دعوة إلي نقاش مفتوح بين الصحفيين المغاربة حول تغطية قضية الدعارة
كاتب وصحفي مصري
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
في العام الماضي زارتنا في مصر أسرة مغربية كريمة؛ صديقي هيثم الفلسطيني الذي أصبح مغربيا من طول إقامته وعشقه للمغرب حتى صار يقول عن نفسه أنه مغربي أكثر من المولي إدريس، وابنته داليا وزوجته المغربية الكريمة ثريا.
لم تكن الزيارة غريبة علينا فالتقارب بيننا في الطباع والثقافة والروح جعل الرحلة تبدو كما لو كانت لأسرة مصرية تتنقل بين مدن مصر.
لكن كان الشيء الغريب الذي فاجأني في الرحلة كلها سؤال ثريا اللحوح والذي يبدو أنه يراودها منذ وطأت أرض مطار القاهرة: أين ومتى أري الراقصات؟!
ذهلت في البداية لهذا الطلب الغريب؛ ثم أخذتني نوبة ضحك من أن ثريا سألت عن الراقصات المصريات حتى قبل أن تسأل عن النيل والأهرام والأزهر والحسين والسيدة زينب وغيرها من المعالم المصرية، وأنها تكاد تؤمن بأن المصريات راقصات بالفطرة فهن إما يمارسن الرقص مهنة واحترافا علي غرار فيفي عبده وتحية كاريوكا وسامية جمال وبقية فصيلة الراقصات الأحياء منهن والأموات،أو هن يمارسنه كهواية في أوقات الفراغ!
ضحكت أكثر حينما علمت أنها مقتنعة بالرد الساخر للممثل الشهير عادل إمام في مسرحية " شاهد ماشفش حاجة" حين سأله المحقق لماذا لم يترك البيت طالما كانت تسكن تحت شقته راقصة وفيه يقول: إذا كل واحد هيعزّل من البيت اللي ساكنه علشان فيه رقاصة يبقي الشعب المصري كله هينام في الشارع!
ثريا لم تكن تؤمن بذلك فقط بل وكانت تحمل وصايا أخواتها وصديقاتها اللاتي اتفقن جميعا علي ضرورة أن تتعرف علي قصة الرقص وأسراره عند المصريات، وحدها أمها وهي سيدة أحسبها من أولياء الله الصالحين حذرتها من هذا بل ونصحتها باجتناب المصريات عموما باعتبارهن حطب جهنم، وهي قناعة وصلت إليها من كثرة ما تراه من رقص ومياعة في الأفلام والدراما المصرية التي التقت عليها الأمة العربية مثلما لم تلتق علي غيرها.
عاشت معنا ثريا أسبوعا كاملا بين القاهرة والإسكندرية لم تر فيه راقصة وهي التي كانت تتصور أن الراقصات سيكن في استقبالها، لقد شعرت بالأسي ورجعت المسكينة بخفي حنين لكنها كانت في النهاية تشعر بالحرج من أنها كانت تظن أن نساء مصر يوزعن أعمارهن بين الرقص هواة ومحترفات..لقد فاجئها أن بمصر أعلي نسبة للحجاب ربما علي ظهر الأرض، وأن الفتيات يتحجبن ولم يبلغن سن التكليف ...بل وحتى الفنانات طالهن الحجاب وأن المدارس غير مختلطة بل وإن معظم البيوت ينفصل فيها مجلس النساء عن الرجال..وعادت تضحك وتردد ما اعتدنا قوله: دا شغل أفلام..أي لا أساس له من الواقع!
أسرد هذه الحكاية ليس فقط لأنها تكشف عن الصورة الذهنية "المشوهة" التي رسمتها الدراما للشعب المصري ونقلتها للعالم دون أن يكون لها أصل أو صلة بالواقع، بل كذلك لأنها تكاد تتكرر في المغرب وبشكل مؤسف يسيء لشعب من أرقي الشعوب وأكثرها إسلاما ولكن الدراما ليست المسئولة هذه المرة وإنما صاحبة الجلالة: الصحافة..
أزور المغرب باستمرار، وقدر لي أن تطول إقامتي هذه المرة عدة أشهر، وكان مما لفت نظري القدر الكبير بل والمبالغ فيه فيما يتصل بتغطية ومتابعة قضايا الانحراف الأخلاقي: شذوذ واغتصاب وزنا محارم وبغاء وشبكات دعارة وتجارة جسد..بما لا يتصور أحد وقوعه بهذا الحجم في مثل هذا البلد.
ما إن يقلب القارئ صفحات غالبية الجريدة المغربية حتى يخيل له وكأنه في بلد غير هذا البلد الطيب المسلم الذي تسكن أهله روح تدين نادرة، أو كأنما انقلب الناس علي أعقابهم فصرنا بإزاء ماخور كبير لا تقع فيه العين إلا علي امرأة وقعت في الدعارة أو تنتظر..وهي مسلكية تنطبق- بكل أسف- علي معظم الصحف والاستثناء فيه قليل حد الندرة.
فكرت مرات بأن الأمر ربما رهن بحدث أو قضية طارئة، لكن طول بقائي في المغرب هذه المرة أشعرني بأن الأمر يتجاوز الظرفية وأنه جزء من فلسفة يراد لها أن تعم الصحافة المغربية، وما زادني قناعة بذلك أنه ما إن حل شهر رمضان الأكرم، وأهل المغرب معروفون لدي الناس كافة بأنهم أكثر المسلمين تمسكا بالصيام، حتى أعادت غالبية الصحف إنتاج نفس القضايا ولكن مع تحيينها رمضانيا؛ فتقرأ عناوين من مثل: مهنة الدعارة في رمضان، كيف تقضي البغايا ليل رمضان، جولة بين فتيات يضمن النهار ثم يقمن الليل في أحضان الرجال، واقعة اغتصاب رجل لابنته في نهار رمضان، تخون زوجها مع ابنه وهو يصلي التراويح ..وغيرها من العناوين التي تحمل ليس اجتراء علي الواقع ولا علي الشهر الفضيل فحسب بل وعلي القارئ المغربي الذي صار مفروضا عليه أن يملأ رأسه من سلة قاذورات بل وفي الغالب صنعها خيال مريض.
للحق أني ترددت في الكتابة نقدا لهذا التوجه الذي يسيء لبلد أحببته كما لو كان بلدي؛ مرة لأنني ضيف علي هذا البلد الكريم طال المقام أو قصر ومن ثم فلا أريد أن أسبب حرجا لزملاء المهنة أملا في أن يقوم بالأمر أهله، ومرات لأن الأمر صار يبعث علي القرف حتى لم أعد أتصور أن من القرّاء الأسوياء من يمكن أن يهتم لهذه النوعية من الصحافة التي يبحث أصحابها عن موضوعاتها في سلة قاذورات أو في دورات المياه العمومية، ولكنني أخرق الآن هذا الحظر الذي كنت ألزمت به نفسي بعدما صرت كمصري طرفا مباشرا في مثل هذا الأمر الذي سأقترب منه علي حرج خشية أن يطولني بعضا من رذاذه وهو كريه.
إحدى الصحفيات قررت أن سوق الدعارة الذي تكاد تكون قد أدخلت فيه نصف النساء والفتيات صار ضيقا ومحدودا في المغرب ولم يعد فيه جديد فسافرت تبحث عنه خصيصا في مصر عبر رحلة هوليودية اضطرت في بعض مراحلها أن تتنكر في صورة " مومس " ارتادت أسوأ أوكار الدعارة وتعرفت علي أخطر عصاباتها وجاءت لتنتهي ببشارة إلي كل أسرة مغربية شريفة كانت تبعث ببناتها إلي مصر تقول فيها: إن مصر صارت محطة عبور للداعرات المغربيات !
من يقرأ أخبار الرحلة إلي مصر والتي قطعتها الصحفية واضطرت فيها أداء دور "مومس" سيترحم ولا شك علي " الأيام " التي كان يقوم فيها بالرحلة إلي مصر مغاربة عظام من أمثال ابن بطوطة وأحمد بن ناصر وو..الذين كانوا سفراء خير وعلم بين الشعوب.
لن أتوقف عند فكرة أن صحفية يمكن أن تنتحل صفة مومس فقط لتكتب موضوعا تافها سطحيا سبق للعشرات من ضعيفي الموهبة اجتراره، ولن أعلق كثيرا علي مفارقة أن صحفية سافرت لدورة تدريبية خارج بلدها لم تجد من المغامرات الصحفية ما يستحق أن تقوم به إلا البحث عن بنات وطنها بين أوكار الدعارة وقضاء الليل بين من وقعت عليهن من بغايا؛ فقط لتعد عليهن مرات الزنا وما تدره الدعارة من مدخولات كما لو كانت موفدة من قبل وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية.
أيضا لن أحلق في فضاء أتصور فيه أن تكتب تحقيقا عن بنات مغربيات شريفات ذهبن لطلب العلم أو سيدات شريفات تزوجن في مصر وبنين بيوتا سعيدة وناجحة، فأنا لا أتصور أن خيال الصحفية التي تقمصت شخصية "مومس" يمكن أن يهديها يوما لتبحث في قلب القاهرة عن فتاة مثل "فضيلة"– ولها من اسمها نصيب- بنت الدار البيضاء التي زارتنا بمصر في الصيف الفائت وقضت معنا شهرين حصلت فيهما علي خمس إجازات في القرآن الكريم من معهد القراءات التابع للأزهر الشريف، أو "نعيمة" التي قضت ثلاثة أشهر في التدريب بمؤسسة مصرية عالمية مختصة بالبصريات، أو "فاطمتو" الصحراوية التي نزلت علينا ضيفة هي وعدد من أسرتها لتجري عمليات تصحيح الإبصار بالليزر في أحد المراكز المصرية المختصة والتي تفوق في كفاءتها مثيلتها في أوربا وبتكلفة أقل من ربع التكلفة الأوربية.
كما لا أتصور أن الصحفية التي من بين مئات الصحف والمجلات المصرية لم تقع عينها إلا علي مانشيت لصحيفة صفراء يتحدث عن أشهر المومسات المغربيات بمصر يمكن أن تطالع صحفا مصريا كتبت عن ظاهرة إقبال الشباب المصري علي الزواج من المغربيات بعد أن تكررت التجارب الناجحة وصارت هناك سمعة طيبة عن المرأة المغربية كأم حنون وسيدة بيت وشريكة حياة.
ولن أكون طموحا فأتصور أن يكون لفت نظرها أن الصحف المصرية احتفت بما كتبه مصري مثلي يدافع فيه عن تدين المرأة المغربية ويرد لها بعض الاعتبار بعدما استباحتها أقلام لم تر مانعا من أن تتقمص دور "مومس" فقط من أجل تعرية ما تبقي من بنات المغرب، فكل ما سبق يبدو تقليديا وعاديا وغير ذي أهمية كما أنه ليس في جرأة وإثارة ومغامرة ما قامت به الصحفية التي ضحت من أجل مهنة الصحافة فقدمت نفسها ك"مومس" فقط لتكشف عن حقيقة التغير الديموغرافي الخطير في المنطقة العربية والذي تحولت فيه مصر من لعب دور الشقيقة الكبرى إلي لعب دور القوادة وهو الاسم السري لما أطلقت عليه الصحفية: محطة العبور لفتيات المغرب اللواتي يشتغلن في الدعارة.
ليس من همي أن أدافع عن مصر فالحق أنها ليست بحاجة لهذا خاصة في بلد مثل المغرب لها فيه من المحبة والتقدير والإعزاز ما قد لا تجده في بلاد بذلت له الدم والدموع، لكنني- في الحقيقة- أدافع عن المغرب والمغربيات بشكل خاص، من يقرأ تفاصيل المغامرة التي خاضتها الصحفية المتنكرة في هيئة "مومس" داخل أوكار الدعارة المصرية المغربية المشتركة ( كتبت تعلق فتقول: المغاربة والمصريون علي حد سواء يقومون بدور " الفتيخ" أي قوادة المغربيات) يشعر بأن عليه أن يعيد النظر مليا في كل امرأة أو فتاة مغربية يراها تطرق أبواب السفارة المصرية بالرباط طلبا لتأشيرة دخول أو يصادفها تتجول في شوارع القاهرة..فلربما كانت "مومس" ممن صارت القاهرة معبرا لهن إلي الدعارة في الخليج.
هاتفني صديق أكاديمي مصري يقيم في المغرب من سنوات يحدثني بأسي عما سمعه من بعض الأسر المغربية التي كانت ترسل نساءها وبناتها إلي مصر للدراسة أو السياحة أو العمل وهي تأمن عليها، لقد أخبرني الصديق الذي يعشق المغرب ويعرفه كأهله أن ما نشرته الصحفية صاحبة المغامرة التي كلفتها تقمص دور "مومس" أصاب كثيرين من أصدقائه المغاربة بالقلق ومن لم يصدق منهم شعر بالحرج من فكرة أن تدور الشبهات في سبب زيارة ابنته أو أخته إلي مصر بعدما بشرتنا الصحفية التي تقمصت دور "مومس" بأنها صارت معبرا للمومسات والداعرات المغربيات.
لا يهمني كثيرا أن أؤكد أن ما كتبته الصحفية، التي يبدو أنها أجادت دور "مومس" حتى اخترقت أقوي شبكات الدعارة، أقرب إلي فبركة ساعدها فيه خيال واسع منه إلي واقع يؤكد أنها ربما لم تخرج من مكان إقامتها، ليس هذه نفيا لوجود الدعارة بمصر فهي لا تخلو ولن تخلو من هذه الموبقات بالطبع، بل لأن معظم القصص التي حكتها أو حاكتها علي الأدق يمكن لأي متابع للسينما المصرية أن يكتب أفضل منها خاصة ما تعلق بكابريهات شارع الهرم الذي تحكي عنه وهي لا تدري أنه صار جزء من التاريخ بعدما انتهت حقبة الغزو الخليجي وصار حي الهرم مكتظا سكانيا فلم يعد مناسبا لما سافرت من أجل البحث فيه وعنه.
لا تهمني هذه المغامرات المزعومة التي يخفي أصحابها عدم أمانة مهنية وعجز عن تبني قضايا حقيقية يمكن أن تأخذ بيد أهله ووطنه إلي الأمام خطوة، ولكن ما يهمني هو نتائج مثل هذه المغامرات المزعومة، فبدلا من أن يزيد التقارب والتواصل بين المصريين والمغاربة ستتعمق الفجوة وبدلا من التسهيلات التي ربما كانت تمنحها السلطات لتيسير السفر بين بلدين شقيقين سيأتي اليوم الذي تصبح فيه زيارة تل أبيب أيسر وأهون علينا من زيارة بين القاهرة والرباط..فهل نالت الصحفية التي أدت دور "المومس" مرادها؟
لا أعرف إذا ما كانت الصحفية المغامرة في هيئة "مومس" متزوجة أم لم يمن الله عليها بعد بالزواج، ولكنني أتساءل إذا ما كانت فكرت بأسر مغربية صارت تشعر بالخجل من أن تعامل بناتها ونسائها إذا ما تقدمن للحصول علي تأشيرة لزيارة مصر كمشروع داعرات ينتحلن صفة الطهر والشرف للحصول علي تأشيرة يعملن بها في تجارة الجسد؟ وهل فكرت في عشرات بل مئات الشباب المصري ارتبط بفتاة مغربية وأراد الزواج بها كيف سيكون شعوره وهو مطالب بأن يثبت لسلطات بلاده أنه يريد تأشيرة لفتاة محترمة ستصبح زوجته وليست مومسا ستزيد عدد العاملات في سوق الدعارة؟.
هل يمكن أن تعمي عيوننا عن مشاعر شعوبنا وآلامه فقط لنسّود صفحات جرائدنا بحكايات ومغامرات لا تصلح للنشر لو كانت حقيقة فما بالنا ولو كانت صرحا من خيال لا يحتاج سوي نفخة هواء ليهوي.
أتصور أن الدعارة ليست فقط أن تأكل المرأة من جسدها، فهناك نوع آخر أن تأكل فيه المرأة من حكايات أجساد أخريات، وإن أعوزتها الحيلة لجأت إلي فبركتها..
كما أتصور أننا كصحافيين وكتاب بحاجة إلي وقفة مع أنفسنا وتأمل الرسالة التي نريد أن نحملها إلي شعوبنا وأهلينا وما إذا كانت ستأخذ بأيديهم إلي الأمام أم ستهوي بهم إلي القاع.
ولائي كصحفي يعمل في بلاط صاحبة الجلالة ومحبتي للمغرب وأهله تسمح لي بأن أطلب من زملائي وعبر منبر كصحيفة " الأيام" له احترامه ومصداقيته وإنجازه في التجربة الصحفية المغربية بأن نفتح نقاشا موسعا حول الصحافة ومسئوليتها وعلاقتها بمنظومة القيم التي تدين لها شعوبنا وتعول علينا في تمثلها والدفاع عنها.