فى تركيا: إسلاميون علمانيون.. ولدينا أيضاً!!(اليوم السابع)
حضرت مؤخراً مؤتمراً عن الحرية الاقتصادية فى العالم العربى، عُقد فى القاهرة. كان من ضمن المُشاركين، عدد من النُشطاء الليبراليين من المصريين الشباب وعدد من الاقتصاديين الأكاديميين من مختلف الدول العربية واثنان من الأكاديمين فى مجال الاقتصاد من تركيان، وقد اهتممت للغاية بالجلسة التى كانت مُخصصة لمناقشة الإصلاحات الاقتصادية والسياسية فى تركيا. وقد سألت أحد الأساتذة الأتراك عقب انتهائه من عرضه، سؤال، كنت أعرف مُقدماً إجابته، ولكنى كنت أقصُد من ورائه، أن تترسخ الإجابة فى أذهان شباب مصر من النُشطاء الليبراليين، العاملين فى أحزاب الغد والجبهة، بالأساس، وغيرهم من نُشطاء. فسألت الرجل، إن كانت ما تحياه تركيا هى "ردة" عن العلمانية، أم "تهذيباً لها"، حيث الكثير من الكتُاب فى مصر، دأبوا على إشعار الجماهير العريضة، بأن تركيا أصبحت متأسلمة الهوى. أجاب الرجل قائلاً: إن ما حدث فى تركيا هو إيصال العلمانية إلى الاعتدال. حيث سُمح للرموز الدينية فى الظهور، فى إطار حرية ممارسات العقيدة، إلا أن الدين لا يزال مفصولاً عن الدولة، ويعمل كُلاً من رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية والمؤسسات السياسية، وفقاً لأجندة علمانية مُتصالحة مع الدين. ولن يحدث أن تتأسلم تركيا يوماً، لأن الجامعات بها كثيرة والعلم له تقدير عال للغاية، لما ينادى به من تخصص. لقد استرسل الرجل كثيراً فيما بعد، وعبر نقاشاتنا على مائدة الطعام، قال لى: أنت تعرف، أن الله عز وجل، لم يُنزل بنظام للحكم فى الإسلام، رفقاً بالناس، وإلا حبسهم به، رافضاً إعمال العقل، مهما تغيرت ظروف الأزمان. كما أننا نعمل وفقاً لشروط الديمقراطية، التى يرفضها الإسلاميون، مُقيدون أنفسهم بالشورى التى أرساها الله فى القرآن، رغم أن الديمقراطية تطويراً لها، وهى لنا وليست علينا، فى غير تعارض مع الدين فى جوهرها، لأن القرارات الأساسية يتخذها السياسيون فى النهاية، بما يدمج بين الشورى والديمقراطية!! إنك عندما تطلع على من يجادل فى مسألة "الخلاف المتصور" ما بين الشورى والديمقراطية، لتشعر بالغثيان، لأن الممارسة اليومية فى السياسة الواقعية، فى أى مكان على ظهر الأرض، تتم وفقاً للشورى، بعد أن يتم الانتخاب وفقاً للديمقراطية!! وبالتالى، فإن الخلاف، خلاف "أبله" ومصنوع ممن لديهم فراغ فى الرؤيا ومن يريدون التلاعب بالدين علناً لجلب التصفيق ممن لا يدركون العملية السياسية فى جوهرها!! وأضاف الدكتور التركى، بأن عصر أتاتورك قد انتهى، وأن ما يحدث من خلال استخدام البطش، لا يُمكن له أن يصمد فى وجه الزمن، طالما لم يقتنع به الناس، واتفقت معه على هذا الأمر كثيراً، لأننى لم أعجب بالعنف آلة للتغيير يوماً، ولست من مدرسة محبذى الأسلوب "الأتاتوركى" فى التغيير، وأؤيد تماماً "التصالح الدينى - العلمانى". لقد أكد لى الرجل، بأن من يحكمون فى تركيا، هم "إسلاميون علمانيون"، إذا جاز التعبير، حيث هم مسلمون ديناً، شكلاً وفعلاً، ولكنهم فى الوقت نفسه، يفصلون بين الدين والدولة فى مناحى حكمهم! والشعب التركى، لا يعانى من هذا، بل يؤيده فى أغلبه، وخاصةً، عندما يرى ما يحدث من قبل المسلمين، تجاه مسلمين أو غير مسلمين، فى المنطقة العربية لدينا!! وأنا لم أر يوماً مشكلة فى "التصالح الدينى - العلمانى"، ولا فى مُعضلة الشورى وتوائمها مع الديمقراطية، فى إطار الفعل السياسى اليومى، فطالما كل شىء وسطى معتدل فى المجتمع، وتتوفر حرية العقيدة وبناء دور العبادة، لا توجد أدنى مُشكلة، إلا لمُحبى صناعة المشاكل ورفع الشعارات، ورفع المصاحف فوق أسنة الرماح، لإقامة الفتنة تلو الفتنة، مثلما حدث عندما رُفعت تلك المصاحف لأول مرة، لتحدث الخديعة فى أوائل الحروب "الأهلية" بين المسلمين!! واليوم، أرى من يتوافق مع مُجمل هذا الكلام أعلاه، دون منصب فى جماعة الإخوان المسلمين، رغم أنه ذو فضل عظيم عليها. إنه الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، الذى يقبل بكل ما يطرحه العلمانيون المصريون، فى إطار نبرة تسامح طاغية، حتى لتشعر أنه ليس عضواً فى الإخوان ولكن عضواً فى الحركة العلمانية المصرية. فلقد قرأت عنه وله وسمعته يتكلم ويقول كلاماً، يدل على نضج ووطنية طاغية، حتى أننى شككت، أننى أستمع لأحد أقطاب الإخوان المسلمين ومنشئ الجماعة الإسلامية فى مصر!! واليوم أقرأ كتابه الأخير "عبد المنعم أبو الفتوح: شاهد على تاريخ الحركة الإسلامية فى مصر، 1970 – 1984" المحرر من قبل الباحث المبدع: حسام تمام (ولا أعرف إن كان يحمل لقباً أكاديمياً أم لا، إلا أن الكثيرين ممن لا يحملون ألقاباً أكاديمية، ومن وجهة نظرى البحتة، يثبتون أنهم أجدر من غيرهم ممن يحملونها، وحسام تمام من هؤلاء، حيث أتعلم منه الكثير وأعتبره أستاذاً لى، رغم أننى لم أقابله يوماً)! هذا الكتاب به من المفاجآت، مما يشعر أى شخص، بقراءة "مُحايدة"، أن الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، إنسان مصرى خالص ومُحب لمصر بحق، يبحث عن الحقيقة، ليس إلا! وربما هذا هو السبب الرئيسى، أنه لم يعُد "قيادياً" فى الجماعة اليوم!! وقد كتب حسام تمام فى كتاب آخر له، رؤية سياسية متطورة للغاية، للدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، حيث إن الرجل لا يرى ضيراً من الحكم المدنى، طالما حُفظ الدين والأخلاق والقيم فى المجتمع. وقال الدكتور أبو الفتوح، فى مرة وبوضوح مع الأستاذة منى الشاذلى فى برنامج العاشرة مساءً، أنه لا يعارض حكم المرأة والقبطى، فى مصر، ولا يهمه الحكم الدينى، بقدر اهتمامه بالعدالة والحق والمساواة وسيادة القانون!!! إنى لأقترح على الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، أن يُقيم حزباً يؤكد على تلك المعانى، بديلاً عن جماعة الإخوان المسلمين، التى انشق عنها الكثيرون بالفعل. إنه لو قام بهذا العمل، لفاز لمصر بالكثير، مُحدثاً تصالحاً فى المجتمع ما بين الدين والعلمانية المتخصصة، ومُشكلاً تحدياً حقيقياًُ وفعالاً لمصلحة مصر، حيال الحزب الوطنى، ولأصبح هناك "بالفعل"، فصيل وطنى مُعارض، لاغياً المتلاعبين بالدين والخالطين له بالسياسة زوراً وبُهتاناً، ومُدعماً لديمقراطية مدنية حقيقية فى مصر، تصون الدين والوطن، دون أى لبس! إنه مؤهل لهذا، كونه يمتلك عقلية تنظيمية فذة وثقافة عالية وكونه قائداً بالسليقة، بالإضافة إلى حُب حقيقى لمصر، مما نحاه من مناصبه فى الجماعة، لأننى لا أُصدق، ما قاله هو شخصياً، من أنه هو من قرر التنازل عن مناصبه، لأن هذا الحديث، لا يتناغم مع الأحداث التى ترك هو فيها الجماعة كقيادة ليصبح عضو فاعلاً!! إن كانت تركيا تملك إسلاميين علمانيين، يُعجب بهم الجمهور المصرى، ويرى أنهم ارتدوا عن علمانيتهم بينما هذا ليس صحيحا، فنحن أيضاً نملك علمانيين إسلاميين قادرين على لعب الدور نفسه، وربما أفضل، لو أتيحت الفرصة لهم من أجل مصر، ولم يُحاربوا من الحزب الوطنى والإخوان المسلمين، على حد سواء!!
* أستاذ علوم سياسية.
http://www.youm7.com/News.asp?NewsID=303870