في الحركات الاسلامية عبر العالم..قراءة في السياقات
ظلت النظرة المعتادة للحركات الإسلامية تسير في خط يكاد يكون ثابتا ومكررا ، النظرة الاختزالية المستوحاة من التراث الاستشراقي التي لاترى فيها الا كتلة مصمتة يستحيل الكشف داخلها عن اي اثر للتعدد والاختلاف. وفيم ضل العديد من الباحثين في الغرب يرددون ان افضل السبل لفهم حركات الإسلام السياسي هو النظر اليها باعتبارها حركات اجتماعية- سياسية تتفاعل مع مكونات محيطها القريب والبعيد، فان اغلب المتناولين للظاهرة عندنا ضل أسير الرؤية الاستشراقية المفاهيمية بشكل خاص والتي لا ترى في التجليات الدينية سوى مكونها الأصولي المرتد عن الحداثة الغربية والمعادي في رد فعله لمنجزاتها الثقافية والتقنية من التحرر النسوي إلى الانترنت.
في هذا الإطار طالعنا الأستاذ حسام تمام بكتابه الجديد عن الحركات الإسلامية عبر العالم والتي اعتبرها حصيلة رحلة استكشافية من الملاحظة والمعايشة لعدد من الحركات الإسلامية في دولها وكأنما يود من خلال عدد من التجارب والرموز والشخصيات ان يرصد طابع التعدد والتنوع الذي تكلمنا عنه .
في الواقع فان ميزة التعدد هذه صارت "موضة" البحث الحالي في الحركات الإسلامية ؛ أولا من حيث رصد التصنيف النمطي لهذه الحركات الى معتدلين ومتطرفين وهنا يقع العنف على رأس متغيرات التصنيف فيما يلحظ المراقب ان نفس التصنيف يتم إسقاطه على متغير الداخل والخارج في شكل حركات تتبنى أجندات داخلية في مواجهة أخرى تنظر إلى العالم اجمع ساحة لفعلها.
أكثر ما يشد النظر إلى كتاب الأستاذ تمام هو نفاذه الواضح من التقوقع داخل هذه التصنيفات التقليدية؛ أننا بصدد رؤية موسعة، أشبه بالبانوراما، لطيف واسع من "الفاعلين الإسلاميين" يمتد من التصوف إلى ما يسمى بالإرهاب؛ ومن الاهتمام بالبنى التنظيمية الى التركيز على الإبعاد الشخصية ووصولا الى الانعكاسات الإقليمية والدولية، وفي نفس الوقت ، في اشتباك واضح مع اغلب القضايا المطروحة اليوم على ساحة العمل الاجتماعي والسياسي للحركات الإسلامية.
تحليل عمودي وأخر أفقي
يمكن رصد محتويات الكتاب وفق مستويين من التحليل، انني هنا استهدف التصنيف المنهجي الذي يمكن استنتاجه ضمنيا من ثنايا الكتاب. فمحاولة النفاذ من التصنيفات التقليدية تدفع بمن يكون على وعي بها لان يحاول ان يجد لنفسه موقعا مختلفا ان لم يكن مخالفا. ويقتضي ذلك حسب رؤية الكاتب الخروج من الدائرة الضيقة التي تنظر الى وجود مفهوم واحد للحركة الإسلامية بقدر ما تضعنا التجارب والرموز والافكار امام مفاهيم كثيرة لـ"الإسلامية" .
يشعرني التحليل العمودي بوجود ثلاث مستويات للتحليل: الاول هو مستوى القيادة وفيه يقودنا الكتاب في رحلة متميزة عبر مجموعة من الشخصيات المفصلية في تاريخ الحركات الإسلامية في بلدانها، ولا يخفى على المراقب لما لعنصر القيادة والزعامة من أهمية في المخيال العربي والإسلامي لدرجة ترتبط فيها الحركة احيانا بشخص مؤسسها كما في المغرب او الناشط في مسار تحولاتها كما في تركيا وماليزيا او الناشز عن مسيرة حركتها كما في السودان و لبنان. يصبح التاريخ من هذه الناحية المعين الذي تستقى منه التجربة الشخصية والخبرة والوزن المعرفي والثقل السياسي ومسار التفاعل مع تطورات الحركة الإسلامية نفسها، ذلك أن الحركة الإسلامية في النهاية ليست سوى تجمعات افراد.collectivities لكن خبرة التاريخ تفعل فعلها باتجاه التحول وتظهر اثار التحول اكثر ما تظهر في بنية الفاعل وهو المستوى الثاني من التحليل الذي اعتبره الكاتب ذا أهمية. فالبني السياسية political structures للإسلاميين ما فتئت تشهد تحولات كبرى على مدار نهاية الالفية الثانية وبداية الألفية الثالثة ؛ فيسلط الكتاب الضوء من هذه الناحية على تجارب تنظيمية كما في المغرب، واخرى برامجية كما هو الحال مع التجربة التركية وصولا الى ثقل الإيديولوجيا كما في التجربة المصرية. ولان هذه التحولات ليست منقطعة عن السياق الدولي فان استعراض التفاعل مع قضايا العالم الحالي تصبح ضرورية؛ قضايا من مثل العلاقة مع أمريكا ومثل تنامي دور تنظيم القاعدة وبروز مفاهيم العدالة والتنمية دوليا؛ وهذا هو المستوى الثالث.
وتمثل الاسئلة المطروحة على الحركات الإسلامية ما يشبه الدوائر الأفقية. فإذا كانت الخطوط العمودية تتأثر بمتغيرات التاريخ والجغرافيا بشكل واضح ، فان الدوائر الأفقية تمثل القضايا الرئيسية التي تمنح لها منطق التشابه؛ ليس في الإجابات التي تقدمها بالطبع؛ ولكن في مبدأ الاجتهاد للإجابة عنها. أسئلة من مثل سؤال التجديد في الحالة الصوفية، وسؤال التحديث في الحالة الحركية و سؤال الثقافة كما في الحالة السلفية.
إن التفاعل بين الخطوط العمودية والدوائر الأفقية هو ما يؤسس لدينا منطق الاختلاف والتعدد الذي ندور حوله بإصرار. ولكن، يبقى للتحفظ مكان..حركات"إسلامية" أم "حركة إسلامية"؟
مبررات للتساؤل !
هذه الدوائر الثلاثة هي في الواقع كبريات المسائل التي واجهتها "الحركات الإسلامية" منذ نشأتها على الرغم من أنه يمكن المجادلة بالقول أن "الحركة الإسلامية" في بداياتها لم تكن قد واجهت هذه الأسئلة دفعة واحدة. لقد بدا حينذاك أن الحركة الإسلامية نفسها بما هي حركة مجتمع بأكمله وفق قيمه الناظمة هي استجابة "طبيعية" ومتوقعة لمواجهة سيل من القيم الوافدة التي كانت تحتاج الى فرز وإعادة تقييم وتكييف واستيعاب. سؤال التحديث وسؤال التجديد وسؤال العلاقة بالثقافة المعيشة لم يتولد إلا حين تعددت "الرؤى الإسلامية" للواقع القريب، واختلفت المناظير التي حدثت بها عمليات الفرز المذكورة تبعا لخصائص البيئة المحيطة ، وأيضا في بيئة دولية كانت تعيد ترتيب نفسها دون أن يكون فيها للعالم الإسلامي رأي أو حضور..
لا عجب إذن أن تواجه الحركة الإسلامية في موريتانيا سؤال التحديث في بيئة لا تزال تعيش على وقع بلاد شنقيط ، وأن تتحول هي نفسها الى أداة تحديث فعلية في مواجهة حالات الرفض التي تطال أي محاولة للاجتهاد خارج ما أجمعت عليه المحضرة؛ فكيف حين يتعلق الأمر بالفن والموسيقى ومكانة المرأة في الفضاء العام. لا تواجه الحالة التركية بالمقابل سؤال التحديث في حركة إسلامية انفتحت مبكرا على محيطها السياسي والاقتصادي والتكنولوجي وتفاعلت مع مكونات مجتمع قطع مع مسالة استيراد الحداثة، ليس بفضل ميراث كمال اتاتورك فحسب بل منذ عهد الدولة العثمانية وتنظيماتها الشهيرة . في نفس الوقت الذي لم تواجه فيه سؤال التجديد في مجتمع ضل محافظا على قيم عامة في وجه الدولة وحيث بدت الحركة الإسلامية شريكة معه في تراث صوفي ممتد في عمق المجتمع وضمن الشخصيات العامة أيضا، لذلك يبرز التركيز في الحالة التركية على طبيعة برامجية أكثر منها إيديولوجية أو عقدية. وسيكون العكس في الحالة السودانية حيث تتواجه "تنظيمات" الحركة الإسلامية مع تراث الحركات الصوفية بشكل واضح وتتدافعان على الجذب واستثمار الإتباع في بيئة لم تزل الانتماءات الاوالية فيها غالبة في الوقت الذي كانت فيه مسالة السلطة اقرب بالنسبة للإسلاميين. والحال إذ ذاك مختلفة في الحالة المغربية حيث ساعدت أجواء الانفتاح على توسع مساحات الابتكار والتكيف مع خصائص الدولة المغربية. الحركة الإسلامية في المغرب تراهن كما الدولة على مسالة الخصوصية والاستقلال عن التجارب الأخرى ربما لذلك تحتل لديها مسائل التنظيم أولوية واضحة. والحالة في مصر جامعة ؛ فالتنظيم الأم ولد في مصر وانتشر وتشعب بحيث يبدو أن النزاع اليوم لا يطال الجوانب التنظيمية بقدر ما يجعل ثقل الإيديولوجيا حاكما ؛ الإيديولوجيا عنصر حاسم في الحالة المصرية منذ ولدت الحركة الإسلامية المصرية في نفس لحظة ميلاد الثورة التي أنتجت الدولة الحالية. لابد من استحضار ذلك بوضوح حين الحديث عن حركة الجهاد والمكون المصري في تنظيم القاعدة وعن أيمن الظواهري وعن فقه المراجعات وعن بداية الزمن السلفي.
الكتاب على ما يطرحه من قضايا وتجارب وسير ذاتية مختصرة، بأسلوب مليء بالمتعة غير ذي تكلف، بقدر ما يشتبك مع أهم إشكاليات الراهن في الحركة الإسلامية ويفتح الكثير من المواضيع المستجدة التي لا يمكن رؤيتها إلا بعين بذلت جهدا دقيقا في التتبع والملاحظة. هذه الأسئلة البسيطة في طابعها هي التي تقود عادة الى إعادة النظر في كثير من المسلمات الكبيرة ذات الطابع النظري، فهل فعلا انتهى الإسلام السياسي كما بشرت به الكتابات الغربية؟