الجاليات المسلمة في الغرب: المواطنة أو.. الرحيل!
كاتب وصحفي مصري
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
كان من حظي أن أصل إلي أوروبا بعد ساعات قليلة من انفجارات واشنطن ونيويورك في 11 سبتمبر قبل الماضي، وكانت أوروبا ساعتها وقبل أن تتضح الصورة، تبدو ـ للوهلة الأولي ـ وكأنها مقبلة علي حرب كونية ثالثة ولكنها هذه المرة ضد مجهول!.
ولأن فصلاً جديداً من تاريخ العالم كان علي وشك البداية فضلت أن أشهد مراسم تدشينه كاملة، فطالت إقامتي متجولاً في أوروبا أربعين يوماً كاملة أرصد توابع «الزلزال» العظيم. وقبل العودة بقليل، وفي أحد المطاعم «المصرية» المنتشرة في «امستردام» تلك المدينة الكوزموبوليتانية التي يعيش فيما مواطنون من كل جنسيات العالم تقريباً، اجتمعنا وصديقي المغربي الذي يحمل إحدي الجنسيات الأوروبية علي الغداء، وبعد نقاش طويل حول تأثير هذه الأحداث علي أوضاع الجاليات المسلمة في أوروبا والغرب بصفة عامة وهو الموضوع الذي طالت إقامتي من أجله، أراد صديقي أن يحمل لي رؤيته عما حدث وفداحة هذا التأثير فقال بالعامية المصرية التي يتقنها كأهلها: «الموضوع باختصار أن ما أكلته الجاليات المسلمة من أوروبا «بط بط» قبل 11 سبتمبر، ستدفعه «وز وز» بعدها»!!.
وبعد عامين من أحداث 11 سبتمبر ومتابعة دقيقة لوقائع ما حدث ويحدث للأقليات المسلمة في أوروبا، وزيارات سابقة ولاحقة للأحداث، لم أجد عبارة بليغة وكاشفة تلخص بعمق نتائج ما جري أفضل من عبارة الصديق المغربي، وهو ـ بالمناسبة ـ باحث وأكاديمي رفيع المستوي، لكنه ربما استوحي عبارته «العامية» من مشهد الغداء الفخم علي الرغم من أنه كان يخلو ـ تماماً ـ من الوز والبط، كليهما!!.
ومثل كل شيء في العالم ـ تقريباً ـ تأثر الوجود الإسلامي في الغرب بوقائع ما جري في 11 سبتمبر وتداعياته، وكان الأثر سلبياً بما يشبه الاجماع، غير أن أسباب ذلك وحدوده ومستقبله لا يمكن معرفتها إلا بالاقتراب من «المشهد» ومعرفة أوضاع الأقليات المسلمة في أوروبا والغرب قبل لأحداث يمكن الحديث عما بعدها.
أما قبل!
يؤرخ بنهاية الحرب العالمية الثانية كبداية حقيقية لتكوين الجاليات المسلمة في أوروبا وامتدادها في الغرب حيث شهدت حركة إعمار أوروبا هجرة الجيل الأول من المهاجرين المسلمين إلي القارة الأوروبية التي كانت بحاجة ماسة إلي أيد عاملة رخيصة، وكانت تركيا وبلاد المغرب العربي ودول شبه القارة الهندية «باكستان وبنجلاديش والهند» هي المصدر الأول للمهاجرين المسلمين الأوائل إضافة إلي عدد قليل من الدول الأفريقية والعربية الأخري.
وبشكل عام يمكن القول بأن تركيبة الجاليات المسلمة اختلت لمصلحة طوائف العمال والمزارعين والحرفيين والمهنيين وغيرهم من الذين يمثلون المصدر الأساسي للأيدي العاملة الرخيصة علي حساب الأكاديميين والمثقفين وأصحاب المستويات العلمية العليا وإن تفاوت الحال من دولة لأخري فجذبت دول مثل بريطانيا وفرنسا ثم الولايات المتحدة لاحقاً أعداداً كبيرة من الطبقات العليا المسلمة مقارنة بغيرها من الدول الغربية الأخري، وإن ظلت التركيبة مختلة وغلبت عليها الطبقات الدنيا والمتوسطة وهو ما انعكس بدوره علي وضع الجاليات المسلمة في المجتمعات الغربية التي تعيش بها فأدي إلي تدنيه وتواضعه ومن ثم أفقدها الكثير من الفاعلية وحجب عنها القدرة علي انتزاع حقوق ومكاسب سياسية واجتماعية تستحقها.
كما تشكل التكوين الأساسي للجاليات المسلمة في الغرب وفق تقسيمات عرقية ولغوية وطائفية ومذهبية ناتجة عن الانقسامات والاختلافات التي تعيشها أوطانها الأصلية «أتراك، وعرب وبنغال وأفارقة»، «سنة وشيعة».. وهكذا، وهو ما أفقدها القدرة علي الاجتماع علي حد أدني مشترك فيما بينها وكرس لديها سياسة العزلة والانغلاق وأدي إلي تقوقعها علي نفسها فيما يشبه «الجيتو» المغلق علي أهله.
و لم تكن هذه وحدها المادة الخام أو «خميرة» الجاليات المسلمة في أوروبا ـ وهي علي كل حال لا تسر ـ وإنما أضيف إليها تركيبة أو خلطة أخري غريبة زادت من الأمر سوءاً فلحق بها علي فترات متتالية وباختلاف من بلد لآخر طوائف من مطاريد الأنظمة والحكومات العربية والإسلامية علي اختلافها وبكل ألوان الطيف السياسي من الليبراليين والماركسيين والقوميين والإسلاميين المغضوب عليهم والضالين في نظر حكوماتهم، ومعظم هؤلاء المطاريد إذا فتشت عنهم تجد أنهم لا معارضة ولا يحزنون وأقرب ـ في كثير من الأحوال ـ إلي المنحرفين والمنبوذين سياسياً في بلادهم من الذين احترفوا تجارة النضال وبيزنس السياسية، بل إن بعضهم أدركته السياسية «علي كبر» ولم يكن له فيها ناقة ولا جمل غير أنه لم يجد طريقاً للشهرة والحصول علي تأشيرة الدخول والإقامة في الغرب سوي اللحاق بقطار السياسة من عربة «المضطهدين سياسياً» وقد كان أبعد الناس عن السياسة لولا أوروبا وفلوس أوروبا وربما نساء أوروبا أيضاً! وإن لم يمنع ذلك من وجود معارضين حقيقيين ضاقت عليهم بلادهم بما رحبت فلم يعد لهم ملجأ ـ بعد الله ـ إلا بلاد الغرب الواسعة حيث الحرية بلا حساب أو هكذا ظنوا قبل أن تقع الواقعة في 11 سبتمبر ويحاسب كل مهاجر علي ما قدمته يداه.
وإذا توغلنا أكثر في تحليل «خميرة» الجالية المسلمة في الغرب فعلينا أن نشير إلي الدبلوماسيين العرب والمسلمين الذين ابتعثتهم بلادهم «المحترمة» سفراء لها في الغرب، فالقطاع الأكبر منهم كان إرساله إلي الغرب شكلاً من أشكال التصفية السياسية أو النفي المهذب الذي اعتادت الأنظمة في بلادنا اللجوء إليه كلما اختلف الممسكون بزمام السلطة فيما بينهم، ومن ثم فقد كانت فترة بقاء هؤلاء في أوروبا والغرب عقوبة أو عكننة وشكلاً من تصفية الحسابات فذهبوا بعقدهم النفسية والسياسية ليفرغوها في مهاجري بلادهم الذين يصر القدر علي ألا تفارقهم رائحة أنظمة بلادهم حتي ولو تركوا هذه البلاد وطفشوا بحثاً عن لقمة العيش.
وعلي كل كان هؤلاء أفضل بكثير من غيرهم من السفراء الذين أرسلوا لمهام تصفية خصومهم السياسيين أو كاذرع لأجهزة بلادهم الأمنية والاستخباراتية التي لم تكفها أرض بلادها فراحت توزع عملياتها وكراماتها إلي أوروبا والعالم الآخر فقضت الشطر الأكبر من قوتها وبذلت من المال والنفس في عمليات الاغتيال والخطف وتفجير السفارات والطائرات، وكان هذا مجال إنجازها الأكبر والوحيد، قبل أن ينقلب السحر علي الساحر وتدفع ثمن «نضالها» بتعويضات كلفتها المليارات من الدولارات دية للضحايا ورشوة للحكومات الغربية كما يحدث الآن مع الجماهيرية الشقيقة.
أما سفراء الدول «المعتدلة» من العالم الإسلامي فكانت لهم مهام غير ذلك تناسب «اعتدال» أنظمتهم و«استنارة» حكامهم، فقد كانت سفارات هذه الدول في حالة طوارئ دائمة لاستقبال كبار الزوار والمسئولين من بلادهم الذين لا تنقطع رحلاتهم «المكوكية» للسياحة والترفيه وأحياناً للعلاج والاستشفاء، وكان السفراء «المعتدلون» يجوبون أوروبا ذهاباً وإياباً من منتزه إلي فندق إلي ناد ليلي سهراً علي أداء مهام أنظمتهم المعتدلة!.
هل انتهينا من تحليل مربي خرز البقر أو خميرة الجالية المسلمة في أوروبا والغرب؟ إذن لابد أنه بإمكاننا الآن أن نجيب علي التساؤل: ما نتائج نصف قرن من الوجود العربي والإسلامي في الغرب؟.
النتيجة: لم ينجح أحد
وبدون أي محاولة للتجمل أو قدر ـ ولو ضئيل ـ من المبالغة يمكن أن نقول إن النتيجة صفر وأن المسئول عنها والذي سيتحمل نتائجها هي الشعوب والحكومات وأنها في الأولي والآخرة لن تجد من يذرف من أجلها دمعة واحدة وربما لا تستحق.. ولأنه وببساطة إذا أردنا تلخيص ما حدث في نصف قرن من الوجود العربي الإسلامي في الغرب يمكن أن نقول إنه وجود الفرص الضائعة والإمكانات المهدرة.
فقد حمل المهاجرون العرب والمسلمون وصدرت معهم حكوماتهم وأنظمتهم أسوأ ما في بلادهم في الوقت الذي لم يستفيدوا منه شيئاً من الفترة الذهبية في تاريخ أوروبا والغرب المعاصر، فكان الحصاد هشيماً علي كل المستويات سياسياً وثقافياً واجتماعياً واقتصادياً.
فجرثومة الانقسام والتفرق والتشرذم طاردت هذه الجاليات التي انقسمت في البلد الواحد بل والمدينة الواحدة عرقياً ولغوياً وطائفياً ومذهبياً وجيلياً حتي يظن الزائر أنه لا شيء يجمعهم سوي أنهم في الهم والتخلف عرب ومسلمون! ولا اتحدث عنها عن اختلافات وخروقات طبيعية تفرضها العادة أو الانتماء الديني والسياسي، بل عما هو أشد وأنكي، فتوقيتات الصلاة تختلف من مسجد لآخر ليس في البلد الواحد بل والمدينة الواحدة وربما صليت المغرب في مسجد بامستردام وأردت أن تصلي العشاء في مسجد آخر ـ في نفس المدينة ـ فتذهب لتجد أنهم قد جمعوا المغرب والعشاء معاً آخذاً برأي فقهي يخالف ما أخذ به أهل المسجد المجاور والذي يقع في الحي نفسه، والشيء نفسه يتكرر منذ نصف قرن في هلال رمضان وعيد الفطر وعيد الأضحي حتي تجد في المدينة الواحدة من أفطر وأقام صلاة العيد ومن أتم!. وتقوم المعارك الفقهية ولا تنتهي حول بعض المسائل التي لا تهم الجالية من قريب أو بعيد وتهدر الأوقات وتطبع الكتب وتوزع النشرات حول قضايا إما قتلت بحثاً أو لا علاقة لها باهتمامات أبناء الجالية. ومن أمهات المعارك التي حضرت بعض فصولها في هولندا حكم الوضوء من ماء البئر، وحكم الأخذ بالفلك في رؤية هلال الشهر رغم أنه لا توجد آبار في هولندا وأن رؤية الهلال مستحيلة فيها معظم شهور السنة لأنها بلاد الضباب التي لا تزور الشمس سماءها إلا في مناسبات قليلة!.
هذه نوعية من موضوعات الخلاف في قضايا بسيطة ولنا أن نتصور حجم وحدود الخلاف في قضايا مثل الزواج من غير المسلمين والتعامل مع البنوك التي يستحيل الاستغناء عنها أو الالتحاق بالجيش أو حتي التجنس بجنسية هذه البلاد.
وأزعم أن غالبية المشايخ والدعاة الذين زاروا هذه البلاد أو استقروا فيها للدعوة إلي الله لم يفعلوا سوي بذر الفتنة والاختلافات بين عباد الله من الجاليات المسلمة فهم إما صدروا إليهم خلافاتهم الفقهية والمذهبية بل والسياسية أو شغلوهم بقضايا سطحية لا علاقة لهم بها وفي الغالب كان إثم ما يقولون أكبر من نفعه.
عرفت شيخاً كبيراً من أعلام المحدثين استضافه الشباب المسلم في هولندا فمكث فيها غير قليل يفتي بحرمة التجنس بجنسية بلاد الكفر ـ يقصد هولندا طبعاً ـ وبحرمة البقاء فيها لغير ضرورة قاهرة، وقد استقر فيها ـ رحمة الله ـ فترة ليست قليلة كأنما لتطفيش المسلمين منها.
أما مطاريد الجماعات الإسلامية اللاجئون في أوروبا فحدث عنهم ولا حرج خاصة إذا كان حديثك عن «أبوحمزة المصري» و«عمر بكري» وإخوانهم، فأهم ما يبحث المؤتمر السنوي لجماعة المهاجرين التي يرأسها «عمر بكري» هو وضع الأسرة المالكة حين تقوم الدولة المسلمة وتعلن الخلافة في بريطانيا وفي نهاية كل مؤتمر يتوجه الشيخ عمر برسالة إلي الملكة إليزابيث ينذرها: اسلمي تسلمي! ويشفعها بدراسة فقهية عن وضعها وأفراد أسرتها في الدولة الإسلامية وكيف أنه سيتحسن كثيراً لو بادرت بإعلان إسلامها، وفي المؤتمر الأخير ـ الذي انتهي أواخر أغسطس ـ أكدت الجماعة أن الانتماء إلي بريطانيا والتجنس بجنسيتها كفر لأنها دولة كافرة.. يقول هذا الشيخ بكري وإخوانه رغم أنه لاجيء سياسي مازال يحصل هو وأسرته علي إعانة اجتماعية شهرية لأنه عاطل عن العمل!!.
ولم يكن أداء «الإخوة» المثقفين بأفضل حال من المشايخ، فرغم أنهم كانوا أكثر الفئات نعياً لتخلف المجتمعات العربية ودعوة إلي الاقتباس من الاستنارة الغربية والتأسي برموز الفكر والحضارة الغربية، إلا أنهم عند الممارسة الواقعية «طلقوا» كل تلك الإكليشهات والرطانات الثقافية، فمعظمهم كان وجوده رهناً بالطعن في تراثه العربي والإسلامي وتشويهه وتحقيره، وكثيراً ما انتقلوا إلي الطعن في الدين الإسلامي نفسه ارضاء لماكينة الإعلام الغربي، وكما كانوا في بلادهم الأصلية رفع كل فصيل ثقافي «إيريال» البث علي تردد أنظمة وحكومات علي حساب أخري وحولوا التجمعات العربية إلي فناء خلفي لمعارك «الرجعية» مع «التقدمية» و«الإسلامية» مع «العلمانية».. وأشلعوا أمهات المعارك الثقافية في أوروبا استعادوا فيها كل مفردات خطاب السقوط والعقم والتفاهة العربية، وتفرغ الجميع لتصفية خصوماته والتنفيس عن كتبه وعقده الثقافية وإطلاق رطاناته وشقشقاته التي كانت في الغالب ضجيجاً بلا طحن، وبدلاً من أن يستغل المثقف العربي المهاجر أوقات الفراغ والدعة وأجواء الحرية وإمكانات البحث قضي وقته في إشعال نيران الفتن الثقافية أو كتابة التقارير عن زملائه ومواطني بلاده خاصة المغضوب عليهم والضالين، وفي حين كان من المفترض أن يقوم هؤلاء المثقفون بتوعية الرأي العام الأوروبي والغربي واقناعه بالحقوق والقضايا الغربية والإسلامية للتأثير في صانع القرار خاصة في القضايا المصيرية والمحورية مثل قضية فلسطين، فعلوا عكس ذلك وأثاروا الرأي العام الغربي ضد كل ما هو عربي وإسلامي، فعصارة ما قدمه المثقف العربي المهاجر هو وصلات الصراخ والعويل والسباب والتشهير وتوزيع الاتهامات بالخيانة والعمالة، ولنا أن نعرف أن أهم ما شغل بال المثقفين العرب في المهجر في قضية الصراع الإسرائيلي هو نفي محارق اليهود علي يد النازي رغم أنها لا تفيد شيئاً في هذا الصراع بقدر ما أنها تثير جميع ألوان الطيف الثقافي في أوروبا التي استقر في وعيها الثقافي وقوع المحرقة وصار محمياً بجملة من القوانين والدفاعات الثقافية والسياسية التي لا طائل من التعرض لها بل ورأينا في الخطاب الثقافي العربي في المهجر من يدعو إلي المصادرة وإحراق الكتب.. وغيرها من المفردات التي يستحيل أن يقبل بها الرأي العام الأوروبي فضلاً عن أن يتسامح مع أصحابها!.
وإذا أضفنا لما فعله المشايخ والمثقفون عبث الحكومات والأنظمة العربية أمكننا أن نتبين «بعض» ملامح مأساة الجاليات العربية والمسلمة في الغرب، فمعظم هذه الأنظمة نظرت لهذه الجاليات وتعاملت معها باعتبارها إما فناء خلفياً لممارساتها السياسية «وليس ذراعاً سياسياً لها مثلاً» في الغرب أو في أفضل الأحوال كبقرة حلوب لابد أن تمتصها إلي أن يجف الضرع وفي كلتا الحالتين لم تنظر إلي مصلحة هذه الجاليات ولا إلي مصالحها ـ هي ـ الاستراتيجية بعيدة المدي وفضلت ـ كعادتنا دائماً ـ أن تنظر تحت أقدامها وهذه بعض مشاهد المأساة:
أسست كل الدول العربية والمسلمة التي هاجر بعض أبنائها للغرب بجهاز خاص لمتابعة هؤلاء المهاجرين وكل ما يتعلق بنشاطهم الاقتصادي، انتمائهم السياسي، اتجاههم الديني... إلخ، وفي أغلب الأحيان كان هذا الجهاز تابعاً لأجهزتها الأمنية والاستخباراتية ولا علاقة له تماماً بوزارات الخارجية إذ إن متابعة هؤلاء المهاجرين لم تكن من أجل سواد عيونهم أو تذليل العقبات التي قد تواجههم، حتي أن أحد هذه الأجهزة في دولة يقدر عدد مهاجريها بحوالي خمسة ملايين كان تابعاً للقصر الملكي ويشرف عليه الملك مباشرة!.
وكان من مهام هذه الأجهزة ضمان ربط الجاليات المهاجرة بسياسات وتوجهات النظام الحاكم حرفياً دون النظر إلي مصالح هذه الجاليات، وعلي هذا فقد تم اختراق معظم ـ إن لم يكن كل ـ المؤسسات والهيئات التي كونتها هذه الجاليات في مهجرها وجري العبث بها بحيث يظل ولاء القائمين عليها مرتبطاً ليس ببلادهم الأصلية بل بأنظمة هذه البلاد وربما بأجهزتها الأمنية.
وحتي الشأن الديني لهذه الجاليات لم تسمح هذه الأنظمة بأن يبحث ويدار وفق مصالح هذه الجاليات وظروفها، بل جري ربطه مباشرة بمصالح وتوجهات الأنظمة التي وظفت وزارات الأوقاف والهيئات الدينية بها لهذا الغرض، وعليه فلم يكن مقبولاً ـ علي سبيل المثال ـ أن يستقل مهاجرو كل بلد باجتهاد أو رأي ديني حتي في مواقيت الصيام والأعياد أو المذهب الفقهي المتبع! فكان شرط تمويل ودعم أي مركز إسلامي أو مدرسة أو جامعة إسلامية في المهجر أن يتحول القائمون عليه ومن ثم المتعاملون معه والمحتاجون إليه إلي نفس القناعات والأفكار والمذهب الفقهي والديني للدولة الممولة والتي كلما زاد تمويلها تشددت في درجة الارتباط والتماهي المطلوب معها، وعليه وجدنا في أوروبا ما عرف بالإسلام السعودي أو الخليجي والإسلام الجزائري والإسلام المغربي والإسلام المصري بحسب مصادر الدعم والتمويل.
وعليه يمكن فهم ظهور وانتشار فتاوي وأفكار دينية معينة مثل تحريم المواطنة أو التجنيس، ورفض الاستقلال الديني للمهاجرين إذ إن طريق المواطنة بما يعنيه سيكون له نتائج سلبية علي أنظمة وحكومات الدول الأصلية للمهاجرين والتي ستضرر سياسياً واقتصادياً خاصة إذا علمنا أن دولة كالمملكة المغربية يقدر ثلث دخلها القومي من مهاجريها في أوروبا، كما أن دولة مثل إيران كانت تعتمد علي هؤلاء في تصدير أفكار الثورة الإيرانية إضافة إلي العائد الاقتصادي الضخم الذي يعود علي المرجعيات العظمي الشيعية منها من المهاجرين الشيعة. أما تركيا فقد مدت ذراعها الديني «رئاسة الشئون الدينية» إلي كل الدول الأوروبية التي تضم مهاجرين أتراك لضمان ارتباطهم بالنظام التركي ولعدم السماح بتغلغل التيارات الإسلامية في أوساط المهاجرين من ناحية، وضمان استمرار العوائد المالية الضخمة التي يرسلها المهاجرون للأهل في تركيا والتي حالت فترة طويلة دون الانهيار الاقتصادي الشامل.
وربما لم تجتمع الأنظمة العربية والمسلمة علي شيء قدر اتفاقها علي التصدي لكل من شأنه إدماج مهاجريها في بلادهم الجديدة وفق قواعد المواطنة، وعلي هذا الخط دخلت حركات الإسلام السياسي متفقة ـ علي غير العادة ـ مع هذه الأنظمة والحكومات.
بعض هذه الحركات ذات الطابع الأممي العالمي نظر إلي المواطنة باعتبارها كفراً لأنها تناقض مبدأ الانتماء إلي الأمة الإسلامية، خاصة أنه ربط المواطنة بواجبات الاندراج ضمن جيوش هذه البلاد «الكافرة» التي بالضرورة علي عداء مع البلاد الإسلامية.
أما البعض الآخر فلم يكن مرد الأمر عنده عدم قدرته علي تطوير خطاب ديني في مسألة المواطنة وعدم تعارضها مع الإسلام بقدر ما كان خاضعاً لاعتبارات سياسية واقتصادية هو الآخر، فطالما تعاملت هذه الحركات مع جاليات المهجر باعتبارها ذراعها ورصيدها في صراعها مع الأنظمة الحاكمة وكذلك موردها المالي الذي ينضب لتغذية والانفاق علي تكاليف هذا الصراع إضافة إلي أنها كانت محطات استراحة أو تقاعد عدد من قياداتها الذين كادت تقصف مقصلة الأنظمة برقابهم، ومن ثم ظلت الجاليات المسلمة في المغرب المصدر الرئيسي لتمويل هذه الحركات ليس بالمال والدعم اللوجستي فقط بل وبالأفراد والكوادر المدربة والمؤهلة مالياً وعلمياً فلم يكن غريباً ـ علي سبيل المثال ـ أن التسعة عشر شاباً الذين جندهم تنظيم القاعدة لغزوة «مانهاتن» التي ضربت أمريكا في الحادي عشر من سبتمبر من المقيمين في الغرب للعمل أو الدراسة.
حدث هذا وأكثر وأشد منه فداحة وأخطر طوال ما يقرب من نصف قرن اعتماداً علي عالم مفتوح علي مصراعيه وقادر علي استيعاب الجميع وراغب في ذلك، وفي الوقت الذي كان الغرب يعيش أزهي عصور الليبرالية والديمقراطية والحرية وهذه هي الكارثة: أن فرصتنا الذهبية وطاقاتنا القصوي أهدرناها بدلاً من تأسيس وجود عربي وإسلامي قوي يدعم ليس فقط الحقوق والقضايا العربية والإسلامية وقت الحاجة بل ويدعم أيضاً مسيرة الحضارة الإنسانية ويكون إضافة لها وليس انتقاصاً منها. وكانت جناية ذلك أوضاعاً وظروفاً هي البؤس بعينه.
تصفح سريع للأرقام والاحصاءات الخاصة بالجاليات المسلمة في أوروبا والغرب علي تفاوت من مكان لآخر لا تخرج عن النتائج الآتية:
ـ الجاليات العربية والمسلمة تحتل وبجدارة أدني درجات السلم في المجتمع الغربي علي كل الأصعدة «أي الأقل درجة في كل السلالم!» فأبناؤها ـ علي تفاوت ـ هم الأقل من حيث التعليم ومعدلات الدخل والمستوي الاجتماعي وفرص الحصول علي الوظائف والسكن والصعود الاجتماعي والتمثيل السياسي والوظائف العليا.
وهي الأعلي بين نزلاء السجون وجيوش البطالة وسكني الضواحي والأحياء الفقيرة ومرتكبي الجرائم وضحاياها!.
أي أنهم باختصار ـ غير مخل ـ الأكثر فشلاً والأقل نجاحاً وقدرة علي التأثير حتي في القضايا التي ظنوا أنهم نذروا أنفسهم لها، وعلي رأسها القضية الفلسطينية والنموذج الأمثل علي ذلك هولندا، فاليهود الذين لا يتجاوز عددهم 25 ألف نسمة استطاعوا ضمان وقوف هولندا إلي الجانب الإسرائيلي في كل الأحوال علي الرغم من أن المجتمع والشعب الهولندي كان من أكثر الشعوب الأوروبية تهيئة لأن يقف موقفاً أكثر حيادياً إن لم يكن تعاطفاً مع الحق الفلسطيني غير أن ثلاثة أرباع المليون من المسلمين بين سكانه لم يستطيعوا اقناعه بذلك!.
وإذا تحدثنا عن تجربة العرب والمسلمين للعب دور في السياسة الداخلية فضلاً عن السياسة الخارجية فنحن بإزاء واحدة من أكثر هزليات التجارب السياسية للأقليات في العالم، فقد اشتكي العرب والمسلمون كثيراً من غيابهم عن اللعبة السياسية في هولندا ومعهم حق، لكنهم حين قرروا الدخول بها أجبروا أكثر اناس تعاطفاً علي القول: ليتهم ما فعلوها!.. فقد كان أول الغيث تأسيس الحزب العربي الديمقراطي!! وليست المشكلة أن تتوقف كثيراً أمام صفة «الديمقراطي» وشكلها إذ لا تبعد الديمقراطية كثيراً في هذا الحزب عن لافتته وعنوانه فقط خاصة إذا ما عرفنا أن أصحابه مجموعة من المغامرين العرب محترفي الصفقات السياسية المضروبة كل مع نظام عربي أو أكثر، لكن ما يستحق التوقف عنده كثيراً هو أن الصفة الرئيسية للحزب هو أنه «عربي» ولم يعد يتبقي سوي أن يعلن أصحابه أن مشروعهم حال تولي السلطة هو ضم هولندا إلي اتفاقيتي السوق العربية والدفاع العربي المشترك.
أما الحزب الثاني الذي أراد أصحابه تمثيل الجالية العربية والمسلمة فأسماه أصحابه «الحزب الإسلامي» والأمر لا يحتاج لتعليق!.
وعلي مثل هذه الطريقة جرت وقائع وأحداث وحياة الجاليات العربية والمسلمة في الغرب إلي أن وقعت الواقعة.
أما بعد:
لم يخل الأمر بطبيعة الحال من لمحات ضوء وعلامات إيجابية في هذه المسيرة، خاصة في السنوات الأخيرة التي تنبه فيها بعض قيادات هذه الجاليات وبالذات التي تنتمي للجيلين الثاني والثالث الأكثر ارتباطاً بالوطن الجديد فأرادوا وضع حد لمتوالية العبث بهم التي لا تنتهي لكنها جاءت متأخرة نسبياً وربما بعد فوات الأوان حيث جاءت أحداث سبتمبر وتداعياتها لتطوي صفحة ومرحلة تاريخية مهمة في الغرب كانت وحدها بما فيها من إمكانات ومساحات حرية وحركة كفيلة بترسيخ الوجود العربي والمسلم في الغرب لو وجد من يعمل له.
من زار أوروبا بعد الحدث العظيم وقارن الأوضاع بما كانت عليه في السنوات الغابرة سيدرك تماماً أن الفرصة ربما ضاعت علي من يريد العمل لوجود عربي مسلم فاعل في أوروبا والغرب فمساحة الحرية تقلصت إلي حد كبير وغلبت هواجس الأمن علي غيرها من أفكار الحرية وقبول الآخر والتعايش وغيرها، أكثر من بلد أوروبي تأسس فيه ـ ولأول مرة ـ وزارات للأمن والداخلية «بعضها خصص أجهزة للمسلمين فقط» قوي سياسية نشأت وصعدت بسرعة إلي الواجهة تعتمد في خطابها علي هاجس الأمن والخوف من العرب والمسلمين في هولندا مثلاً تأسس في خلال العامين الماضيين فقط حزب يميني عنصري معاد للمسلمين «هولندا أكثر ملاءمة للعيش» بزعامة يميني متطرف استطاع أن يقفز إلي الصدارة رغم موت زعيمه وأن يحصل علي ثاني أعلي الأصوات ويشكل الحكومة رغم أن عمره السياسي لم يتجاوز العامين. جميع الدول الأوروبية تراجعت فيها أحزاب اليسار التي كانت تدعو لاستيعاب المهاجرين وتنظيم أوضاعهم السياسية والاجتماعية وإدماجهم في المجتمع الأوروبي، واكتسحت الأحزاب اليمينية المتعصبة التي يغذيها ويقوي مشروعها رفض الوجود العربي والمسلم. المزاج السياسي والنفسي للأوروبيين أصابه تغيير جذري وعنيف أزال عنه أهم ما تمتع به في السنوات الماضية، الإيمان بالحرية والديمقراطية وحق الخصوصية، إجراءات ملاحقة المهاجرين غير الشرعيين والحد من هجرة المسلمين إلي أوروبا في تزايد إلي الحد الذي أصبح علي عضو برلمان دول مسلمة أن يطلب تأشيرة الدخول إلي الاتحاد الأوروبي قبلها بأربعة عشر يوماً علي الأقل بعد أن كان يحصل عليها في نفس اليوم، وربما رفض طلبه لإجراءات وأسباب أمنية! إلي الحد الذي رفضت فيه إسبانيا منح تأشيرات للاعبي أحد المنتخبات العربية لحضور بطولة دولية مقامة علي أراضيها.
جميع المؤسسات والهيئات الإسلامية صارت تحت النظر والملاحظة وأحياناً التعقب والمساءلة، في شهر واحد قضيته بعد أحداث 11 سبتمبر شاهدت إغلاق أكثر من مؤسسة إسلامية حتي المساجد نفسها وضعت تحت المراقبة وصارت كل الخطب والندوات ودروس المشايخ والدعاة تسجل للعرض علي الأجهزة الأمنية. بل إن كثيراً من العقوبات فرضت بأثر رجعي حتي إن موقع الإنترنت الخاص بمسجد التوحيد في امستردام تمت ملاحقة القائمين عليه قضائياً لنشره قبل أعوام آراء رأت الحكومة أنها تحض علي العنصرية وتعادي السامية.
لقد مضي زمن الحرية وأفل عهدها وكشر الغرب عن أنيابه وصار كل شيء بحساب، حتي الكلام الذي اعتدنا أنه بلا جمرك صار عليه جمارك وعقوبات وأصبح المسلمون في الغرب وظهورهم إلي الحائط وصاروا الآن يتحدثون عن المواطنة وحقوق المواطنة إذ لم يعد أمامهم بديل أمام الريح العاتية سوي ذلك أو العودة إلي أوطانهم الأصلية إذا كانت تقبل بهم!.