للفعل السياسي مثل الأحفال والمناسبات الدينية.
لقد كان تراجع التصوف متواكبا مع تغول السياسي وغلبته على الدعوي والتربوي في جماعة الإخوان، وهو ما أدركه الشيخ حسن البنا فكان يبدي أسفه بعد أن انتهي مشروعه السياسي بالصدام مع السلطة وحل الجماعة وكان يردد قبيل اغتياله–وفق ما رواه عنه الشيخ محمد الغزالي: لو استقبلت من أمري ما استدبرت لعدت إلى أيام المأثورات..في إشارة منه إلى البعد الصوفي الروحي الذي كان حاضرا في بدايات الجماعة.
لكن على كل حال لم يترك القدر للبنا فرصة ليستقبل من أمره ما فات وليعيد الجماعة إلى مهمتها الأساس: التربية والدعوة، فقد اغتيل بعد أسابيع قليلة من قرار حل جماعته 12 فبراير 1949، وتعمقت أزمة السياسية بعدما فقدت السفينة ربانها، ثم استفحلت لما دخلت الجماعة في صراع وجود مع ضباط ثورة يوليو راح ضحيته عشرات الآلاف في السجون والمعتقلات والمنافي لتضع الأزمة بذور العنف ويخرج جزء من تيار المدرسة الإخوانية الوسطية ويؤسس لتيار العنف والتكفير الذي وضعت بذرته في السجون والمعتقلات لتثمر بعد خروجها جماعة التكفير والهجرة والجماعات المسلحة.
كانت هذه التطورات مما ساهم في تآكل الحضور الصوفي داخل جماعة الإخوان كما كان هناك تطور آخر لا يقل تأثيرا وهو المد السلفي الوهابي( تمييزا عن سلفية حسن البنا التي هي امتداد لرشيد رضا) الذي اجتاح جماعة الإخوان منذ بدأ حقبة المنافي فحاصر المكون الصوفي فيها.
لقد مرت الجماعة بحالة من التحول للسلفية الوهابية منذ أوائل الخمسينيات وتعززت مع اشتداد الحملة الناصرية على الجماعة وفرار عدد من كبار قادتها واستقرارهم بدول الخليج وخاصة المملكة العربية السعودية محضن التيار السلفي الوهابي، ثم تأكدت تماما في حقبة السبعينيات التي شهدت أقوى انطلاقة للتيار الوهابي دعمها بعد انكسار المشروع القومي الناصري بعد هزيمة يونيو حزيران 1967 ثم موت جمال عبد الناصر 1970، ثم الطفرة البترولية وارتفاع أسعار النفط عقب انتصارات أكتوبر 1973 التي استفادت منها دول الخليج وكانت مما ساعد الدعوة الوهابية على مد نفوذها الديني في كثير من أنحاء العالم الإسلامي ومنها مصر.
وفي هذه الحقبة أيضا ظهرت الجماعات الإسلامية في الجماعات المصرية والتي كانت في معظمها لها رافد سلفي قوي، ثم لما نجح الإخوان في ضم القطاع الأكبر منها كانت السلفية تثبت أقدامها وتملأ فراغ المنظومة الإخوانية التي لم تعد صوفية.
لقد جرى تحول كبير في المنظومة الإخوانية على مدار نصف قرن نقلها من الإطار الصوفي الذي يعطي أولوية للجانب الروحي إلى الإطار السلفي الوهابي الذي يغلب الاهتمام بالنقاء العقائدي وما يفرضه ذلك من حجاج وصدام ما التيارات والأفكار والممارسات التي لا يراها متفقة مع الكتاب والسنة.
كما تراجعت مساحة التربية والدعوة لحساب العمل السياسي الذي توسعت فيه الجماعة بشكل جعلها أقرب إلى جماعة سياسية ذات مرجعية إسلامية منها إلى جماعة إسلامية دعوية لها اهتمام ما بالسياسة.
وفي كل الأحوال تعيش الجماعة حالة تحولات كبيرة كما تشهد نقاشات واسعة حول مستقبلها، ويكاد يكون الحديث عن ضرورة العودة إلى الاهتمام بالجانب الروحي قاسما مشتركا في كل هذه المناقشات.