الإخوان المسلمون ..غواية التنظيم!
باحث مصري في الحركات الإسلامية
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
لعلها كانت أكثر مفارقات المشهد السياسي الأخير في مصر أن اللحظة التي خلا فيها الملعب لجماعة الإخوان المسلمين وتخففت القيود التي كانت تحكم حركتها إلى حد المصادرة ، اللحظة التي ظنها الجميع بداية انطلاق المارد الإخواني من قمقمه الذي طال فيه حبسه، كانت نفسها اللحظة التي تأكد فيها نهاية أسطورة التنظيم الأكبر والأقوى التي مازالت تبث الرعب في قلوب الجميع خاصة خصوم الجماعة الذين حبسوا أنفاسهم خوفا بعدما وصلتهم رسالة المارد في أوائل الربيع يحملها عشرات الالاف من كوادر التنظيم يحتشدون للتظاهر في كل محافظات مصر!
منذ خروجهم من السجون في أوائل السبعينيات ترسخت لدى الإخوان قناعة بأن ملعب السياسة كما ترسمه التجربة الحزبية لا يناسبهم، وأن البناء عليه كالبناء على الرمال، وزاد من نفورهم منه ميراث تاريخي ثقيل من عدم الثقة والتشكك في نية النظام السياسي تجاههم وأن المواجهة معه آتية لاريب فيها، وكان التنظيم هو الحل .
بدأ إخوان السبعينيات استراتيجية ترمي لبناء تنظيم هرمي محكم خارج سيطرة الدولة ورقابة أجهزتها ومؤسساتها المختلفة؛ باعتبار أن هذا التنظيم المحكم هو الضمانة الحقيقية والوحيدة لوجود الجماعة التي كان قد صدر القرار الإداري من النظام الناصري بحلها نهائيا عام 1954، ولم يكن واردا أن يعيد إليها الرئيس السادات المشروعية القانونية رغم وضعية السماح وشرعية العمل الفعلي التي أعطاها لقيادات الجماعة، وهي الرسالة التي وصلت الجماعة حين فاتح مرشدها عمر التلمساني السادات بشأن وضع الجماعة القانوني فرد عليه : تقدم بطلب للشئون الاجتماعية!.
دشن استراتيجية إعادة بناء التنظيم وقادها قيادات تربت جلها في النظام الخاص السري للجماعة قبل الثورة، وكان أبرزهم الأساتذة: مصطفي مشهور وأحمد الملط وحسني عبد الباقي وكمال السنانيري وأحمد حسنين وجميعهم صاروا أعضاء في مكتب الإرشاد- أو المجلس الحاكم للجماعة- قبل وفاتهم ولم يتبق منهم إلا الأخير الذي يعاني المرض ، شفاه الله، وآتت هذه الاستراتيجية ثمارها المرجوة سريعا؛ إذ لم ينته عقد السبعينيات حتى صارت الجماعة التنظيم الديني الأقوي في مصر بعدما ابتلعت معظم التنظيمات الإسلامية الجديدة التي كانت قد حلت بديلا عنها في غيابها وأهمها الجماعة الإسلامية في جامعات مصر- التنظيم الطلابي الصاعد بقوة، بعد أن نجحت قيادات الجماعة في إقناع مجلس أمراء الجماعة يرأسهم عبد المنعم أبو الفتوح بالانضمام إليها.
أغرى الانتشار الواسع وتسارع عجلة بناء التنظيم قيادات الإخوان بأن من الأفضل المضي في طريق التنظيم والكف عن استجداء القانونية من النظام؛ ليس قناعة برفضه الحتمي فقط وإنما ثقة بأن الوضع غير القانوني أفضل للجماعة وأنه يعفيها من تكاليف تفوق كثيرا عوائد القانونية.
ورسخ هذه القناعة أن التسامح الذي كان يبديه السادات مع الجماعة بدا في طريقه للأفول مع حسني مبارك الذي افتتح عهده بلقاء مع زعماء كل القوي السياسية بالقصر الجمهوري مستثنيا منها جماعة الإخوان. وهي رسالة أكدت لها أن طريق القانونية صار حلما بعيد المنال. وعززت خيار قيادات التنظيم السري مقلصة آمال جيل جديد لم يكن لديه مشكلة بنيوية في ولوج بوابة القانونية.
في هذه الفترة تحددت استراتيجية الجماعة بالقبول بالدخول في اللعبة السياسية دون الالتزام بأهم قواعدها – وهو الترخيص القانوني بحزب- واختصرت موقفها من فكرة الحزب بالقبول بالتنسيق مع الأحزاب الموجودة ( حالة الوفد 1984 ) أو التحالف معها في أفضل الأحوال ( حالة العمل والأحرار 1987) دون الرهان عليها كصورة أخيرة لابد أن تنتهي إليها الجماعة على الرغم من مشاريع أحزاب ( مثل الأمل والإصلاح) طرحها بعض أبناء الجماعة لكنها ظلت قيد أدراج مكتب الإرشاد الذي دائما ما امتلك مبررات عدم الدفع بها ودائما ما كان النظام يمنحه مبررا أقوى بإعلانه الحاسم بالرفض القاطع لوضع قانوني للجماعة، وحين خرج أحد هذه المشروعات للنور خروجا على المعادلة – مشروع حزب الوسط – خرج معه رأس المشروع نفسه؛ أبو العلا ماضي، من الجماعة!
اختصر الإخوان مشروعهم – بقصد أو من دون قصد – في بناء تنظيم قوي حديدي خارج القوانين المنظمة يمكن أن يوكل له مهام إنجاز المشروع الإسلامي للتغيير ، لم يفصلوا كثيرا في معالم مشروعهم بقدر ماعكفوا في دأب ودقة متناهية يحسدون عليها على صقل كفاءة هذا التنظيم وتطوير قدراته، وصاغوه على مثال الدولة نفسها حتى في أدق تقسيماته الإدارية التي كانت تتفق حد التماهي مع التقسيمات الإدارية للدولة، فمكتب الإرشاد يوازي مجلس الوزراء، ومجلس الشوري يقوم بمهام البرلمان، ومكاتب الجماعة الإدارية هي نفسها المحافظات، والمناطق تنطبق حدودها مع الدوائر الإدراية و الانتخابية تماما، بحيث صار التنظيم دولة بإزاء الدولة إلا أنها من دون جيش أو أجهزة أمنية.وتغلغل التنظيم في كل تفاصيل وتضاريس ومؤسسات المجتمع والدولة المصرية باستثناء الجيش والشرطة والمؤسسات السيادية الأخرى كخط أحمر التزمت به قيادة الجماعة وفي وعيها المواجهة الدامية التي خاضتها مع النظام الناصري والتي كان أبرز أسباب دمويتها محاولة النظام اجتثاثهم من مؤسسات نافذة كانوا قد تغلغلوا فيها قبل الثورة يمكنها الانقلاب المضاد.
وكان أبرز ما انتهى إليه العقل الإداري للإخوان "مشروع التمكين" الذي اشتغل عليه أهم عقول وقيادات الجماعة من الصف الثاني والثالث ( جيلا السبعينيات والثمانينيات)، وهو مشروع يعيد تنظيم الجماعة إداريا ويرتب هياكلها ومؤسساتها المختلفة بطريقة بالغة الدقة، ويرسم لها خطوات محددة وممنهجة للسيطرة على جهاز الدولة وتولي السلطة سلميا، وهو المشروع الذي اكتشفت وثائقه عام 1992 على ديسكات كمبيوتر في شركة سلسبيل والتي صارت عنوانا على أشهر قضية للجماعة، وباكتشافها تأكد للنظام بالدليل قوة الجماعة وأنها صارت أقرب لدولة موازية له لكنها تفتقد لكل عيوب وترهلات الدولة التي يديرها هو!
انتهت الجماعة إلى بناء تنظيم عملاق تتفاوت التقديرات بشأن عدد أعضائه ما بين مائة ألف إلى نصف المليون عضو عامل بالتنظيم يدفعون الاشتراكات المالية الشهرية وينتظمون في الأسر الإخوانية التي هي أصغر وحدة تنظيمية تنعقد لقاءاتها أسبوعيا؛ إضافة إلى دوائر الأنصار والمؤيدين والمتعاطفين الذي يزيد عددهم عدة مرات عن عدد الأعضاء، وهي تقديرات تختلف بحسب جهات التقدير ومواقعها السياسية والأيدلوجية وإن كانت في كل الأحوال تقريبية تفتقد الدقة خاصة في ظل سياسة التجنيد السرية والإكثار من دوائر الأنصار والمتعاطفين التي تحول دون القدرة على التقدير الدقيق للعدد الحقيقي للأعضاء حتى من قبل الأجهزة الأمنية، بل ومن قبل مؤسسات الجماعة نفسها التي ترفض إجراء أي تقدير داخلي لها أو الكشف عن أي معلومات بخصوصه ولو كانت تقريبية حتى على المستوي الداخلي، وهو ما صار خطا أحمرا لا يجوز تجاوزه في قاعدة أمنية تجعل من يخالفها عرضة للتخوين بتهمة كشف أسرار التنظيم.
وطوال ربع قرن هي عمر نظام مبارك تحددت سياسة النظام المصري في المراهنة على احتكار أو تأميم السياسة في مقابل انفتاح الاقتصاد، وعبر قانون الأحزاب المعيب وتعمد الجهات الإدارية مد نفوذها إلى كافة الأحزاب انتهى النظام إلى سيطرة تامة على كافة الأحزاب القائمة إلى حد اصطناع رؤساء للأحزاب على عينه، ومصادرة أي حزب يمكن أن يخرج عن السيطرة مستقبلا، وانتهت سياسته إلى موت السياسة في مصر التي كانت على أبواب تجربة حزبية تبشر بدايتها بالقوة.ومع الزمن بدا – للخصوم قبل الأنصار- أن رهان جماعة الإخوان على بناء التنظيم وتقويته وليس السعي للحصول على المشروعية القانونية كان الرهان الناجح والناجع في مقابل رهان النظام على احتكار السياسة، فالحياة السياسية انتهت إلى مجموعة من الأحزاب " الكرتونية " التي تفتقد لأي وجود في الشارع ولا يجاوز دورها دور الديكور اللازم لمشهد سياسي بائس، ومجمل العملية السياسية حتى المعارضة صار يدار من داخل كواليس النظام ، وخلا الملعب من أي قوة سياسية يمكنها أن تناطح النظام عدا جماعة الإخوان التي صارت أقوى تنظيم سياسي قادر على الفعل في لعبة سياسية توشك على الدخول في موات تام.
تأكد هذا الوضع يوما بعد يوم وتأكد للجميع أن اللعبة السياسية في مصر انتهت إلى صراع بين قطبين وحيدين، نظام يصر على احتكار مجمل قواعد اللعبة ومصادرتها لمصلحته، وتنظيم لا يبإلى كثيرا بالحصول على رخصة اللعب، ويجد في وضعه خارج القانونية الملاذ الآمن من عسف السلطة وتغلغلها في أوصال الفرقاء السياسيين والتحكم في أدق تفاصيلها، ولا يكف عن التباهي بقوته وكفاءته التنظيمية وقدرته على الحشد في مقابل نظام فاقد للشرعية الجماهيرية وقوى معارضة لا تملك من أدوات الشرعية إلا الترخيص القانوني تعلقه لافتة على أبواب مقارها ضيقة الغرف مجهولة العنوان!
لم تدم حالة الانسداد السياسي طويلا ودخلت البلاد في حالة حراك سياسي تدفعه وتفرضه ضغوط داخلية وخارجية، فكان لابد من اختبار ما انتهى إليه المشهد السياسي خاصة بعدما فتح قرار تعديل المادة 76 من الدستور كوة في جدار الجمود، وحين حلت ساعته تعلقت الأنظار بفرس الرهان الذي انتظره الجميع: تنظيم الإخوان الديناصور الوحيد الذي نجح في البقاء من عصر موات السياسة؛ وحين نزلت أول تظاهرة للإخوان يوم الأحد 27 مارس توقع الجميع على أنها القطرة التي تسبق السيل، وأننا على أبواب ربيع الإخوان المسلمين، وهو الربيع الذي ربما تأخرت بدايته ستة أيام على عادته ( 21 مارس) لأسباب إجرائية انتظارا لانتظام صفوف التنظيم الحديدي .
غير أن الانفراجة التي جاءت لتفسح الطريق للتنظيم الذي ينتظر إشارة البدء جاءت لتكشف أن الرهان عليه كان ضربا من الوهم، وأنه لم يكن إلا جزءا من حقبة يوشك أن تتجاوزها الأحداث، وأنه في أفضل الأحوال لا يصلح فرسا للرهان على رسم صورة المشهد السياسي القادم.
لقد تأخر نزول الجماعة للشارع كثيرا على الأقل إذا ما قورن بتظاهرات حركة كفاية التي كانت قد سبقتها بعدة اشهر ( أول مظاهرة كانت يوم 12-12-2004) حتى قبل قرار تعديل المادة 76 للدستور ، وبدا أن الامتداد الهائل لجسم التنظيم كان عبئا كبيرا وحجر عثرة وأهم أسباب تأخر قيادة الجماعة في النزول للشارع ، قبل أن تستجيب مضطرة إحراجا من حركة لا يتجاوز عدد أعضائها أصغر شعبة من شعب الجماعة التي تقدر بالآلاف في كل مدن وأحياء مصر، وهو نزول كانت الجماعة مضطرة لأن تدفع تكلفته باهظة حتى لا تخسر مصداقيتها في الشارع السياسي وقبله لدى كوادرها.
وإذا تجاوزنا التأخر في نزول الشارع وتفاءلنا مع من توقعوا أن مظاهرات الأحد ستعيد انتظام الصفوف وتضخ الدماء في شرايين التنظيم التي كادت تتجمد من جراء حصار سياسي جاوز العقد ، وأن الأمر يحتاج فقط لبعض الوقت لتستعيد الجماعة فاعلية تنظيمها وقدرته على النفاذ مجددا إلى قطاعات المجتمع المصري لتقود الشارع في تظاهرات ربيع الحرية؛ سنجد أن شيئا من ذلك لم يحدث بل سرعان ما توقفت التظاهرات التي بدت وكأنها إعلان موقف أكثر منه بداية لحركة مستمرة مرشحة للتفاعل ( توقفت تظاهرات الإخوان تقريبا يوم 6-5-2005 الذي اعتقل فيه عصام العريان المتحدث الرسمي للجماعة ومجموعة قيادية بمنزله ).
وحتى حين بدأت بوادر الصدام مع النظام الذي طالت اعتقالاته أكثر من ألفين من قواعد وقيادات الجماعة بدا أن الانتشار الكبير للتنظيم والعدد الضخم لكوادره كان خصما من رصيد الجماعة وليس إضافة لقدرتها على المواجهة بعدما بدأت حسابات التكلفة وارتفعت فاتورتها ؛ إذ بدأت الجماعة سريعا في معاناة استنزافها ماديا وإدرايا بل ونفسيا من جراء تحمل أعباء هذا العدد الضخم من المعتقلين وأسرهم، وهو عبأ لم يحدث أن تنصلت الجماعة من تحمله تجاه قواعدها ولا تستطيع، والقاعدة في الجماعة تقول إن مشاركة القواعد في الفعل قد تكون غير مؤكدة لكن المؤكد أنها جزء لا يتجزء من تكلفة هذا الفعل ! ( أقر عبد المنعم أبو الفتوح في تصريح لصحيفة المصري اليوم بتأثير الاعتقالات في حركة الجماعة ).
أتصور أن ما غاب عن الإخوان وعن المراقبين لحركتهم في الفترة الأخيرة أن الحالة الإسلامية تغيرت تماما إلى حد الانقلاب ، وهو انقلاب لو استطعنا رسم معالمه لتغيرت كل الحسابات الخاصة بموقع الإخوان على الخريطة السياسية الحالية أو التي توشك أن تحل قريبا.
كان الإخوان المسلمون الواجهة الرسمية للأيدلوجية الإسلامية التي اجتاحت مصر والعالم العربي بدأ من السبعينيات ووصلت قمتها في نهاية الثمانينات، والتي كان شعارها أو روايتها الكبرى إقامة الدولة الإسلامية، وهو شعار كان يستقطب بريقه قطاعات وشرائح وأعمار بالغة التنوع والاختلاف ويخفي وراءه تناقضات طبقية ومصلحية تكاد تصل حد الصراع لو تهيأ لها سبله، كان غريبا أن هذه الأيدلوجية التي استطاع الإخوان في مصر مصادرتها لمصلحتهم كانت تلهم الطبقات المحرومة والمهمشة وترى فيها طريقا للخلاص من كل ما تعانيه من فقر وتهميش وظلم اجتماعي كما تلهم في الوقت نفسه الطبقات الوسطي والبورجوازية التي وجدت فيها استجابة لمصالحها هي الأخرى بدأ من تلبية الاحتياجات الأخلاقية انتهاء بمنحها فرصة للحراك الاجتماعي صعودا في سلم السلطة.
وكانت الأيدلوجية نفسها تجذب إليها المتمردين ذوي النزعات الثورية الراغبين في المواجهة العنيفة مثلما ينضوي تحتها المندمجون اجتماعيا من أبناء البورجوازية التي طالما أحكمت وأجادت فن التفاوض والمساومة.
جرت في أنهار الحياة تحولات كثيرة كان أهمها الدخول البراجماتي الكثيف للإخوان في السياسة بما انتهى إلى تخليهم عن الرواية الكبرى – الدولة الإسلامية – والالتزام بطرح برنامج لا يبعد كثيرا عن برامج الأحزاب الوطنية الأخرى، ، بل والليبرالية منها علي وجه الخصوص.
من يتابع الخطاب الإخواني في الفترة الأخيرة يلاحظ غياب مفردات الرواية الكبري من الدولة الإسلامية والخلافة الراشدة والوحدة السياسية الجامعة لكل الأمة الإسلامية ومفاهيم أهل الذمة، كما سيلاحظ حضور مكثف ومتصاعد لمفردات خطاب جديد لا علاقة له بالقديم وإنما يرتبط بمشروع حزبي سياسي بامتياز حتي وإن لم يعلنه أصحابه كاملا
فالبرنامج السياسي للإخوان تتأكد يوما بعد يوم مفارقته – تماما- لكل ما كان يقدمونه عن "المشروع الإسلامي"، باتجاه برنامج ديمقراطي بعيد عن الأرضية الدينية التي كانوا ينطلقون منها ، فكثر حديثهم عن الاحتكام التام للشعب أيا كانت خياراته، والقبول بحق ومبدأ تداول السلطة والتسليم باختيار الشعب مهما كانت، وأن حكم الشريعة مرتهن بقبول الشعب له؛ مع اتجاه للتخفف من المرجعية الدينية ففي العمل السياسي قياسا بما كان يحدث من قبل.
لقد اضطر الإخوان بفعل الدخول الكثيف في العمل السياسي إلي أن يقولوا كلاما محددا بعيدا عن العموميات الفضفاضة التي كان يحرصون عليها وهو ما كان له أثر بالغ علي مقدرتهم السابقة علي الحشد الواسع لقطاعات متعددة ومتباينة في المجمتع.
أما التحول الثاني فكان الخاص بالدولة المصرية التي عاشت تحولات اقتصادية كبرى كانت – إذا لخصتها الكلمات- تصب جميعها ضد مصالح الطبقات الفقيرة ، فكان أن بدأت هذه الأيدلوجية في التفكك لتكشف عما وراءها من تناقضات طبقية ومصلحية هائلة أكبر من أن يستمر تسترها وراء أيدلوجية تخلي عنها ممثلوها الرسميون.
تنحدر الغالبية العظمى لقواعد الإخوان المسلمين من الطبقة الوسطى، ورغم وجود الإخوان وانتشارهم في شتى أنحاء البلاد يقل وجودهم التنظيمي في الطبقات الفقيرة، ويهتم المسئولون عن التجنيد بتجنب التوسع في ضم عناصر من الطبقات الفقيرة إلا لحساب ميزات استثنائية تتمتع بها هذه العناصر دون أن تكون هذه قاعدة معلنة، ويعد الانضمام للجماعة أحد آليات الصعود الاجتماعي في الطبقات الدنيا، إذ تتيح الجماعة لأعضائها فرصة للتحقق والصعود الاجتماعي من خلال شبكة حماية اجتماعية كبرى، وتساعد هذه الشبكة على تأمين الحد الأدنى من الضمان الاجتماعي للأعضاء والمساعدة للمتعاطفين والمؤيدين والأنصار، وتعتمد الجماعة في ذلك على سيطرتها وإدارتها لعدد كبير من المساجد ومؤسسات البر والصدقات التي تمارس دورا مهما في غياب مظلة حماية من الدولة.
وجاء موقف الإخوان من التحولات الاقتصادية للبلاد باتجاه الانفتاح واقتصاد السوق لتؤكد أن الجماعة اتجهت إلى اليمين الرأسمالي بفعل التركيبة الداخلية واتساع حجم ودور رجال الأعمال فيها، وهو توجه أكدته مجمل التحولات الدينية في البرجوازية المصرية المتدينة سواء التي ترتبط بالجماعة أو التي تدور في فلك ما عرف بظاهرة الدعاة الجدد، وخلت مواقف وأدبيات الإخوان – وآخرها مبادرة الإصلاح الصادرة في مارس 2004 – من أي تمثيل لهموم الطبقات الدنيا.
أدت هذه الاستراتيجية إلى انفصال تدريجي للجماعة عن الطبقات الفقيرة والمهمشة، الآخذة في الاتساع والمعاناة،على مستوي الانتشار التنظيمي ثم على مستوي المشروع الذي تطرحه والذي لم يعد يمثل إلا طموحات البورجوازية المصرية المتوسطة المتدينة، وهو انفصال ظهر جليا في غياب هذه الطبقات كأشخاص أو كبرامج أو حتى كشعارات في تظاهرات وتحركات الإخوان الأخيرة.
التقديرات الرسمية الصادرة عن مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء تؤكد أن نسبة البطالة 10.5% وأن معدل الفقر زاد عن 17 % في حين ترتفع التقديرات المعارضة والمستقلة بعدد الفقراء ليزيد عن 40% من تعداد الشعب المصري.
وهو ما يعني أن انفصال الإخوان عن الطبقات الفقيرة كان في مجمله انفصالا عن الشارع المصري وفقدانا للرصيد الشعبي الذي لم يعد يمكن ضمانه برفع الأيدلوجية الإسلامية، هذا إذا تجاوزنا الحديث عن توقف الإخوان عن رفعها بالفعل، وهو يعني كذلك أن الجماعة بحكم وضعها الطبقي المتميز والمندمج اجتماعيا تحدد سقف حركتها بما لا يسمح بصدام شامل مع النظام يؤثر على مكتسباتها ولا تتحمله القواعد ، وحكم آلية علاقتها بالسلطة في إطار صيغة تسعى لتحسين شروط الجماعة التفاوضية مع النظام من أجل مكاسب مستقبلية وهو ما دفع بالبعض إلى التوقع بأن التظاهرات الإخوانية جاءت لدعم تفاوض سري بين الجماعة والنظام رغم غياب أي معلومات مؤكدة وإصرار الجماعة على النفي.
لم يعد مشروع جماعة الإخوان يمثل الطبقات الفقيرة حتى المتدينة منها والتي تعاني جراء التحولات الاقتصادية،فليس هناك عضو في جماعة الإخوان يبيت من غير طعام بتعبير أحد القادة السابقين بالجماعة، وربما كانت الجماعة الإسلامية الأقرب إلى تمثيل هذه الطبقات لولا صدامها المسلح مع النظام ، ومن هنا يمكننا فهم أهمية المشروع الذي كان يطمح إليه الراحل عادل حسين المفكر والسياسي الإسلامي القادم من صفوف اليسار الواعي بالتناقضات الطبقية بحكم ماركسيته، وهو مشروع تسييس كوادر هذه الجماعة وإسلاميي الضواحي وأحزمة الفقر وضمهم لحزبه – حزب العمل – بديلا عن المواجهة المسلحة مع النظام التي يقدر ضحاياهم فيها بما بين 20 إلى 30 ألف معتقل، ولولا صدام الحزب نفسه مع التنظيم وتجميده إداريا لكان حزب العمل الإطار التمثيلي المناسب لهذه الطبقات التي سقطت من خطاب وحركة الإخوان.
وإذا تجاوزنا الطبقات الفقيرة إلى الطبقة المتوسطة والبرجوازية ، سنفاجأ في ضوء التحولات الكبرى التي عاشتها الظاهرة الدينية في مصر أننا لا نستطيع النظر إلى الإخوان باعتبارهم الممثلين الوحيدين للطبقة المتوسطة وللبورجوازية المتدينة، فالحالة الدينية المصرية تجاوزت الأطر التنظيمية ولم تعد خاضعة لها، بعدما تفتت الأطر التي حكمتها وظهر فاعلون جدد من خارج التنظيمات أكثر قدرة على الفعل والتأثير وجذب الجماهير كما هو الحال في عمرو خالد والدعاة الجدد، كما أن المزاج الديني العام لم يعد يلقي بالا للسياسة وإن دخلها فليس على طريقة الاصطفاف الأيدلوجي والتنظيمي التي يجدها عند الإخوان، فأمام الشاب الملتزم دينيا أطر أخرى بديلة للتعبير السياسي الأكثر حرية وأمنا تبدأ من حزب الوسط الواقف على تخوم الشرعية وصاحب المرجعية الإسلامية المنفتحة وانتهاء بحركات الاحتجاج السياسي بما فيها حركة كفاية التي تتجمع على حاجات مطلبية وليس على اصطفاف أيدلوجي...هذا إذا افترضنا أن هذه البورجوازية لها مصلحة أصيلة ومتفق عليها في تغيير الوضع الحالي.
أما الذي تبقى من مفارقات مشهد التحولات التي طالت الظاهرة الدينية وانعكست على الوضع السياسي الحالي وموقع الإخوان فيه فهوالذي يتعلق بالتنظيم الإخواني نفسه والذي ستقول أي دراسة وافية معمقة له أن الصورة التي تبدو لنا لا علاقة لها بالضرورة بواقعه الحقيقي .
فعضوية الجماعة تتوزع وتتعدد لتضم خليطا من الأعضاء من أزهريين وأنصار سنة وجمعية شرعية وتيار سلفي وجهاديين سابقون وسياسيين بدأوا في أحزاب سياسية أخرى وقطاعات من العمال والفلاحين ليس لها أي خبرة سياسية سابقة ولا تتعاطى السياسة إلا لارتباطها بالجماعة وبأوامر من قيادتها دون أن يعني ذلك وجود قناعة بها، وهو ما يستحيل معه الاتفاق على أجندة سياسية محددة فضلا عن خوض نضال طويل المدى من أجلها، بدءً من مستقبل الجماعة وإمكانية تحولها لحزب وحتى الموقف من انتخابات الرئاسة المقبلة الذي أثار إعلان عصام العريان عرضا عن ترشيحه لها جدلا أوشك أن يحدث انقساما داخل القيادة والقواعد على السواء .
ونسبة الفاعلية والانتظام داخل التنظيم - وفق مصادر مطلعة بالجماعة - لا تجاوز 40% من أعضائه في أفضل الأحوال، في حين تعاني العضوية جمودا وحالة من الترهل وافتقادا للانضباط، وهو ما لم يعد سرا لا يجاوز أسوار الجماعة.
وإذا كان انضمام العضو للجماعة مبينا على قناعة واضحة ترسخت عبر مراتب العضوية المعمول بها في لوائح التنظيم فإن استمرارية العضو في التنظيم لا علاقة له بالضرورة بالاقتناع بالانتظام في تنظيم سياسي والالتزام بأجندة سياسية؛ بل يتراوح ما بين الفضل الديني المتمثل في التزام الصحبة الطيبة وجماعة المسجد، وما بين الإبقاء على روابط نسب وقرابة وصداقة ورفقة طريق، أو الاحتماء بمظلة اجتماعية وإنسانية صارت مفتقدة في هذا العصر، أو حتى الانتفاع بشبكة علاقات اقتصادية واجتماعية وسياسية تساعد في الصعود الاجتماعي المضمون.
الصورة مختلفة لكنها حقيقية، أما الصورة التي تتصدر المشهد السياسي عن تنظيم الإخوان فهي صورة من الماضي يتشبث بها الإخوان ولا تغادر رؤوس الآخرين لكن لا علاقة لها بمستقبل توشك أن ترتسم قسماته عن قريب.
لقد راهن الإخوان على التنظيم ونزلوا به إلى الشارع لكن الذي غاب عنهم أن التنظيم يعاني مشاكل بنيوية كبرى، وأنه لا يصلح في أفضل الأحوال لأن ينوب عن الأمة وأن الكوادر لا تصلح بالضرورة بديلا عن الناس.
مجلة اللوموند ديبلوماتيك الفرنسية
عدد سبتمبر 2005