الإخوان المسلمون ومأزق الحركات الاجتماعية الجديدة في مصر
باحث مصري في الحركات الإسلامية
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
بعد حراك ملحوظ وربيع لم يطل تأكد لمعظم المراقبين تراجع قدرة القوى السياسية التقليدية في الوطن العربي على إنجاز تقدم معتبر في قضية الإصلاح، في الوقت الذي تصاعد فيه حضور الحركات الاجتماعية الجديدة وتأثيرها في مجرى الأحداث.
وفي بلد كبير كمصر تعيش القوى السياسية التقليدية مأزقا حرجا سواء في النظام أو المعارضة فيما تصدرت الحركات الاجتماعية باحتجاجاتها المطلبية واجهة المشهد السياسي حتى استطاعت تنظيم نحو سبعمائة إضراب منذ بداية هذا العام (2008)، كان أبرزها تنظيم إضرابين كبيرين في كل البلاد في أقل من شهر واحد كاد أولهما (إضراب 6 أبريل) يتحول إلى ما يشبه التمرد الشعبي خاصة في مدينة المحلة الكبرى بشمال البلاد، ثم جاء الثاني (إضراب 4 مايو) بمثابة إهانة رمزية مقصودة للنظام باختيار يوم ميلاد الرئيس كيوم لإعلان الحداد وارتداء السواد!.
أبرز ما في المشهد الجديد الاضطراب الكبير الذي وسم به موقف قوى المعارضة التقليدية والذي جعلها تبدو عاجزة عن فهم هذه الحركات الاجتماعية الجديدة ذات الاحتجاجات المطلبية (تمييزا لها عن حركات اجتماعية أخرى ذات صلة بقضايا الهوية مثل النسوية..) ومن ثم التعاطي معها، وكان موقف الحركات الإسلامية التقليدية -إذا ما اتفقنا على كونها الأكثر جماهيرية- واضحا في بيان المأزق الذي تعانيه في نظرتها للقوى الجديدة التي بدت وكأنها أخذت منها زمام المبادرة والجرأة على الفعل في الفضاء العام الذي كان قد استقر الأمر على تقاسمه بين النظام وبعض القوى التقليدية وعلى رأسها الإخوان المسلمون.
لن نتوقف كثيرا عند ما أثارته بعض الهيئات الدينية شبه الرسمية أو بعض التيارات الصوفية أو حتى بعض رموز التيار السلفي ضد الحركات الاجتماعية الجديدة والتي وصل بها الحد إلى إصدار فتاوى دينية ضدها وصفت قادتها بالخوارج ورءوس الفتنة! ولكن ما يستحق التوقف عنده هو موقف جماعة الإخوان أكبر جماعات الإسلام السياسي والقوة المعارضة الأولى في البلاد والذي كان -أقل ما يوصف به- في غاية الالتباس والقلق يتردد ما بين رفض وتحفظ وتأييد خجول في أفضل الأحوال -كما في الإضراب الأول- ثم تردد وتأييد مازال في نظر الكثيرين تعبيرا عن سياسة ردة الفعل أو حتى الانتهازية السياسية أقرب منه إلى كونه إشارة لفهم الجماعة لهذه القوى الجديدة ورغبتها في التعاون معها.
الإخوان..موقف ملتبس من الحركات الاجتماعية
قبل محاولة فهم أسباب موقف الإخوان الملتبس من الحركات الاجتماعية الجديدة من المهم التأكيد على أنه -وتقليديا- عرف عن الإخوان المسلمين ضعف قدرتهم على التعاطي مع العمل الجبهوي أو الدخول في تحالفات حقيقية وذلك بسبب طبيعة التربية والتكوين داخل تنظيم مغلق قام على مبدأ السمع والطاعة للقيادة، واعتاد العمل والتحرك في بيئة متجانسة بل وخالصة أيدلوجيا وتنظيميا، ومن ثم فقد -إلى حد كبير- القدرة على التوازن بين جماعية العمل والالتقاء مع التيار العام في المعارضة.
ويزيد من ضعف قدرة الإخوان على بناء جسور مع القوى الأخرى -أي قوى- حالة الإحساس الزائد بالذات لدى بعض قادتها خاصة بعدما ترسخت جماعتهم كأقوى جماعة سياسية في مقابل الضعف الظاهر والمتفق عليه للقوى والأحزاب السياسية الأخرى، ولقد كان هذا الشعور مسئولا عن روح التعالي على المجتمع واستدعاء المآثر والأمجاد في غير موضعها مثل التصريحات المتوالية من قادتها بأن الإخوان هم أكثر القوى السياسية دفعا لضريبة المعارضة السياسية للنظام أو أن أكثر ضحايا النظام هم أبناء الجماعة ومؤسساتها، وهذا صحيح إلى حد كبير لكن الإدلاء به وباستمرار من شأنه أن يعمّق الفجوة بين الجماعة وبين القوى الأخرى ويشعر الشارع بحالة من الاستعلاء الإخواني الذي يستفز مشاعر الفرقاء.
ثم هناك -أخيرا- روح الطائفة التي تتلبس الجماعة ربما بفعل معاناة الحصار والمطاردة، فتجعلها -مهما انتشرت واتسع نفوذها- أقرب إلى طائفة ولو كبيرة منها إلى تيار عام يمكن أن يستوعب الشارع والجماهير، وتخلق حالة التحفز التي تتملك كثيرا من قادتهم وقواعدهم عند التعامل مع الآخر وعدم القدرة على تجاوز حساسيات تاريخية وأيدلوجية.
الإخوان وقضية الإصلاح
رغم هذه العيوب البنيوية التي تحكم مسار العلاقة بين الإخوان وغيرهم من القوى السياسية فإن الأمر يبدو مختلفا في موقفهم من الحركات الاجتماعية الجديدة، فهناك أسباب جديدة وغير تقليدية هذه المرة تجعلهم بريئين مما يتهمهم خصومهم به خاصة تهمة الانتهازية السياسية.
أول هذه الأسباب اختلاف طبيعة رؤية الإخوان (كنموذج للقوى الإسلامية والتقليدية) لقضية الإصلاح، ففي حين تتبنى الحركات الاجتماعية الجديدة الأجندة المطلبية التي تشتمل على مجرد مطالب فئوية تتعلق بالغلاء أو الأجور أو تحسين شروط العمل؛ مازالت الجماعة تنتمي إلى نمط تقليدي للفعل السياسي يتمسك بمنطق وأولوية العمل من أجل إقرار أجندة إصلاح سياسي شامل للبلاد، ويبدو أن هناك خلافا داخل الجماعة لم يحسم بعد يتمايز فيه تياران:
أحدهما تقليدي غالب لا يرى التحرك إلا وفق مطلب إصلاح سياسي شامل يتضح فيه موقع الجماعة وأفق مستقبلها (مثل منحها الشرعية القانونية أو السماح لها بتأسيس حزب سياسي)، وآخر أكثر انفتاحا يرى ضرورة الاستفادة من موجة الاحتجاجات والإضرابات التي اجتاحت مصر بل وركوب هذه الموجة باعتبارها الأكثر قدرة على الفعل والأكثر جاذبية لدى الجماهير وتأثيرا فيها.
ويتصل بما سبق ما يمكن أن نسميه بعدم نظر الإخوان للحركات الاجتماعية والاحتجاجات المطلبية بتقدير أو احترام، وهو ما يرجع في جزء منه إلى اختلاف منطق كل منهما في تصوره للفعل السياسي إذ يتمسك الإخوان بالسياسة بمفهومها الكلاسيكي (كما يدرس في الجامعات ويلقن في المؤسسات السياسية!) فيما ينظرون إلى السياسة الجديدة نظرة دونية باعتبارها أقرب إلى الضغط من أجل حقوق خاصة وفئوية! وليست مطالب عامة كالتي اعتادت الجماعة أن تعلنها خطوطا رئيسية في خطابها السياسي.
التحرك من أجل مطالب
إن فكرة التحرك من أجل مطالب أو حقوق خاصة وفئوية تبدو أنها لا تحظى بتقدير في جماعة مازالت تنتمي -رغم كل تطوراتها- إلى نمط الجماعات الشمولية التي اعتادت التوجه بالحديث إلى كل الشعب وكل الأمة وأحيانا الحديث باسم كل الشعب وكل الأمة!، كما أن الحركة من أجل مطالب خاصة أو فئوية تبدو بنظر الإخوان وفي أفضل الأحوال ردا على غياب الفعل الحقيقي الذي هو السياسة بالطريقة "العيادية" حيث يصبح العمل السياسي وفق رؤية محددة سلفا أو وصفات سابقة التحضير!.
إضافة إلى ما سبق سنجد أن ثمة عقبة تفصل بين الإخوان وبين الحركات الاجتماعية الجديدة تتمثل في ميراث تاريخي يجعل الإخوان لا يقدّرون هذا النوع من الحركات لكونه ولد أو على الأقل تأثر بالثقافة اليسارية إذ هو "شغل شيوعيين" بالتعبير الشائع!.
ميكانيزمات التغيير الجديدة
نلحظ كذلك في علاقة الإخوان بالحركات الاجتماعية الجديدة أن ثمة عدم وعي من قبل الإخوان بميكانيزمات التغيير الجديدة في المجتمع المصري ومكامن القوة فيه وكيف أنها لا تخضع لنفس حسابات القوى التقليدية أو منطقها بل هي متجاوزة لها أصلا.. يظهر ذلك بوضوح من تعبير لأحد كبار قادة الجماعة (أمينها العام الدكتور محمود عزت) يعلل فيه رفض المشاركة في إضراب 6 أبريل: لم يستشرنا أحد ولم نتفق مع أحد!!.. يبدو الرجل وهو قيادة تنظيمية كبيرة أسير السياسة بالمعنى التقليدي وما يتعلق بها من تحالفات وترتيبات يتوقع أن تكون كما يحدث تقليديا بين الأحزاب والقوى السياسية، فهو لا يعرف أن الحركات الاجتماعية الجديدة بلا رأس ولا قيادة واحدة يمكن أن تنسق وترتب ويتفاوض معها وأنها في حركتها أقرب للشارع منها إلى القوى المنظمة.
يعاني الإخوان من مأزق الإدراك التقليدي لطبيعة الحراك السياسي في البلاد بما يحول دون وضع اليد على مكامن القوى الجديدة ومفاتيحها أو فهم طبيعة الشبكات الجديدة وميكانيزمات حركتها ومنطقها في بناء التحالفات أو الجبهات.
القفز في المجهول
وأخيرا لا يمكن أن نغفل قلق الإخوان التقليدي من القفز في المجهول والتحليق في أفق غير واضح ودفع ثمن غير مقدر أو محسوب، فليس من عادة الإخوان دخول اللعبة إلا بعد معرفة قواعدها والاتفاق عليها بدقة وتوقع كل ما يخصهم ونصيبهم فيها، وليس من طبيعتهم المغامرة غير المحسوبة، وهو ما ينكشف في كل محطة تاريخية فاصلة، حدث ذلك والنظام الملكي يلفظ أنفاسه الأخيرة ويتكرر الآن والنظام الحالي يلتقط الأنفاس بصعوبة!.
نعم يمكن للإخوان أن يتحملوا الكلفة السياسية ولو كانت كبيرة (وهو ما حدث فعلا في الانتخابات البرلمانية الأخيرة مثلا) ولكن لابد أن تكون هذه الكلفة معروفة أو متوقعة مسبقا، فقلق الإخوان من المجهول بالغ التأثير في حركتهم، وليس هناك في نظر الإخوان مجهول أكبر من أن يدخل الشارع المصري أو يدخلوا به في إضراب عام بدعوة ليس لها صاحب وباحتمالات مفتوحة بدءا من تحول الإضراب إلى عصيان مدني يشل البلاد، أو انفلاته إلى حالة عنف يصعب إنهاؤها أو السيطرة عليها.
إن المناخ الذي ظهرت فيه هذه الحركات الاحتجاجية تلوح فيه نذر الفوضى والعنف، وفي هذه الأجواء يظهر المكنون من بعض تراث ديني تقليدي كأوضح ما يكون؛ فتصير "سلطة باطشة" نعرفها خير من مجهول لا يمكن التنبؤ به، و"سبعون عاما بسلطان جائر خير من يوم بلا سلطان"!.. ولا أتصور أن الإخوان المسلمين على ما قطعوه في مسيرة التحديث والتطور السياسي بمنأى عن هذا التراث خاصة مع ما يبدو من تراجع لميراث الدولة المصرية الحديثة إلى الحد الذي يجعلها تقف على أبواب المجهول حتى لم يعد أحد على ثقة فيما يمكن أن تئول إليه الأوضاع إذا ما قام الموت بواجبه المحتوم!..