التنظيم الدولي للإخوان..الوعد والمسيرة والمآل
باحث مصري في الحركات الإسلامية
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
لا يمكن لباحث أن يتعرف على التطورات والتغيرات التي لحقت بجماعة الإخوان المسلمين على كل المستويات الفكرية والسياسية والحركية من دون الاقتراب من قضية التنظيم الدولي. وتزداد أهمية الاقتراب من هذا التنظيم بعد التغيرات الجذرية التي شهدها العالم بعد أحداث 11 سبتمبر والتي تركت بصماتها على الحالة الإسلامية عموما والحركات الإسلامية- ومن بينها الإخوان- بصفة خاصة.
وإذا كانت التأثيرات والتغيرات قد أخذت طابعا انقلابيا في الحركات الإسلامية الجهادية بحيث أمكن رصدها ومن ثم دراستها وتحليلها فإنها قد توارت ودقت حتى كادت تختفي عن الأنظار في حالة الإخوان وهو ما يمكن تفهمه حين يتعلق الأمر بجماعة ممتدة بعرض العالم وبعمق ثلاثة أرباع القرن من الزمان.
وليست مصادرة على النتائج القول بأن التنظيم الدولي للإخوان المسلمين كان الأكثر تأثرا بالتغيرات الإقليمية والعالمية التي شهدها العقدان الأخيران واختتمها المشهد الدرامي الذي شاهدنا فيه انهيار برجي التجارة العالمية في نيويورك، ولكن هذا ما حدث، أما تحليله فيكشف- بالتبعية- مدى التغيرات التي لحقت بالجماعة الإسلامية الأم والأكبر في العالم فقد كان التنظيم الدولي وعد جماعة الإخوان ومن خلاله يمكن تتبع مسيرتها ومعرفة ما آل إليه حالها ومشروعها. ولأن الحال هكذا فلابد أن يكون التاريخ المدخل والبداية.
ربما كانت وثيقة ميلاد التنظيم الدولي لجماعة الإخوان المسلمين قد وقعت في 29 يوليو سنة1982م بتوقيع المرشد الخامس مصطفي مشهور لكن البداية الحقيقية كانت قبل ذلك بأكثر من نصف قرن على يد مؤسس الجماعة الشيخ حسن البنا( 1906- 1949) وإن كان الميلاد غير رسمي أو موثق ، فمنذ أن وعى حسن البنا بنفسه وأحس بأن له دورا في الحياة وهو يؤمن يقينا بأن العالم كله مساحة ملعبه، فلم يغب عنه وهو يؤسس في مارس من عام 1928 جماعة الإخوان المسلمين أنها ذات رسالة وطموحات عالمية حتى وهو يسجلها تحت اسم ( جمعية الإخوان المسلمين الخيرية) في الإسماعيلية؛ إحدى المحافظات الإقليمية الصغيرة النائية عن ضجيج وصخب القاهرة حلبة الساسة وقلب العالم الإسلامي النابض بكل أحداث وشئون السياسة وشجونها عربيا وإسلاميا.
فقد كان الشيخ حسن البنا يرى في جمعيته نواة لإعادة الخلافة الإسلامية التي كانت قد سقطت رسميا قبل أربع سنوات فقط ( 1924)، وكانت فكرة تأسيس كيان بديل عنها حاضرة في ذهنه وكان على قناعة أن أفضل الطرق لإصلاح الأمة الإسلامية هو بناء الفرد المسلم فالبيت المسلم فالمجتمع المسلم فالدولة المسلمة فالخلافة الإسلامية وصولا لأستاذية العالم بالترتيب الذي يذكره عندما تحدث عن دعوة الإخوان كما يراها، ولم يكن يمانع حسن البنا من أن يبدأ دعوته في أي بلد وليس مصر تحديدا، ويورد في مذكراته (مذكرات الدعوة والداعية) قصة بحثه عن أرض أو بيئة أصلح من مصر لبدء الدعوة كان يرشح لها اليمن، وسافر خصيصا لأداء فريضة الحج من أجل استكشاف أي البلاد تصلح للهجرة غير أنه رجع بقناعة أن مصر هي الأصلح.
وبمجرد أن بدأت جماعته تستوي على عودها وتستقر قواعدها أسس الشيخ حسن البنا قسما خاصا أسماه ( قسم الاتصال بالعالم الإسلامي) كان عمله الأول والوحيد إنشاء فروع للجماعة خارج مصر والتواصل مع الشخصيات والتيارات القريبة من أفكار جماعته ومن هذا القسم بدأت كل علاقات الإخوان واتصالاتهم في كل أنحاء العالم.وعبر هذا القسم اتصلت الجماعة بالطلاب العرب والمسلمين الذين كانوا يدرسون بمصر خاصة في الأزهر الشريف وانضم من خلاله عدد من الطلاب صاروا بعد تخرجهم ورجوعهم لبلدانهم قيادات إسلامية بارزة وضعت نواة تنظيمات الإخوان في بلدانها.وقد عمل في هذا القسم عدد من خيرة شباب الإخوان وعلى رأسهم الشاب مصطفي مؤمن أشهر وأبرز قيادات الحركة الطلابية في مصر وقتها والذي قاد مظاهرة كوبري عباس الشهيرة و كان صاحب المغامرة المشهورة في السفر للأمم المتحدة واقتحام جلسات مجلس الأمن لعرض قضية استقلال مصر! أما فرس الرهان الآخر فكان نده سعيد رمضان زوج ابنة الشيخ حسن البنا والذي اضطلع بالدور الأكبر في نشر وبناء التنظيمات الإخوانية خارج مصر.
وفي سنوات قليلة استطاع القسم ربط جماعة الإخوان بالعالم وتأسيس عدد كبير من تنظيمات الإخوان في العالم الإسلامي من أندونيسيا إلي المغرب ومن الصومال إلي سوريا. ومن خلال هذا القسم أسس الإخوان فروعا لهم في سوريا ثم الأردن ثم السودان على الترتيب واضطلع بالمهمة عدد من أبناء هذه البلدان الذين درسوا في مصر وارتبطوا بالجماعة وأشهرهم مصطفي السباعي الذي صار بعد ذلك المراقب العام للجماعة وأحد كبار منظريها، كما افتتحت تنظيمات أخرى في أندونيسيا والصومال واليمن وأفغانستان التي اضطلع بإنشاء التنظيم فيها اثنان من أشهر هؤلاء الطلاب الوافدين على مصر وقتها وأكثرهم حركة وتأثيرا وهما غلام نيازي ومحمد هارون مجددي وكان الثاني نجل سفير أفغانستان وقتها في مصر، في حين تولى مسئولية التنظيم غلام نيازي.
وفي مكتب الجماعة في الدرب الأحمر بحي السيدة زينب تحول قسم الاتصال بالعالم الإسلامي إلي وزارة خارجية لجماعة الإخوان المسلمين، طالت اتصالاتها معظم بلاد العالم الإسلامي إن لم تكن كلها كما روى لي مصطفي مؤمن فقد زاره محمد على جناح وهو يؤسس لانفصال باكستان واستمرت اتصالاته حتى توجت بتدخل حسن البنا لدى صديقه عبد الرحمن عزام لإقناعه باعتراف الجامعة العربية التي كان الأمين العام الأول لها بالاعتراف باستقلالها عن الهند، ومن هذا المكان جرى التنسيق لثورة أحرار اليمن في الأربعينيات ضد نظام الإمام يحيي حميد الدين عن طريق العضو الجزائري بالجماعة الفضيل الورتلاني، والحركة العربية لتحرير فلسطين التي كان يرأسها الحاج أمين الحسيني مفتي فلسطين..كما ارتبطت الجماعة من خلال هذا القسم بمعظم القيادات الإسلامية والتحررية في العالم الإسلامي مثل عبد الكريم الخطابي وعلال الفاسي في المغرب، والملك السنوسي في ليبيا والأمير شكيب أرسلان في سوريا ونواب صفوي مؤسس حركة فدائيان إسلام في إيران وآل الندوي في الهند..وغيرهم من الأعلام والقيادات الإسلامية.
كان هذا كله قبل اغتيال مرشد الجماعة ومؤسسها الشيخ البنا ( في 12 فبراير 1949) وقبل قيام الثورة في يوليو سنة1952 التي تسببت حملتها الاستئصالية ضد الجماعة بعد الصدام الناصري في انتشارها عالميا وزيادة تنظيماتها خارج مصر من حيث لا تدري بالطبع.فقد هاجر عدد من قياداتها هربا من ملاحقة النظام الناصري واستقر عدد منهم في لبنان والكويت والسعودية وبقية دول الخليج وأسسوا عددا من الجمعيات والشركات والمؤسسات الاجتماعية والثقافية والدعوية كانت القاعدة التي تأسس عليها التنظيم الدولي الذي لم يكن قرارا فوقيا اتخذته القيادة الإخوانية بقدر ما كان تجميعا لتنظيمات ومؤسسات موجودة على أرض الواقع، فقد دعمت هذه القيادات الهاربة - وبعضها كان له ثقل تاريخي مثل سعيد رمضان وكامل الشريف وسعد الوليلي وغيرهم- تنظيمات الإخوان في الأقطار التي استقرت بها وأنشأت شبكة علاقات واتصالات كان التطور الطبيعي لها هو التنظيم الدولي بصورته التي استقر عليها.
وكان سعيد رمضان صاحب جهد كبير في هذا الصدد فقد تمتع بعلاقات قوية مع عدد من أنظمة المنطقة على رأسها المملكة السعودية أتاحت له الاضطلاع بدور كبير بناء شبكة علاقات ضخمة للإخوان خاصة وأنه كان من مؤسسي منظمة المؤتمر الإسلامي، كما ازداد دوره بعد هجرته إلي أوربا واستقراره في سويسرا؛ فهناك حصل على الجنسية السويسرية وأصدر مجلة المسلمون الشهيرة كما أسس المركز الإسلامي في جنيف الذي مارس تأثيرا على مسلمي أوربا ونجح في نشر الفكر الإخواني فيها بل وامتد إلي أمريكا أيضا حتى طال عددا من الشخصيات المعروفة مثل الأمريكي مالكولم إكس الذي تأثر كثيرا بعلاقته بسعيد رمضان في تحوله إلي عقيدة أهل السنة. ومن مركز جنيف الذي كان أول وأهم قاعدة للإخوان في أوربا انتشرت شبكة المراكز والمؤسسات الإخوانية الأخرى وأهمها على الإطلاق المركز الإعلامي في لندن والمركز الإسلامي في ميونخ بألمانيا الذي شهد المراحل الأخيرة لإعلان التنظيم الدولي الرسمي للجماعة في 1982.
وإذا كان هناك شخص يمكن أن ينسب إليه دور اللاعب الرئيسي في تأسيس هذا التنظيم فهو الشيخ مصطفي مشهور أحد أكثر قيادات الجماعة تأثيرا في بنائها بعد مؤسسها الشيخ حسن البنا، فعقب خروجه من السجن مع بقية قيادات الجماعة في عام 1973 بدء مصطفي مشهور العمل على الفور ومعه عدد من القيادات التي جمع بينها الانتماء والعمل معا في النظام الخاص مثل كمال السنانيري وأحمد الملط ونفيس حمدي وأحمد حسنين. فاتجهوا إلي العمل لجمع خيوط كل التنظيمات الإخوانية المنتشرة في الأقطار المختلفة خاصة العربية منها والتي كانت في تصاعد وتنامٍ سريع بفعل انتشار المد الإسلامي في المنطقة كلها، وكانت مواسم الحج أفضل طريقة للقاء قيادات هذه التنظيمات التي أغراها الزخم الإسلامي المتصاعد وأجواء الانفتاح الغربي على الإسلام والتسهيلات التي كانت تلقاها القيادات الإسلامية المطاردة في أوربا والرغبة في حشد موارد الجماعة وتعبئتها؛ كل ذلك أغراها بالإسراع لوضع اللمسات النهائية لإعلان أول تنظيم دولي رسمي في تاريخ الجماعة.
وفي الأول من سبتمبر 1981 ، وقبل أيام من قرارات 5 سبتمبر الشهيرة التي اعتقل بموجبها الرئيس الراحل أنور السادات مئات المعارضين من مختلف القوى والتيارات السياسية في مصر ، كان "مصطفي مشهور" يستقل أول طائرة متجهة إلى الكويت لينجو بنفسه من حملات الاعتقال التي طالت أكثر من ألف وخمسمائة قيادة سياسية معارضة ، وظل القطب الإخواني الكبير الذي عرف بقدراته التنظيمية غير العادية متنقلا بين الكويت وألمانيا ما يقرب من عام كامل حتى أعلن في 29 يوليو سنة 1982 تأسيس التنظيم الدولي للإخوان المسلمين وأعلن لائحته الرسمية التي عرفت بالنظام العام للإخوان المسلمين.
استمر الشيخ مصطفي مشهور الأب الروحي للتنظيم الدولي في عمله الدءوب لتقوية هذا التنظيم الوليد وتوسيع شبكته التي امتدت لتشمل كل التنظيمات والكيانات الإخوانية المعتمدة في العالم العربي والإسلامي وخارجه، بل توسع في ضم تنظيمات إسلامية أخرى لا تخضع تنظيميا لقيادة الجماعة وإن كانت متوافقة معها في المنهج وإن اختلفت معها جزئيا في طبيعة البرامج التربوية مثل الجماعة الإسلامية في باكستان التي أسسها الشيخ أبو الأعلى المودودي، والحزب الإسلامي ( باس) في ماليزيا وحزب الرفاه بقيادة نجم الدين أربكان في تركيا.
وخلال خمس سنوات قضاها الشيخ مصطفي مشهور خارج البلاد كان قد استطاع خلالها تأسيس أول تنظيم دولي حقيقي لجماعة الإخوان المسلمين. وحين عاد إلى مصر بعد أيام من وفاة المرشد الثالث للجماعة "عمر التلمساني" (ولد في 4 فبراير 1904 وتوفي 22 مايو 1986) كان قد أتم بناء التنظيم الدولي للإخوان كاملا وأحكم عليه قبضته الحديدية.
ومنذ تأسيسه كانت كل خيوط التنظيم الدولي تبدأ وتنتهي عند الرجل الحديدي مصطفي مشهور، ولم يكن خافيا أن سلطته على هذا التنظيم كانت تفوق سلطة المرشد نفسه سواء أكان المرحوم عمر التلمساني أو محمد حامد أبو النصر إذ اضطلع مصطفي مشهور بالعبء التنظيمي الأكبر داخل الجماعة ومارس دور المرشد الفعلي في ولاية المرشدين السابقين عليه – التلمساني وأبو النصر- قبل إعلانه مرشدا خامسا في عام 1996، إذ عرف عن عمر التلمساني انغماسه الكامل في العمل العام وامتاز – عن كل المرشدين باستثناء المرشد الأول المؤسس- بنجاحه في تقديم نفسه كشخصية إسلامية عامة قادرة على التواصل وبناء جسور تواصل مع الجميع، وكان ذلك على حساب الدور التنظيمي داخل جسم الجماعة وهياكلها، وهو ما اضطلع به وأداه بنجاح مجموعة النظام الخاص وعلى رأسها مصطفي مشهور وهي المهمة التي استمر فيها في ولاية حامد أبو النصر الذي لم يكن يمتلك قدرات مشهور التنظيمية ولم تكن تسمح له حالته الصحية بالمحاولة وهو الذي قضى سنواته الأخيرة مريضا( ولد 25 مارس 1913 وتوفي في 1996) ليتحمل نائبه الأول مشهور عبأ القيادة الفعلية للتنظيم في أكثر سنواته نشاطا وتمددا.
فقد شهدت فترة الثمانينيات زخما كبيرا لتنظيمات الإخوان المسلمين في أقطارها المختلفة فحققت على المستوى الداخلي حضورا كثيفا وأحرزت نجاحات في العمل السياسي والاجتماعي والاقتصادي وتكونت لها مؤسسات وهياكل قوية في أقطارها مما أعطي للخطاب الإخواني حضورا وبريقا في الشارع العربي والإسلامي. ووازى ذلك نجاحا على مستوى التنسيق فيما بين هذه التنظيمات التي كانت ترفع كل منها في بلدها شعار إقامة الدولة الإسلامية تمهيدا لإعادة الخلافة الإسلامية الراشدة.
غير أن الشعارات الكبرى التي كانت تلهم وتشعل جذوة التنظيمات العالمية والعابرة للأقطار- كما في التنظيم الدولي للإخوان- بدأت تخبو وتصبح أقل دافعية مع الانغماس الكبير والمتسارع من الإخوان في العملية السياسية وما يستدعيه من واقعية تستدعي خفض السقف والاقتصاد في الأحلام والأماني الكبار إضافة إلي جملة من التغيرات العالمية والإقليمية التي سيأتي ذكرها تركت تأثيرات كبيرة على جسم وهيكل التنظيم الدولي لجهة إضعافه كان من أهمها على الإطلاق غزو العراق للكويت واندلاع حرب الخليج الثانية التي عرفت بحرب تحرير الكويت، فقد شهد التنظيم الدولي للإخوان خلافا فقهيا وسياسيا بين أعضائه حول الموقف من التعامل مع الغزو ومن الاستعانة بقوات أجنبية لتحرير الكويت تفاقم إلي إعلان تنظيم إخوان الكويت انفصاله عن الجماعة في أول انشقاق يطال جسم التنظيم الدولي الذي بدا أن مسيرته كانت باتجاه معاكس للأحداث المتسارعة طوال عقد التسعينيات والتي تواطأت جميعها على إضعاف التنظيم الإخواني الأم في مصر ومن ثم أفقدت قيادته المؤسسة قوة ومبرر قبضتها الحديدية على بقية التنظيمات الأعضاء كما سنرى لاحقا؛ بحيث يصح القول بأن التنظيم الدولي كان آخذا في الضعف والتآكل مع شيخوخة قائده المؤسس الذي كان قد جاوز الثمانين من عمره حين أدركته الوفاة ( ولد في 15 سبتمبر 1921 وتوفي في 17 نوفمبر 2002).
وساعة تم إعلان محمد المأمون الهضيبي مرشدا سادسا للجماعة يوم 28 نوفمبر 2002 خلفا للمرشد الخامس مصطفي مشهور كان على رأس الملفات التي تنتظر بته فيها ملف التنظيم الدولي الذي كانت كل الدلائل والأحداث وعجلة التاريخ أيضا تشير إلى أنه سيموت بموت مؤسسه، وأن أول ما سيفعله المرشد الجديد هو إسدال الستار عليه إما بالموت البطيء أو برصاصة الرحمة لأسباب بعضها شخصية وأغلبها موضوعية تفرضها التغيرات الإقليمية والعالمية والأوضاع التي تعيشها الجماعة .
منذ البداية لم يحتفظ الهضيبي بعلاقات جيدة مع أقطاب التنظيم الدولي وقياداته من خارج مصر التي طالما اختلفت معه- منذ تعيينه نائبا للمرشد ومتحدثا رسميا باسم الجماعة- في طريقة إدارته للجماعة وفي أسلوب تعامله مع مخالفيه؛ فقد تعمد الهضيبي تهميش أي دور للقيادات الإخوانية من خارج مصر وقلص أمامها كل مساحات الحركة التي كانت متسعة بحكم إقامة عدد منهم في أوربا وتمتعهم بحرية الحركة والإعلام مقارنة بالأوضاع التي تعيشها الجماعة في مصر خاصة في عقد التسعينيات الذي شهد تضييقا مستمرا عليها ، ووصل الصدام ذروته مع إصرار الهضيبي حين كان نائبا للمرشد على توحيد جهة الحديث باسم الجماعة وجعلها من اختصاصه فقط ،وذلك بإلغاء منصب المتحدث الرسمي للإخوان في الغرب والذي كان يحتله القطب الإخوانى البارز كمال الهلباوي المصري المقيم في لندن ، والذي اضطر في النهاية إلى الاستقالة احتجاجا على تهميش الهضيبي قيادات الخارج، وهو ما أثار غضب هذه القيادات خارج مصر وخاصة في المهجر ، والتي تأكد لديها إصرار الهضيبي على إقصائها وتهميش دورها خاصة أن هذا الصدام تلا ما عرف ببيعة المقابر( تمت أوائل عام 1996) والتي أخذ فيها المأمون الهضيبي البيعة علنا لمصطفي مشهور بعد الفراغ- مباشرة- من تشييع جنازة المرشد الرابع محمد حامد أبو النصر وقبل الانصراف من المقابر وهو الإجراء الذي رأت قيادات من خارج مصر أنه تم بدون العودة إليها، وبغرض الالتفاف عليها وسلبها أي حق في اختيار قيادة الجماعة وتوجيه سياستها.
ولم تقبل قيادات الخارج كل المبررات التي ساقها الهضيبي والقيادات المصرية لتبرير إسراعهم في اختيار المرشد الجديد دون العودة إليهم، والتي كان على رأسها الرغبة في حسم اختيار المرشد الجديد سريعا حفظا لوحدة الجماعة من الانقسام الذي كان يتهددها بقوة وقتها من جراء أزمة انشقاق أعضاء التنظيم من حزب الوسط ، ومن جراء المحاكمات العسكرية التي طالت بالسجن أكثر من تسعين قياديا من كبار قادتها في كل أنحاء مصر، ولم تعلن قيادات الخارج خلافها على الملأ نظرا للظروف الحساسة التي كانت تعيشها الجماعة إبان ذروة الصدام مع نظام الرئيس حسني مبارك، لكنها أصرت على اعتباره خروجا على اللائحة التي تنظم عمل التنظيم والمعتمدة من قيادة الجماعة ( بتاريخ 29 يوليو 1982)، والتي تنص على أن اختيار المرشد العام وأعضاء مكتب الإرشاد الثلاثة عشر يتم عبر مجلس شورى التنظيم الدولي الذي يضم ممثلين من جميع تنظيمات الإخوان القطرية.وهي اللائحة التي تجاوزها الهضيبي وقيادات التنظيم المصري حين قصروا عضوية مكتب الإرشاد الموكل إليه انتخاب المرشد من بين أعضائه على أعضاء مجلس شورى التنظيم المصري فقط والبالغ عددهم 85 عضوا.
وقد جاء هذا الخلاف ليضاف إلي رصيد خصومات الهضيبي مع قيادات التنظيم الدولي من خارج مصر والذي كان من أهم بنوده الموقف العدائي الذي كانت تقفه منه تنظيمات وقيادات الإخوان في الخليج ، خاصة في الكويت، بسبب موقفه أثناء الاجتياح العراقي للكويت سنة 1990 الذي اعتبرته انحيازا من الهضيبي للعراق، وهو ما تسبب في انشقاقات داخل الحركة الإخوانية في الخليج - كما أسلفنا- ما زالت الجماعة تعاني آثارها إلي اليوم رغم محاولات رأب الصدع التي قامت بها قيادات مصرية لها امتداد ومصداقية كبيرة لدي إخوان الكويت والخليج عموما.
ومما حكم العلاقة بين الطرفين وزادها توترا أن الهضيبي لم يكن ليغفل أو يغفر لقيادات الخارج في التنظيم الدولي تطلعهم المستمر لدور في قيادة الجماعة التي ظلت دائما مصرية خالصة منذ تأسيسها في مارس 1928 رغم أن عمر الجماعة تجاوز ثلاثة أرباع القرن وصار لها تنظيمات معتمدة في أكثر من خمسين دولة في العالم، فكثيرا ما أبدت قيادات غير مصرية تبرمها بهذا التقليد الذي يقصر منصب المرشد العام على إخوان مصر فقط واعتبروه نوعا من الوصاية المصرية على الجماعة التي تأسست بالأساس كجماعة لها توجهات وأهداف عالمية وليست قطرية أو محلية، واعتبرت أن هذه الوصاية كان من الممكن القبول بها أو السكوت عنها قبل عقدين من الزمان كان تنظيم إخوان مصر فيها هو الأقوى والأكثر حضورا وتأثيرا قبل نشأة عدد من التنظيمات الإخوانية الأخرى في كثير من أنحاء العالم، لكن الأحوال تغيرت لغير مصلحة التنظيم المصري الذي تراجع دوره وتأثيره في عقد التسعينيات لأسباب داخلية تتعلق بالمواجهة مع النظام المصري، ولأسباب أخرى خارجية تتعلق بتنامي دور التنظيمات الإخوانية الأخرى إما لأسباب تتعلق بالدعم والتمويل كما هو الحال بالنسبة لإخوان الخليج والكويت بصفة خاصة، أو بإحراز نجاحات سياسية تفوق ما أحرزه التنظيم المصري، مثل إخوان اليمن والأردن والسودان التي استقل مراقبها العام حسن الترابي بعد إبعاده من الجماعة بتنظيم خاص عن الإخوان – الجبهة القومية الإسلامية- ، أو لبروز قيادات فكرية وشرعية وحركية لها حضور وتأثير ونفوذ عالمي يفوق نظيرتها المصرية، مثل التونسي راشد الغنوشي واللبنانيين فتحي يكن وفيصل مولوي والسوداني حسن الترابي، والمصري المهاجر كمال الهلباوي،..في مقابل التآكل الذي طال القيادات المصرية إما بالوفاة أو بالانفصال أو التهميش.
وقد تصاعدت مطالب قيادات الخارج بدور أكبر لها في إدارة الجماعة العالمية، وبلغت ذروة الاحتقان بينها وبين القيادة المصرية التي كان الهضيبي الفاعل الرئيسي فيها مع بيعة المقابر، فاضطرت معه القيادة المصرية إلى الرضوخ لإخوان الخارج بتعيين أول نائب للمرشد من غير المصريين وهو القطب السوري المقيم بالأردن حسن هويدي امتصاصا لغضب قيادة الخارج من استبعادهم من اختيار المرشد الجديد وخلو مكتب الإرشاد منهم، كما اضطرت القيادة المصرية وعلى رأسها الهضيبي أيضا للرضوخ مرة ثانية بعد وفاة مصطفي مشهور فاضطرت إلى تأجيل إعلان الهضيبي مرشدا أكثر من أسبوعين من إعلان وفاة سلفه لحين أخذ موافقة إخوان الخارج تلاقيا لاعتراضات قد تصدر عنهم كالتي شهدتها بيعة المقابر لمشهور، خاصة وأن الحديث بين قيادات الخارج كان قد تزايد بقوة في أوائل عام 2001 حول ضرورة تدخل قيادات التنظيم الدولي من خارج مصر في اختيار المرشد خاصة وأن مدة المرشد( كان وقتها مصطفي مشهور) كانت قد أوشكت على الانتهاء قبل أن يجدد له فترة ولاية ثانية في فبراير 2002. وقد تردد وقتها أن قيادات الخارج طرحت اسم الشيخ المستشار فيصل مولوي- مراقب تنظيم الإخوان في لبنان- كمرشح لها على منصب المرشد باعتباره الأكثر جدارة بالمنصب نظرا لاستكماله كل المواصفات اللازمة حيث يتمتع إلي جانب مكانته التنظيمية باحترام الجماعات والهيئات والمؤسسات الإسلامية العالمية الأخرى نظرا لوضعه كقاض سابق وعالم شرعي كبير( هو نائب رئيس مجلس الإفتاء الأوربي)، ولكن أحداث 11 سبتمبر وتداعياتها والخوف من وضع التنظيم الدولي على قوائم الإرهاب أجل طرح المناقشات إلي العلن لتذهب بها التطورات العالمية في طي النسيان.
كل ذلك ساهم في رفع سور جدار الشك وعدم الارتياح عاليا بين قيادات إخوان الخارج وبين المأمون الهضيبي الذي بدا -على غير عادة من تولوا المنصب قبله- منفردا بالسيطرة على مقاليد الأمور في الجماعة، وهو ما عزز توقعات لقيادات سابقة في التنظيم الدولي باحتمال بدء الهضيبي عملية تقليم أظافر التنظيم الدولي تمهيدا لتصفيته تماما.
وحين كتبت هذا التحليل في جريدة الشرق الأوسط بعد أيام من تنصيب الهضيبي مرشدا ثارت ثائرة كثير من الإخوان المسلمين الذين اعتبروا أن ما ذكرته يتصادم مع خطوط حمراء تتعلق باستراتيجية الجماعة ومشروعها الإسلامي القائم على فكرة إعادة إحياء الخلافة الإسلامية العالمية، وكانت المفارقة أن الهضيبي كان الشخص الوحيد- ربما في جماعة الإخوان- الذي استقبل التحليل بقبول حسن وإن لم يعلن ذلك بالطبع كما ذكر أحد القيادات القريبة منه، ومرجع ذلك – وهو ما لم يلاحظه الكثيرون- أن العامل الأكثر حسما في نظرة الهضيبي للتنظيم الدولي ومن ثم تعامله معه كان الاختلاف الكبير بين مشروعين سياسيين؛ مشروعه السياسي الواقعي الذي لابد وسينتهي- إذا توافرت له الظروف الملائمة وضمانات الإصلاحات السياسية - بتأسيس حزب سياسي يتم من خلاله تأطير الجماعة المصرية التي لن يتبقى لها من وضعها القديم سوى الرمزية التاريخية، وهو مشروع يختلف إلي حد كبير عن مشروع التنظيم الدولي الذي يحلق في فضاء اليوتوبيا باحثا عن دولة عالمية عابرة للأقطار والقارات.
ربما لم يعلن الهضيبي ذلك صراحة، بل وربما لم يكن يعنيه مباشرة، لكن دراسة وتحليل رؤية الرجل وتاريخه وأدائه السياسي تؤكد ذلك. فهو كان قاضيا وابنًا لقاض تأسس على احترام القانون والدستور وتشبع بمناخ الدولة الوطنية الحديثة ولم يعرف له حضور أو دور دولي في الجماعة باستثناء فترة السبعينيات التي عمل فيها في المملكة السعودية ولم يكن دوره يتجاوز حدود عمله كمستشار للأمير نايف وزير الداخلية يتمتع بعلاقات قوية داخل المملكة التي كانت مهجر الإخوان الأكبر قبل العودة لمصر بعد استقرار الأوضاع في العهد الساداتي.
وبعد عودته كان حضوره الأبرز والأهم كسياسي لا تتجاوز ساحة حركته الملعب المصري، فدشن ظهوره كنائب في البرلمان المصري( بعد نجاحه في انتخابات 1987) ومتحدثا باسم الكتلة الإسلامية فيه وصاحب مبادرة إعلان حزب سياسي للجماعة من طرف واحد اعتمادا على نصوص قانونية تعطي الحق في ذلك لأي كتلة برلمانية إذا استكملت عددا معينا كانت الكتلة الإخوانية قد جاوزته بكثير، وظل من وقتها القيادة الإخوانية الأكثر تفاعلا وحضورا واشتباكا مع الحالة السياسية المصرية إلي الحد الذي أتاح له تولي المسئولية الكاملة عن الملف السياسي المصري الذي لم تكن تقضي الجماعة فيه بقرار من دون العودة إليه.
لذلك كان الهضيبي الفاعل السياسي الأول في الجماعة ومهندس كل الملفات السياسية المهمة منذ منتصف الثمانينيات إلي وقت وفاته وعلى رأسها الموقف من تجربة حزب الوسط والميثاق الوطني والتحالفات الحزبية المختلفة وقرار المشاركة السياسية في الانتخابات من عدمه.. ويتجلى هذا المشروع في الصورة التي حرص الهضيبي دائما على الظهور بها فقد بدا دائما- على خلاف غيره من مرشدي الجماعة- في صورة الزعيم السياسي أكثر منه مرشدا دينيا وكانت خطاباته أكثر تسييسا واشتباكا مع قضايا السياسة الداخلية بعكس من سبقوه.
وأعتقد أنه لولا أجواء الانسداد السياسي وعدم الثقة في المناخ والنظام السياسي المصري لكان الهضيبي صاحب قرار التحول إلي حزب سياسي خاصة وأن معارضته القوية لمشروع حزب الوسط لم تكن مبدئية بقدر ما كانت منصبة على التوقيت والأشخاص ومدى الثقة في قدرة النظام المصري على القبول بحزب سياسي للإخوان ولو امتد الأجل به( توفي 7 يناير 2004) لتأكد هذا المشروع أكثر فأكثر داخل الجماعة خاصة في حال حدوث إصلاح سياسي يسمح بحزب سياسي للإخوان.
وعلى العكس من هذا تأتي رؤية المرشد السابع محمد مهدي عاكف ( تولي في 14 يناير 2004) التي بدت وكأنها تبعث برسالة تؤكد الاتجاه لإحياء رسالة التنظيم الدولي.
ترتبط رؤية مهدي عاكف للتنظيم الدولي بشخصيته ودوره وتاريخه للجماعة فقد نشأ في النظام الخاص الذي تأسس لمقاومة الاحتلال الأجنبي في مصر ولتحرير فلسطين والذي يعد أكثر أجنحة الجماعة التي تتمرد على فكرة القطرية وتتجسد فيها أفكار الخلافة الإسلامية العالمية وبدأ ظهوره بالعمل الجهادي ضد القوات الإنجليزية. كما كان عاكف من أبرز من تحملوا مع الأب الروحي الشيخ مصطفي مشهور عبء تأسيس التنظيم الدولي حين استبق معه بعدة أيام أحداث سبتمبر/ أيلول 1981 الشهيرة وغادر البلاد إلى ألمانيا حيث تولى مهام تأسيس وإدارة المركز الإسلامي في ميونيخ والذي تحول إلى مقر للاجتماعات التنظيم الدولي وكان المكان الذي ولد فيه التنظيم رسميا وأعلنت منه وثيقة التأسيس أو اللائحة الرسمية في 29 مايو من عام 1982، وهو ما سمح له ببناء علاقات واسعة مع قيادات تنظيمات الإخوان في كل أنحاء العالم، وكان له دور كبير في ملفات الإخوان العالمية وعلى رأسها ملف الجهاد الأفغاني. كما تولى أيضا مهام ومسؤولية قسم الاتصال بالعالم الإسلامي مما مكنه من عمل شبكة علاقات عالمية واسعة ليست- فقط -داخل التنظيمات الإخوانية المعتمدة بل وتنظيمات إسلامية أخرى مستقلة.
وكانت كل التصريحات والرسائل الأولي التي بعث بها المرشد في استهلاله مهام عمله تؤكد إعادة الروح مجددا للتنظيم الدولي وهو ما فهم من الحوار الصحفي الأول الذي أجريته معه صبيحة اليوم التالي لإعلانه مرشدا ( نشره موقع إسلام أون لاين.نت في نفس اليوم 15/1/2004).
لقد اعتبر عاكف أن قرار مكتب الإرشاد في مصر باختياره مرشدا لم يكن إلا ترشيحا لا بد أن يعرض على مجلس شورى ومكتب إرشاد التنظيم العالمي ليقره- وهو ما حدث فعلا وبالإجماع- أو يرشح غيره ليصبح هو مجرد مراقب عام للإخوان في مصر. وكانت المفاجأة أنه اعتبر أن مصرية المرشد ليست سوى عرفا يتعلق بتقدير ثقل مصر فقط في حين أن اللوائح تؤكد حق كل بلد في أن ترشح من تراه وفقًا للقوانين واللوائح التي يعتمدها التنظيم الدولي.
وقد كانت هذه التصريحات سببا في قلق مراقبين ودوائر سياسية وأمنية في مصر من عودة العلاقات بين التنظيم الدولي وقيادة الإخوان في مصر إلي قوتها على نحو ما ذكرت جريدة الشرق الأوسط في تقرير نشرته بتاريخ 20 يناير 2004 اعتمادا على هذا الحوار.
على أننا إذا عدنا للمواقف والتصريحات التي أدلى بها المرشد الجديد في قضايا محددة تتعلق بهذا التنظيم سنجد أن الواقع يقول بعكس ذلك. فهو في قضية مشاركة إخوان العراق في مجلس الحكم الأمريكي في العراق لم يرفض ولم يقبل وقال مكررا كلام الهضيبي: أنهم أصحاب القرار وأهل مكة أدرى بشعابها! على رغم من خطورة القرار والانتقادات الكبيرة التي وجهت للإخوان بسببه. وحين تقدمت الجماعة بمبادرتها للإصلاح السياسي في مصر قدمت مشروعا سياسيا أقرب لبرنامج حزب سياسي قطري لا أثر فيه لرؤية عالمية ولم تكن المبادرة سوي نص البرنامج الانتخابي لمرشحيها في انتخابات برلمان 2000 وحين تدخلت الجماعة بالتغيير كان الحذف من نصيب كل ما يتعلق بالخارج والقضايا الخارجية وعلى رأسها قضيتي العراق وفلسطين!! ووجدنا تدريجيا أن الدور الخارجي للجماعة آخذ في التضاؤل ولم يعد حاضرا إلا في تصريحات عامة لا تختلف فيها الجماعة عن أي قوى إسلامية أو حتى قومية تدعو إلي وحدة الصف ومقاومة الهيمنة الأمريكية والإجرام الصهيوني.
وحتى في قضية محورية كقضية فلسطين كان الجديد الذي ربما لم يلحظه المراقبون أن الجماعة في مصر كانت تنأي بنفسها تدريجيا وباستراتيجية غير معلنة عن تفصيلات القضية حتى فيما يخص تنظيم الإخوان في فلسطين ( حركة المقاومة الإسلامية : حماس) دون أن يعني هذا التراجع عن محورية القضية في العالم الإسلامي أو التخلي عن دعمها بل بما يعني الانتقال من العلاقة العضوية بين التنظيم الدولي بقيادته المصرية والتنظيم الفلسطيني، وهي العلاقة التي كان من مفردات خطابها اعتبار حماس الذراع العسكري في فلسطين لجماعة الإخوان العالمية، والانتقال إلي صيغة جديدة ترسخ للانفصال السياسي والتنظيمي والاقتصار على الدعم اللوجستي والمادي ربما ولكن في صيغة أكثر عمومية، ولم يكن أدل على هذا التحول من الخبر الذي نشره الموقع الرسمي للجماعة ( إخوان أون لاين) بتاريخ 24/3/2004 وصدر بعنوان "إخوان فلسطين ينعون مرشدهم الشيخ ياسين" وجاء في نصه:
"أصدرت جماعة (الإخوان المسلمون) في فلسطين بيانًا الاثنين 22/3/2004م، زفت فيه فضيلة الأستاذ الشيخ "أحمد ياسين" رئيس مكتب الإرشاد لجماعة الإخوان المسلمون في فلسطين إلى الشهادة..."
فلأول مرة في تاريخ التنظيمات الأخوانية في العالم يطلق لقب المرشد على قيادة تنظيمية غير المرشد العام في مصر إذ دائما ما حرصت الجماعة على الحفاظ على هذا اللقب لمرشدها في مصر؛ في حين اكتفي بإطلاق لقب المراقب العام على قيادات التنظيمات القطرية الأخرى والتي من المفترض أن حماس إحداها. ليس هذا فحسب بل يقر الموقع الرسمي للجماعة- الذي لا يحتمل أن يخلط في مثل هذه التسميات أو يمررها عبثا- بما جاء في بيان إخوان فلسطين ويؤكد استقلالية التنظيم الفلسطيني الكاملة من خلال ما أسماه مكتب إرشاد جماعة الأخوان في فلسطين.
دوافع ذلك غير معلنة أو معروفة وربما تكون إقرارا بأمر واقع حيث ينعدم أي تدخل إخواني من خارج فلسطين في سياسة حماس وربما كانت استباقا لسياسات أمريكية قد تضع الجميع في سلة واحدة يتجاور فيها التنظيم الأم في مصر مع التنظيم الفلسطيني الذي أدرجته الولايات المتحدة في قوائم الإرهاب!
إذن تتضافر الأوضاع الإقليمية والعالمية إضافة إلى الوضع الداخلي لجماعة الإخوان والتطورات الفكرية والسياسية داخل التنظيم المصري خاصة والتي تميل للتحول تدريجيا إلي حزب من الأحزاب الوطنية؛ يتضافر كل ذلك ليعطي مؤشرا أكثر تأكيدا حول تراجع التنظيم الدولي واحتمالات تصفيته، فالحديث غير المعلن بين قيادات الجماعة في مصر كان يؤكد دائما على أن التنظيم الدولي صار عبئا على الجماعة من الناحية السياسية والأمنية ، بأكثر مما تحتمله ، كما أن أضراره في السنوات الأخيرة فاقت في كل الأحوال ما كان ينتظر منه من نفع وما حققه في سنواته الأولى حين كان مصدرا قويا للتمويل ( تكفلت به تنظيمات الإخوان في الخليج التي كانت المورد الرئيسي لدعم الجماعة ماليا في مصر حتى بداية حقبة التسعينيات) كما كان ذراعا إعلامية في أوروبا والغرب للضغط على النظام المصري من أجل وقف أي عمليات تصفية محتملة للحركة في مصر (اضطلع بدور كبير في حشد تغطية وضغط إعلامي وسياسي دولي ضد المحاكمات التي تعرضت لها الجماعة في منتصف التسعينيات1995- 1996) وهو ما تغير تماما الآن بعد ضرب وتصفية مؤسسات التمويل الإخوانية في الخليج، وتقلص مساحة الحركة السياسية والإعلامية لإخوان الخارج بعد أن تراجعت الدول الغربية عن سياسة إيواء الحركات الإسلامية في بلادها والاستفادة منها كأوراق ضغط على الأنظمة العربية، ثم جاءت أحداث سبتمبر 2001 لتقضي تماما على حالة تمدد هذه الحركات ومنها الإخوان في أوربا وأمريكا.
ويبدو أن عددا من قيادات الجماعة في مصر على قناعة بأن التنظيم الدولي الآن يتحمل جزءا كبيرا من المسئولية عن حالة الحصار التي تعيشها الجماعة ، فهو يعطيها صورة أكبر كثيرا من حجمها الفعلى لدى الأنظمة وأجهزة الأمن والاستخبارات العالمية التي تحاسب الجماعة بأكثر مما هي عليه فعليا، كما أنه يحمل الجماعة أعباء إدارية وكلفة سياسية بأكثر مما يعود عليها، خاصة وأن التنظيم الدولي لا يمتلك سلطات فعلية على التنظيمات القطرية للإخوان رغم مشاركتها بممثلين عنها، ولا يستطيع التدخل في سياستها الداخلية مهما كان تأثيرها على صورة ووضع الجماعة عالميا، حتى إن قرار تنظيم الإخوان في الجزائر بخوض زعيمه الشيخ محفوظ نحناح انتخابات الرئاسة الجزائرية الأخيرة لم يؤخذ فيه رأى التنظيم الدولي رغم أنها كانت المرة الأولى في تاريخ الجماعة التي تترشح فيها شخصية إخوانية لمثل هذا المنصب ورغم ما تحمله الخطوة من خطورة وتأثير عالمي يتجاوز نطاق التنظيم الجزائري على الأقل في حالة نجاح نحناح الذي كان سيصبح أول رئيس لدولة من الإخوان المسلمين وكذلك الحال في قرار إخوان العراق المشاركة في مجلس الحكم العراقي الذي يرأسه الحاكم الأمريكي بول بريمر.
كما ينظر للتنظيم الدولي أيضا كعبء أمني على التنظيمات الفرعية، باعتباره كان سببا لعدد من الضربات الأمنية التي تعرضت لها بعض تنظيمات الإخوان القطرية ، حيث كانت اجتماعاته التي تعقد في ألمانيا أو بعض الدول الأوروبية صيدا ثمينا لأجهزة الاستخبارات العالمية التي استطاعت جمع أكبر معلومات ممكنة عن الجماعة لم يكن لتتاح لها لولا اجتماعات التنظيم التي كانت تدار على طريقة "المطار السرى" الذي يعرفه كل الناس ورغم ذلك يظل سريا!! حيث تدار الاجتماعات وكأنها سرية في حين أن كل ما يدور فيها يجد طريقة بسرعة إلى كل أجهزة الاستخبارات ، وهو ما أدى – على سبيل المثال – إلى ضرب تنظيم الإخوان في عمان والذي حصلت أجهزة المخابرات العمانية على أدق المعلومات عنه من خلال لقاءات التنظيم الدولي ، وكلها معلومات لم تكن تعرف بها من قبل، وعلى ضوءها وجهت أكبر ضربة للتنظيم الإخواني غير المعلن في عمان.
التطورات المتسارعة في الجماعة والمنطقة والعالم عموما تؤكد أن تصفية التنظيم الدولي للإخوان لن تجد معارضة معتبرة من الداخل أو الخارج، حتى من أشد المؤمنين به؛ فالقيادات المصرية ستجد في ذلك دعما لاستراتيجيتها غير المعلنة في التركيز على دور سياسي داخلي أكبر، كما أنه حل يريحها من التضارب الواضح بين اللائحة المنظمة للجماعة والواقع الفعلى الذي تعيشه على الأقل في مسألة اختيار المرشد. فهو يختار معه ثمانية أعضاء من نفس البلد إضافة إلى خمسة آخرين يمثلون الأقاليم المختلفة في حين أن الواقع يقول إن قيادة الجماعة كلها مقصورة على مصر ولا وجود لأي عنصر من خارجها، كما أن اللائحة تقبل ضمنا بمبدأ نقل قيادة الجماعة خارج مصر في حال اختيار مرشد غير مصري وهو ما لن تسمح به القيادة المصرية بأي حال بغض النظر عن شخصية المرشد، وتجيء أحداث 11 سبتمبر 2001 لتعطى المبررات الكافية لهذه التغيرات ، وتقطع الطريق على أي معارضة محتملة من قيادات التنظيم الدولي على تصفيته حيث تعيش هذه القيادات حالة "كمون" اضطراري لا يتوقع أن تنتهي قريبا في ظل حالة الحصار والملاحقة الأمنية العالمية التي تقودها الولايات المتحدة والتي كان آخر ضحاياها الملياردير الإخوانى يوسف ندا ، الذي ضاعت كل ثروته ومعها استثمارات إخوانية ضخمة، وظل لفترة يلاحق قضائيا في أوربا وأمريكا في إطار الحملة الأمريكية على ما أسمته بالإرهاب قبل أن يخفت الحديث عنه ويسدل عليه الستار مع تحول الحملة الأمريكية إلي العراق.
القناعة التي تترسخ يوما بعد يوم لدى كثير من القيادات الإخوانية الفاعلة هي أن التنظيم الدولي للإخوان ولد في التوقيت الخطأ ، فتأسس في وقت تنهار فيه التنظيمات العالمية العابرة للقارات خاصة إذا ما كانت معارضة وسرية ومطلوبة من قبل أنظمتها ، وأن الأفضل هو البحث عن صيغة أخرى للتنظيم الدولي تكون أكثر قبولا واتساقا مع الواقع العالمي الجديد ، بأن يتحول التنظيم –مثلا- إلى منتدى فكرى أو سياسى بعيد تماما عن الطابع التنظيمي والسري ، والصورة المقترحة لا تبعد كثيرا عن المؤتمر القومي العربي الذي يضم القوي والأحزاب القومية أو منتدى الاشتراكية الدولية الذي يجمع الأحزاب الاشتراكية فكلاهما الأليق بتيارات صارت تسير عكس حركة التاريخ
لذا فإن التنظيم الذي وقعت شهادة ميلاد في 29 يوليو 1982 سرعان ما دبت فيه الشيخوخة المبكرة فمات إكلينيكيا بعد أحداث 11 سبتمبر وصار ينتظر إعلان رسمي بالوفاة لا يجد أحد الجرأة على توقيعه!.
فصلية " المنار الجديد
عدد 27 لصيف 2004.