نحو خطاب إسلامي إنساني
باحث وصحفي مصري
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
ربما لم تتعاظم الحاجة إلى خطاب إسلامي إنساني عالمي مثلما هو الحال اليوم، وربما كان ضمور الجانب الإنساني والعالمي هو أحد أبرز المشكلات الجوهرية التي يعانيها الخطاب السائد في عالمنا العربي والإسلامي على مستوى الوعي والاهتمام أو على مستوى المعالجات الفقهية وروح التضامن الإنساني أو حتى على مستوى التكافل والنجدة.
نحو الإنسانية الرحبة
يشعر المرء حين يتأمل من بعيد أن الخطاب الإسلامي السائد هو أقرب إلى مونولوج يختفي فيه الآخر ولا يكاد يبين إلا في لحظات الصدام والتوتر أيًّا ما كان الموقف تسامحًا أو تشددًا، ويلحظ ضمورًا في مساحة الوعي بالآخر الإنساني الذي لا نطالعه إلا في باب العلاقة به (سلمًا وحربًا) لا في مساحة وجوده وما يتأسس عليه من حقوق الأصل الإنساني المشترك وكرامة بني آدم التي تكاد تغيب في كثير من الفتاوى إلى حد أنه يمكنك أن تطالع فتاوى تتحدث عن حرمة الغيبة في حق المسلم وجوازها في حق غيره!.
ويتوارى جانب التضامن الإنساني في خطابنا وحركتنا حتى لا نكاد نرى لنا فعلاً أو نسمع لنا قولاً في قضايا الظلم والتهميش والقهر التي يعانيها إخوان لنا في الإنسانية في بلاد العالم الفقير والمستضعف (خاصة شعوب إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية)، في حين أننا دائمًا وأبدًا ننتظر تضامنها معنا وهي لم تخذلنا في ذلك في قضايانا المصيرية بدءًا من فلسطين -قضيتنا الأبدية- إلى الغزو الأمريكي للعراق.
ولحين من الدهر ظلت حركة النجدة والتكافل إسلامية حصرًا فلم تعرف قنوات العمل الإغاثي العربي والإسلامي طريقًا لها إلى الجزء غير الإسلامي من الإنسانية، وظلت الإغاثة الإسلامية إلى عهد قريب لا تعرف لها وجهة إلا بقاع العالم الإسلامي فقط ولا تعني بكوارث غيره، ورغم أن هذا قد يفسره وقوع العالم الإسلامي في مناطق الكوارث الطبيعية وغيرها وأن الأقربين أولى بالمعروف؛ غير أنه لا يصلح مبررًا لهذا الضمور، خاصة أن الاهتمام بالآخر الإنساني في النجدة والإغاثة له ما يدعمه دينيًّا وإنسانيًّا وفي ثقافتنا وتقاليدنا، وكان سيمثل بادرة والتفاتة لها مغزاها.
ورغم ذلك ننوّه بالتحول الكبير الذي جرى، خاصة في منظمة الإغاثة الإسلامية في بريطانيا، وبفتاوى علماء أجلاء كالشيخ علي جمعة في إخراج الزكاة والأضاحي للمنكوبين من غير المسلمين.
كل هذا يدفع إلى القول بأننا بحاجة إلى انفتاح لخطابنا الإسلامي يجعله أكثر إنسانية وعالمية، وهو انفتاح لا بد أن يتم استجابة لشروط الواقع وإكراهاته وانطلاقًا أيضًا من حاجة حقيقية ورغبة داخلية في عدم تضييق ما وسعته رسالة الإسلام.
أين السبيل؟
يثير هذا الأمر تساؤلات حول أي المداخل نسلك وأي الأبواب نطرق وفي أي مجال نتحرك لبدء انفتاح وبناء خطاب إسلامي إنساني عالمي ينشأ عنه تحالف بنفس الصفة وباتساع العالم.
والواقع أن المدخل الثقافي يبدو غير مناسب إطلاقًا كمدخل لبناء هذا الخطاب أو التحالف، رغم أنه المدخل الذي تُلحّ عليه الأصوات الغربية والعلمانية التي طالما تدعو إلى الاندماج ضمن التيار الإنساني الآخذ في الازدياد والتنامي، وقد صار هناك تيار يتشكل الآن في العالم العربي تقوده بعض النخب العلمانية يدعو إلى الإنسانية الواحدة ويشتغل عبر العمل والخطاب الحقوقي، وهو رغم وجاهته وما يستحقه من تقدير لا يراعي الخصوصية الدينية أو الثقافية من خلال إحالته الدائمة إلى مرجعيات إنسانية مستقلة بذاتها عن الدين.
ومن هنا فالمدخل الثقافي يجرنا إلى الاشتباك المستمر، بل والتصادم مع المرجعيات الإنسانية في قضايا الشريعة وحقوق الإنسان ومسائل المرأة؛ فينقلب تعاطينا مع التيار الإنساني عبر المدخل الثقافي إلى صدام دائم أو محاولة لمقاومة السعي إلى تفكيك منظومتنا الدينية لمصلحة مرجعية إنسانية، وهو صدام لا يمكن أن يتأسس عليه خطاب إنساني مشترك.
وتفاديًا لهذا الصدام واحترامًا لفكرة التعددية وحق الخصوصية الدينية والثقافية من الضروري تبني مداخل غير ثقافية أقرب إلى التلاقي على حاجات وقضايا مطلبية تتيح الالتقاء مع الجبهة الإنسانية العالمية من دون أن تدخلنا في جدل عقائدي وثقافي يفتت هذه الجبهة ويحول دون اتساع مدى خطابنا.
أولى هذه المداخل هو المدخل السياسي الذي يمكن أن نلتئم فيه ضمن خطاب إنساني عالمي ضد الهيمنة، وجبهة عالمية عريضة تتشكل ضد الاستعمار والهيمنة وسياسات التوسع الإمبراطورية الأمريكية، وهي جبهة تزداد اتساعًا بعرض العالم، وقد ظهر أثرها في الاحتجاجات التي شهدها العالم ضد الغزو الأنجلو سكسوني للعراق والتي تمثلت في أكبر تظاهرات عرفها التاريخ تضامنًا مع الحق العراقي ضد المشروع الأمريكي الاستعماري.. وساعتها يمكن أن نتحدث عن حلف فضول جديد يمثل استجابة حديثة للحلف الذي قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: "شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفًا ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت".
هناك أيضًا المدخل الاقتصادي الاجتماعي، والمتمثل في تيار مناهضة العولمة ومقاومة الاستغلال ونهب ثروات الشعوب، وهو مدخل تتعاظم الحاجة إليه في ضوء كون شعوب العالم الإسلامي هي الأكثر تضررًا من سياسات العولمة الاقتصادية والأكثر وقوعًا في دائرة الاستغلال والنهب المنظم للثروات الذي تمارسه الشركات الدولية والرأسمالية العالمية... وفي هذا وعبر خطاب إسلامي أكثر تعاطفًا مع قضايا العدل الاجتماعي سنجد أنفسنا -نحن شعوب العالم الإسلامي- في الخندق نفسه الذي تقف فيه شعوب الجنوب في أمريكا اللاتينية وإفريقيا وآسيا.
ثم هناك كذلك المدخل الإغاثي الذي يربطنا بتيار إنساني يستعذب أبناؤه المشقة والتعب ويكابدون الأخطار من أجل التخفيف عن آلام المنكوبين والمشردين دونما تمييز بين دين أو عرق أو لون.. بما يعيد الاعتبار لمبدأ احترام الأصل الإنساني المشترك.
مشروع مقاوم
إن الانفتاح على العالم عبر هذه المداخل لبناء خطاب إسلامي جديد من شأنه أن يؤسس لمشروع إسلامي إنساني عالمي مقاوم، ولا يتصور في هذه اللحظة للمشروع الإسلامي إلا أن يكون مقاومًا على المستوى السياسي ضد الهيمنة والاستعمار الجديد وعلى المستوى الاقتصادي ضد العولمة ونهب ثروات الشعوب.
كما أن هذا الخطاب يمكن أن يخلص حركات المقاومة الإسلامية ضد الحملة الاستعمارية الأمريكية مما تعانيه من الاستغراق إلى حد الغرق في خطاب مذهبي (مواجهة سنة وشيعة) ولا تاريخي (حملة صليبية)، ومن روح القطيعة مع العالم وعدم القدرة على توجيه خطاب يفهمه، فضلاً عن بناء جسور مع هذا العالم.
ثم إن مشروعًا إسلاميًّا مقاومًا يتأسس على هذا الخطاب الجديد من شأنه أن يضمن قيادة طبيعية للمشروع الإسلامي لحركة المقاومة العالمية ضد الهيمنة والاستعمار الجديد.
اعتماد هذه المداخل يحيلنا إلى القول بأن الفضاء المنشود الذي يمكن أن يتحرك فيه الخطاب الإسلامي الإنساني العالمي الجديد وهو عالم الجنوب وما تبقى من بقاع إنسانية في الغرب الأمريكي الأوروبي، فالجنوب هو الأقرب إلينا في المشترك الإنساني وفي المعاناة من إكراهات اللحظة الحالية أيضًا، والمردود المنتظر منه -لا سيما في إفريقيا- يفوق بكثير ما ننتظره من أوروبا وأمريكا التي استقرت -أو كادت- في قبضة المنظومة الرأسمالية العولمية، ولو أحسنا الرأي لكانت إفريقيا مرمى التصويب ومحط اهتمام حركات الدعوة والتواصل الحضاري والإغاثة.. لولا فتنة العيون الزرق!.
فضاء خطابنا المنتظر هو أمريكا اللاتينية وإفريقيا وآسيا وما تبقى من قلاع أو جزر منعزلة للتيار الإنساني واليسار الجديد في أوروبا وأمريكا.. إذ لا مستقبل لنا مع الغرب الاستعماري المستكبر المركزي الذي لا يرى سوى ذاته.
إن بعدًا إنسانيًّا عالميًّا لخطابنا الإسلامي هو الكفيل بأن ينزع ما يعانيه من تشدد وتعصب ويجعله أكثر تسامحًا واعتدالاً وتوسطًا، ولكن بعد أن يجرد هذه الكلمات -الوسطية والاعتدال والتسامح- مما أصابها من ابتذال ولحق بها من توظيف، فهو سيربطها بمرجعية نهائية حاكمة وسياق واضح يحول دون العبث بها ابتذالاً أو توظيفًا؛ إذ إن طرح مصطلحات التوسط والاعتدال والتسامح دون تحديد مرجعية نهائية وسياق ضابط -كما نتصور في الخطاب الجديد- يؤدي إلى حالة من السيولة والميوعة ونزع للنفس النضالي التغييري للإسلام، وهو ما ينقلنا من إسلام "سياسي" عانينا مما جرته بعض فصائله من قطيعة مع العالم إلى إسلام "سياحي" يجعل بلادنا مرافئ استجمام وبيوت راحة للأجنبي المستغل والمستكبر.
إن خطابًا إسلاميًّا إنسانيًّا عالميًّا كفيل بأن يعود الإسلام -كعهده- صوت المهشمين والمقهورين والمستضعفين في الأرض فيخرجهم من تسلط العباد وابتزازهم إلى رحمة رب العباد، ومن جور العولمة إلى سعة الإسلام، ومن ضيق الاستهلاك إلى سعة الاستغناء. ولا يصير مطية أو مبررًا للمستغلين والظالمين وأنظمة الجور والاستبداد.