أهل السنة والجماعة...اعتقاد الأمة المستعلية علي الفرقة والفتنة
باحث مصري
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
في البدء كانت الجماعة وكانت السنة ولم تزل تعبيرًا عن وحدة الأمة السياسية والاعتقادية أو توقًا لها إن غابت. لم تكن متنًا يقرأ أو بناء ذهنيًّا، ولكنها ضرورة استدعاها واقع الانقسام السياسي والفرقة المذهبية الذي اجتاح الأمة فكان لا بد لما كان بديهيًّا أن يعرَّف، فكان ما استقر عليه من مذهب أهل السنة والجماعة.
لم يكن ظهور "أهل السنة والجماعة" جزءًا من حركة تكوّن المذاهب والفرق الاعتقادية، بل جاء ردًّا عليها وتأكيدًا على أن وحدة الأمة ما زالت حاضرة في وعي الجماعة المسلمة برغم واقع الانقسام والفرقة، وفاعلة بما يدفعها إلى العمل من أجل استعادة اللحظة التاريخية الأولى لتأسيس الأمة الواحدة؛ أي لحظة الوحدة السياسية والاعتقادية التي كانت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم صاحب الرسالة والقائد المؤسس للأمة، وظل المفهوم -تاريخيًّا- عنوانًا على رفض الفرقة والفتنة، الفرقة السياسية أو الفتنة المذهبية التي بدأت تدب في جسد الأمة.
كانت البداية مع "عام الجماعة" (41 هجريًّا) الذي تنازل فيه الحسن بن علي، عن حرب معاوية بن أبي سفيان الذي كان قد رفض مبايعة علي بن أبي طالب -رابع الخلفاء الراشدين- متذرعًا بأنه فرط في الثأر من قتلة عثمان بن عفان، رضي الله عنهم جميعًا.
بتنازل الحسن أصبح معاوية بن أبي سفيان خليفة للمسلمين، واجتمع الأمر عليه بعد تفرق ليصبح العام "عام الجماعة"، ويُعَدّ من خرج عليه خارجًا عن "أهل الجماعة"، في إشارة إلى استعادة الأمة وحدتها السياسية مجددًا بعد تفرق، فقد غلَّبت الأمة وحدتها على أي خلاف حول شرعية السلطة، على اعتبار أن الجماعة هي مصدر الشرعية، بل لا شرعية إلا من الجماعة؛ "فلا إسلام إلا بجماعة" كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ودون الجماعة تكون "الفتنة" لعن الله من أيقظها.
الوعي المبكر بـ"الجماعة" هو وعي بصيرورة الأمة واستمراريتها، وهو إعلان صريح بأن الأمة ليست حزبًا سياسيًّا -كما في طرح الخوارج- وإنما هي جماعة مفتوحة لكل من يعلن التوحيد ويقبل بالانضواء تحت راية الجماعة؛ فإعلان التوحيد هو بداية دخول المسلم في الجماعة أما استمراره فيها فهو رهن بالتزامه جماعة المسلمين.
بعدها سيأتي الإمام الشافعي (تُوفِّي 204 هجريًّا) ليعطي لـ(الجماعة) أصلها الشرعي ويجعل منها إطارًا مرجعيًّا للأمة حين يجعل من الإجماع الركن الثالث من مصادر الدين (بعد القرآن والسنة)، بما يفرض على الأمة دائمًا الالتزام بكل ما يجمع أمرها ويؤكد وحدتها.
أما مصطلح "أهل السنة" فقد ظهر بعد نحو قرنين -بدايات القرن الثالث الهجري- ردًّا على الفتنة المذهبية التي اجتاحت الأمة مع نشأة الفرق التي وصلت ذروتها مع ما عرف بفتنة "خلق القرآن" التي تبنّى فيها الخليفة العباسي المأمون (تُوفِّي 218 هجريًّا) عقيدة المعتزلة وتصورهم لصفات الله، وحاول فرضها على جماعة المسلمين وإجبار العلماء والفقهاء والقضاة وأهل الحديث على القول بها.
تاريخيًّا وبمواجهة "الفتنة" كان الإمام أحمد بن حنبل (تُوفِّي 241 هجريًّا) أول من تحدث بمصطلح (أهل السنة والجماعة)، وكان النص الذي كتبه والذي عُرف بعقيدة أحمد أهم نص يحدد معالم (أهل السنة والجماعة) وفيه يقول -بعد بيان معتقدهم-: "هذه المذاهب والأقاويل التي وصفت مذاهب أهل السنة والجماعة...".
لقد دفعت الفتنة المذهبية الأمة إلى البحث عن صياغة محكمة لمعتقدها في مواجهة أهل البدع، فكتب أهل العلم رسائل في عقيدة "أهل السنة"، فظهرت إضافة إلى عقيدة أحمد بن حنبل (توفي 241 هجريا) نصوص أخرى مثل عقيدة أمية بن عثمان الدمشقي (ت 200 هجريا) وعقيدة الطحاوي الحنفي (ت 321 هجريا) وعقيدة أبي الحسن الأشعري (ت 324 هجريا)، وغيرها من الرسائل التي تصوغ معتقد أهل السنة. وهي نصوص لم يبتدعها أصحابها كما لم ينسبوها لأنفسهم، وإنما نسبوها إلى السلف إثباتا للمشروعية وتأكيدا لاتصال معتقد الأمة وعدم انقطاعه.
قبل الفتنة لم تكن هناك ضرورة للتنظير لمفهوم (أهل السنة والجماعة)، ولكن لما نشأت المذاهب والفرق وحاول بعض الحكام فرض تصورات ومذاهب اعتقادية مستحدثة على علماء الأمة، بادر العلماء والفقهاء والقضاة وأهل الحديث إلى بيان "مذهب" الأمة في الاعتقاد، فنظّروا لما عرف لاحقا بـ (مذهب أهل السنة والجماعة) الذي جاء ردًّا على كل ما خرجت به المذاهب الأخرى عما كانت عليه جماعة المسلمين.
في معتقده الذي يعد أهم نص جامع محدد لمعتقد أهل السنة والجماعة ذكر الإمام أحمد ما يرد به على ما أثارته الفرق والمذاهب، ومما يقول فيه: "الإيمان قول وعمل ونية وتمسك بالسنة". وإن "الإيمان يزيد وينقص". وإن "القدر خيره وشره وقليله وكثيره وظاهره وباطنه وحلوه ومره ومحبوبه ومكروهه وحسنه وسيئه وأوله وآخره من الله". وإن "القرآن كلام الله". وإن "صفات الله ثابتة وإنه ليس كمثله شيء".
وأهل السنة كما يبين الإمام أحمد: "لا يشهدون على أحد من أهل القبلة أنه في النار لذنب عمله ولا لكبيرة أتاها إلا أن يكون في ذلك حديث، ولا يقولون بالخروج على السلطان الذي تجب طاعته ما لم يأمر بأمر هو لله معصية، وإن الجهاد ماض قائم مع الأئمة برّوا أو فجروا لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل".
ويرتفع أهل السنة -كما يبين الإمام أحمد- عن أسباب الخلاف ويتجاوزون وقائعه التي مزقت الأمة معتقدين "أن الواجب ذكر محاسن الصحابة أجمعين والكف عن ذكر مساوئهم أو الخوض في الخلاف الذي شجر بينهم... وأن حبهم سنة والدعاء لهم قربة والاقتداء بهم وسيلة والأخذ بآثارهم فضيلة.. وأن خير الأمة بعد النبي أبو بكر وعمر وعثمان وعلي -بترتيبهم- وهم الخلفاء الراشدون المهديون".
وتأثرا بما شهده عصره من فتنة الشعوبية وطعنها في العرب توسلا للطعن في الإسلام نفسه يرى الإمام أحمد أن من معتقد أهل السنة أنهم يؤمنون "أن على المسلم أن يعرف للعرب حقها وفضلها وسابقتها، ويحبهم لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: حبهم إيمان وبغضهم نفاق. وألا يقول بقول الشعوبية وأراذل الموالي الذين لا يحبون العرب فإن لهم بدعة ونفاقا وخلافا".
إن الإصرار على وحدة الجماعة المسلمة سياسيا واعتقاديا هو ما أصّل في (أهل السنة والجماعة) روح الاعتدال والتوسط ومنحهم مزاج الصفاء الخالي من نزعات التمرد والطائفية، فالحفاظ على الوحدة كان دائما ما يدفعهم إلى التقريب والتوحيد وليس التباعد والتفرق. ولحظة الوحدة الأولى على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ظلت حاضرة أبدا في وعيهم، وهي التي ما زالت تفعل فعلها في خيالهم الجمعي وتدفع بهم -في كل عصر- إلى القفز فوق واقع الفرقة والفتنة والحلم باستعادة لحظة البدء الأولى.
والجميل في الصورة التي صاغها أهل السنة لتاريخهم أنها وإن لم تتحقق واقعيا في بعض تفاصيلها فإنها كانت لازمة وضرورية لبناء الوعي بالذات الذي يعصم الأمة فيما سيأتي عليها من مستقبل.
حين نشأت (أهل السنة والجماعة) لم تكن فرزا طائفيا داخل الأمة، بل تمييزا للتيار العام فيها عما خرج عليه من فرق ومذاهب جديدة، لذلك اتسعت مظلتهم لتشمل عموم الأمة ممن لم يغرقوا في الأهواء والبدع، وهو ما يؤكده حديث الإمام الإسفرائيني (توفي 429 هجريا) عن (أهل السنة والجماعة)، فهو يعدد (في كتابه: الفَرق بين الفِرَق) من يشملهم أهل السنة فيذكر فيهم الفقهاء والمحدثين والمتكلمين والزهاد المتصوفة وأهل الأخبار والآثار واللغويين والنحاة والقرّاء والمفسرين والمجاهدين في الفتوح، وسائر الأمة ممن لم يعرف عليهم الخروج على المستقر والمعروف في الاعتقاد.
لم يكن تصور (أهل السنة والجماعة) للإسلام مغلقا أو غارقا في الدوجمائية كما قد يبدو من مسلك بعض الجماعات التي تتوسل بالسلفية وتحيلها إلى إطار مغلق، بل كان واسعا يسمح بالاختلاف داخله، ولكنه اختلاف يحدده سقف الانتماء للتيار العام في الأمة عقيدة وانتماء، وهو سقف بدأ بسيطا عاما لكنه استوى وأُحكم وتبلورت معالمه مع صياغة المذهب بعد فتنة خلق القرآن.
أهل السنة والجماعة يستوعبون في إطارهم كل المسلمين -أهل القبلة- مفترضين أن الأصل فيهم هو البراءة والانتماء للأمة حتى لو وقعوا في أخطاء اعتقادية تدخل في باب التشيع أو الإرجاء أو القدرية، ما دامت مجرد أخطاء أو زلات لم تأخذ بعدا أيديولوجيا يؤسس لمعتقد جديد مخالف لما عليه أهل السنة والجماعة، وساعتها فقط يحدث الفصل.
ولذلك سنجد فيمن وسعهم (أهل السنة والجماعة) من رُمي بشيء من القدرية مثل (وهب بن منبه والحسن البصري ومكحول وقتادة) أو التشيع مثل (طاووس بن كيسان وعدي بن ثابت) أو الإرجاء مثل (محارب وحماد)، ولم يقل أحد بخروجهم من أهل السنة والجماعة، فقد كانت مجرد ميول أو أفكار لم تستو أيديولوجيا أو تتبلور في مذهب خارج عن الأمة مثلما حدث بعد ذلك في مذاهب التشيع والقدرية والإرجاء.
ظهور (أهل السنة والجماعة) لم يكن -على غير الشائع خطأ- انحيازا للسلطة أو السلطان؛ على الرغم مما استقر عليه المذهب من وجوب طاعته ورفض الخروج عليه ما لم يأمر بمعصية، بل جاء ردّا على سعي السلطة لاحتكار الدين ومحاولتها فرض تصورها الاعتقادي على عموم الأمة، كما فعل المأمون وعدد من الخلفاء العباسيين الذين تبنوا اعتقاد المعتزلة وحاولوا فرضه على الأمة، كما كان تأكيدا- في الوقت نفسه- على انفصال العلماء عن سيطرة السلطة ومشروعها.
أهل السنة يلتزمون الطاعة للسلطة ليس انحيازا لها أو خضوعا، فالذين صاغوا هذا المعتقد -كما في حالة أحمد بن حنبل- كانوا أول من تصدى للسلطة وأكثر من نالهم بطشها؛ وإنما يلتزمون طاعتها حرصا على الجماعة "فلا إسلام إلا بجماعة ولا جماعة إلا بإمارة ولا إمارة إلا بطاعة"، وهي طاعة مشروطة بألا تكون في معصية، والطاعة تكون لسلطة لم تفرط في أهداف الأمة الكبرى: الدعوة والجهاد. فبالدعوة تحفظ الأمة دينها وبالجهاد تحمي بيضتها وترد عدّوها. أما إذا خانت السلطة أمتها فلا طاعة لها؛ لأنها حين تخون الأمة، بمنع الدعوة أو بالتفريط في حماية دار الإسلام، إنما تهدد جماعة المسلمين.
إن أهل السنة يرون أن وجود الجماعة وفاعليتها واستمراريتها هو أصل الشرعية وليست السلطة هي أصلها، وفساد السلطة يقلل الشرعية، ولكن لا يرفعها عن جماعة المسلمين.
والطاعة واجبة ما وجدت الإمامة، فإن غابت فليس البديل الخروج والتشرذم وتفتيت الأمة، بل اجتناب الفتنة "فإن لم تكن جماعة ولا إمام فكن حلس بيتك ولو أن تعضّ بأصل شجرة حتى يأتيك الموت وأنت على ذلك".
إنها دعوة لاجتناب الفرقة والتشرذم حتى في غياب الجماعة وهي فرض مستبعد في كل الأحوال "فلا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم -أو من خذلهم- إلى يوم القيامة". و"الجهاد ماض إلى يوم القيامة لا يضره عدل عادل ولا جور جائر".
إن الجماعة هي الوحدة والتوحد، وهي مرتكز الوجود والاستمرارية الذي يجمع الأمة ولا يفرقها، أما السنة فهي المفهوم الذي يعطي للأمة امتدادها التاريخي حين يصلها بالنبوة المؤسسة للأمة ويعطيها أيضا إمكانية الاستمرار في الحاضر والمستقبل.
إنه الاستمرار الشرعي غير المنقطع الذي يصل الأمة كلها عبر مراحلها التاريخية المختلفة بالنبي -صلى الله عليه وسلم- دونما انقطاع.
لم يكن الوعي السني بالذات طائفيا يوما ما، ولم ير السنة أنفسهم طائفة بإزاء طوائف أخرى، ولا ينتابهم إحساس الأقلية ولو صادف أن كانوا أقلية عددية في مكان ما، بل دائما ما يُرون الأصل، بل الأمة ذاتها، فتراهم دائمًا ما ينتدبون أنفسهم لقضاياها وينفرون لمعاركها دون أن يسألوا عن المذهب أو الطائفة، إذ يكفيهم أن يندبهم إليها أخ لهم في الأمة، وهم:
لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا
تجد ذلك لدى البسطاء ممن تتعلق أعينهم بهموم المسلمين في كل مكان دونما مجرد تفكير، فضلا عن البحث في المذهب والطائفة، وتجده أيضا في قوافل المجاهدين التي ظلت وما زالت تطوف بقاع المسلمين في كل زمان ومكان؛ ممن نذروا أنفسهم للدفاع عن الأمة وكل منهم "آخذ بعنان فرسه في سبيل الله إذا سمع هيعة -صيحة استغاثة- شمّر إليها" من دون أن يختبر الناس في مذاهبهم وطوائفهم...فأهل السنة والجماعة دائما فوق المذهب وأعلى من الطائفة وأبعد من السلطة وحسابات السياسة.
------------------
* استفادت هذه المقالة بعدد من الدراسات في مقدمتها كتابات المفكر اللبناني رضوان السيد وخاصة كتابه (الجماعة والمجتمع والأمة).